
عَنِ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ وَقَطْعِ النَّظَرِ عَنِ الْأَسْبَابِ وَاسْتِغْرَاقِ الْقَلْبِ فِي نُورِ جَلَالِ مُسَبِّبِ الْأَسْبَابِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا تَفَكَّرَ فِي طَلَبِ مَعْرِفَةِ اللَّه تَعَالَى بِالدَّلِيلِ وَالْحُجَّةِ فَكَأَنَّهُ جَلَسَ فِي سَفِينَةِ التَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ، وَأَمْوَاجُ الظُّلُمَاتِ وَالضَّلَالَاتِ قَدْ عَلَتْ تِلْكَ الْجِبَالَ وَارْتَفَعَتْ إِلَى مَصَاعِدِ الْقِلَالِ، فَإِذَا ابْتَدَأَتْ سَفِينَةُ الْفِكْرَةِ وَالرَّوِيَّةِ بِالْحَرَكَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ اعْتِمَادُهُ عَلَى اللَّه تَعَالَى وَتَضَرُّعُهُ/ إِلَى اللَّه تَعَالَى وَأَنْ يَكُونَ بِلِسَانِ الْقَلْبِ وَنَظَرِ الْعَقْلِ. يَقُولُ: بِسْمِ اللَّه مجريها وَمُرْسَاهَا حَتَّى تَصِلَ سَفِينَةُ فِكْرِهِ إِلَى سَاحِلِ النَّجَاةِ وَتَتَخَلَّصَ عَنْ أَمْوَاجِ الضَّلَالَاتِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ فَفِيهِ سُؤَالٌ وَهُوَ أَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ وَقْتُ الْإِهْلَاكِ وَإِظْهَارِ الْقَهْرِ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِهِ هَذَا الذِّكْرُ؟
وَجَوَابُهُ: لَعَلَّ الْقَوْمَ الَّذِينَ رَكِبُوا السَّفِينَةَ اعْتَقَدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أَنَّا إِنَّمَا نَجَوْنَا بِبَرَكَةِ عِلْمِنَا فاللَّه تَعَالَى نَبَّهَهُمْ بِهَذَا الْكَلَامِ لِإِزَالَةِ ذَلِكَ الْعَجَبِ مِنْهُمْ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ أَنْوَاعِ الزَّلَّاتِ وَظُلُمَاتِ الشَّهَوَاتِ، وَفِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى إِعَانَةِ اللَّه وَفَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَأَنْ يَكُونَ رحيما لعقوبته غفورا لذنوبه.
[سورة هود (١١) : الآيات ٤٢ الى ٤٣]
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (٤٢) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣)
واعلم أن قَوْلِهِ: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا، فَرَكِبُوا فِيهَا يَقُولُونَ: بِسْمِ اللَّه وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَمْوَاجُ الْعَظِيمَةُ إِنَّمَا تَحْدُثُ عِنْدَ حُصُولِ الرِّيَاحِ الْقَوِيَّةِ الشَّدِيدَةِ الْعَاصِفَةِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَصَلَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ رِيَاحٌ عَاصِفَةٌ شَدِيدَةٌ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ: بَيَانُ شِدَّةِ الْهَوْلِ وَالْفَزَعِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْجَرَيَانُ فِي الْمَوْجِ، هُوَ أَنْ تَجْرِيَ السَّفِينَةُ دَاخِلَ الْمَوْجِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْغَرَقَ، / فَالْمُرَادُ أَنَّ الْأَمْوَاجَ لَمَّا أَحَاطَتْ بِالسَّفِينَةِ مِنَ الْجَوَانِبِ، شُبِّهَتْ تِلْكَ السَّفِينَةُ بِمَا إِذَا جَرَتْ فِي داخل تلك الأمواج.
