
- ٢- يوسف عند ملك مصر وإيتاؤه النبوة
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢١) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢)
المفردات اللغوية:
وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ وهو العزيز الذي كان على خزائن مصر، واسمه قطفير أو أطفير، وكان الملك يومئذ ريان بن الوليد العمليقي من العماليق، وقد آمن بيوسف ومات في حياته. روي أنه اشتراه العزيز وهو ابن سبع عشرة سنة، ولبث في منزله ثلاث عشرة سنة، واستوزره الريان وكان ابن ثلاثين، وآتاه الله الحكمة والعلم، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وتوفي وهو ابن مائة وعشرين.
واختلف فيما اشتراه به، فقيل: عشرون دينارا وزوجا نعل وثوبان أبيضان لِامْرَأَتِهِ زليخا أو راعيل أَكْرِمِي مَثْواهُ مقامه عندنا، أي اجعلي مقامه عندنا كريما أي حسنا، والمعنى:
أحسني تعهده عَسى أَنْ يَنْفَعَنا في ضياعنا وأموالنا ونستعين به في مصالحنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً نتبناه، وكان عقيما، لما تفرّس به من الرشد، ولذلك قيل: أفرس الناس ثلاثة: عزيز مصر، وابنة شعيب التي قالت: يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ [القصص ٢٨/ ٢٦]، وأبو بكر حين استخلف عمر رضي الله تعالى عنهما.
وَكَذلِكَ كما نجيناه من القتل والبئر، وعطفنا عليه قلب العزيز مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ مكنا له في أرض مصر وجعلنا له مكانة رفيعة فيها، حتى صار رئيس حكومتها ووزير ماليتها وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ تعبير الرؤيا، وهو معطوف على محذوف مقدر متعلق

بمكنا، أي لنملكه أو ليتصرف فيها بالعدل ولنعلمه، أو الواو زائدة وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ أي لا يعجزه شيء، فلا يمنع عما يشاء، ولا ينازع فيما يريد.
أَشُدَّهُ منتهى اشتداد جسمه وكمال قوته الجسمية والعقلية، وهو رشده، وهو سن ما بين الثلاثين والأربعين آتَيْناهُ حُكْماً أي حكمة، وهو العلم المؤيد بالعمل، أو حكما بين الناس، أو حكما صحيحا يزن به الأمور بميزان صادق وَعِلْماً يعني علم تأويل الأحاديث، وفقه الدين قبل أن يبعث نبيا وَكَذلِكَ كما جزيناه نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ لأنفسهم، وهو تنبيه على أنه تعالى إنما آتاه ذلك جزاء على إحسانه في عمله واتقائه في عنفوان أمره.
المناسبة:
بعد مسيرة يوسف مع السيارة إلى مصر، أبان الله تعالى بداية قصة يوسف في بيت عزيز مصر الذي اشتراه، وإيتاءه النبوة والعلم والحكمة وتعبير الرؤيا وجعله من زمرة المحسنين.
التفسير والبيان:
بعد تلك المأساة الحزينة التي مرّ بها يوسف في البئر، ثم اعتباره كالعبيد يباع ويشترى، قيّض الله له الذي اشتراه من مصر، ولم يذكر هنا اسمه، وإنما وصفه النسوة بأنه عزيز مصر على خزائنها، وذكر في التاريخ أنه رئيس الشرطة والوزير بها، وكان اسمه «قطفير» أو أطفير بن روحيب وزير المالية، حتى اعتنى به وأكرمه وأوصى أهله به، لما توسم فيه الخير والصلاح، فقال لامرأته زليخا أو راعيل بنت رعابيل: أكرمي مقام هذا الغلام ومنزله عندنا أي أحسني تعهده، لما تفرس فيه من الرشد.
روى أبو إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود أنه قال: أفرس الناس ثلاثة: عزيز مصر حين قال لامرأته: أَكْرِمِي مَثْواهُ والمرأة التي قالت لأبيها: يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ الآية [القصص ٢٨/ ٢٦]، وأبو بكر الصديق حين استخلف عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.

وقيل: كان فرعون موسى الذي عاش أربع مائة سنة هو الذي اشترى يوسف، بدليل قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ [غافر ٤٠/ ٣٤] قال البيضاوي: والمشهور أن المشتري من أولاد فرعون، والآية من قبيل خطاب الأولاد بأحوال الآباء.
ثم علل عزيز مصر طلبه من امرأته حسن تعهد يوسف بقوله كما قال الله:
عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً أي لي رجاء أن ينفعنا في أعمالنا الخاصة واستثمار أموالنا، أو مصالحنا العامة، أو نتبناه ولدا تقر به أعيننا لأنه كان عقيما لا يولد له ولد، وكان حصورا.
والآية تدل على على أن العزيز كان عقيما، وأنه كان صادق الفراسة.
ثم أبان الله تعالى أفضاله الأدبية المعنوية بعد أن قيض له من يعينه ماديا فقال: وكما أنعمنا عليه بالسلامة من الجبّ، وأنقذناه من إخوته، وهيأنا له المنزل والمثوى الطيب الكريم، عطّفنا عليه قلب العزيز، وجعلنا له مكانة عالية في أرض مصر، يملك الأمر والنهي وتدبير أمور المالية وشؤون الدولة والحكم، بسبب حدوث ما حدث له في بيت العزيز، ثم السجن، الذي كان سببا في التعرف على ساقي الملك، ثم الاتصال بالملك نفسه، حتى قال له الملك: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ [يوسف ١٢/ ٥٤] وقال يوسف للملك: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ، إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف ١٢/ ٥٥].
وتحقيق الكمال يكون بأمرين هما القدرة والعلم، أما تكميله في صفة القدرة فبقوله تعالى: مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وأما تكميله في صفة العلم، فبقوله تعالى: وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وهو معطوف على مقدر متعلق بمكنا، أي لنملّكه ولنعلمه. وتأويل الأحاديث: تعبير الرؤيا، ومعرفة حقائق الأمور، وكيفية الاستدلال بأصناف المخلوقات على قدرة الله تعالى وحكمته وجلاله.

ثم قال تعالى: وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ.. لا يعجزه شيء، فلا يمنع عما يشاء، ولا ينازع فيما يريد، إذا أراد شيئا فلا يرد ولا يمانع ولا يخالف، بل هو الغالب، وهو الفعال لما يشاء، كما قال سعيد بن جبير: «ولكن أكثر الناس لا يدرون حكمته في خلقه وتلطفه وفعله لما يريد، ويأخذون بظواهر الأمور، كما ظن إخوة يوسف أنه لو أبعد خلالهم وجه أبيهم، وكانوا من بعده قوما صالحين».
وقوله: أَكْثَرَ النَّاسِ دليل على أن الأقل يعلمون الحقائق كيعقوب عليه السّلام، الذي يعلم أن الله غالب على أمره.
ثم بيّن الله تعالى ما جازى به يوسف لما صبر على إساءة إخوته إليه، وعلى الشدائد والمحن التي مرّ بها، فمكنه الله تعالى في الأرض، وهو القدرة التي أشرنا إليها، ولما بلغ أشده آتاه الله النبوة التي عبر عنها بالحكم والعلم، وهي أكمل درجات العلم، فقال: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ.. أي ولما استكمل يوسف قواه الجسمية والعقلية، آتيناه حكما وعلما، أي النبوة التي حباه بها بين أولئك الأقوام، كالجزاء على صبره على تلك المحن وعلى الأعمال الحسنة.
واكتمال الرشد وبلوغ الأشد: ما بين الثلاثين والأربعين، فقال جماعة:
ثلاث وثلاثون سنة، أو بضع وثلاثون، وقال الحسن: أربعون سنة. وقال عكرمة وهو تقدير الأطباء: خمس وعشرون سنة.
وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي ومثل ذلك الجزاء، نجزي المحسنين الذين يحسنون لأنفسهم أعمالهم. وهذا دليل على أن يوسف عليه السّلام كان محسنا في عمله، عاملا بطاعة الله تعالى، وأن ما آتاه الله من سلطان ونفوذ، وعلم وحكمة، ونبوة ورسالة كان جزاء على إحسانه في عمله، وتقواه في حال شبابه، إذ للإحسان تأثير في صفاء العقول، وللإساءة تأثير في تعكير النفوس وسوء فهم الأمور.

فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما تفضل الله به على يوسف عليه السّلام جزاء صبره من نعم وفضائل مادية ومعنوية وهي ما يأتي:
١- تهيئة البيت الكريم، والمثوى والمقام المريح، والمطعم واللباس الحسن، والحفظ والرعاية المادية والأدبية في ظل بيت العزيز الذي كان وزيرا للمالية على خزائن مصر، وهو المنصب ذاته الذي تولاه يوسف عليه السّلام بعدئذ.
٢- كان عزيز مصر صادق الفراسة، ثاقب الفكرة، أصاب فيما توقعه ليوسف من مكانة عالية في البلاد.
٣- التمكين المادي ليوسف في أرض مصر، بأن عطف الله عليه قلب الملك، حتى تمكن من الأمر والنهي في بلد الملك نفسه، فصار وزيرا للمالية ورئيسا للحكومة.
٤- التمكين المعنوي ليوسف ليوحي الله إليه بكلام منه، وليعلمه تأويل الكلام وتفسيره، وتعبير الرؤيا، والفطنة للأدلة الدالة على وجود الله ووحدانيته وقدرته.
٥- إيتاؤه الحكم والعلم، أي النبوة بعد بلوغ الرشد واكتمال البنية الجسدية والقوى العقلية، فقوله: حُكْماً وَعِلْماً إشارة إلى استكمال النفس في قوتها العملية والنظرية.
٦- جعله من المؤمنين المحسنين المطيعين أوامر ربه، المتجنب نواهيه، الصابرين على النوائب، حتى قال بعضهم: إن من اجتهد وصبر على بلاء الله تعالى، وشكر نعماء الله تعالى، وجد منصب الرسالة، بدليل أنه تعالى لما ذكر صبر يوسف على تلك المحن، ذكر أنه أعطاه النبوة والرسالة.