
قتادة إلا بأن يكون معنى قوله قُضِيَ الْأَمْرُ أي قضي كلامي وقلت ما عندي وتم، والله أعلم بما يكون بعد.
وفي الآية تأويل آخر، وهو: أن يكون ظَنَّ مسندا إلى الذي قيل له: إنه يسقي ربه خمرا، لأنه دخلته أبهة السرور بما بشر به وصار في رتبة من يؤمل حين ظن وغلب على معتقده أنه ناج: وذلك بخلاف ما نزل بالآخر المعرف بالصلب.
ومعنى الآية: قال يوسف لساقي الملك حين علم أنه سيعود إلى حالته الأولى مع الملك:
اذْكُرْنِي عند الملك، فيحتمل أن يريد أن يذكره بعلمه ومكانته، ويحتمل أن يذكره بمظلمته وما امتحن به بغير حق، أو يذكره بهما.
والضمير في أنساه قيل: هو عائد على يوسف عليه السلام، أي نسي في ذلك الوقت أن يشتكي إلى الله، وجنح إلى الاعتصام بمخلوق، فروي أن جبريل عليه السلام جاءه فعاتبه عن الله عز وجل في ذلك، وطول سجنه عقوبة على ذلك، وقيل: أوحي إليه: يا يوسف اتخذت من دوني وكيلا لأطيلن حبسك، وقيل: إن الضمير في أنساه عائد على الساقي- قاله ابن إسحاق- أي نسي ذكر يوسف عند ربه، فأضاف الذكر إلى ربه إذ هو عنده، و «الرب» - على هذا التأويل- الملك.
وبِضْعَ في كلام العرب اختلف فيه، فالأكثر على أنه من الثلاثة إلى العشرة، قاله ابن عباس، وعلى هذا هو فقه مذهب مالك رحمه الله في الدعاوى والأيمان وقال أبو عبيدة: «البضع» لا يبلغ العقد ولا نصف العقد، وإنما هو من الواحد إلى الأربعة، وقال الأخفش «البضع» من الواحد إلى العشرة، وقال قتادة: «البضع» من الثلاثة إلى التسعة، ويقوي هذا ما روي من أن النبي ﷺ قال لأبي بكر الصديق في قصة خطره مع قريش في غلبة الروم لفارس «أما علمت أن البضع من الثلاث إلى التسع».
وقال مجاهد: من الثلاثة إلى السبعة، قال الفراء: ولا يذكر البضع إلا مع العشرات، لا يذكر مع مائة ولا مع ألف، والذي روي في هذه الآية أن يوسف عليه السلام سجن خمس سنين ثم نزلت له قصة الفتيين وعوقب على قوله اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ بالبقاء في السجن سبع سنين، فكانت مدة سجنه اثنتي عشرة سنة، وقيل: عوقب ببقاء سنتين، وقال الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لولا كلمته ما لبث في السجن طول ما لبث»، ثم بكى الحسن وقال: نحن إذا نزل بنا أمر فزعنا إلى الناس.
قوله عز وجل:
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٤٣ الى ٤٥]
وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥)
المعنى: وَقالَ الْمَلِكُ الأعظم: إِنِّي أَرى يريد في منامه، وقد جاء ذلك مبينا في قوله تعالى:

إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصافات: ١٠٤]. وحكيت حال ماضية ف أَرى وهو مستقبل من حيث يستقبل النظر في الرؤيا. سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يروى أنه قال: رأيتها خارجة من نهر، وخرجت وراءها سَبْعٌ عِجافٌ، فرأيتها أكلت تلك السمان حتى حصلت في بطونها ورأى «السنابل» أيضا كما ذكر، و «العجاف» التي بلغت غاية الهزال، ومنه قول الشاعر: [الكامل] ورجال مكة مسنتون عجاف ثم قال لجماعته وحاضريه: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي.
قرأت فرقة بتحقيق الهمزتين، وقرأت فرقة بأن لفظت بألف «أفتوني» واوا.
وقوله لِلرُّءْيا دخلت اللام لمعنى التأكيد والربط، وذلك أن المفعول إذا تقدم حسن في بعض الأفعال أن تدخل عليه لام، وإذا تأخر لم يحتج الفعل إلى ذلك. و «عبارة الرؤيا» مأخوذة من عبر النهر، وهو تجاوزه من شط إلى شط، فكأن عابر الرؤيا ينتهي إلى آخر تأويلها.
وقوله: قالُوا: أَضْغاثُ أَحْلامٍ الآية، «الضغث» في كلام العرب أقل من الحزمة وأكثر من القبضة من النبات والعشب ونحوه، وربما كان ذلك من جنس واحد. وربما كان من أخلاط النبات، فمن ذلك قوله تعالى: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً [ص: ٤٤] وروي أنه أخذ عثكالا من النخل، وروي أن رسول الله ﷺ فعل نحو هذا في حد أقامه على رجل زمن، ومن ذلك قول ابن مقبل: [الكامل]
خود كأنّ فراشها وضعت به | أضغاث ريحان غداة شمال |
قال القاضي أبو محمد: فالأحلام وحدثان النفس ملغاة، والرؤيا هي التي تعبر ويلتمس علمها.
والباء في قولهم بِعالِمِينَ للتأكيد، وفي قولهم: بِتَأْوِيلِ للتعدية وهي متعلقة بقولهم بِعالِمِينَ.
والْأَحْلامِ جمع حلم، يقال: حلم الرجل- بفتح اللام- يحلم: إذا خيل إليه في منامه، والأحلام مما أثبتته الشريعة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرؤيا من الله وهي المبشرة والحلم المحزن من الشيطان، فإذا رأى أحدكم ما يكره، فليتفل على يساره ثلاث مرات وليقل: أعوذ بالله من شر ما رأيت، فإنها لا تضره». وما كان عن حديث النفس في اليقظة فإنه لا يلتفت إليه.
ولما سمع الساقي- الذي نجا- هذه المقالة من الملك ومراجعة أصحابه، تذكر يوسف وعلمه بتأويل الأحلام والرؤى، فقال مقالته في هذه الآية. صفحة رقم 248