يعصي الوشاة وكان الحب آونة | مما يزيّن للمشعوف ما صنعا |
هو الحب فاسلم بالحشا ما الهوى سهل | فما اختاره مضنى به وله عقل |
قال تعالى «فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ» قولهن واغتيابهن لها وسمته مكرا لشبهه له في الإخفاء عنها، لأنهن لم يصارحنها به صفحة رقم 204
لما بلغهن عن يوسف وأردن بقولهنّ هذا اغضابها تعمدا كي تريهن يوسف لما بلغهن من جماله وكماله حيلة منهن لهذه الغاية، ولذلك «أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ» كي تريهنّ إياه فتقطعن اللوم عنها، وقد عرفت ذلك لأنها تعرف من أمرها ما تعرفه من أمر غيرها عند ما تراه «وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً» أترجا هو نوع من البرتقال، وما قيل إنه تفاح ينفيه قوله تعالى «وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً» لأن التفاح يغسل ويؤكل بقشره لما فيه من النفع الذي لا يوجد بلبّه، والأترج لا يؤكل قشره لأنه مفصول عنه وليس من لونه وطعمه، وهكذا جعل الله تعالى كل قشر لا يؤكل مع اللب مفصول عنه كالموز والرمان وأنواع البرتقال والجوز واللوز والفستق والبندق وأنواعه وما شابهه، وإنما قلنا يغسل لأن القشر قد يحمل جراثيم كثيرة تعرضه الذرات الممتزجة بالهواء والسّم الذي فيه وهي لا تخلو من ضرر للوجود الذي أوجب الله تعالى عليه محافظته، وقد جاء في الخبر: من أكل التراب فقد أعان على قتل نفسه، وجاء في خبر آخر: اتقوا الغبار فإن فيه النسمة وهي ما يعبرون عنها ب (الميكروب) وبما أن قشور الفواكه لا يخلو من التراب وهو قد لا يخلو من النسم فقد اعتادوا تقشيرها زيادة في الترف ووقاية من الضرر، وإذا كان قشر الفاكهة أو الخضرة المتصل بها مخالفا للبّها في اللون أو الطعم كالبطيخ الأخضر والخيار وما يشبههما فإن شاء قشره وإن شاء أكله بقشره لأنه غالبا لا يكون بينه وبين لبه مباينة في الطعم تمنع من الأكل كالباذنجان والقرع والقثاء والعجور وما ضاهى ذلك، وإذا لم يكن عاسيا فطبخه وأكله مع لبه أحسن فائدة للوجود، والبطيخ الأصفر يؤكل بقشره أيضا ويجوز بغيره للمترفين إذ يأكله خدمهم وأنعامهم، روي أن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه لم يأكل البطيخ الأصفر إذ لم يبلغه أن حضرة الرسول أكله بقشره أو بغير قشره، لأنه غالبا يكون قشره من لونه وطعمه وليعلم أن تقشير التفاح والإجاص والخوخ والكمثرى والمشمش وما شاكلها يكون من البطر وازدراء النعمة وإظهار العظمة، وقد يكون كسلا عن القيام بغسله غسلا جيدا. هذا وإنما أتتهم بالسكاكين لأنهن مترفات لينات البنان لا يقدرن أن يزلن القشر بأيديهن، وما قيل إن المتكأ هنا كناية عما يتكأ عليه من النمارق والوسائد
صفحة رقم 205يرده الإتيان بالسكاكين لعدم الحاجة إليها فيه، وقال بعضهم إنه نفس الأكل إذ يقال اتكأنا عند فلان، أي أكلنا عنده، وعليه قول جميل:
فظلنا بنعمة واتكأنا | وشربنا الحلال من قلله |
ثم تركنهن حتى باشرن بتقشيره وأشغلتهن به وكانت قد ألبست يوسف عليه السلام من الديباج الأبيض، لأن الجميل أحسن ما يكون في البياض صيفا والسواد شتاء كما قيل:
إذا لبس البياض حسبت بدرا | وإن ليس السواد سبى العبادا |
يأتي النساء على أطهارهن ولا | يأتي النساء إذا أكبرن إكبارا |
خف الله واستر ذا الجمال ببرقع | إذا لحت حاضت في الخدور العواتق |
ترك إذا قوبلوا كانوا ملائكة | حسنا وإن قوتلوا كانوا شياطينا |