[في قوله تعالى ونادى نوح ابنه وكان في معزل] ثُمَّ حَكَى اللَّه تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ نَادَى ابْنَهُ، وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ كَانَ ابْنًا لَهُ، وَفِيهِ أَقْوَالٌ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ ابْنُهُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّهُ تَعَالَى نَصَّ عَلَيْهِ فَقَالَ: وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ ونوح أيضا نص عليه فقال: يا بُنَيَّ وَصَرْفُ هَذَا اللَّفْظِ إِلَى أَنَّهُ رَبَّاهُ، فَأَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الِابْنِ لِهَذَا السَّبَبِ صَرْفٌ لِلْكَلَامِ عَنْ حَقِيقَتِهِ إِلَى مَجَازِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَالَّذِينَ خَالَفُوا هَذَا الظَّاهِرَ إِنَّمَا خَالَفُوهُ لِأَنَّهُمُ اسْتَبْعَدُوا أَنْ يَكُونَ وَلَدُ الرَّسُولِ الْمَعْصُومِ كَافِرًا، وَهَذَا بَعِيدٌ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ وَالِدَ رَسُولِنَا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ كَافِرًا، وَوَالِدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ كافرا بنص القرآن، فكذلك هاهنا، ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَالَ: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نُوحٍ: ٢٦] فَكَيْفَ نَادَاهُ مَعَ كُفْرِهِ؟

فَأَجَابُوا عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَانَ يُنَافِقُ أَبَاهُ فَظَنَّ نُوحٌ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَلِذَلِكَ نَادَاهُ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا أَحَبَّ نَجَاتَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَافِرٌ، لَكِنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ لَمَّا شَاهَدَ الْغَرَقَ وَالْأَهْوَالَ العظيمة فإنه يقبل الإيمان فصار قوله: يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ الْإِيمَانَ وَتَأَكَّدَ هَذَا بِقَوْلِهِ: وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ أَيْ تَابِعْهُمْ فِي الْكُفْرِ وَارْكَبْ مَعَنَا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ شَفَقَةَ الْأُبُوَّةِ لَعَلَّهَا حَمَلَتْهُ عَلَى ذَلِكَ النِّدَاءِ، وَالَّذِي تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ كَانَ كَالْمُجْمَلِ فَلَعَلَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَوَّزَ أَنْ لَا يَكُونَ هُوَ دَاخِلًا فِيهِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي:
أَنَّهُ كَانَ ابْنَ امْرَأَتِهِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْبَاقِرِ
وَقَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ
وَيُرْوَى أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّه عَنْهُ قَرَأَ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهَا
وَالضَّمِيرُ لِامْرَأَتِهِ.
وَقَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ ابْنَهَ بِفَتْحِ الْهَاءِ
يُرِيدُ أَنَّ ابْنَهَا إِلَّا أَنَّهُمَا اكْتَفَيَا بِالْفَتْحَةِ عَنِ الْأَلِفِ، وَقَالَ قَتَادَةُ سَأَلْتُ الْحَسَنَ عَنْهُ فَقَالَ: واللَّه مَا كَانَ ابْنَهُ فَقُلْتُ: إِنَّ اللَّه حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي [هُودٍ: ٤٥] وَأَنْتَ تَقُولُ: مَا كَانَ ابْنًا لَهُ، فَقَالَ: لَمْ يَقُلْ: إِنَّهُ مِنِّي وَلَكِنَّهُ قَالَ مِنْ أَهْلِي وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِي.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ لِغَيْرِ رِشْدَةٍ، وَالْقَائِلُونَ بِهَذَا الْقَوْلِ احْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي امْرَأَةِ نُوحٍ وَامْرَأَةِ لُوطٍ فَخَانَتَاهُمَا وَهَذَا قَوْلٌ خَبِيثٌ يَجِبُ صَوْنُ مَنْصِبِ الْأَنْبِيَاءِ عَنْ هَذِهِ الْفَضِيحَةِ لَا سِيَّمَا وَهُوَ عَلَى خِلَافِ نَصِّ الْقُرْآنِ. أما قوله تعالى: فَخانَتاهُما فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ تِلْكَ الْخِيَانَةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ بِالسَّبَبِ الَّذِي ذَكَرُوهُ. قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: مَا