ورجح بعضهم حمل الآل على ما يعم الأبناء بأنه لو كان المراد الأبناء لكان الأظهر الأخصر وعلى إخوتك بدل ما في النظم الجليل، وقيل إنما اختار ذلك عليه لأنه يتبادر من الإخوة الذي نهى عن الاقتصاص عليهم فلا يدخل بنيامين، والمراد إدخاله، وقيل: المراد- بآل يعقوب- أتباعه الذين على دينه.
وقيل: يعقوب خاصة على أن الآل بمعنى الشخص ولا يخفى ما في القولين من البعد، وأبعدهما الأخير ومن جعل إتمام النعمة إشارة إلى الملك جعل العطف باعتبار أنهم يغتنمون آثاره من العز والجاه والمال هذا.
كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ أي إتماما كائنا كإتمام نعمته على أبويك من قبل هذا الوقت أو من قبلك، والاسمان الكريمان عطف بيان- لأبويك- والتعبير عنهما بالأب مع كونهما أبا جده وأبا أبيه للإشعار بكمال ارتباطه بالأنبياء عليهم السلام وتذكير معنى الولد سر أبيه ليطمئن قلبه بما أخبر به، وإتمام النعمة على إبراهيم إما بالنبوة، وإما باتخاذه خليلا وإما بإنجائه من نار عدوه وإما من ذبح ولده وإما بأكثر من واحد من هذه وعلى إسحاق إما بالنبوة أو بإخراج يعقوب من صلبه أو بإنجائه من الذبح وفدائه بذبح عظيم على رواية أنه الذبيح، وذهب إليه غير واحد، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه، وأمر التشبيه على سائر الاحتمالات سهل إذ لا يجب أن يكون من كل وجه والاقتصار في المشبه به على ذكر إتمام النعمة من غير
تعرض للاجتباء من باب الاكتفاء كما قيل فإن إتمام النعمة يقتضي سابقة النعمة المستدعية للاجتباء لا محالة ومعرفته عليه السلام لما أخبر به مما لم تدل عليه الرؤيا إما بفراسة، وكثيرا ما تصدق فراسة الوالد بولده كيفما كان الوالد، فما ظنك بفراسته إذا كان نبيا أو بوحي؟ وقد يدعي أنه استدل بالرؤيا على كل ذلك إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ بكل شيء فيعلم من يستحق المذكورات حَكِيمٌ فاعل لكل شيء حسبما تقتضيه الحكمة فيفعل ما يفعل جريا على سنن علمه وحكمته، والجملة استئناف لتحقيق الجمل المذكورة.
لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ [يوسف: ٢٢] أي في قصصهم، والظاهر أن المراد بالإخوة هنا ما أريد بالإخوة فيما مرّ، وذهب جمع إلى أنهم هناك بنو علاته، وجوز أن يراد بهم هاهنا ما يشمل من كان من الأعيان لأن لبنيامين أيضا حصة من القصة، ويبعده على ما قيل: قالُوا الآتي آياتٌ علامات عظيمة الشأن دالة على عظيم قدرة الله تعالى القاهرة وحكمته الباهرة لِلسَّائِلِينَ لكل من سأل عن قصتهم وعرفها، أو للطالبين للآيات المعتبرين بها فإنهم الواقفون عليها المنتفعون بها دون من عداهم ممن اندرج تحت قوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ [يوسف: ١٠٥] فالمراد بالقصة نفس المقصوص، أو على نبوته عليه الصلاة والسلام الذين سألوه عن قصتهم حسبما علمت في بيان سبب النزول فأخبرهم صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك على ما هو عليه من غير سماع من أحد ولا قراءة كتاب، فالمراد بالقصة اقتصاصها، وجمع- الآيات- حينئذ قيل: للإشعار بأن اقتصاص كل طائفة من القصة آية بينة كافية في الدلالة على نبوته صلى الله تعالى عليه وسلّم، وقيل:
لتعدد جهة الإعجاز لفظا ومعنى، وزعم بعض الجلة أن الآية من باب الاكتفاء، والمراد آياتٌ للذين يسألون والذين لا يسألون، ونظير ذلك قوله سبحانه: سَواءً لِلسَّائِلِينَ [فصلت: ١٠] وحسن ذلك لقوة دلالة الكلام على المحذوف، وقال ابن عطية: إن المراد من السائلين الناس إلّا أنه عدل عنه تحضيضا على تعلم مثل هذه القصة لما فيها من مزيد العبر، وكلا القولين لا يخلو عن بعد.
وقرأ أهل مكة وابن كثير ومجاهد- آية- على الإفراد، وفي مصحف أبي- عبرة للسائلين- إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ بنيامين وتخصيصه بالإضافة لاختصاصه بالأخوة من جانبي الأم والأب وهي أقوى من الأخوة من أحدهما، ولم يذكروه باسمه إشعارا بأن محبة يعقوب عليه السلام له لأجل شقيقه يوسف عليه السلام، ولذا لم يتعرضوه بشيء مما أوقع بيوسف عليه السلام واللام للابتداء، ويوسف- مبتدأ وَأَخُوهُ عطف عليه، وقوله سبحانه: أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا خبر ومتعلق به وهو أفعل تفضيل من المبني للمفعول شذوذا ولذا عدي بإلى حسبما ذكروا من أن أفعل من الحب والبغض يعدى إلى الفاعل معنى بإلى وإلى المفعول باللام، وفي تقول: زيد أحب إلي من بكر إذا كنت تكثر محبته ولي وفيّ إذا كان يحبك أكثر من غيره، ولم يثن مع أن المخبر عنه به اثنان لأن أفعل من كذا لا يفرق فيه بين الواحد وما فوقه ولا بين المذكر وما يقابله بخلاف أخويه فإن الفرق واجب في المحلى جائز في المضاف إذا أريد تفضيله على المضاف إليه وإذا أريد تفضيله مطلقا فالفرق لازم، وجيء بلام الابتداء لتحقيق مضمون الجملة وتأكيده أي كثرة حبه لهما أمر ثابت لا شبهة فيه وَنَحْنُ عُصْبَةٌ أي والحال إنا جماعة قادرون على خدمته والجد في منفعته دونهما، والعصبة والعصابة على ما نقل عن الفراء: العشرة فما زاد سموا بذلك لأن الأمور تعصب بهم أي تشد فتقوى.
وعن ابن عباس أن العصبة ما زاد على العشرة وفي رواية عنه أنها ما بين العشرة والأربعين، وعن مجاهد أنها من عشرة الى خمسة عشرة.
وعن مقاتل هي عشرة، وعن ابن جبير ستة أو سبعة، وقيل: ما بين الواحد إلى العشرة، وقيل: إلى خمسة عشر، وعن ابن زيد والزجاج وابن قتيبة هي الجماعة مطلقا ولا واحد لها من لفظها كالنفر والرهط، وقيل: الثلاثة نفر وإذا زادوا فهم رهط إلى التسعة فإذا زادوا فهم عصبة، ولا يقال لأقل من عشرة: عصبة،
وروى النزال بن سبرة عن علي كرم الله تعالى وجه أنه قرأ بنصب «عصبة»
فيكون الخبر محذوفا، وعصبة حال من الضمير فيه أي نجتمع عصبة، وقدر ذلك ليكون في الحال دلالة على الخبر المحذوف لما فيها من معنى الاجتماع.
وزعم ابن المنير أن الكلام على طريقة: أنا أبو النجم وشعري شعري، والتقدير ونحن نحن عصبة، وحذف الخبر لمساواته المبتدأ وعدم زيادته عليه لفظا ففي حذفه خلاص من تكرار اللفظ بعينه مع دلالة السياق على المحذوف، ولا غرو في وقوع الحال بعد نحن لأنه بالتقدير المذكور كلام تام فيه من الفخامة ما فيه وقدر في هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ [هود: ٧٨] على قراءة النصب مثل ذلك، وفيه أن الفخامة إنما تجيء من التكرار فلا يجوز الحذف على أن الدلالة على المحذوف غير بينة.