الصبر فقال سألت البلاء فاسأل الله العافية، ثم التجأ إلى ربه فقال «وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ» ومكرهن واحتيالهن أخاف يا رب «أَصْبُ» أميل ميلا قلبيا لا اختيار لي فيه بحسب الطبيعة البشرية قد تحدّت النفس نفسيا ركوني «إِلَيْهِنَّ» ولو تخطرا بالقلب أو هاجا في النفس، وأخاف يا مولاي ان يؤثر (ومعاذ الله يا مولاي) فيّ لأني بشر، وحاشاك يا مولاي أن تريد ذلك مني أو تتغلب على نفسي بشيء من ذلك، وهذا فزع منه عليه السلام إلى ألطاف ربه جريا على سنن الأنبياء وطرق العارفين الكاملين في قصر نيل الخيرات والنجاة من الشرور على جناب الله تعالى، وسلب القوى والتصور عن أنفسهم مبالغة في استدعاء عطفه تعالى عليه في صرف كيدهن عنه بإظهار عدم طاقته بالمدافعة إلا بحوله وقوته عز شأنه كقول المستغيث أدركن يا رب وإلا أهلك، وقد لا يهلك، لأنه عليه السلام يطلب الالتجاء إلى ربه ليعصم وفي نفسه داعية سوء إن لم يعصمه، كلا وحاشاه من ذلك، وفي هذه الآية جواب استدلال للأشاعرة بأن العبد لا ينصرف عن المعصية إلا إذا صرفه الله تعالى (وأصل إلا) أن الشرطية ولا النافية فأدغمت النون باللام (وأَصْبُ) مضارع صبا إذا مال ومنه ريح الصبا لأن النفوس تميل إليها لطيب نسيمها وروحها والصبابة إفراط الشوق، وفي القاموس صبى بمعنى مال، وصبى بمعنى حنّ، والصبوة جهلة الفتوة، ثم قال منددا من خوف ما سيكون من إحساسات قلبية خشية مغبته باثا سوء نتيجته إلى ربه «وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ ٣٣» الذين لا يعلمون ما يعملون، وفي هذه الجملة إشارة إلى أن من يرتكب الذنب فإنما يرتكبه عن جهالة وهو ليس من أهلها، لذلك دعا ربه إنقاذه مما يراد فيه «فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ» كما هو عادته جل جلاله في أنبيائه وأوليائه وأحبابه في إجابة أدعيتهم عند الضيق كما سيأتي في الآية ١١٠ من هذه السورة «فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ» وثبته بعصمته وأبقاه على عفته وحال بينه وبين المعصية ودواعيها «إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ» لدعاء عباده المتضرعين إليه «الْعَلِيمُ» بأحوال الداعي ونيته وما يصلح له.
وتدل هذه الآية على أن الإنسان لو أتى بكل مكر وحيلة لإزالة ما وقر في صدره من حب وعداوة لعجز، لأن حصولها ليس باختياره ولو كان لتمكن من
قلب الحب كرها والعداوة صداقة، وبالعكس، ولهذا لجأ يوسف عليه السلام إلى ربه ليصرف ما حاك في صدره الشريف، قال المتنبي:
يراد من القلب نسيانكم | وتأبى الطباع على الناقل |
وما كانت ذنوبي عن عناد | ولكن بالشقا حكم القضاء |
لعلك والموعود حق لقاؤه | بدا لك في تلك القلوص بداء |
واما السجن المفهوم من قوله تعالى «لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ٣٥» إلى أن ينسى الناس هذه الحادثة وينقطع ذكرها في المدينة، وإنما اختار الحبس على خروج زوجته واعتذارها من الناس، لأن الاعتذار لا يقطع الإشاعة عن زوجته بل يزيدها، والحبس قد يقطع خبرها بطول الزمن المستفاد من قوله (حَتَّى حِينٍ)، صفحة رقم 210
والحين وقت من الزمن يقع على القليل والكثير، قالوا مبدأه خمس وآخره أربعون سنة، وسنأتي على بيانه مفصلا في تفسير سورة الإنسان في ج ٣، وعلى كل في هذه المدة تذهب استفاضة تلك الواقعة، قالوا فأمر به فحمل على حمار وسيق للسجن، قالوا وكانت تتأمل أنه بعد أن يذلل في السجن تلين عريكته وتنقاد لها قرونته فتظفر بما أرادته منه بطوعه بعد أن تصرمت حبال رجائها منه بعرض جمالها بنفسها وبإغوائها وبمالها وبتأثيرها فلم يجد شيئا، قال تعالى «وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ» قالوا إن أحدهما خباز الملك صاحب طعامه، والثاني ساقيه وصاحب شرابه لأنهما أدينا بجرم الموافقة مع جماعة من أشراف مصر أعداء الملك لا غتياله لقاء جعل معلوم على أن يدسا السم في طعامه وشرابه، وأن الخباز قبل الجعل المسمى له والساقي أبى، وقد وصل إلى الملك بأن ما يوضع أمامه من الطعام والشراب مسموم، وحذره من أخبره من تناول شيء منه، وقيل إن الساقي أخبر الملك بأن الطعام الذي هيأه له الخباز مسموم، وأن الخباز