آيات من القرآن الكريم

۞ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ ۖ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ۖ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ
ﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱ ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚ

والمفعول في نحو هذا ضارب زيدا وقاتل بكرا وقال بعضهم تنصب غدوة بعد لدن على أنها خبر لكان المقدرة مع اسمها والتقدير لدن كان الوقت غدوة وجاز رفعها على أنها فاعل لفعل محذوف والتقدير لدن كانت عدوة أي وجدت فكان هنا تامة والغالب في لدن أن تجر بمن نحو «وعلمناه من لدنا علما» وإذا أضيفت الى ياء المتكلم لزمتها نون الوقاية نحو «لدني» وهي تضاف الى المفرد كما رأيت والى الجملة نحو انتظرتك من لدن طلعت الشمس الى أن غربت.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٣٠ الى ٣٣]
وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣)

صفحة رقم 478

اللغة:
(نِسْوَةٌ) : جماعة من النساء وكن خمسا والنسوة اسم جمع لا واحد له من لفظه بل من معناه وهو امرأة وتأنيثها غير حقيقي بل باعتبار الجماعة ولذلك لم يلحق فعلها تاء التأنيث والمشهور كسر نونها ويجوز ضمها في لغة، وقد قرىء بها وفي القاموس وشرحه ما يفهم منه أن النسوة والنسوة والنساء والنسوان والنّسون والنسنين جموع للمرأة من غير لفظها وقال الزمخشري: «النسوة اسم مفرد لجمع المرأة وتأنيثه غير حقيقي ولذلك لم تلحق فعله تاء التأنيث».
(شَغَفَها) : دخل حبها شغاف قلبه وفي المصباح: «شغف الهوى قلبه شغفا من باب نفع والاسم الشغف بفتحتين، بلغ شغافه بالفتح وهو غشاؤه وشغفه المال زين له فأحبه فهو مشغوف به». والشغاف حجاب القلب وقيل جلدة رقيقة يقال لها لسان القلب قال النابغة:

وقد حال هم دون ذلك والحج مكان الشغاف تبتغيه الأصابع
(أَعْتَدَتْ) : هيأت وأحضرت، واعتده له هيأه وهو عتيد: معد حاضر ومنه العتيدة التي فيها الطيب والأدهان.
(مُتَّكَأً) : ما يتكئن عليه من نمارق يستندن عليها على عادة المتكبرين في أكل الفواكه حيث يتكىء آكلها على الوسائد ويأكلها بالسكاكين وقيل سمي الطعام كالاترج والموز متكأ لحصول الاتكاء على الوسائد عند أكله فهو مجاز مرسل علاقته المجاورة أو استعارة تصريحية.

صفحة رقم 479

(أَكْبَرْنَهُ) : أعظمنه وهبن حسنه الرائع وجماله الأخاذ الفاتن واستولى عليهن الدهش وقيل: أكبرن بمعنى حضن والهاء للسكت يقال أكبرت المرأة إذا حاضت وحقيقته دخلت في الكبر لأنها إذا حاضت تخرج من حد الصغر الى حد الكبر وكأن أبا الطيب رمق هذا التفسير فقال متملحا متغزلا:

خف الله واستر ذا الجمال ببرقع فإن لحت حاضت في الخدور العواتق
في إحدى روايات البيت التي نقلها أبو الفتح بن جني ويقال إن المرأة إذا اشتدت شهوتها سال دم حيضها فمعنى البيت: استر جمالك عنهن وإلا حضن، على أن الرواية التي اختارها أبو البقاء «ذابت».
(حاشَ لِلَّهِ) : أي حاشا وسيأتي الحديث عنها في باب الفوائد.
الإعراب:
(وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ) الواو عاطفة لتتساوق مجريات القصة، وقال نسوة فعل وفاعل وفي المدينة صفة لنسوة. (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا) امرأة العزيز مبتدأ وجملة تراود خبر وفتاها مفعول به وعن نفسه جار ومجرور متعلقان بتراود وقد حرف تحقيق وشغفها فعل وفاعل مستتر ومفعول به وحبا تمييز محول عن الفاعل وجملة قد شغفها حال من فاعل تراود أو من مفعوله ويجوز أن تكون خبرا ثانيا لامرأة. (إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) إن واسمها واللام المزحلقة وجملة نراها خبر إن وفي ضلال متعلقان بنراها ومبين صفة

صفحة رقم 480

لضلال. (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً) الفاء عاطفة ولما حينية أو رابطة وسمعت فعل وفاعل مستتر وبمكرهن متعلقان بسمعت وجملة أرسلت لا محل لها وإليهن متعلقان بأرسلت وأعتدت عطف على أرسلت ولهن متعلقان بأعتدت ومتكأ مفعول به وآتت عطف أيضا وكل واحدة مفعول آتت الأول ومنهن صفة لواحدة وسكينا مفعول آتت الثاني والسكين تذكر وتؤنث قاله الكسائي والفراء وقال الجوهري: والغالب عليها التذكير.
(وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ) الواو عاطفة وجملة اخرج مقول القول وعليهن متعلقان بمحذوف حال أي مطلا عليهن مستعليا بدلّك الفاتن وجمالك الآخذ. (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) الفاء عاطفة ولما ظرفية حينية أو رابطة حرفية ورأينه فعل وفاعل ومفعول به وقطعن فعل وفاعل وأيديهن مفعول به، ولا نرى رأي القائلين بأن أكبرنه بمعنى حضن والهاء للسكت إذ هو تظرف مصنوع لا يليق بالقرآن. (وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً) وقلن فعل وفاعل وحاش اسم للتنزيه في محل نصب مفعول مطلق ولله متعلقان بمحذوف حال وسيأتي مزيد بحث عن حاشا في باب الفوائد وما نافية حجازية وهذا اسمها وبشرا خبرها وعبارة أبي حيان: «وقال الزمخشري وقرىء ما هذا بشرى أي حاصل بشرى بمعنى هذا مشترى وتقول هذا لك بشرى أي بكرا وقال:
واعمال ما عمل ليس هي اللغة القدمى الحجازية وبها ورد القرآن انتهى. وانما قال القدمى لأن الكثير في لغة الحجاز انما هو جر الخبر بالباء فتقول ما زيد بقائم وعليه أكثر ما جاء في القرآن وأما نصب الخبر فمن لغة الحجاز القديمة حتى أن النحويين لم يجدوا شاهدا على نصب الخبر في أشعار الحجازيين غير قول الشاعر:

صفحة رقم 481

وأنا النذير بحرة مسودة يصل الجيوش إليكم قوادها
أبناؤها متكنفون أباهم حنقوا الصدور وما هم أولادها
وقال الفراء وهو سامع لغة حافظ ثقة: لا يكاد أهل الحجاز ينطقون إلا بالباء فلما غلب على أهل الحجاز النطق بالباء قال الزمخشري:
اللغة القدمى الحجازية فالقرآن جاء باللغتين القدمى وغيرها».
(إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) إن نافية وهذا مبتدأ وإلا أداة حصر وملك خبر وكريم صفة. (قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) فذلك الفاء الفصيحة أي إن شئتم معرفته فذلكن واسم الاشارة مبتدأ ولم تقل فهذا وهو حاضر وسياق الكلام يتطلب ذلك رفعا لمنزلته في الحسن والذي خبر لمبتدأ محذوف أي هو الذي ولم يجعل الذي خبر لاسم الاشارة لأن لام البعد التي اقترن بها اقتضت بعده عنه لما تقدم من تعظيم رتبته في الحسن والجمال، وفيه متعلقان بلمتنني أي في حبه أو مراودته وسيأتي تحقيق في المحذوف في باب البلاغة. (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) الواو عاطفة واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق وراودته فعل وفاعل ومفعول به وعن نفسه متعلقان براودته، فاستعصم الفاء عاطفة واستعصم فعل ماض زيدت فيه السين للمبالغة في الامتناع. (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) اللام موطئة للقسم وان شرطية ولم حرف نفي وقلب وجزم ويفعل مضارع مجزوم وهو فعل الشرط وما مفعول به وجملة آمره صلة أي الذي آمره به ويصح كونها مصدرية أي أمري والضمير في آمره عائد على الموصول أي ما آمر به فحذف الجار كما حذف في أمرتك الخير ومفعول آمر الأول محذوف وكان التقدير ما آمره به وإن جعلت ما مصدرية جاز فيعود الضمير على يوسف أي أمري إياه

صفحة رقم 482

ومعناه موجب أمري، واللام واقعة في جواب القسم وجواب الشرط محذوف على القاعدة في اجتماعهما دل عليه جواب القسم المذكور والتقدير ليسجنن وليكونن، وفي يسجنن نون التوكيد الثقيلة وفي يكون نون التوكيد الخفيفة واسم يكون مستتر تقديره هو ومن الصاغرين خبرها. (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا وهو ما كان جوابا لمقدر فقد قالت النسوة له بعد أن أسمعن تقرير زليخاء ألا تطيع مولاتك؟ قال إلخ، ورب منادى محذوف منه حرف النداء والسجن مبتدأ وأحب خبر وإلي للتبيين وهي المبينة لفاعلية مجرورها بعد ما يفيد حبا أو بغضا من فعل تعجب أو اسم تفضيل ومما متعلقان بأحب وجملة يدعونني صلة وهو فعل مضارع مبني على سكون الواو والنون الاولى نون النسوة والثانية نون الوقاية فالواو ليست ضميرا بل هي لام الكلمة وليس هو من الأفعال الخمسة التي ترفع بثبوت النون وتنصب وتجزم بحذفها وأضاف العمل إليهن لأنهن جميعا دعونه إلى أنفسهن وقيل لأنهن لما قلن له ألا تطيع مولاتك صح إضافة الدعاء إليهن جميعا، واليه متعلقان بيدعونني.
(وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) الواو عاطفة وان شرطية ولا نافية وتصرف فعل الشرط والفاعل مستتر تقديره أنت وعني متعلقان بتصرف وكيدهن مفعول به وأصب جواب الشرط والفاعل مستتر تقديره أنا وإليهن جار ومجرور متعلقان بأصب وأكن عطف على أصب واسم أكن مستتر تقديره أنا ومن الجاهلين خبر أكن.
البلاغة:
١- في قوله تعالى «ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم»
فنان متداخلان الأول ظاهر وهو التشبيه البليغ فقد شبهن يوسف بالملك

صفحة رقم 483

من دون ذكر الأداة وهذا واضح كما قلنا يجري على غرار التشبيهات المألوفة المقصود منه إثبات الحسن لأنه تعالى ركب في الطبائع أن لا شيء أحسن من الملك وقد عاين ذلك قوم لوط في ضيف ابراهيم من الملائكة، كما ركب في الطباع أن لا شيء أقبح من الشيطان، وكذلك قوله تعالى في صفة جهنم «طلعها كأنه رؤوس الشيطان» فكذلك قد تقرر أن لا شيء أحسن من الملك، فلما أرادت النسوة وصف يوسف بالحسن شبهنه بالملك. ولكن الأسلوب القرآني شاء أن يتجاوز المألوف من تشبيهات العرب لكل ما راعهم حسنه من البشر بالجن فأدخل فيه فنا آخر لا يبدو للناظر للوهلة الأولى وهو فن عرفوه بأنه سؤال المتكلم عما يعلمه حقيقة تجاهلا منه ليخرج كلامه مخرج المدح أو ليدل- كما هنا- على شدة الوله في الحب وقد يقصد به الذم أو التعجب أو التوبيخ أو التقرير ويسمى هذا الفن تجاهل العارف وهو على قسمين: موجب ومنفي.
أ- الموجب:
وهو ما يكون فيه الاستفهام عن شيئين أحدهما واقع والآخر غير واقع وللمتكلم أن ينطق بأحدهما ويسكت عن الآخر لدلالة الحال عليه ومن هذا الباب قوله تعالى «أبشرا منا واحدا نتبعه» وهذا خارج مخرج التعجب وسيأتي بحثه عند الكلام على هذه الآية في سورة «القمر» وقوله تعالى «قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يبعد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء» وهذا خارج مخرج التوبيخ وقد مر ذكره في سورة هود وقوله تعالى: «أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم» وهذا خارج مخرج التقرير وجميعه موجب كما رأيت.

صفحة رقم 484

ب- المنفي:
وأما الآية التي نحن بصددها فهي من القسم المنفي فقد تجاوز التشبيه، كما قلنا، تشبيه العرب كل من راعهم حسنه من البشر بالجن الى تشبيه يوسف حين كان حسنه بادي الروعة متجاوزا في ائتلاقه ووسامته المألوف المعهود من روائع الحسن وله مع روعته البادية نور ورأوة، وطلاقة وتهلل، وعليه مسحة من سكينة تؤمن ناظره من تلك الرعوة وتثبت قلبه بما يسري إليه من سكينة وايماءة بالخير واستهواء لما فيه راحة النفس ولذتها فكان كذلك تشبيهه بالملك الكريم.
التشبيه المصون عن الابتذال:
وما دام الكلام انجر معنا الى هذه النواحي التي تدق فيها الصنعة وتعزب أسرارها إلا عن الملهمين الذين تذوقوا أسرار القوم فلا ندحة لنا عن الاشارة الى أن هذا الفن انما يلجأ اليه في التشبيه بنوع خاص للخروج من التقليد والارتفاع بالتشبيه الى أبعد الآفاق وصيانته من الابتذال فلو لم تعرض الآية تشبيه يوسف بالملك بهذا الأسلوب المسبوق بالنفي الموجب للغرابة لم يكن للتشبيه ذلك الوقع الحسن ومن ذلك قول شاعر الخلود المتنبي:

لم تلق هذا الوجه شمس نهارنا إلا بوجه ليس فيه حياء
فقد أراد تشبيه الوجه بالشمس ولكن هذا التشبيه شائع يكاد لشيوعه يسف الى حضيض الابتذال فأراد صيانته بأن قدم له النفي متجاهلا فقال لا حاجة الى الشمس مع ضيائك ونورك ولكنها لوقاحتها تطلع عليك.

صفحة رقم 485

تجاهل العارف في الشعر:
هذا ولتجاهل العارف وقع في النفوس كأخذة السحر ونشوة الخمر ولهذا قال السكاكي رحمة الله: «لا أحب تسميته بالتجاهل لوروده كثيرا في كلام الله تعالى» ثم أطلق عليه تسمية أخرى وهي «سوق المعلوم مساق غيره لنكتة» وقد طفحت أشعارنا به ولم تقتصر على المديح أو الغزل، كما قلنا، بل تجاوزتهما الى أية مبالغة في أي موضوع من الموضوعات التي تعن للخواطر فاستمع الى قول زهير ابن أبي سلمى تر العجب العجاب: قال يهجو حصن بن حذيفة الفزاري:

وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء
فانظر كيف خطر بباله أن ينفي الدراية بحال الآل، ثم قبل أن يكمل ذلك خطر بباله الجزم بأنه سوف يدري، ثم قبل أن يكمل ذلك قال إن حصول الدراية في المستقبل على سبيل التخيل والظن فحكى حال النفس عند ترددها في شأنه.
ويطربني قول أبي العباس النامي:
أحقا أن قاتلتي زرود وأن عهودها تلك العهود
وقفت وقد فقدت الصبر حتى تبين موقفي أني الفقيد
وشكك فيّ عذالي فقالوا لرسم الدار أيكما العميد؟
وصيحة ابن الرومي صيحة الوهل حين يرى الوجنة الحمراء الى جانب الصدع الأدعج:

صفحة رقم 486

ما حمرة فيكما؟ أمن خجل... أم صبغة الله أم دم المهج
وقد أطرفت ليلى بنت طريف الخارجية في رثاء أخيها:
أيا شجر الخابور مالك مورقا... كأنك لم تجزع على ابن طريف
وأراد مهيار أن يشبه المحبوبة بالظبي وبالبدر وبغصن البان فتجاوز المألوف المعتاد وسما الى سماء ما طاولتها سماء إذ قال:
سلا ظبية الوادي وما الظبي مثلها... وإن كان مصقول الترائب أكحلا
أأنت أمرت البدر أن يصدع الدجى... وعلمت غصن البان أن يتميّلا
ونختم هذا الباب المستطاب بقول البهاء زهير:
رعى الله ليلة وصل خلت... وما خالط الصفو فيها الكدر
أتت بغتة ومضت سرعة... وما قصرت بعد ذاك القصر
بغير احتيال ولا كلفة... ولا موعد بيننا ينتظر
فقلت وقد كاد عقلي يطير... سرورا بنيل المنى والوطر
أيا قلب تعرف من قد أتاك... ويا عين تدرين من قد حضر
ويا قمر الأفق عد راجعا... فقد حل في الدار عندي القمر
ويا ليلتي هكذا هكذا... وبالله قف يا سحر