وعن ابن الأنباري أن ذلك كما تقول العرب: إنما العامري عمته أي يتعهد ذلك، والدال على المحذوف فيه عمته فإن الفعلة للحالة التي يستمر عليها الشخص فيلزم لا محالة تعهده لها، والأولى أن يعتبر نظير قول الفرزدق: يا
لهذم حكمك مسمطا فإنه أراد كما قال المبرد... حكمك لك مسمطا
أي مثبت نافذ غير مردود، وقد شاع هذا فيما
بينهم لكن ذكروا أن فيه شذوذا من وجهين، والآية على قراءة الأمير كرم الله تعالى وجهه أكثر شذوذا منه لا يخفى على المتدرب في علم العربية إِنَّ أَبانا أي في ترجيحهما علينا في المحبة مع فضلنا عليهما وكونهما بمعزل عن كفاية الأمور لَفِي ضَلالٍ أي خطأ في الرأي وذهاب عن طريق التعديل اللائق من تنزيل كل منا منزلته مُبِينٍ ظاهر الحال، وجعل الضلال ظرفا لتمكنه فيه، ووصفه بالمبين إشارة إلى أن ذلك غير مناسب له بزعمهم والتأكيد المزيد الاعتناء، يروى أنه عليه السلام كان أحب إليه لما يرى فيه من أن المخايل وكانت إخوته يحسدونه فلما رأى الرؤيا تضاعفت له المحبة فكان لا يصبر عنه ويضمه كل ساعة إلى صدره ولعله أحس قلبه بالفراق فتضاعف لذلك حسدهم حتى حملهم على ما قص الله تعالى عنهم، وقال بعضهم: إن سبب زيادة حبه عليه السلام ليوسف وأخيه صغرهما وموت أمهما، وحب الصغير أمر مركوز في فطرة البشر فقد قيل لابنة الحسن: أي بنيك أحب إليك؟ قالت:
الصغير حتى يكبر والغائب حتى يقدم والمريض حتى يشفى، وقد نظم بعض الشعراء في محبة الولد الصغير قديما وحديثا، ومن ذلك ما قاله الوزير أبو مروان عبد الملك بن إدريس الجزيري من قصيدة بعث بها إلى أولاده وهو في السجن:
وصغيرهم عبد العزيز فإنني... أطوي لفرقته جوى لم يصغر
ذاك المقدم في الفؤاد وإن غدا... كفأ لكم في المنتمى والعنصر
إن البنان الخمس أكفاء معا... والحلي دون جميعها للخنصر
وإذا الفتى فقد الشباب سماله... حب البنين ولا كحب الأصغر
وفيه أن منشأ زيادة الحب لو كانت ما ذكر لكان بنيامين أوفر حظا في ذلك لأنه أصغر من يوسف عليه السلام كما يدل عليه قولهم: إن أمهما ماتت في نفاسه، والآية كما أشرنا إليه مشيرة إلى أن محبته لأجل شقيقه يوسف فالذي ينبغي أن يعول عليه أنه عليه السلام إنما أحبه أكثر منهم لما رأى فيه من مخايل الخير ما لم ير فيهم وزاد ذلك الحب بعد الرؤيا لتأكيدها تلك الإمارات عنده ولا لوم على الوالد في تفضيله بعض ولده على بعض في المحبة لمثل ذلك،
وقد صرح غير واحد أن المحبة ليست مما تدخل تحت وسع البشر والمرء معذور فيما لم يدخل تحته، نعم ظن أبناؤه أن ما كان منه عليه السلام إنما كان عن اجتهاد وأنه قد أخطأ في ذلك والمجتهد يخطىء ويصيب وإن كان نبيا، وبهذا ينحل ما قيل: إنهم إن كانوا قد آمنوا بكون أبيهم رسولا حقا من عند الله تعالى فكيف اعترضوا وكيف زيفوا طريقته وطعنوا فيما هو عليه، وإن كانوا مكذبين بذلك فهو يوجب كفرهم والعياذ بالله تعالى وهو مما لم يقل به أحد ووجه الانحلال ظاهر اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً الظاهر أن هذا من جملة ما حكي بعد قوله سبحانه: إِذْ قالُوا وقد قاله بعض منهم مخاطبا للباقين وكانوا راضين بذلك إلّا من قال: لا تَقْتُلُوا إلخ، ويحتمل أنه قاله كل منهم مخاطبا للبقية، والاستثناء هو الاستثناء، وزعم بعضهم أن القائل رجل غيرهم شاوروه في ذلك وهو خلاف الظاهر ولا ثبت له، والظاهر أن القائل خيرهم بين الأمرين القتل والطرح.
وجوز أن يكون المراد قال بعض: اقْتُلُوا يُوسُفَ وبعض اطْرَحُوهُ والطرح رمي الشيء وإلقاؤه، ويقال:
طرحت الشيء أبعدته، ومنه قول عروة بن الورد:
ومن يك مثلي ذا عيال ومقترا | من المال يطرح نفسه كل مطرح |
حسنوا القول وقالوا غربة | إنما الغربة للأحرار ذبح |
على الأول وبمرتبة على هذا، وقيل: الوجه بمعنى الذات، وفي الكلام كناية عن التوجه والتقيد بنظم أحوالهم وتدبير أمورهم لأن خلوه لهم يدل على فراغه عن شغل يوسف عليه السلام فيشتغل بهم وينظم أمورهم، ولعل الوجه الأوجه هو الأول وَتَكُونُوا بالجزم عطفا على جواب الأمر، وبالنصب بعد الواو بإضمار أن (١) أي يجتمع لكم خلو وجهه والكون مِنْ بَعْدِهِ أي بعد يوسف على معنى بعد الفراغ من أمره، أو من بعد قتله أو طرحه، فالضمير إما ليوسف أو لأحد المصدرين المفهومين من الفعلين.
قَوْماً صالِحِينَ بالتوبة والتنصل إلى الله تعالى عما جئتم به من الذنب- كما روي عن الكلبي- وإليه ذهب الجمهور، فالمراد بالصلاح الصلاح الديني بينهم وبين الله تعالى، ويحتمل أن المراد ذلك لكن بينهم وبين أبيهم بالعذر
وهو وإن كان مخالفا للدين لكونه كذبا لكنه موافق له من جهة أنهم يرجون عفو أبيهم وصفحه به ليخلصوا من العقوق على ما قيل، ويحتمل أن يراد الصلاح الدنيوي أي صالحين في أمر دنياكم فإنه ينتظم لكم بعده بخلو وجه أبيكم، وإيثار الخطاب في لَكُمْ وما بعده للمبالغة في حملهم على القبول فإن اعتناء المرء بشأن نفسه واهتمامه بتحصيل منافعه أتم وأكمل قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ هو يهوذا وكان رأيه فيه أهون شرا من رأي غيره وهو القائل: فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ [يوسف: ٨٠] إلخ قاله السدي.
وقال قتادة وابن إسحاق: هو روبيل، وعن مجاهد أنه شمعون، وقيل: دان، وقال بعضهم: إن أحد هذين هو القائل: اقْتُلُوا يُوسُفَ إلخ، وأما القائل، لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ فغيره، ولعل الأصح أنه يهوذا.
قيل: وإنما لم يذكر أحد منهم باسمه سترا على المسيء وكل منهم لم يخل عن الإساءة وإن تفاوتت مراتبها، والقول بأنه على هذا لا ينبغي لأحد أن يعين أحدا منهم باسمه تأسيا بالكتاب ليس بشيء لأن ذلك مقام تفسير وهو فيه أمر مطلوب، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا كأن سائلا سأل اتفقوا على ما عرض عليهم من خصلتي الصنيع أم خالفهم في ذلك أحد؟ فقيل: قال قائل منهم: لا تَقْتُلُوا إلخ، والإتيان- بيوسف- دون ضميره لاستجلاب شفقتهم عليه واستعظام قتله وهو هو فإنه يروى أنه قال لهم: القتل عظيم ولم يصرح بنهيهم عن الخصلة الأخرى، وأحاله على أولوية ما عرضه عليهم بقوله: وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ أي في قعره وغوره سمي به لغيبته عن عين الناظر، ومنه قيل للقبر: غيابة، قال المنخل السعدي:
إذا أنا يوما غيبتني غيابتي | فسيروا بسيري في العشيرة والأهل |
لئن كنت في جب ثمانين قامة | ورقيت أسباب السماء بسلم |
وقرأ نافع في- غيابات- في الموضعين كأن لتلك الجب غيابات، ففيه إشارة إلى سعتها، أو أراد بالجب الجنس أي في بعض غيابات الجب، وقرأ ابن هرمز- غيابات- بتشديد الياء التحتية وهو صيغة مبالغة، ووزنه على ما نقل صاحب اللوامح يجوز أن يكون فعالات كحمامات، ويجوز أن يكون فيعالات كشيطانات في جمع شيطانة، وقرأ الحسن غيبة بفتحات على أنه في الأصل مصدر كالغلبة، ويحتمل أن يكون جمع غائب كصانع وصنعة، وفي حرف أبي رضي الله تعالى عنه غيبة بسكون الياء التحتية على أنه مصدر أريد به الغائب.
يَلْتَقِطْهُ أي يأخذه على وجه الصيانة عن الضياع والتلف فإن الالتقاط أخذ شيء مشرف على الضياع كذا قيل، وفي مجمع البيان هو أن يجد الشيء ويأخذه من غير أن يحسبه، ومنه قوله ومنهل وردته التقاطا.
بَعْضُ السَّيَّارَةِ أي بعض جماعة تسير في الأرض وأل في السيارة كما في الجب وما فيهما، وفي- البعض- من الإبهام لتحقيق ما يتوخاه من ترويج كلامه بموافقته لغرضهم الذي هو تنائي يوسف عليه السلام عنهم بحيث لا يدرى أثره ولا يروى خبره، وقرأ الحسن- تلتقطه- على التأنيث باعتبار المعنى كما في قوله:
إذا بعض السنين تعرفتنا | كفى الأيتام فقد أبى اليتيم |
شرقت صدر القناة من الدم إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أي إن كنتم عازمين مصرين على أن تفعلوا به ما يفرق بينه وبين أبيه أو إن كنتم فاعلين بمشورتي ورأيي فألقوه إلخ، ولم بيت القول لهم بل عرض عليهم ذلك تأليفا لقلوبهم وتوجيها إلى رأيه وحذرا من سوء ظنهم به ولما كان هذا مظنة لسؤال سائل يقول: فما فعلوا بعد ذلك هل قبلوا رأيه أم لا؟ فأجيب على سبيل الاستئناف على وجه أدرج في تضاعيفه قبولهم له بما سيجيء إن شاء الله تعالى من قوله سبحانه: وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ فقيل: قالُوا يا أَبانا خاطبوه عليه السلام بذلك تحريكا لسلسلة النسب وتذكيرا لرابطة الأخوة ليتسببوا بذلك استنزاله عن رأيه في حفظه منهم لما أحس بحسدهم فكأنهم قالوا: ما لَكَ أي أيّ شيء لك لا تَأْمَنَّا لا تجعلنا أمناء عَلى يُوسُفَ مع أنك أبونا ونحن بنوك وهو أخونا وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ مريدون له الخير ومشفقون عليه ليس فينا ما يخل بذلك، وجملة لا تَأْمَنَّا في موضع الحال، وكذا جملة وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ والاستفهام- بما لك- فيه معنى التعجب، والكلام ظاهر في أنه تقدم منهم سؤال أن يخرج عليه السلام معهم فلم يرض أبوهم بذلك.
وقرأ الجمهور لا تَأْمَنَّا بالإدغام والإشمام، وفسر بضم الشفتين مع انفراج بينهما (١) إشارة إلى الحركة مع الإدغام الصريح كما يكون في الوقف وهو المعروف عندهم وفيه عسر هنا، ويطلق على إشراب الكسرة شيئا من الضمة كما قالوا في قيل، وعلى إشمام أحد حرفين شيئا من حرف آخر كما قالوا في الصراط، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وأبو جعفر والزهري وعمرو بن عبيد بالإدغام من غير إشمام، وإرادة النفي ظاهرة، وقرأ ابن هرمز بضم الميم مع الإدغام، وهذه الضمة منقولة إلى الميم من النون الأولى بعد سلب حركتها.
وقرأ أبي والحسن وطلحة بن مصرف والأعمش- لا تأمننا- بالإظهار وضم النون على الأصل، وهو خلاف خط المصحف لأنه بنون واحدة، وقرأ ابن وثاب وأبو رزين- لا تيمنا- بكسر حرف المضارعة على لغة تميم، وسهل الهمزة بعد الكسرة ابن وثاب، ولم يسهل أبو رزين.
وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن عاصم أنه قرأ بذلك بمحضر عبيد بن فضلة فقال له: لحنت، فقال أبو رزين:
ما لحن من قرأ بلغة قومه أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً نصب على الظرفية الزمانية وهو يطلق على اليوم الذي يلي يومك، وعلى الزمن المستقبل مطلقا، وأصله غدو فحذفت لامه وقد جاء تاما أي ابعثه معنا غدا الى الصحراء يَرْتَعْ أي يتسع في أكل الفواكه ونحوها، وأصل معنى الرتع أن تأكل وتشرب ما تشاء في خصب وسعة، ويقال: رتع أقام في خصب وتنعّم، ويسمى الخصب رتعة بسكون التاء وفتحها، وذكر الراغب ان الرتع حقيقة في أكل البهائم ويستعار للإنسان إذا أريد به الأكل الكثير، وعلى ذلك قوله:
وإذ يخلوا له الحمى رتع وَيَلْعَبْ بالاستباق والانتضال ونحوهما مما يتدرب به لقتال العدو، وليس المراد لعب لهو وإلا لم يقرّهم عليه يعقوب عليه السلام وإنما عبر عن ذلك به لكونه على هيئته تحقيقا لما رموه من استصحاب يوسف عليه السلام بتصويرهم له بصورة ما يلائم حاله عليه السلام من صغر السن، وقرأ الجمهور يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ بالياء والجزم، والابنان وأبو عمرو بالنون والجزم، وكسر العين الحرميان، واختلف (٢) عن قنبل في إثبات الياء وحذفها، ويروى عن ابن كثير
(٢) روي عنه الإثبات وصلا ووقفا، وفي رواية إثباتها في الوقف دون الوصل، وهو المروي عن البزي اهـ منه.
«نرتع» بالنون وَيَلْعَبْ بالياء، وهي قراءة جعفر بن محمد، وقرأ العلاء بن سيابة «يرتع» بالياء وكسر العين مجزوما محذوف اللام «ويلعب» بالياء أيضا وضم الباء على أنه مستأنف أو خبر مبتدأ محذوف أي وهو يلعب.
وقرأ مجاهد وقتادة وابن محيصن- نرتع- بنون مضمونة وعين ساكنة من أرتعنا- ونلعب- بالنون أيضا، وكذلك أبو رجاء إلا أنه بالياء التحتية فيهما، والقراءتان على حذف المفعول أي نرتع المواشي أو غيرها، والفعلان في هذه القراءات كلها مبنيان للفاعل.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «يرتع ويلعب» بالياء والبناء للمفعول فيهما، وخرج ذلك على أن نائب الفاعل ضمير غد، والأصل يرتع فيه ويلعب فيه، ثم حذف الجار واتسع فعدي الفعل للضمير فصار يرتعه ويلعبه، ثم بني للمفعول فاستتر الضمير الذي كان منصوبا لكونه نائبا عن الفاعل، ومن كسر العين من الفعل الأول فهو عنده من المراعاة على ما روي عن مجاهد أي يراعي بعضنا ويحرسه.
وقال ابن زيد: من رعي الإبل أي نتدرب في الرعي وحفظ المال، أو من رعي النبات والكلأ، والمراد نرعى مواشينا إلا أنه أسند ذلك إليهم مجازا، أو تجوز عن أكلهم بالرعي، وضعف ابن عطية القراءة بإثبات الياء، وقال: إن إثباتها في مثل هذا الموضوع لا يجوز إلا في الشعر كقوله:.
ألم يأتيك والأنباء تنمى | بما لاقت لبون بني زياد |
وأجيب بأن التقدير قصد أو توقع أن تذهبوا به، فالكلام على تقدير المضاف وهو الفاعل وليس ذاك أمرا مستقبلا بل حال، ولا يمتنع في مثل ذلك حذف الفاعل لما صرحوا به أنه إنما يمتنع إذا لم يسدّ مسدّه شيء وهنا قد سدّ، ولا يجب أن يكون السادّ هو المضاف إليه كما ظن بل لو سدّ غيره كان الحذف جائزا أيضا، ومن هنا كان تقدير قصدكم أن تذهبوا صحيحا، ويحتمل أن يكون ذلك تقدير معنى لا تقدير إعراب، وقال بعضهم: إنه يمكن دفع الإشكال من غير حاجة إلى تقدير المضاف بأن يقال: إن الذهاب يحزنه باعتبار تصوره كما قيل نظيره في العلة الغائية، وقال شهاب:
ذلك التحقيق أظن أن ما قالوه في توجيه الإشكال مغلطة لا أصل لها فإن لزوم كون الفاعل موجودا عند وجود الفعل إنما هو الفاعل الحقيقي لا النحوي واللغوي فإن الفعل قد يكون قبله سواء كان حالا كما فيما نحن فيه أو ماضيا كما أنه يصح أن يكون الفاعل في مثله أمرا معدوما كما في قوله:
ومن سره أن لا يرى ما يسوءه | فلا يتخذ شيئا يخاف له فقدا |
والذئب أخشاه إن مررت به | وحدي وأخشى الرياح والمطرا |
وادعى بعضهم أنه عليه السلام ورّى بالذئب عن واحد منهم فإنه عليه السلام أجلّ قدرا من أن لا يعلم أن رؤياه تلك من أي أقسام الرؤيا هي، فإن منها ما يحتاج للتعبير ومنها ما لا يحتاج إليه، والكامل يعرف ذلك.
وتعقب بأنه يحتمل أن يكون الأمر قد خفي عليه كما قد خفي مثل ذلك على جده إبراهيم عليه السلام وهو بناء على ما ذكره شيخنا ابن العربي قدس سره من أن رؤياه عليه السلام ذبح ولده من الرؤيا المعبرة بذبح كبش لكنه خفي عليه ذلك ولا يخفى ما فيه، والمذكور في بعض الروايات أنه عليه السلام رأى في منامه كأنه على ذروة جبل وكأن يوسف في بطن الوادي فإذا عشرة من الذئاب قد احتوشته تريد أكله فدرأ عند واحد ثم انشقت الأرض فتوارى يوسف فيها ثلاثة أيام، وأنا لم أجد لرواية الرؤيا مطلقا سندا يعول عليه ولا حاجة بنا إلى اعتبارها لتكلف الكلام فيها، وبالجملة ما وقع منه عليه السلام من هذا القول كان تلقينا للجواب من غير قصد وهو على أسلوب قوله سبحانه: ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار: ٦] والبلاء موكل بالمنطق.