قال للملك إن الشراب الذي أحضره لك الساقي مسموم بمقابلة قول الساقي له إن الطعام مسموم، فكلف الملك الساقي أن يشرب ذلك الشراب ففعل ولم يصبه شيء، ثم كلف الخباز أن يأكل الطعام الذي أحضره له فأبى، فأطعمه دابة فماتت لساعتها، فظهرت خيانته فحبسهما معا على توهم أن الساقي تواطأ مع الخباز أي الطاهي قبلا ولم يخبره إلا عند الأكل حتى يظهر التحقيق براءته، ولما كان هذه القصة عظيم من الأهمية فقد يظلم في بدايتها كثير من الناس ثم ينجو من قدر له النجاة. قالوا ولما دخل يوسف السجن صار يعظ الناس وينصحهم ويحذرهم من الموبقات، ويأمرهم بالمعروف، ويحبّذ لهم عمله، وأن يحسنوا لأنفسهم وغيرهم ويتباعدوا عن المنكرات لئلا يقعوا في سوء عواقبها، ويقول لهم من رأى منكم رؤيا فليأت إليّ أعبرها له بما يلهمني الله تعالى مما يدل على خيرها وشرها، فقال الفتيان لنجربنّه ونتراءى له رؤيا، وكان عليه السلام يراهما مهمومين، فقال لهما ما شأنكما، فقصا عليه الأمر الذي حبسا من أجله وأتبعا حديثهما بما صوراه من الرؤيا «قالَ أَحَدُهُما» صاحب الشراب «إِنِّي أَرانِي» رأيت نفسي في المنام وعبّر في المضارع لاستحضار الصور الماضية في ذهنه
صفحة رقم 211
«أَعْصِرُ خَمْراً» عنبا سماه بما يؤول إليه، لأن الخمر لا يعصر، وإنما يعصر العنب، والعصر إخراج المائع من الفواكه وغيرها، قالوا وكان اسمه نيو فقال يا سيد إني رأيت في المنام حبلة من كرم حسنة لها ثلاثه أغصان فيها عناقيد عنب فكنت أعصرها وأسقي الملك «وَقالَ الْآخَرُ» صاحب الطعام واسمه مجلّت «إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ» قالوا إنه قال أيها السيد إني رأيت في المنام كأن فوق رأسي ثلاث سلال فيها الخبز وأنواع الطعام وسباع الطير تنهش منها «نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ» أي تفسير ما رأيناه وما يؤول أمر رؤيانا، وقد عرضنا عليك ذلك لحسن عقيدتنا بك «إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ٣٦» إلى الناس أجمع، لأنك تعود المرضى في السجن وتأخذ من عناء المسجونين بما تسديه إليهم من النصح، وتهديهم إليه من الرشد، وتوسع على فقيرهم وتجمع للمحتاجين ما يسد عوزهم ممن عنده فضل بما ترغبهم به من الثواب، وتجتهد في عبادة ربك ليل نهار، وإنك صبيح يرجى منك الخير ويؤمل منك الفلاح، ولذلك فإنا وكل أهل السجن يحبونك كأنهم يعلمون أن الرؤيا لا تقص إلا على من يحبه الرائي كما أخبر بذلك حضرة الرسول في أحاديث متعددة، وذلك لأنهم مخالطون للملك وليسوا من السوقة، فقال لا تحبوني فما جاءني البلاء إلا من المحبة، فإن عمتي أحبتني وكنت عندها، فطلبني والدي منها فلم تفعل، فلما أصر عليها كان عندها منطقة اسحق عليه السلام، لأنه أكبر من والدي يعقوب وثوب إبراهيم جدي الذي جاء به إليه جبريل من الجنة، فألبسه إياه حين ألقي في النار لأن اسحق ورثه من إبراهيم أبيه، وهي ورثته منه، وكان التوارث لمثل هذه
الآثار للأكبر، فشدتها على بطني وأرسلتني إليه، ثم ادعت فقد المنطقة، وكان في شريعته أن السارق يؤخذ نفسه بما سرق، فتحروا المنطقة فوجدوها عندي، فأخذتني وبقيت عندها حتى ماتت، فدخل علي من حبها بلاء، وأحبني أبي فنشأ من حبه لي حسد اخوتي، فألقوني في الجب، وأحبتني امرأة العزيز فحبست بسبب محبتها، ثم أعرض عنهما كراهية أن يعبرها لهما لما في تعبيرها على أحدهما من الشرّ وهو لا يحب أن يجابه به أحد إلا بالخير، أخرج أبو حاتم عن قتادة قال: لما انتهى يوسف إلى السجن وجد فيه