صفحة رقم 487

فكانت كما أشتهي ليلة... وطاب الحديث وطاب ا
لسهر خلونا وما بيننا ثالث... فأصبح عند النسيم الخبر
ويقول الشريف الرضي وهو غاية الغايات:
بين الاظاعن حاجة خلفتها... أودعتها يوم الفراق مودعي
وأظنها لا بل يقيني انها... قلبي لأني لم أجد قلبي معي
٢- الحذف:
وفي قوله «فذلكن الذي لمتنني فيه» والتقدير في حبه لأن الذوات لا يتعلق بها لوم ودليل تقدير في حبه قوله «قد شغفها حبا» في مراودته، ولعلها أولى بدليل قوله: «تراود فتاها عن نفسه» وإنما قلنا أولى لأنه فعلها بخلاف الحب فإنه أمر قهري لا يلام عليه إلا من حيث تعاطي أسبابه أما المراودة فهي حاصلة باكتسابها فهي قادرة على دفعها فيتأتى اللوم عليها بخلاف الحب فانه ليس فعلا لها ولا تقدر على دفعه لأن الحب المفرط قد يقهر صاحبه ولا يطيق أن يدفعه وحينئذ فلا يلام عليه وعلى كل حال فهو من أسبابه.
٣- وفي قوله «متكأ» تصوير لنوع من الطعام الذي انما يقدم تفكها وتبسطا وتجميلا للمجلس وتوفيرا لأسباب المتعة فيه حتى إن الشأن فيه أن يكون الإقبال عليه في حالة من الراحة والاتكاء، والكلمة بعد هذا من الألفاظ الكثيرة التي أبدع القرآن صياغتها فتعلق بها العرب فيما بعد ولولا ذلك لما اهتدوا إليها ولخاتنهم اللغة في هذا الباب عن تصوير ما يريدون انظر حينما يصف القرآن دعوة امرأة العزيز

صفحة رقم 488

للنسوة اللائي تحدثن منتقدات عن مراودتها ليوسف عن نفسه إلى جلسة لطيفة رائعة في بيتها لتطلعهن فيها على يوسف وجماله فيعذرنها فيما أقدمت عليه، لقد قدمت لهن في ذلك المجلس طعاما ولا شك ولقد أوضح القرآن هذا ولكنه لم يعبر عن ذلك بالطعام فهذه الكلمة إنما تصور شهوة الجوع وتنتقل بالفكر الى «المطبخ» بكل ما فيه من ألوان الطعام وروائحه وأسبابه.
الفوائد:
١- (حاشا) تكون على ثلاثة أوجه:
١- فعلا متعديا متصرفا، تقول: حاشيته بمعنى استثنيته وان سبقتها ما تكون نافية.
٢- تنزيهية نحو حاشا لله فتكون اسما مرادفا للتنزيه منصوبا على المفعولية المطلقة وقيل هي فعل وتثبت الألف وتحذف.
٣- أن تكون للاستثناء فتكون حرفا بمنزلة إلا لكنها تجر المستثنى وهناك تفاصيل أخرى يرجع إليها في المطولات.
٢- المخالفة في نوني التوكيد:
جمهور البصريين يرى أن نوني التوكيد الثقيلة والخفيفة أصلان لتخالفهما في بعض أحكامهما كإبدال الخفيفة ألفا في نحو وليكونا وحذفها في نحو قوله:

يا وجنتيه اللتين من بهج فيّ صدغييه اللذين من دعج

صفحة رقم 489
إعراب القرآن وبيانه
عرض الكتاب
المؤلف
محيي الدين بن أحمد مصطفى درويش
الناشر
دار الإرشاد للشئون الجامعية - حمص - سورية ، (دار اليمامة - دمشق - بيروت) ، ( دار ابن كثير - دمشق - بيروت)
سنة النشر
1412 - 1992
الطبعة
الرابعة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية
ولا تهين الفقير علك أن تركع يوما والدهر قد رفعه