كَانَتْ تِلْكَ الْخِيَانَةُ، فَقَالَ: / كَانَتِ امْرَأَةُ نُوحٍ تَقُولُ: زَوْجِي مَجْنُونٌ، وَامْرَأَةُ لُوطٍ تَدُلُّ النَّاسَ عَلَى ضَيْفِهِ إِذَا نَزَلُوا بِهِ. ثُمَّ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْمَذْهَبِ قَوْلُهُ تَعَالَى: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ [النُّورِ: ٢٦] وَأَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [النُّورِ: ٣] وَبِالْجُمْلَةِ فَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الْحَقَّ هُوَ مَقُولُ الْأَوَّلِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَكانَ فِي مَعْزِلٍ فَاعْلَمْ أَنَّ الْمَعْزِلَ فِي اللُّغَةِ مَعْنَاهُ: مَوْضِعٌ مُنْقَطِعٌ عَنْ غَيْرِهِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْعَزْلِ، وَهُوَ التَّنْحِيَةُ وَالْإِبْعَادُ. تَقُولُ: كُنْتُ بِمَعْزِلٍ عَنْ كَذَا، أَيْ بِمَوْضِعٍ قَدْ عُزِلَ مِنْهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَكانَ فِي مَعْزِلٍ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فِي مَعْزِلٍ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ فَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرُوا وُجُوهًا:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَانَ فِي مَعْزِلٍ مِنَ السَّفِينَةِ لِأَنَّهُ كَانَ يَظُنُّ أَنَّ الْجَبَلَ يَمْنَعُهُ مِنَ الْغَرَقِ. الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ فِي مَعْزِلٍ عَنْ أَبِيهِ وَإِخْوَتِهِ وَقَوْمِهِ: الثَّالِثُ: أَنَّهُ كَانَ فِي مَعْزِلٍ مِنَ الْكُفَّارِ كَأَنَّهُ انْفَرَدَ عَنْهُمْ فَظَنَّ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهُ أَحَبَّ مُفَارَقَتَهُمْ.
أَمَّا قَوْلُهُ: يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ فَنَقُولُ: قَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ يَا بُنَيَّ بِفَتْحِ الْيَاءِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ وَالْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: الْوَجْهُ الْكَسْرُ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّامَ مِنِ ابْنٍ يَاءٌ أَوْ وَاوٌ فَإِذَا صَغَّرْتَ أَلْحَقْتَ يَاءَ التَّحْقِيرِ، فَلَزِمَ أَنْ تَرُدَّ اللَّامَ الْمَحْذُوفَةَ وَإِلَّا لَزِمَ أَنْ تُحَرِّكَ يَاءَ التَّحْقِيرِ بِحَرَكَاتِ الْإِعْرَابِ لَكِنَّهَا لَا تُحَرَّكُ لِأَنَّهَا لَوْ حُرِّكَتْ لَزِمَ أَنْ تَنْقَلِبَ كَمَا تَنْقَلِبُ سَائِرُ حُرُوفِ الْمَدِّ وَاللِّينِ إِذَا كَانَتْ حُرُوفَ إِعْرَابٍ، نَحْوُ عَصًا وَقَفًا وَلَوِ انْقَلَبَتْ بَطَلَتْ دَلَالَتُهَا عَلَى التَّحْقِيرِ ثُمَّ أَضَفْتَ إِلَى نفسك اجتمعت ثلاث آيات. الْأُولَى: مِنْهَا لِلتَّحْقِيرِ. وَالثَّانِيَةُ:
لَامُ الْفِعْلِ. وَالثَّالِثَةُ: الَّتِي لِلْإِضَافَةِ تَقُولُ: هَذَا بُنَيَّ فَإِذَا نَادَيْتَهُ صَارَ فِيهِ وَجْهَانِ: إِثْبَاتُ الْيَاءِ وَحَذْفُهَا وَالِاخْتِيَارُ

حَذْفُ الْيَاءِ الَّتِي لِلْإِضَافَةِ وَإِبْقَاءُ الْكَسْرَةِ دَلَالَةً عَلَيْهِ نَحْوَ يَا غُلَامِ وَمَنْ قَرَأَ يَا بُنَيَّ بِفَتْحِ الْيَاءِ فَإِنَّهُ أَرَادَ الْإِضَافَةَ أَيْضًا كَمَا أَرَادَهَا مَنْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ لَكِنَّهُ أَبْدَلَ مِنَ الْكَسْرَةِ الْفَتْحَةَ وَمِنَ الْيَاءِ الْأَلِفَ تَخْفِيفًا فَصَارَ يَا بُنَيَّا كَمَا قَالَ:
يَا ابْنَةَ عَمَّا لَا تَلُومِي وَاهْجَعِي
ثُمَّ حَذَفَ الْأَلِفَ لِلتَّخْفِيفِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ دَعَاهُ إِلَى أَنْ يَرْكَبَ السَّفِينَةَ حَكَى عَنِ ابْنِهِ أَنَّهُ قَالَ:
سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِابْنَ كَانَ مُتَمَادِيًا فِي الْكُفْرِ مُصِرًّا عَلَيْهِ مُكَذِّبًا لِأَبِيهِ فِيمَا أَخْبَرَ عَنْهُ فَعِنْدَ هَذَا قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَفِيهِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ الَّذِي رَحِمَهُ اللَّه مَعْصُومٌ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ اسْتِثْنَاءُ الْمَعْصُومِ مِنَ الْعَاصِمِ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَذَكَرُوا فِي الْجَوَابِ طُرُقًا كَثِيرَةً.