وأخرج أبو الشيخ وغيره عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «ولا تلقنوا الناس فيكذبوا فإن بني يعقوب لم يعلموا أن الذئب يأكل الناس فلما لقنهم أبوهم كذبوا فقالوا: أكله الذئب»
والحزن ألم القلب لفوت المحبوب والخوف انزعاج النفس لنزول المكروه، ولذلك أسند الأول الى الذهاب به المفوت لاستمرار مصاحبته ومواصلته ليوسف عليه السلام، والثاني إلى ما يتوقع نزوله من أكل الذئب والذئب أصله الهمزة وهي لغة الحجاز، وبها قرأ غير واحد.
وقرأ الكسائي وخلف وأبو جعفر وورش، والأعشى وغيرهم بإبدالها ياء لسكونها وانكسار ما قبلها وهو القياس في مثل ذلك، وذكر بعضهم أنه قد همزه على الأصل ابن كثير ونافع في رواية قالون وأبو عمرو وقفا وابن عامر وحمزة صفحة رقم 387
درجا وأبدلا وقفا، ولعل ذلك لأن التقاء الساكنين في الوقف وإن كان جائزا إلا أنه إذا كان الأول حرف مد يكون أحسن.
وقال نصر: سمعت أبا عمرو ولا يهمزه، والظاهر أنه أراد مطلقا فيكون ما تقدم رواية وهذه أخرى، ويجمع على أذؤب وذئاب وذؤبان واشتقاقه عند الزمخشري من تذاءبت الريح إذا هبت من كل جهة.
وقال الأصمعي: إن اشتقاق تذاءبت من الذئب يفعله في عدوه، قيل: وهو أنسب ولذا عد تذاءبت الريح من المجاز في الأساس لكن قيل عليه إن أخذ الفعل من الأسماء الجامدة- كابل- قليل مخالف للقياس وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ لاشتغالكم بالرتع واللعب أو لقلة اهتمامكم بحفظه.
قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ أي والحال أنا جماعة جديرة بأن تعصب بنا الأمور وتكفى بآرائنا وتدبيراتنا الخطوب، واللام الداخلة على الشرط موطئة للقسم، وقوله سبحانه: إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ جواب مجزىء عن الجزاء، والخسار إما بمعنى الهلاك تجوزا عن الضعف، أو استحقاقه، أو عن استحقاق الدعاء به أي لضعفاء عاجزون أو مستحقون للهلاك لا غناء عندنا ولا نفع في حياتنا، أو مستحقون لأن يدعى علينا بالخسار والدمار فيقال:
خسرهم الله تعالى ودمرهم إذ أكل الذئب أخاهم وهم معه، وجوز أن يكون بمعناه الحقيقي أي إن لم نقدر على حفظه وهو أعز شيء عندنا فقد هلكت مواشينا وخسرناها وإنما اقتصروا على جواب خوف أبيهم عليه السلام من أكل الذئب مع أنه ذكر في وجه عدم مفارقته أمرين: حزنه لمفارقته وخوفه عليه من الذئب لأنه السبب القوي في المنع دون الحزن لقصر زمانه بناء على سرعة عودهم به، أو لأن حزنه بالذهاب به إنما هو للخوف عليه، فنفي الثاني يدل على نفي الأول، أو لكراهتهم لذلك لأنه سبب حسدهم له فلذلك أعاروه أذنا صماء فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أي عزموا عزما مصمما على أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ قيل: هو بئر على ثلاث فراسخ من مقام يعقوب عليه السلام بكنعان التي هي من نواحي الأردن، وقيل: هو بين مصر ومديرين، بنفس أرض الأردن، وزعم بعضهم أنها بئر بيت المقدس، وتعقب بأنه يرده التعليل بالتقاط بعض السيارة ومجيئهم عشاء ذلك اليوم فإن بين منزل يعقوب عليه السلام وبيت المقدس مراحل وجواب- لما- محذوف إيذانا بهوره وإشعارا بأن تفصيله مما لا يحويه فلك العبارة ومجمله فعلوا ما فعلوا، وقدره بعضهم عظمت فتنتهم وهو أولى من تقدير وضعوه فيها، وقيل: لا حذف والجواب أو حينا، والواو زائدة وليس بشيء.
قال وهب وغيره من أهل السير والأخبار: إن إخوة يوسف عليه السلام قالوا: أما تشتاق أن تخرج معنا إلى مواشينا فنتصيد ونستبق؟ فقال عليه السلام: بلى قالوا: فسل أباك أن يرسلك معنا، فقال عليه السلام: أفعل فدخلوا بجماعتهم على يعقوب فقالوا: يا أبانا إن يوسف قد أحب أن يخرج معنا إلى مواشينا، فقال يعقوب: ما تقول يا بني؟
قال: نعم يا أبت إني أرى من إخوتي من اللين واللطف فأحب أن تأذن لي وكان يعقوب يكره مفارقته ويحب مرضاته فأذن له وأرسله معهم فلما خرجوا به جعلوا يحملونه على رقابهم ويعقوب ينظر إليهم فلما بعدوا عنه وصاروا به إلى الصحراء ألقوه إلى الأرض وأظهروا له ما في أنفسهم من العداوة وبسطوا له القول وجعلوا يضربونه فجعل كلما جاء إلى واحد منهم واستغاث به ضربه فلما فطن لما عزموا عليه جعل ينادي يا أبتا لو رأيت يوسف وما نزل به من إخوته لأحزنك ذلك وأبكاك يا أبتاه ما أسرع ما نسوا عهدك وضيعوا وصيتك وجعل يبكي بكاء شديدا فأخذه روبيل فجلد به الأرض ثم جثم على صدره وأراد قتله، فقال له يوسف: مهلا يا أخي لا تقتلني، فقال له: يا ابن راحيل أنت صاحب الأحلام قل لرؤياك تخلصك من أيدينا ولوى عنقه فاستغاث بيهوذا وقال له: اتق الله تعالى فيّ وحل بيني وبين من يريد قتلي فأدركته رحمة الأخوة ورق له فقال: يا إخوتاه ما على هذا عاهدتموني ألا أدلكم على ما هو أهون لكم وأرفق به؟
قالوا: وما هو؟ قال: تلقونه في هذا الجب فإما أن يموت أو يلتقطه بعض السيارة فانطلقوا به إلى بئر هناك واسع الأسفل ضيق الرأس فجعلوا يدلونه فيها فتعلق بشفيرها فربطوا يديه ونزعوا قميصه فقال: يا إخوتاه ردوا على قميصي لأستتر به في الجب فلم يفعلوا ثم ألقوه فيها، فقال لهم: يا إخوتاه ردوا علي قميصي لأستتر به في الجب فلم يفعلوا ثم ألقوه فيها، فقال لهم: يا إخوتاه أتدعوني وحيدا؟ قالوا: ادع الشمس والقمر والكواكب تؤنسك.
وقيل: جعلوه في دلو ثم أدلوه فلما بلغ نصفها ألقوه إرادة أن يموت وكان في البئر ماء فسقط فيه ثم قام على صخرة فيها.
وروي أنهم لما ألقوه في الجب جعل يبكي فنادوه أنها رحمة أدركتهم فأجابهم فأرادوا رضخه بصخرة ليقتلوه فمنعهم يهوذا وكان عند يعقوب قميص إبراهيم عليه السلام الذي كساه الله تعالى إياه من الجنة حين ألقي في النار وكان قد جعله في قصبة من فضة وعلقه في عنق يوسف لما خرج مع إخوته فلما صار في البئر أخرجه ملك وألبسه فأضاء له الجب، وعن الجنس أنه لما ألقى فيها عذب ماؤها (١) وكان يغنيه عن الطعام والشراب ونزل عليه جبريل عليه السلام يؤنسه فلما أمسى نهض ليذهب فقال له: إني أستوحش إذا ذهبت، فقال: إذا رمت شيئا فقل: يا صريخ المستصرخين، ويا غوث المستغيثين، ويا مفرج كرب المكروبين قد ترى مكاني وتعلم حالي ولا يخفى عليك شيء من أمري فلما قالها يوسف عليه السلام حفته الملائكة عليهم السلام واستأنس بهم.
وقال محمد بن مسلم الطائفي: إنه عليه السلام لما ألقي في الجب قال: يا شاهدا غير غائب ويا قريبا غير بعيد ويا غالبا غير مغلوب اجعل لي فرجا مما أنا فيه، وقيل: كان يقول: يا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ارحم ضعفي وقلة حيلتي وصغر سني،
وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «لما ألقي يوسف في الجب أتاه جبريل عليه السلام فقال: يا غلام من ألقاك في هذا الجب؟ قال: إخوتي قال: ولم؟ قال: لمودة أبي إياي حسدوني، قال: تريد الخروج من هاهنا؟ قال: ذاك الى إله يعقوب، قال: قل: اللهم إني أسألك باسمك المكنون المخزون يا بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام أن تغفر لي وترحمني وأن تجعل من أمري فرجا ومخرجا وأن ترزقني من حيث أحتسب ومن حيث لا أحتسب فقالها فجعل الله تعالى له من أمره فرجا ومخرجا ورزقه ملك مصر من حيث لا يحتسب ثم قال عليه الصلاة والسلام: ألظوا بهؤلاء الكلمات فإنهن دعاء المصطفين الأخيار»
وروي غير ذلك، والروايات في كيفية إلقائه وما قال وما قيل له كثيرة، وقد تضمنت ما يلين له الصخر لكن ليس فيها ما له سند يعول عليه، والله تعالى أعلم وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ الضمير ليوسف أي أعلمناه عند ذلك تبشيرا له بما يؤول إليه أمره وإزالة لوحشته وتسلية له، وكان ذلك على ما روي عن مجاهد بالإلهام، وقيل: بالإلقاء في مبشرات المنام، وقال الضحاك وقتادة: بإرسال جبريل عليه السلام إليه والموحى إليه ما تضمنه قوله سبحانه: لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وهو بشارة له بالخلاص أيضا أي لتخلصن مما أنت فيه من سوء الحال وضيق المجال ولتخبرن إخوتك بما فعلوا بك وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بأنك يوسف لتباين حاليك: حالك هذا وحالك يومئذ بعلو شأنك وكبرياء سلطانك وبعد حالك من أوهامهم، وقيل: لبعد العهد المبدل للهيئات المغير للأشكال والأول أدخل في التسلية، أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما دخل إخوة يوسف على يوسف فعرفهم وهم له منكرون وجيء بالصواع فوضعه على يده ثم نقره فطن، فقال: إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف يدنيه دونكم وأنكم انطلقتم به
فألقيتموه في غيابة الجب فأتيتم أباكم فقلتم: إن الذئب أكله وجئتم على قميصه بدم كذب، فقال بعضهم لبعض: إن هذا الجام ليخبره بخبركم، ثم قال ابن عباس: فلا نرى هذه الآية لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ إلخ نزلت إلّا في ذلك، وجوز أن يتعلق وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بالإيحاء على معنى أنا آنسناه بالوحي وأنزلنا عن قلبه الوحشة التي أورثوه إياها وهم لا يشعرون بذلك ويحسبون أنه مستوحش لا أنيس له.
وروي ذلك عن قتادة، وكان هذا الإيحاء وهو عليه السلام ابن ست عند الضحاك واثنتي عشرة سنة أو ثماني عشرة سنة عند الحسن وسبع عشرة سنة عند ابن السائب- وهو الذي يزعمه اليهود- وقيل غير ذلك، ومن نظر في الآيات ظهر له أن الراجح كونه عليه السّلام لم يبلغ الحلم إذ ذاك، وعلى جميع الأقوال أنه عليه السّلام لم يكن بالغا الأربعين عند الإيحاء إليه، نعم أكثر الأنبياء عليهم السّلام نبئوا في سن الأربعين وقد أوحي إلى بعضهم- كيحيى، وعيسى عليهما السلام- قبل ذلك بكثير.
وزعم بعضهم أن ضمير إِلَيْهِ يعود على يعقوب عليه السّلام وليس بشيء كما لا يخفى، وقرأ ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لينبئنهم بياء الغيبة وكذا في مصاحف البصرة.
وقرأ سلام بالنون على أنه وعيد لهم، فقوله سبحانه: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ متعلق- بأوحينا- لا غير على ما قاله الزمخشري ومن تبعه، ونظر فيه بأنه يجوز أن يتعلق أيضا بقوله تعالى: لَتُنَبِّئَنَّهُمْ وأن يراد بإنباء الله تعالى إيصال فعلهم به عليه السّلام وهم لا يشعرون بذلك، ودفع بأنه بناء على الظاهر وأنه لا يجتمع إنباء الله تعالى مع عدم شعورهم بما أنبأهم به إلّا بتأويل كتقدير لنعلمنهم بعظيم ما ارتكبوه قبل وهم لا يشعرون بما فيه وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً أي في ذلك الوقت وهو- كما قال الراغب- من صلاة المغرب إلى العتمة والعشاءان: المغرب، والعتمة.
وعن الحسن أنه قرأ- عشيا- بضم العين وفتح الشين وتشديد الياء منونا وهو تصغير عشي وهو من زوال الشمس إلى الصباح، وعنه أنه قرأ- عشي- بالضم والقصر كدجى فنصبه على الحال وهو جمع أعشى عند بعض وعاش عند آخرين، وأصله عشاة كماش ومشاة فحذفت الهاء تخفيفا، وأورد عليهما بأنه لا جواز لمثل هذا الحذف وأنه لا يجمع أفعل فعلاء على فعل بضم الفاء وفتح العين بل فعل بسكون العين، ولذا قيل: كان أصله عشوا فنقلت حركة الواو إلى ما قبلها لكونه حرفا صحيحا ساكنا ثم حذفت بعد قلبها ألفا لالتقاء الساكنين وإن قدر ما بكوا به في ذلك اليوم لا يعشو منه الإنسان وأجيب عن هذا بأن المقصود المبالغة في شدة البكاء والنحيب لا حقيقته أي كاد يضعف بصرهم لكثرة البكاء، وقيل: هو جمع عشوة مثلث العين وهي ركوب أمر على غير بصيرة يقال: أوطأه عشوة أي أمرا ملتبسا يوقعه في حيرة وبلية فيكون تأكيدا لكذبهم وهو تمييز أو مفعول له، وجوز أن يكون جمع عشوة بالضم بمعنى شعلة النار عبارة عن سرعتهم لابتهاجهم بما فعلوا من العظيمة وافتعلوا من (١) العضيهة، وجوز أن يكون عِشاءً في قراءة الجمهور جمع عاش مثل راع ورعاء ويكون نصبه على الحال، والظاهر الأول، وإنما- جاؤوا عشاء- إما لأنهم لم يصلوا من مكانهم إلا في ذلك الوقت، وإما ليكونوا أقدر على الاعتذار لمكان الظلمة التي يرتفع فيها الحياء، ولذا قيل: لا تطلب الحاجة بالليل فإن الحياء في العينين ولا تعتذر في النهار من ذنب فتلجلج في الاعتذار وهل جاؤوا في عشاء اليوم الذي ذهبوا فيه أو في عشاء يوم آخر؟ ظاهر كلام بعضهم الأول، وذهب بعضهم إلى الثاني بناء على ما روي أنه عليه السّلام مكث في الجب ثلاثة أيام وكان إخوته يرعون حواليه وكان يهوذا يأتيه بالطعام.
وفي الكلام- على ما في البحر- حذف والتقدير وَجاؤُ أَباهُمْ دون يوسف عِشاءً يَبْكُونَ أي متباكين أي مظهرين البكاء بتكلف لأنه لم يكن عن حزن لكنه يشبهه، وكثيرا ما يفعل بعض الكذابين كذلك، أخرج ابن المنذر عن الشعبي قال: جاءت امرأة إلى شريح تخاصم في شيء فجعلت تبكي فقولوا: يا أبا أمية أما تراها تبكي؟! فقال: قد جاء إخوة يوسف أباهم عشاء يبكون، وقال الأعمش: لا يصدق باك بعد إخوة يوسف،
وفي بعض الآثار أن يعقوب عليه السّلام لما سمع بكاءهم قال: ما بالكم أجرى في الغنم شيء؟ قالوا: لا قال: فما أصابكم وأين يوسف؟
قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ
أي متسابقين في العدو على الأقدام على ما روى عن السدي، أو في الرمي بالسهام كما قال الزجاج، أو في أعمال نتوزعها من سقي ورعي واحتطاب أو في الصيد وأخذه كما قيل، ورجح ما قاله الزجاج بقراءة عبد الله- إنا ذهبنا ننتضل- وأورد على الأول أنه كيف ساغ لهم الاستباق في العدو وهو من أفعال الصبيان التي لا ثمرة فيها، وأجيب بالمنع وثمرته التدرب في العدو لمحاربة العدو ومدافعة الذئب مثلا وبالجملة نَسْتَبِقُ بمعنى نتسابق وقد يشترك الافتعال والتفاعل فيكونان بمعنى كالانتضال والتناضل ونظائرهما وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا أي ما يتمتع به من الثياب والأزواد وغيرهما فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ عقيب ذلك من غير مضي زمان يعتاد فيه التفقد والتعهد وحيث لا يكاد يطرح المتاع عادة إلّا في مقام يؤمن فيه الغوائل لم يعد تركه عليه السّلام عنده من باب الغفلة وترك الحفظ الملتزم لا سيما إذا لم يغيبوا عنه فكأنهم قالوا: إنا لم نقصر في محافظته ولم نفغل عن مراقبته بل تركناه في مأمننا ومجمعنا بمرأى منا وما فارقناه إلّا ساعة يسيرة بيننا وبينه مسافة قصيرة فكان ما كان قاله شيخ الإسلام، والظاهر أنهم لم يريدوا إلّا أن الذئب أكل يوسف ولم يقصدوا بذلك تعريضا فما قيل: إنهم عرضوا وأرادوا أكل الذئب لا يلتفت إليه لما فيه من الخروج عن الجادة من غير موجب وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا أي ما أنت مصدق لنا في هذه المقالة وَلَوْ كُنَّا عندك وفي اعتقادك صادِقِينَ أي موصوفين بالصدق والثقة لفرط محبتك فكيف وأنت سيء الظن بنا غير واثق بقولنا، قيل: ولا بد من التأويل إذ لو كان المعنى وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ في نفس الأمر لكان تقديره فكيف إذا كنا كاذبين فيه فيلزم اعترافهم بكذبهم فيه، وقد تقدم أن المراد في مثل ذلك تحقيق الحكم السابق على كل حال فكأنه قيل هنا: وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا في حال من الأحوال فتذكر وتأمل.
وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ أي ذي كذب أو وصف بالمصدر مبالغة كأنه نفس الكذب وعينه كما يقال للكذاب: هو الكذب بعينه والزور بذاته، ومن ذلك ما في قوله:
أفيضوا على عزابكم من بناتكم | فما في كتاب الله أن يحرم الفضل |
وفيهن فضل قد عرفنا مكانه | فهن به جود وأنتم به بخل |
غير الزائد خلاف، والحق كما قال السفاقسي: الجواز لكثرة ذلك في كلامهم، وفي اللباب ولا تتقدم على صاحبها المجرور على الأصح نحو مررت جالسة بهند إلّا أن يكون الحال ظرفا على أن الحق ما اختاره ابن مالك من جواز التقديم مطلقا، وقال الزمخشري ومن تبعه: إنه في موضع النصب على الظرفية أي جاؤوا فوق قميصه كما تقول: جاء على جماله بأحمال، وأراد على ما في الكشف أن عَلى على حقيقة الاستعلاء وهو ظرف لغو، ومنع في البحر كون العامل فيه المجيء لأنه يقتضي أن الفوقية ظرف للجائين، وأجيب بأن الظرفية ليست باعتبار الفاعل بل باعتبار المفعول.
وفي بعض الحواشي أن الأولى أن يقال: جاؤوا مستولين على قميصه، وقوله سبحانه: بِدَمٍ حال من القميص، وجعل المعنى استولوا على القميص ملتبسا بدم جائين، وهو على ما قيل: أولى من جاؤوا مستولين لما تقرّر في التضمين، والأمر في ذلك سهل فإن جعل المضمن أصلا والمذكور حالا وبالعكس كل منهما جائز وإذا اقتضى المقام أحدهما رجح، واستظهر كونه ظرفا للمجيء المتعدي، والمعنى أتوا بدم كذب فوق قميصه ولا يخفى استقامته، هذا ثم إن ذلك الدم كان دم سخلة ذبحوها ولطخوا بدمها القميص- كما روي عن ابن عباس ومجاهد..
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة أنهم أخذوا ظبيا فذبحوه فلطخوا بدمه القميص، ولما جاؤوا به جعل يقلبه فيقول: ما أرى به أثر ناب ولا ظفر إن هذا السبع رحيم، وفي رواية أنه أخذ القميص وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص، وقال: تالله ما رأيت كاليوم ذئبا أحلم من هذا أكل ابني ولم يمرق عليه قميصه، وجاء أنه بكى وصاح، وخر مغشيا عليه فأفاضوا عليه الماء فلم يتحرك ونادوه فلم يجب ووضع يهوذا يده على مخارج نفسه فلم يحس بنفس ولا تحرك له عرق، فقال: ويل لنا من ديان يوم الدين ضيعنا أخانا وقتلنا أبانا فلم يفق إلا ببرد السحر قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أي زينت وسهلت أَمْراً من الأمور منكرا لا يوصف ولا يعرف، وأصل التسويل تقدير شيء في النفس مع الطمع في إتمامه.
وقال الراغب: هو تزيين النفس لما تحرص عليه وتصوير القبيح بصورة الحسن.
وقال الأزهري: كأن التسويل تفعيل من سوال الإنسان وهو أمنيته التي يطلبها فتزين لطالبها الباطل وغيره وأصله مهموز، وقيل: من السول بفتحتين وهو استرخاء في العصب ونحوه كأن المسول لمزيد حرصه استرخى عصبه، وفي الكلام حذف على ما في البحر أي لم يأكله الذئب بَلْ سَوَّلَتْ إلخ، وعلمه عليه السّلام بكذبهم قيل: حصل من سلامة القميص على التمزيق وهي إحدى ثلاث آيات في القميص: ثانيتها عود يعقوب بصيرا بإلقائه على وجهه، وثالثتها قده من دبر فإنه كان دليلا على براءة يوسف، وينضم إلى ذلك وقوفه بالرؤيا الدالة على بلوغه مرتبة علياء تنحط عنها الكواكب، وقيل: من تناقضهم فإنه يروى أنه عليه السّلام لما قال: ما تقدم عن قتادة قال بعضهم: بل قتله اللصوص فقال: كيف قتلوه وتركوا قميصه وهم إلى قميصه أحوج منهم الى قتله؟! ولعله مع هذا العلم إنما حزن عليه السّلام لما خشي عليه من المكروه والشدائد غير الموت، وقيل: إنما حزن لفراقه وفراق الأحبة مما لا يطاق، ولذلك قيل:
لولا مفارقة الأحباب ما وجدت | لها المنايا الى أرواحنا سبلا |
واجب أو جائز؟ فيه خلاف، وكذا اختلفوا فيما إذا صح في كلام واحد اعتبار حذف المبتدأ وإبقاء الخبر واعتبار العكس هل الاعتبار الأول أولى أم الثاني؟.
وقرأ أبي والأشهب وعيسى بن عمر- فصبرا جميلا- بنصبهما وكذا في مصحف أنس بن مالك، وروي ذلك عن الكسائي، وخرج على أن التقدير فاصبر صبرا على أن اصبر مضارع مسند لضمير المتكلم، وتعقب بأنه لا يحسن النصب في مثل ذلك إلّا مع الأمر، والتزم بعضهم تقديره هنا بأن يكون عليه السّلام قد رجع إلى مخاطبة نفسه فقال:
صبرا جميلا على معنى فاصبري يا نفس صبرا جميلا،
والصبر الجميل على ما روى الحسن عنه صلّى الله تعالى عليه وسلّم- ما لا شكوى فيه
أي إلى الخلق وإلّا فقد قال يعقوب عليه السّلام: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
[يوسف:
٨٦]، وقيل: إنه عليه السّلام سقط حاجباه على عينيه فكان يرفعهما بعصابة فسئل عن سبب ذلك فقال: طول الزمان وكثرة الأحزان فأوحى الله تعالى إليه أتشكو إلى غيري، فقال يا رب خطيئة فاغفرها.
وقيل: المراد من قوله: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ إني أتجمل لكم في صبري فلا أعاشركم على كآبة الوجه وعبوس الجبين بل أبقى على ما كنت عليه معكم وهو خلاف الظاهر جدا وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ أي المطلوب منه العون وهو إنشاء منه عليه السّلام للاستعانة المستمرة عَلى ما تَصِفُونَ متعلق بالمستعان والوصف ذكر الشيء بنعته وهو قد يكون صدقا وقد يكون كذبا، والمراد به هنا الثاني كما في قوله سبحانه: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ [الصافات: ١٨] بل قيل: إن الصيغة قد غلبت في ذلك ومعنى استعانته عليه السّلام بالله تعالى على كذبهم طلبه منه سبحانه إظهار كونه كذبا بسلامة يوسف عليه السّلام والاجتماع معه فيكون ذكر الاستعانة هنا نظير عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً [يوسف: ٨٣] بعد قوله فيما بعد: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ، وفي بعض الآثار أن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت يوم الإفك: والله لئن حلفت لا تصدقوني ولئن اعتذرت لا تعذروني فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وولده والله المستعان على ما تصفون فأنزل الله تعالى في عذرها ما أنزل، وقيل: المراد أنه تعالى المستعان على احتمال ما تصفونه من هلاك يوسف كأنه عليه السّلام بعد أن قال: صبر جميل طلب الإعانة منه تعالى على الصبر وذلك لأن الدواعي النفسانية تدعو إلى إظهار الجزع وهي قوية والدواعي الروحانية الصبر الجميل فكأنه وقعت المحاربة بين الصفتين فما لم تحصل المعونة منه جلّ وعلا لا تحصل الغلبة، فقوله: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ يجري مجرى إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة: ٥] وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ يجري مجرى وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: ٥] ولعل الأول أسلم من القال والقيل، وللإمام الرازي عليه الرحمة في هذا المقام بحث، وهو: أن الصبر على قضاء الله تعالى واجب وأما الصبر على ظلم الظالمين ومكر الماكرين فغير واجب بل الواجب إزالته لا سيما في الضرر العائد إلى الغير فكان اللائق بيعقوب عليه السّلام التفتيش والسعي في تخليص يوسف عليه السّلام من البلية والشدة إن كان حيا، وفي إقامة القصاص إن صح أنهم قتلوه قد يقال: إن الواجب المتعين عليه السعي في طلبه وتخليصه لأن الظاهر أنه كان عالما بأنه حي سليم لقوله: وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ [يوسف: ٦] فإن الظاهر أنه إنما قاله عن وحي، وأيضا إنه عليه السّلام كان عظيم القدر جليل الشأن معظما في النفوس مشهورا في الآفاق فلو بالغ في الطلب والتفحص لظهر ذلك واشتهر ولزال وجه التلبيس فما السبب في تركه عليه السّلام الفحص مع نهاية رغبته في حضور يوسف وغاية محبته له، وهل الصبر في هذا المقام إلّا مذموم عقلا وشرعا؟ ثم قال: والجواب أن نقول: لا جواب عن ذلك إلّا أن يقال: إنه سبحانه وتعالى منعه عن الطلب تشديدا للمحنة وتغليظا للأمر، وأيضا لعله عرف بقرائن الأحوال أن أولاده أقوياء وأنهم لا يمكنونه من الطلب والتفحص وأنه لو بالغ في البحث ربما أقدموا على إيذائه وقتله، وأيضا لعله
عليه السّلام علم أن الله تعالى يصون يوسف عن البلاء والمحنة وأن أمره سيعظم بالآخرة ثم لم يرد هتك ستر أولاده وما رضي بإلقائهم في ألسنة الناس، وذلك لأن أحد الولدين إذا ظلم الآخر وقع الأب في العذاب الشديد لأنه إن لم ينتقم يحترق قلبه على الولد المظلوم وإن انتقم يحترق على الولد الذي ينتقم منه، ونظير ذلك ما أشار إليه الشاعر بقوله:
قومي هم قتلوا أميم أخي | فإذا رميت يصيبني سهمي |
ولئن عفوت لأعفون جللا | ولئن سطوت لموهن عظمي |
في اليوم الثاني، والظاهر أن الجب كا في طريق سيرهم المعتاد.
وقيل: إنه كان في قفرة بعيدة من العمران فأخطؤوا الطريق فأصابوه فَأَرْسَلُوا إليه وارِدَهُمْ الذي يرد الماء ويستقي لهم وكان ذلك مالك بن ذعر الخزاعي.
وقال ابن عطية: الوارد هنا يمكن أن يقع على الواحد وعلى الجماعة اهـ والظاهر الأول، والتأنيث في جاءَتْ والتذكير في فَأَرْسَلُوا ووارِدَهُمْ باعتبار اللفظ والمعنى، وفي التعبير بالمجيء إيماء إلى كرامة يوسف عليه السّلام عند ربه سبحانه، وحذف متعلقه وكذا متعلق الإرسال لظهوره ولذا حذف المتعلق في قوله سبحانه: فَأَدْلى دَلْوَهُ أي أرسلها إلى الجب ليخرج الماء، ويقال: دلا الدلو إذا أخرجها ملأى، والدلو من المؤنثات للسماعية فتصغر على دلية وتجمع على أدل ودلاء ودلى.
وقال ابن الشحنة: إن الدلو التي يستقى بها مؤنثة وقد تذكر، وأما الدلو مصدر دلوت وضرب من السير فمذكر ومثلها في التذكير والتأنيث الجب عند الفراء على ما نقله عن محمد بن الجهم، وعن بعضهم أنه مذكر لا غير وأما البئر مؤنثة فقط في المشهور، ويقال في تصغيرها: بويرة وفي جمعها آبار وأبار وأبؤر وبئار وفي الكلام حذف أي فأدلى دلوه فتدلى بها يوسف فخرج قالَ استئناف مبني على سؤال يقتضيه الحال يا بُشْرى هذا غُلامٌ نادى البشرى بشارة لنفسه أو لقومه ورفقته كأنه نزلها منزلة شخص فناداه فهو استعارة مكنية وتخييلية أي يا بشرى تعالى فهذا أو إن حضورك، وقيل: المنادى محذوف كما في يا ليت أي يا قومي انظروا واسمعوا بشراي، وقيل: إن هذه الكلمة تستعمل للتبشير من غير قصد إلى النداء.
وزعم بعضهم أن بشرى اسم صاحب له ناداه ليعينه على إخراجه، وروي هذا عن السدي- وليس بذاك- وقرأ غير الكوفيين- يا بشراي- بالإضافة، وأمال فتحة الراء حمزة والكسائي، وقرأ ورش بين اللفظين.
وروي عن نافع أنه قرأ- يا بشراي- بسكون ياء الإضافة ويلزمه التقاء الساكنين على غير حده، واعتذر بأنه أجرى الوصل مجرى الوقف ونظائر ذلك كثيرة في القرآن وغيره، وقيل: جاز ذلك لأن الألف لمدها تقوم مقام الحركة، وقرأ أبو الطفيل والحسن وابن أبي إسحاق والجحدري «يا بشري» بقلب الألف ياء وإدغامها في ياء الإضافة- وهي لغة لهذيل ولناس غيرهم- ومن ذلك قول أبي ذؤيب:
سبقوا هوى وأعنقوا لهواهم | فتخرموا ولكل جنب مصرع |
إذا المرء وفى الأربعين ولم يكن | له دون ما يهوى حياء ولا ستر |
فدعه ولا تنفس عليه الذي مضى | وإن جر أسباب الحياة له العمر |
وزعم عن أبي عبيدة أنه لا واحد له من لفظه عن العرب، وقال الفراء: أهل البصرة يزعمون أنه اسم واحد لكنه على بناء ندر في المفردات وقلما رأينا اسما على أفعل إلا وهو جمع آتَيْناهُ حُكْماً أي حكمة وهي في لسان الشرع العلم النافع المؤيد بالعمل لأنه بدونه لا يعتدّ به، والعمل بخلاف العلم سفه، أو حكما بين الناس وَعِلْماً يعني علم تأويل الرؤيا، وخص بالذكر لأنه غير داخل فيما قبله، أو أفرد بالذكر لأنه مما له شأن وليوسف عليه السّلام به اختصاص تام كذا قيل، وفسر بعضهم الحكمة بالنبوة والعلم بالتفقه في الدين، وقيل: الحكمة حبس النفس عن هواها وصونها عما لا ينبغي، والعلم هو العلم النظري، وقيل: أراد بالحكمة الحكم بين الناس، وبالعلم العلم بوجوه المصالح فإن الناس كانوا إذا تحاكموا الى العزيز أمره بأن يحكم بينهم لما رأى من عقله وإصابته في الرأي.
وعن ابن عباس أن الحكم النبوة والعلم الشريعة وتنكيرهما للتفخيم أي حكما وعلما لا يكتنه كنههما ولا يقادر قدرهما، وتعقب كون المراد بالعلم العلم بتأويل الأحاديث- بأن قوله سبحانه: وَكَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء العجيب نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي كل من يحسن في علمه- يأباه لأن ذلك لا يصلح أن يكون جزاء لأعماله الحسنة التي من جملتها معاناة الأحزان والشدائد إلا أن يخص بعلم تأويل رؤيا الملك فإن ذلك حيث كان عند تناهي أيام البلاء صح أن يعد إيتاءه من جملة الجزاء وأما رؤيا صاحبي السجن فقد لبث عليه السّلام بعد تعبيرها في السجن بضع سنين، وفي تعليق الجزاء المذكور بالمحسنين إشعار بعلية الإحسان له وتنبيه على أنه تعالى إنما أتاه ما آتاه لكونه محسنا في أعماله متقنا في عنفوان أمره، ومن هنا قال الحسن: من أحسن عبادة الله سبحانه في شبيبته آتاه الله تعالى الحكمة في اكتهاله، واستشكل ما أفاده تعليق الحكم بالمشتق من العلية على تقدير أن يراد من الحكمة العلم المؤيد بالعمل مثلا بأن إحسان العمل لا يكون إلا بعد العلم به فلو كان العلم المؤيد به مثلا علة للإحسان بذلك لزم الدور. صفحة رقم 400
وأجيب بأن إحسان العمل يمكن أن يكون بطريق آخر كالتقليد والتوفيق الإلهي فيكون سببا للعلم به عن دليل عقلي أو سمعي، أو المراد الأعمال الغير المتوقفة على السمع فيكون ذلك السبب للعلم بما شرع له من الأعمال، وقال بعض المحققين: الظاهر تغاير العلمين كما
في الأثر «من عمل بما علم يسر الله تعالى له علم ما لم يعلم»،
وعن الضحاك تفسير الْمُحْسِنِينَ بالصابرين على النوائب وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها رجوع إلى شرح ما جرى عليه عليه السّلام في منزل العزيز بعد ما أمر امرأته بإكرام مثواه، وقوله سبحانه: وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ إلى هنا اعتراض جيء به أنموذجا للقصة ليعلم السامع من أول الأمر أن ما لقيه عليه السّلام من الفتن التي ستحكى بتفاصيلها له غاية جميلة وعاقبة حميدة وأنه عليه السلام محسن في أعماله لم يصدر عنه ما يخل بنزاهته، والمراودة (١) المطالبة برفق من راد يرود إذا ذهب وجاء لطلب شيء، ومنه الرائد لطالب الكلأ والماء، وباعتبار الرفق قيل: رادت الإبل في مشيتها ترود رودانا، ومنه بني المرود ويقال: أرود يرود إذا رفق، ومنه بني رويد، والإرادة منقولة من راد يرود إذا سعى في طلب شيء وهي مفاعلة من واحد نحو مطالبة الدائن ومماطلة المديون ومداواة الطبيب وغير ذلك مما يكون من أحد الجانبين الفعل ومن الآخر سببه فإن هذه الأفعال وإن كانت صادرة عن أحد الجانبين لكن لما كانت أسبابها صادرة عن الجانب الآخر جعلت كأنها صادرة عنهما، قال شيخ الإسلام: وهذا باب لطيف المسلك مبني على اعتبار دقيق تحقيقه أن سبب الشيء يقوم مقامه ويطلق عليه اسمه كما في قولهم: كما تدين تدان، أي كما تجزي تجزى، فإن فعل البادئ وإن لم يكن جزاء لكنه لكونه سببا للجزاء أطلق عليه اسمه، وكذلك إرادة القيام إلى الصلاة وإرادة قراءة القرآن حيث كانتا سببا للقيام، والقراءة عبر عنهما بهما فقيل: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة: ٦] فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ [النحل: ٩٨] وهذه قاعدة مطردة مستمرة، ولما كانت أسباب الأفعال المذكورة فيما نحن فيه صادرة عن الجانب المقابل لجانب فاعلها فإن مطالبة الدائن للمماطلة التي هي من جانب الغريم وهي منه للمطالبة التي من جانب الدائن، وكذا مداواة الطبيب للمرض الذي هو من جانب المريض، وكذلك مراودتها فيما نحن فيه لجمال يوسف عليه السلام نزل صدورها عن محالها بمنزلة صدور مسبباتها التي هي تلك الأفعال فبنى الصيغة على ذلك وروعي جانب الحقيقة بأن أسند الفعل إلى الفاعل وأوقع على صاحب السبب فتأمل اهـ.
وكأنه أشار بالأمر بالتأمل إلى ما فيه مما لا يخفى على ذويه، وفي الكشف المراودة منازعة في الرود بأن يكون له مقصد مجيئا وذهابا وللمفاعل مقصد آخر يقابله فيهما، ومعنى المفاعلة هاهنا إما المبالغة في رودها أو الدلالة على اختلافهما فيه فإنها طلبت منه الفعل وهو طلب منها الترك وهذا أبلغ ولما كان منازعة جيء- بعن- في قوله إذا كانت بمعنى تهيأت لا تكون اسم فعل بل تكون فعلا مسندا إلى ضمير المتكلم بل لأنه لما بينت التهيؤ بأنه له لزم كونها هي المتهيأة كما إذا قيل لك: قربني منك فقلت هيهات فإنه يدل على معنى بعدت بالقرينة.
وقرأ ابن كثير وأهل مكة هَيْتَ بفتح الهاء وسكون الياء وضم التاء تشبيها له بحيث.
وقرأ أبو الأسود وابن أبي إسحاق وابن محيصن وعيسى البصرة وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «هيت» بفتح الهاء وسكون الياء وكسر التاء تشبيها له بجير، والكلام فيها على هاتين القراءتين كالكلام فيها على القراءة السابقة.
وقرأ نافع وابن عامر وابن ذكوان والأعرج وشيبة وأبو جعفر «هيت» بكسر الهاء بعدها ياء ساكنة وتاء مفتوحة،
وحكى الحلواني عن هشام أنه قرأ كذلك إلا أنه همز، وتعقب ذلك الداني تبعا لأبي على الفارسي في الحجة، وقد تبعه أيضا جماعة بأن فتح التاء فيما ذكر وهم من الراوي لأن الفعل حينئذ من التهيؤ، ويوسف عليه السلام لم يتهيأ لها بدليل وَراوَدَتْهُ إلخ فلا بد من ضم التاء، ورد ذلك صاحب النشر بأن المعنى على ذلك تهيأ لي أمرك لأنها لم يتيسر لها الخلوة به قبل أو حسنت هيئتك، ولَكَ على المعنيين للبيان، والرواية عن هشام صحيحة جاءت من عدة طرق، وروي عنه أيضا (١) أنه قرأ بكسر الهاء والهمزة وضم التاء، وهي رواية أيضا عن ابن عباس وابن عامر وأبي عمرو أيضا وقرأ كذلك أبو رجاء وأبو وائل وعكرمة ومجاهد وقتادة وطلحة وآخرون (٢).
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وابن أبي إسحاق كذلك إلا أنهما سهلا الهمزة، وذكر النحاس أنه قرىء بكسر الهاء بعدها ياء ساكنة وكسر التاء، وقرىء أيضا هيا بكسر الهاء وفتحها وتشديد الياء، وهي على ما قال ابن هشام: لغة في هَيْتَ، وقال بعضهم: إن القراءات كلها لغات وهي فيها اسم فعل بمعنى هلم، وليست التاء ضميرا، وقال آخر: إنها لغات والكلمة عليها اسم فعل إلا على قراءة ضم التاء مع الهمز وتركه فإن الكلمة عليها تحتمل أن تكون فعلا رافعا لضمير المتكلم من هاء الرجل يهيء كجاء يجيء إذا حسنت هيئته. أو بمعنى تهيأت، يقال: هئت وتهيأت بمعنى، وإذا كانت فعلا تعلقت اللام بها، ونقل عن ابن عباس أيضا أنه قرأ هييت مثل حببت وهي في ذلك فعل مبني للمفعول مسهل الهمزة من هيأت الشيء كأن أحدا هيأها له عليه السلام قالَ مَعاذَ اللَّهِ نصب على المصدر يقال: عذت عوذا وعياذا وعياذة ومعاذا أي أعوذ بالله عزّ وجلّ معاذا مما تريدين مني، وهذا اجتناب منه عليه السّلام على أتم الوجوه وإشارة إلى التعليل بأنه منكر هائل يجب أن يعاذ بالله جلّ وعلا للخلاص منه، وما ذلك إلا لأنه قد علم بما أراه الله تعالى ما هو عليه في حد ذاته من غاية القبح ونهاية السوء، وقوله تعالى: إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ تعليل ببعض الأسباب الخارجية مما عسى يكون مؤثرا عندها وداعيا لها إلى اعتباره بعد التنبيه على سببه الذاتي التي لا تكاد تقبله لما سولته لها نفسها، والضمير للشأن، وفي تصدير الجملة به من الإيذان بفخامة مضمونها ما فيه مع زيادة تقريره في الذهن أي إن الشأن الخطير هذا أي هو ربي أي سيدي العزيز أحسن تعهدي حيث أمرك بإكرامي على أكمل وجه فكيف يمكن أن أسيء إليه بالخيانة في حرمه؟! وفيه إرشاد لها إلى رعاية حق العزيز بألطف وجه، وإلى هذا المعنى ذهب مجاهد والسدي، تعالى: عَنْ نَفْسِهِ كما تقول: جاذبته عن كذا دلالة على الإبعاد وتحصيل الجذب البالغ، ولهذا قال في الأساس: ومن المجاز راوده عن نفسه خادعه عنها.
وقال الزمخشري هنا: أي فعلت ما يفعل المخادع بصاحبه عن الشيء الذي لا يريد أن يخرجه من يده، ولا شك أن هذا إنما يحصل من المنازعة في الرود، ولهذه النكتة جعل كناية عن التمحل لموافقته إياها، والعدول عن التصريح باسمها للمحافظة على الستر ما أمكن أو للاستجهان بذكره، وإيراد الموصول دون امرأة العزيز مع أنه أخصر وأظهر لتقرير المراودة فإن كونه في بيتها مما يدعو إلى ذلك (٣) ولإظهار كمال نزاهته عليه السلام فإن عدم ميله إليها مع دوام مشاهدته لمحاسنها واستعصائه عليها مع كونه تحت يدها ينادي بكونه عليه السلام في أعلى معارج العفة، وإضافة البيت إلى ضميرها لما أن العرب تضيف البيوت إلى النساء باعتبار أنهن القائمات بمصالحه أو الملازمات له، وخرج
(٢) منهم يحيى بن وثاب، والمقري اهـ منه.
(٣) قيل لواحدة: ما حملك على ما أنت عليه مما لا خير فيه؟ قالت: قرب الوساد اهـ منه (٢).