قوما قد انقطع رجاؤهم واشتد بلاؤهم وطال حزنهم، فجعل يقول أبشروا واصبروا تؤجروا إن لكم بهذا لأجرا، فقالوا يا فتى بارك الله فيك ما أحسن وجهك وأحسن خلقك وخلقك لقد بورك لنا في جوارك ما نحب ان كنا في غير هذا منذ جئتنا لما تخبرنا به من الأجر والكفارة والطهارة، فمن أنت؟ قال أنا يوسف ابن صفى الله يعقوب بن ذبيح الله اسحق بن خليل الله ابراهيم، فقال له عامل السجن لو استطعت خليت سبيلك لما أنت عليه من اللطف وما لديك على الناس من العطف وكثرة البر والمجاملة ولكن سأحسن جوارك فكن في أي بيوت السجن شئت ومن هنا اعتيد تعيين وعاظ للسجون يخففون عن المظلومين بلاءهم ويحبذون للظالمين التوبة والرجوع إلى الله ورد المظالم ويمنونهم بعفو الله عنهم واطردت العادة حتى الآن، ثم إن الفتيين ألحا على يوسف بتعبير رؤياهما فقال أولا لتثقا في قولي فإني أقول لكم «لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ» في حبسكما هذا أو من أهلكما «إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ» بأن أبين لكما ماهيته وكيفيته ومن أين أتاكما ولونه وطعمه ووقت أكله «قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما» وقبل أن ترونه وهذا من معجزاته عليه السلام أظهرها إليهم ليركنوا إليه ويأخذوا بقوله أملا بهدايتهم، ونظيرها معجزة سيدنا عيسى عليه السلام المبينة في قوله تعالى (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) الآية ٥٠ من آل عمران ج ٣، فقالا له هذا من علم الكهنة فمن أين جاءك، قال لست بكاهن وإنما «ذلِكُما» الذي ذكرته لكم «مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي» من جملة العلوم التي منّ بها علي وعلمنيها بوحيه المقدس يشير إلى أن ذلك معجزة له وأنها جزؤ يسير مما أفاضه الله عليه، وكأنه قيل له أنى لك هذا ولماذا علمك ربك هذه العلوم واختصك بتعبير الرؤيا فقال «إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» يريد العزيز وقومه إذ أعرض عنهم وترك رأيهم وما يتعبدون به ويرجونه ولم يوافقهم على ما يريدون لأنهم عبدة أوثان «وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ ٣٧» جاحدون البعث بعد الموت منكروا المعاد وأن الجملة الأولى كافية للإشعار بكفرهم وأتى بالثانية تأكيدا وكرر لفظ هم لهذه الغاية، وليس المراد بالملة ملة آبائه كما قد يخطر بالبال السقيم باعتبار ما كانوا عليه قديما كما يقوله بعض الأغبياء لأن الأنبياء عليهم
صفحة رقم 213
السلام من حين ولدوا وظهروا إلى الوجود هم على التوحيد الخالص «وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ» ذكرهم عليه السلام ليعلمهم أنه من بيت النبوة وأنه نبي لأن آبائه مشهورون في مصر وغيرها بأنهم أنبياء مرسلون من الله إلى البشر ولعلهم إذا عرفوا نبوته ونسبه يسمعون نصحه وإرشاده ولعلهم يدينون بدينه ويتركون ما هم عليه من عبادة الأوثان وقال هذا ليفهمهم أن ما فاز بما فاز به من النبوة إلا باقتفاء آثارهم وعدم اتباع ملة الكافرين بإنكار الحشر والنشر حينما جئت إلى مصر، وقال إنا نحن قوم أبدا «ما كانَ لَنا» ما صح ولا استقام قط منذ القدم «أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ» أي شيء كان بل نعبده وحده وقد عصمنا من عبادة غيره واختارنا لتحمل وحيه واصطفانا لتبليغ خلقه أوامره ونواهيه يسير بذلك عليه السلام أن ما أنتم عليه يا أهل مصر من الإشراك هو كفر محض وأن الله المنفرد بالألوهية لا يقبل ولا يرضى من المشرك عبادته «ذلِكَ» رفضنا عبادة الأوثان وعكوفنا على عبادة الرحمن والإخلاص إليه واختصاصنا بالنبوة كله «مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا» إذ علمنا ما لم نعلم وألهمنا طرق العدل ومسالك الصواب في كل ما يتعلق بنا وبالناس من أمور الدنيا والآخرة «وَ» فضله «عَلَى النَّاسِ» إذ بين لهم مناهج الهدى والرشد
وأرسل إليهم من خلص خلقه من يرشدهم ويهديهم «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ٣٨» فضله ونعمه ويشركون بعبادته غيره مما لا يستحق العبادة فيخسرون الدنيا والآخرة ويندمون ولات حين مندم.
مطلب مبادئ رسالة يوسف عليه السلام وتعبير رؤيا السجينين ومشروعية الرجاء:
ثم شرع يدعوهم إلى الإيمان تأدية لأمانة ربه التي وكلها إليه، فقال «يا صاحِبَيِ السِّجْنِ» يا ساكنيه جميعكم، على قراءة الجمع، اسمعوا ما أقول لكم وأطيعوني فيما آمركم به، وتأملوا فيه وتدبروا معناه، وعلى قراءة التثنية، يريد به رفيقيه الذي دخلا معه اللذين يطلبان تأويل رؤياهما، وعلى كل قال لهم «أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ» شتى، من حفر وحديد وخشب ونحاس وفضة وذهب وحجارة وغيرها من صورة صغيرة
أو كبيرة وبين ذلك، لا تضر ولا تنفع، ولا عن نفسها شرا تدفع، «خَيْرٌ» بأن تتخذوها ربا وتعبدوها «أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ٣٩» لكل شيء القادر على الإحياء والإماتة والإغناء والإفقار، الذي قهر الجبابرة بالخذلان والموت الذي لا يشبهه شيء من خلقه، والمنفرد بالإلهية، المنقطع النظير، والقوي الذي لا يغلبه غالب ولا يطلبه طالب، لا زوجة له ولا ولد، ولا معين، ولا وزير، وهذا الخطاب عام للمخاطبين ولمن هو على دينهما من أهل مصر، وعلى هذا فتكون التثنية باعتبار أنهم جماعة من سلفهم جماعة على حد قوله تعالى (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) الآية ٤٥ من سورة النمل في ج ١، ومن هنا تعلم أن هذا يشمل طالبي تعبير الرؤيا وغيرهما، وهذا أحسن في التعبير وأنسب بالمقام راجع تفسير الآية المذكورة، وعليه جاء قوله تعالى «ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ» أربابا وآلهة من الأوثان «إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ» بلفظ اجمع على المعنى الأخير، وكذلك ما تدعون التقرب إلى الله به من عبادة الكواكب والحيوانات والجمادات، كلها إفك «ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ» يؤيد وجودها ولا برهان يثبت عبادتها، ولا يوجد دليل على تسميتها آلهة لأنها ذليلة حقيرة يقدر على إهانتها كل أحد، ويحطمها المرأة والولد، ثم قال مظهرا لهم التأثر على عكوفهم على عبادة ما لا يصلح للعبادة والأسف على الركون إليها وهي لا شيء «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ» أي ما الحكم في أمر العباد والعبادة إلا للإله المنفرد بالحكم الذاتي الذي «أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا» أيها الناس ملكا ولا بشرا ولا جنا ولا إنسا ولا جسما ولا شيئا «إِلَّا إِيَّاهُ» إذ لا معبود بحق غيره «ذلِكَ» تخصيص الإله الواحد القهار بالعبادة والسيادة ونفيهما عن غيره هو «الدِّينُ الْقَيِّمُ» الثابت بالأدلة القطعية والبراهين الساطعة «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ» ٤٠ وهذا من مبادئ رسالته عليه الصلاة والسلام، لأنه نبىء بالبئر وهو ابن ثماني عشرة سنة، وأرسل وهو في السجن وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة على أصح الأقوال بدليل هذه الآية، وقد وصف الأكثر بأنهم لا يعلمون دين الله وأوامره ونواهيه لجهلهم الحجج السماوية والأرضية الدالة على الألوهية وعدم استعمالهم ما منحهم الله به
صفحة رقم 215