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [هود: ٤١] فَبَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى رَحِيمٌ وَأَنَّهُ بِرَحْمَتِهِ يُخَلِّصُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ رَكِبُوا السَّفِينَةَ مِنْ آفَةِ الْغَرَقِ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ ابْنَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَالَ: سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخْطَأْتَ لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَالْمَعْنَى: إِلَّا ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرْتُ أَنَّهُ بِرَحْمَتِهِ يُخَلِّصُ هَؤُلَاءِ مِنَ الْغَرَقِ فَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ عَذَابِ اللَّه إِلَّا اللَّه الرَّحِيمُ وَتَقْدِيرُهُ: لَا فِرَارَ مِنَ اللَّه إِلَّا إِلَى اللَّه، وَهُوَ نَظِيرُ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي دُعَائِهِ: «وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ»
وَهَذَا تَأْوِيلٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي التَّأْوِيلِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ «حَلِّ الْعقدِ» أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ وَقَعَ مِنْ مُضْمَرٍ هُوَ فِي حُكْمِ الْمَلْفُوظِ لِظُهُورِ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، وَالتَّقْدِيرُ: لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ لِأَحَدٍ مِنْ أَمْرِ اللَّه إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَهُوَ كَقَوْلِكَ لَا نَضْرِبُ الْيَوْمَ إِلَّا زَيْدًا، فَإِنَّ تَقْدِيرَهُ لَا تَضْرِبْ أَحَدًا إِلَّا زَيْدًا إِلَّا أَنَّهُ تَرَكَ التَّصْرِيحَ بِهِ لِدَلَالَةِ اللَّفْظِ عليه فكذا هاهنا.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي التَّأْوِيلِ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا عاصِمَ أَيْ لَا ذَا عِصْمَةٍ كَمَا قَالُوا: رَامِحٌ وَلَابِنٌ وَمَعْنَاهُ ذُو رُمْحٍ، وَذُو لَبَنٍ وقال تعالى: مِنْ ماءٍ دافِقٍ [الطارق: ٦] وعِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة: ٢١] ومعناه ما ذكرنا فكذا هاهنا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: الْعَاصِمُ هُوَ ذُو الْعِصْمَةِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْمَعْصُومُ، وَحِينَئِذٍ يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ قَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ رَحِمَ مِنْهُ.
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ عَنَى بِقَوْلِهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ نَفْسَهُ، لِأَنَّ نُوحًا وَطَائِفَتَهُ هُمُ الَّذِينَ خَصَّهُمُ اللَّه تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ، وَالْمُرَادُ: لَا عَاصِمَ لَكَ إِلَّا اللَّه بِمَعْنَى أَنَّ بِسَبَبِهِ تَحْصُلُ رَحْمَةُ اللَّه، كَمَا أُضِيفَ الْإِحْيَاءُ إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السلام في قوله: وَأُحْيِ الْمَوْتى [آلِ عِمْرَانَ: ٤٩] لِأَجْلِ أَنَّ الْإِحْيَاءَ حَصَلَ بِدُعَائِهِ.
الْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ قَوْلَهُ: إِلَّا مَنْ رَحِمَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، وَالْمَعْنَى لَكِنْ مَنْ رَحِمَ اللَّه مَعْصُومٌ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ [النِّسَاءِ: ١٥٧] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ بِقَوْلِهِ: وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ أَيْ بِسَبَبِ هَذِهِ الْحَيْلُولَةِ خَرَجَ مِنْ أن يخاطبه نوح فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ.