والكفران وبالنعماء بعد الضراء الفرح والفخر إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا مع الله تعالى في حالتي النعماء والضراء والشدة والرخاء، فالفقر والغنى مثلا عندهم مطيتان لا يبالون أيهما امتطوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ما فيه صلاحهم في كل أحوالهم أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ من ذنوب ظهور النفس باليأس والكفران والفرح والفخر وَأَجْرٌ كَبِيرٌ من ثواب تجليات الأفعال والصفات وجنانهما، والله تعالى ولي التوفيق.
صفحة رقم 219فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ أي تترك تبليغ بعض ما يوحى إليك وهو ما يخالف رأي المشركين مخافة ردهم واستهزائهم به، فاسم الفاعل للمستقبل ولذا عمل، ولعل- للترجي وهو يقتضي التوقع ولا يلزم من توقع الشيء وقوعه ولا ترجح وقوعه لجواز أن يوجد ما يمنع منه، فلا يشكل بأن توقع ترك التبليغ منه صلّى الله عليه وسلم مما لا يليق بمقام النبوة، والمانع من ذلك فيه عليه الصلاة والسلام عصمته كسائر الرسل الكرام عليهم السلام عن كتم الوحي المأمور بتبليغه والخيانة فيه وتركه تقية، والمقصود من ذلك تحريضه صلّى الله عليه وسلم وتهييج داعيته لأداء الرسالة، ويقال نحو ذلك في
صفحة رقم 220
كل توقع نظير هذا التوقع، وقيل: إن التوقع تارة يكون للمتكلم وهو الأصل لأن المعاني الإنشائية قائمة به، وتارة للمخاطب، وأخرى لغيره ممن له تعلق وملابسة به، ويحتمل أن يراد هنا هذا الأخير ويجعل التوقع للكفار، والمعنى أنك بلغ بك الجهد في تبليغهم ما أوحي إليك أنهم يتوقعون منك ترك التبليغ لبعضه، وقيل: إن- لعل- هنا ليست للترجي بل هي للتبعيد، وقد تستعمل لذلك كما تقول العرب: لعلك تفعل كذا لمن لا يقدر عليه، فالمعنى لا تترك، وقيل: إنها للاستفهام الإنكاري كما
في الحديث «لعلنا أعجلناك»
واختار السمين. وغيره كونها للترجي بالنسبة إلى المخاطب على ما علمت آنفا، ولا يجوز أن يكون المعنى كأني بك ستترك بعض ما أوحي إليك مما شق عليك بإذني ووحي مني، وهو أن يرخص لك فيه كأمر الواحد بمقاومة عشرة إذ أمروا بمقاومة الواحد لاثنين وغير ذلك من التخفيفات لأنه وإن زال به الإشكال إلا أن قوله تعالى بعد أن يقولوا يأباه، نعم قيل: لو أريد ترك الجدال بالقرآن إلى الجلاد والضرب والطعان- لأن هذه السورة مكية نازلة قبل الأمر بالقتال- صح لكن في الكشف بعد كلام: اعلم لو أخذت التأمل لاستبان لك أن مبنى هذه السورة الكريمة على إرشاده تعالى كبرياؤه نبيه صلّى الله عليه وسلم إلى كيفية الدعوة من مفتتحها إلى مختتمها وإلى ما يعتري لمن تصدى لهذه الرتبة السنية من الشدائد واحتماله لما يترتب عليه في الدارين من العوائد لا على التسلي له عليه الصلاة والسلام فإنه لا يطابق المقام، وانظر إلى الخاتمة الجامعة أعني قوله سبحانه: وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود: ١٢٣] تقضي العجب وهو يبعد هذه الإرادة إن قلنا: إن ذلك من باب التخفيف المؤذن بالتسلي فتأمله، والضمير في قوله سبحانه: وَضائِقٌ بِهِ لما يوحى أو للبعض وهو الظاهر عند أبي حيان، وقيل: للتبليغ أو للتكذيب، وقيل: هو مبهم يفسره أن يقولوا، والواو للعطف وَضائِقٌ قيل: عطف على تارِكٌ وقوله تعالى: صَدْرُكَ فاعله، وجوز أن يكون الوصف خبرا مقدما وصَدْرُكَ مبتدأ والجملة معطوفة على تارِكٌ، وقيل: يتعين أن تكون الواو للحال، والجملة بعدها حالية لأن هذا واقع لا متوقع فلا يصح العطف، ونظر فيه بأن ضيق صدره عليه الصلاة والسلام بذلك إن حمل على ظاهره ليس بواقع، وإنما يضيق صدره الشريف لما يعرض له في تبليغه من الشدائد، وعدل عن ضيق الصفة المشبهة إلى- ضائق- اسم الفاعل ليدل على أن الضيق مما يعرض له صلّى الله عليه وسلم أحيانا، وكذا كل صفة مشبهة إذا قصد بها الحدوث تحول إلى فاعل فتقول في سيد وجواد وسمين مثلا: سائد وجائد وسامن، وعلى ذلك قول بعض اللصوص يصف السجن ومن سجن فيه:
بمنزلة أما اللئيم «فسامن» بها وكرام الناس باد شحوبها وظاهر كلام البحر أن ذلك مقيس فكل ما يبنى من الثلاثي للثبوت والاستقرار على غير وزن فاعل يرد إليه إن أريد معنى الحدوث من غير توقف على سماع، وقيل: إن العدول لمشاركة تارِكٌ وليس بذلك. أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أي مال كثير، وعبروا بالإنزال دون الإعطاء لأن مرادهم التعجيز بكون ذلك على خلاف العادة لأن الكنوز إنما تكون في الأرض ولا تنزل من السماء، ويحتمل أنهم أرادوا بالإنزال الإعطاء من دون سبب عادي كما يشير إليه سبب النزول أي لولا أعطي ذلك ليتحقق عندنا صدقه أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ يصدقه لنصدقه،
روي أنهم قالوا: اجعل لنا جبال مكة ذهبا أو ائتنا بملائكة يشهدون بنبوتك إن كنت رسولا فنزلت،
وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن كلَّا من القولين قالته طائفة فقال عليه الصلاة والسلام: لا أقدر على ذلك فنزلت،
وقيل: القائل لكل عبد الله بن أمية المخزومي، ووجه الجمع عليه يعلم مما مر غير مرة، ومحل أَنْ يَقُولُوا نصب أو جر وكان الأصل كراهة أو مخافة أَنْ يَقُولُوا أو لئلا أو لأن أو بأن يقولوا، ولوقوع القول قالوا: إن المضارع بمعنى الماضي، وأَنْ المصدرية خارجة عن مقتضاها، ورجحوا تقدير
الكراهة على المخافة لذلك، وقد يراد عند تقديرها مخافة أن يكرروا هذا القول واختار بعض أن يكون المعنى على الجميع أن يقولوا مثل قولهم لولا إلخ- فأن- على مقتضاها، ولا يرد شيء إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ أي ليس عليك إلا الإنذار بما أوحى غير مبال بما يصدر عنهم وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ أي قائم به وحافظ له فيحفظ أحوالك وأحوالهم فتوكل عليه في جميع أمورك فإنه فاعل بهم ما يليق بحالهم، والاقتصار على النذير في أقصى غاية من إصابة المحز، والآية قيل: منسوخة، وقيل: محكمة.
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ إضراب بأم المنقطعة عن ذكر ترك اعتدادهم بما يوحى وعدم اكتفائهم بما فيه من المعجزات الظاهرة الدالة على صدق الدعوى، وشروع في ذكر ارتكابهم لما هو أشد منه وأعظم، وتقدر ببل والهمزة الإنكارية أي بل أيقولون، وذهب ابن القشيري إلى أن أَمْ متصلة، والتقدير أيكتفون بما أوحينا إليك أم يقولون إنه ليس من عند الله، والأول أظهر، وأيا ما كان فالضمير البارز في افْتَراهُ لما يوحى قُلْ إن كان الأمر كما تقولون فَأْتُوا أنتم أيضا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ في البلاغة وحسن النظم وهو نعت- لسور- وكان الظاهر مطابقته لها في الجمع لكنه أفرد باعتبار مماثلة كل واحدة منها إذ هو المقصود لا مماثلة المجموع، وقيل: مثل وإن كان مفردا يجوز فيه المطابقة وعدمها فيوصف به الواحد وغيره نظرا إلى أنه مصدر في الأصل كقوله تعالى: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا [المؤمنون: ٤٧] وقد يطابق كقوله سبحانه: ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [محمد: ٣٨]، وقيل: إنه هنا صفة لمفرد مقدر أي قدر عشر سور مثله، وقيل: إنه وصف لمجموع العشر لأنها كلام وشيء واحد، وأيضا- عشر- ليس بصيغة جمع فيعطى حكم المفرد- كنخل منقعر- وقوله سبحانه: مُفْتَرَياتٍ نعت آخر- لسور- قيل: أخر عن نعتها بالمماثلة لما يوحى لأنه النعت المقصود بالتكليف إذ به قعودهم على العجز عن المعارضة، وأما نعت الافتراء فلا يتعلق به غرض يدور عليه شيء في مقام التحدي، وإنما ذكر على نهج المساهلة وإرخاء العنان ولأنه لو عكس الترتيب لربما توهم أن المراد هو المماثلة له في الافتراء، والمعنى فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مماثلة له في البلاغة مختلقات من عند أنفسكم إن صح أني اختلقته من عند نفسي فإنكم عرب فصحاء بلغاء ومبادي ذلك فيكم من ممارسة الخطب والأشعار ومزاولة أساليب النظم والنثر وحفظ الوقائع والأيام أتم.
والكثير على أن هذا التحدي وقع أولا فلما عجزوا تحداهم بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ كما نطقت به سورة [البقرة:
٢٣] ويونس، وهو وإن تأخر تلاوة متقدم نزولا وأنه لا يجوز العكس إذ لا معنى للتحدي بعشر لمن عجز عن التحدي بواحدة وأنه ليس المراد تعجيزهم عن الإتيان بعشر سور مماثلات لعشر معينة من القرآن.
وروي عن ابن عباس أن المراد ذلك، وجعل العشر ما تقدم من السور إلى هنا، واعترضه أبو حيان بأن أكثر ما ذكر مدني وهذه السورة حسبما علمت مكية فكيف تصح الحوالة بمكة على ما لم ينزل بعد، ثم قال: ولعل هذا لا يصح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وذهب ابن عطية إلى أن هذا التحدي إنما وقع بعد التحدي بسورة، وروي هذا عن المبرد وأنكر تقدم نزول هذه السورة على نزول تينك السورتين وقال: بل نزلت سورة يونس أولا، ثم نزلت سورة هود.
وقد أخرج ذلك ابن الضريس في فضائل القرآن عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. ووجه ذلك بأن ما وقع أولا هو التحدي بسورة مثله في البلاغة والاشتمال على ما اشتمل عليه من الأخبار عن المغيبات والأحكام وأخواتها، فلما عجزوا عن ذلك أمرهم بأن يأتوا بعشر سور مثله في النظم وإن لم تشتمل على ما اشتمل عليه، وضعفه في الكشف، وقال: إنه لا يطرد في كل سورة من سور القرآن، وهب أن السورة متقدمة النزول إلا أنها لما نزلت على التدريج جاز أن تتأخر تلك الآية عن هذه، ولا ينافي تقدم السورة على السورة انتهى.
وتعقبه الشهاب بأن قوله لا يطرد مما لا وجه له لأن مراد المبرد اشتماله على شيء من الأنواع السبعة ولا يخلو شيء من القرآن عنها، وادعاء تأخر نزول تلك الآية خلاف الظاهر، ومثله لا يقال بالرأي، وادعى أن الحق ما قاله المبرد من أنه عليه الصلاة والسلام تحداهم أولا بسورة مثله في النظم والمعنى، ثم تنزل فتحداهم بعشر سور مثله في النظم من غير حجر في المعنى، ويشهد له توصيفها بمفتريات، وأيد بعضهم نظر المبرد بأن التكليف في آية البقرة إنما كان بسبب الريب ولا يزيل الريب إلا العلم بأنهم لا يقدرون على المماثلة التامة، وهو في هذه الآية ليس إلا بسبب قولهم:
افْتَراهُ فكلفوا نحو ما قالوا، وفيه أن الأمر في سورة يونس كالأمر هنا مسبوق بحكاية زعمهم الافتراء قاتلهم الله تعالى مع أنهم لم يكلفوا إلا بنحو ما كلفوا به في آية البقرة على أن في قوله: ولا يزيل الريب إلخ منعا ظاهرا، وللعلامة الطيبي هاهنا كلام- زعم أنه الذي يقتضيه المقام- وهو على قلة جدواه لا وجه لما أسسه عليه كما بين ذلك صاحب الكشف.
هذا ونقل الإمام أنه استدل بهذه الآية على أن إعجاز القرآن بفصاحته لا باشتماله على المغيبات وكثرة العلوم إذ لو كان كذلك لم يكن لقوله سبحانه: مُفْتَرَياتٍ معنى أما إذا كان وجه الإعجاز الفصاحة صح ذلك لأن فصاحة الكلام تظهر إن صدقا وإن كذبا، واعترض عليه الفاضل الجلبي بما هو مبني على الغفلة عن معنى الافتراء والاختلاق، نعم ما ذكر إنما يدل على صحة كون وجه الإعجاز ذلك ولا يمنع احتمال كونه الأسلوب الغريب وعدم اشتماله على التناقض كما قيل به.
وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ أي استعينوا بمن أمكنكم أن تستعينوا به من آلهتكم التي تزعمون أنها ممدة لكم في كل ما تأتون وما تذرون. والكهنة الذين تلجئون إلى آرائهم في الملمات ليسعدوكم في ذلك.
مِنْ دُونِ اللَّهِ متعلق- بادعوا- أي متجاوزين الله تعالى، وفيه على ما قال غير واحد إشارة إلى أنه لا يقدر على مثله إلا الله عز وجل إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أني افتريته، فإن ذلك يستلزم الإتيان بمثله وهو أيضا يستلزم قدرتكم عليه، وجواب إِنْ محذوف دل عليه المذكور قبل فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ الخطاب- على ما روي عن الضحاك- للمأمورين بدعاء من استطاعوا، وضمير الجمع الغائب عائد إلى من أي فإن لم يستجب لكم من تدعونه من دون الله تعالى إلى الإسعاد والمظاهرة على المعارضة لعلمهم بالعجز عنه وأن طاقتهم أقصر من أن تبلغه فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ أي ما أنزل إلا ملتبسا بعلمه تعالى لا بعلم غيره على ما تقتضيه كلمة أَنَّما فإنها تفيد الحصر كالمكسورة على الصحيح، قيل: وهو معنى قول من قال: أي ملتبسا بما لا يعلمه إلا الله تعالى ولا يقدر عليه سواه.
وادعى بعضهم أن الحصر إنما أفادته الإضافة كما في قوله تعالى: فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً [الجن: ٢٦] والمراد بما لا يعلمه غيره تعالى الكيفيات والمزايا التي بها الإعجاز والتحدي، وذكر عدم قدرة غيره سبحانه مما يقتضيه السياق وإلا فالمذكور في النظم الكريم العلم دون القدرة، وقيل: ذاك لأن نفي العلم بالشيء يستلزم نفي القدرة لأنه لا يقدر أحد على ما لا يعلم، والجملة الشرطية داخلة في حيز القول وإيراد كلمة الشك مع الجزم بعدم الاستجابة من جهة من يدعونه تهكم بهم وتسجيل عليهم بكمال سخافة العقل، وترتيب الأمر بالعلم على مجرد عدم الاستجابة من حيث إنه مسبوق بالدعاء المسبوق بتعجيزهم واضطرارهم فكأنه قيل: فإن لم يستجيبوا لكم عند التجائكم إليهم بعد ما اضطررتم إلى ذلك وصاعت عليكم الحيل وعيت بكم العلل فَاعْلَمُوا إلخ أو من حيث إن من يدعونهم إلى المعارضة أقوى منهم في اعتقادهم فإذا ظهر عجزهم بعدم استجابتهم وإن كان ذلك قبل ظهور عجز أنفسكم يكون عجزهم أظهر وأوضح.
وبمجموع ما ذكرنا يظهر أن لا إشكال في الآية، ومما يقتضى منه العجب قول العز بن عبد السلام في أماليه: إن ترتيب هذا المشروط يعني العلم على ذلك الشرط يعني عدم الاستجابة مشكل، وكذا قوله سبحانه: أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ مشكل أيضا إذ لا تصلح الباء للسببية إذ ليس العلم سببا في إنزاله ولا للمصاحبة إذ العلم لا يصحبه في إنزاله، وأن الجواب أنه ليس المراد بالعلم إلا علمنا نحن، وأضيف إليه عز وجل لأنه مخلوق له تعالى، ونظير ذلك ما في قوله جل وعلا: وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ [المائدة: ١٠٦] حيث أضيفت الشهادة إلى الله سبحانه باعتبار أنه تعالى شرعها، والقرآن قد نزل بأدلة العلم بأحكام الله تبارك اسمه، فعبر بالمدلول عن الدليل، والتقدير فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ مصحوبا بانتشار علم الأحكام، وهي الأدلة، ولا شك أنه يناسب إذا عجزوا عن معارضته أن يعلموا أن هذه الآيات أدلة أحكام الله تعالى انتهى، وليت شعري كيف غفل هذا العالم الماهر عن ذلك التفسير الظاهر، ولعله كما قيل: من شدة الظهور الخفاء وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي واعلموا أيضا أنه تعالى المختص بالألوهية وأحكامها وأن آلهتكم بمعزل عن رتبة الشركة له تعالى في ذلك فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي داخلون في الإسلام إذ لم يبق بعد شائبة شبهة في حقيته وفي بطلان ما أنتم فيه من الشرك، فيدخل فيه الإذعان بكون القرآن من عند الله تعالى دخولا أوليا، أو منقادون للحق الذي هو كون القرآن من عند الله تعالى وتاركون ما أنتم عليه من المكابرة والعناد، وفي هذا الاستفهام إيجاب بليغ لما فيه من معنى الطلب والتنبيه على قيام الموجب وزوال المانع، ولهذا جيء بالفاء، وفي التعبير- بمسلمون- دون تسلمون تأييد لما يقتضيه ترتيب ما ذكر على ما قيل بها من وجوبه بلا مهلة، قيل: وفي ذلك أيضا إقناط لهم من أن يجيرهم آلهتهم من بأس الله تعالى شأنه وعز سلطانه، وجوز أن يكون الضمير في لَكُمْ للرسول صلّى الله عليه وسلم، ويؤيده أنه جاء في آية أخرى فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ [القصص: ٥٠]، وروي ذلك عن مجاهد، وكان المناسب للأمر بقل الافراد لكنه جمع للتعظيم، وهو لا يختص بضمير المتكلم كما قاله الرضي، ومن ذلك:
وإن شئت حرمت النساء سواكم والجملة غير داخلة في حيز القول بل هي من قبله تعالى للحكم بعجزهم كقوله سبحانه: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة: ٢٤] وعبر بالاستجابة إيماء إلى أنه صلّى الله عليه وسلم على كمال الأمن من أمره كأن أمره عليه الصلاة والسلام لهم بالإتيان بمثله دعاء لهم إلى أمر يريد وقوعه، ويجوز أن يكون الضمير له صلّى الله عليه وسلم وللمؤمنين لأنهم أتباع له صلّى الله عليه وسلم في الأمر بالتحدي، وفيه تنبيه لطيف على أن حقهم أن لا ينفكوا عنه عليه الصلاة والسلام ويناصبوا معه لمعارضة المعاندين كما كانوا يفعلونه في الجهاد وإرشاد إلى أن ذلك مما يفيد الرسوخ في الإيمان، ولذلك رتب عليه ما ترتب.
والمراد بالعلم المأمور به ما هو في المرتبة العليا التي كأن ما عداها من مراتب العلم ليس بعلم لكن لا للإشعار بانحطاط تلك المراتب بل بارتفاع هذه المرتبة، ويعلم من ذلك سر إيراد كلمة الشك مع القطع بعدم الاستجابة، فإن تنزيل سائر المراتب منزلة العدم مستتبع لتنزيل الجزم بعدم الاستجابة منزلة الشك، ويجوز أن يكون المأمور به الاستمرار على ما هم عليه من العلم ومعنى مُسْلِمُونَ مخلصون في الإسلام أو ثابتون عليه، والكلام من باب التثبيت والترقية إلى معارج اليقين، واختار تفسير الآية بذلك الجبائي وغيره، وذكر شيخ الإسلام أنه أنسب بما سلف من قوله تعالى: وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ ولما سيأتي إن شاء الله تعالى من قوله سبحانه: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ وأشد بما يعقبه، وقد يؤيد أيضا بما أشرنا إليه لكن لا يخفى أن الكلام على التفسير الأول موافق لما قبله لأن ضمير الجمع في الآية المتقدمة للكفار والضمير في هذه ضمير الجمع فليكن لهم أيضا، ولأن الكفار أقرب المذكورين فرجوع الضمير إليهم أولى، ولأن في التفسير الثاني تأويلات لا يحتاج إليها في الأول.
ومن هنا استظهره أبو حيان واستحسنه الزمخشري، ولعل مرجحاته أقوى من مرجحات الأخير عند من تأمل فلذا قدمناه، وإن قيل: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك، ويكتب- فما لم- في المصحف- على ما قال الأجهوري- بغير نون، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما- نزل- بفتح النون والزاي وتشديدها، وفي البحر أن- ما- يحتمل أن تكون مصدرية أي إن التنزيل، وأن تكون موصولة بمعنى الذي أي إن الذي نزله، وحذف العائد المنصوب في مثل ما ذكر شائع، وفعل- نزل- ضميره تعالى، وجوز بعضهم كون- ما- موصولة على قراءة الجمهور أيضا، ويبعد ذلك بحسب المعروف في مثله أنها موصولة فافهم.
مَنْ كانَ يُرِيدُ أي بأعماله الصالحة بحسب الظاهر الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها أي ما يزينها ويحسنها من الصحة والأمن وكثرة الأموال والأولاد والرياسة وغير ذلك، وإدخال كانَ للدلالة على الاستمرار أي من يريد ذلك بحيث لا يكاد يريد الآخرة أصلا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها أي نوصل إليهم أجور أعمالهم في الدنيا وافية، فالكلام على حذف مضاف، وقيل: الأعمال عبارة عن الأجور مجازا، وإليه يشير كلام شيخ الإسلام والأول أولى، ونُوَفِّ متضمن معنى نوصل ولذا عدي بإلى، وإلا فهو مما يتعدى بنفسه، وقيل: إنه مجاز عن ذلك، وقرأ طلحة بن ميمون- «يوف» - بالياء، وإسناد الفعل إلى الله تعالى، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما- «يوف» - بالياء مخففا مضارع أوفى، وقرىء- «توّف» - بالتاء مبنيا للمفعول، ورفع «أعمالهم» والفعل في كل ذلك مجزوم على أنه جواب الشرط كما انجزم في قوله سبحانه: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ [الشورى: ٢٠] وحكى الفراء أن كانَ زائدة ولذا جزم الجواب، وتعقبه أبو حيان بأنه لو كانت زائدة لكان فعل الشرط يُرِيدُ وكان يكون مجزوما، وأجيب بأنه يحتمل أنه أراد بكونها زائدة أنها غير لازمة في المعنى، وقرأ الحسن- نوفي- بالتخفيف وإثبات الياء، وذلك إما على لغة من يجزم المنقوص بحذف الحركة المقدرة كما في قوله:
ألم يأتيك والأنباء تنمي أو على ما سمع في كلام العرب إذا كان الشرط ماضيا من عدم جزم الجزاء وإما لأن الأداة لما لم تعمل في الشرط القريب ضعفت عن العمل في لفظ الجزاء البعيد فعملت في محله.
ونقل عن عبد القاهر أنها لا تعمل فيه أصلا لضعفها، والمشهور فيه عن النحاة مذهبان: كون الجزاء في نية التقديم. وكونه على تقدير الفاء والمبتدأ، ويمكن أن يرد ذلك إلى هذا، وليس هذا مخصوصا فيما إذا كان الشرط كان على الصحيح لمجيئه في غيره كثيرا، ومنه:
وإن أتاه خليل يوم مسغبة... يقول: لا غائب مالي ولا حرم
وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ أي لا ينقصون، والظاهر أن الضمير المجرور- للحياة الدنيا- وقيل: الأظهر أن يكون للأعمال لئلا يكون تكرارا بلا فائدة، وردّ بأن فائدته إفادته من أول الأمر أن عدم البخس ليس إلا في الدنيا فلو لم يذكر توهم أنه مطلق على أنه لا يجوز أن يكون للتأكيد ولا ضرر فيه، وإنما عبر عن ذلك بالبخس الذي هو نقص الحق، ولذلك قال الراغب: هو نقص الشيء على سبيل الظلم مع أنه ليس لهم شائبة حق فيما أوتوه كما عبر عن إعطائه بالتوفية التي هي إعطاء الحقوق مع أن أعمالهم بمعزل من كونها مستوجبة لذلك- كما قال بعض المحققين- بناء للأمر على ظاهر الحال ومحافظة على صور الأعمال ومبالغة في نفي النقص كأن ذلك نقص لحقوقهم فلا يدخل تحت الوقوع والصدور عن الكريم أصلا لكن ينبغي أن يعلم أن هذا ليس على إطلاقه بل الأمر دائر على المشيئة الجارية على قضية الحكمة كما نطق به قوله سبحانه: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء: ١٨].
وأخرج النحاس في ناسخه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هذه الآية نسخت الآية التي نحن فيها، وأنت تعلم أنه لا نسخ في الأخبار، ولعل هذا إن صح محمول على المسامحة أُولئِكَ إشارة إلى المذكورين باعتبار استمرارهم على إرادة الحياة الدنيا، أو باعتبار توفيتهم أجورهم فيها من غير بخس، أو باعتبارهما معا، وما فيه من معنى للإيذان ببعد منزلتهم في سوء الحال الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ لأن هممهم كانت مصروفة إلى اقتناص الدنيا وأعمالهم كانت ممدودة ومقصورة على تحصيلها وقد ظفروا بما يترتب على ذلك ولم يريدوا به شيئا آخر فلا جرم لم يكن لهم في الآخرة إلا النار وعذابها المخلد.
وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها أي في الآخرة كما هو الظاهر، فالجار متعلق- بحبط- وما تحتمل المصدرية والموصولية أي ظهر في الآخرة حبوط صنعهم، أو الذي صنعوه من الأعمال التي كانت تؤدي إلى الثواب الأخروي لو كانت معمولة للآخرة، ويجوز أن يعود الضمير إلى الدنيا فيكون الجار متعلقا- بصنعوا- وما على حالها، والمراد بحبوط الأعمال عدم مجازاتهم عليها لفقد الاعتداد بها لعدم الإخلاص الذي هو شرط ذلك، وقيل: لجزائهم عليها في الدنيا وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ قال أبو حيان: هو تأكيد لقوله سبحانه: حَبِطَ إلخ. والظاهر أنه حمل ما كانُوا يَعْمَلُونَ على معنى ما صَنَعُوا والبطلان على عدم النفع وهو راجع إلى معنى الحبوط.
ولما رأى بعضهم أن التأسيس أولى من التأكيد أبقى ما يَعْمَلُونَ على ذلك المعنى، وحمل بطلان ذلك على فساده في نفسه لعدم شرط الصحة، وقال: كأن كلّا من الجملتين علة لما قبلها على معنى ليس لهم في الآخرة إلا النار لحبوط أعمالهم وعدم ترتب الثواب عليها لبطلانها وكونها ليست على ما ينبغي، والأولى ما صنعه المولى أبو السعود عليه الرحمة حيث حمل البطلان على الفساد في نفسه، وما كانُوا يَعْمَلُونَ على أعمالهم في أثناء تحصيل المطالب الدنيوية. ثم قال: ولأجل أن الأول من شأنه استتباع الثواب والأجر وأن عدمه لعدم مقارنته للإيمان والنية الصحيحة، وأن الثاني ليس له جهة صالحة قط علق بالأول الحبوط المؤذن بسقوط أجره بصيغة الفعل المنبئ عن الحدوث، وبالثاني البطلان المفصح عن كونه بحيث لا طائل تحته أصلا بالاسمية الدالة على كون ذلك وصفا لازما له ثابتا فيه، وفي زيادة- كان- في الثاني دون الأول إيماء إلى أن صدور أعمال البر منهم وإن كان لغرض فاسد ليس في الاستمرار والدوام كصدور الأعمال التي هي مقدمات مطالبهم الدنيئة انتهى.
ويحتمل عندي على بعد أن يراد- بما كانوا يعملون- هو ما استمروا عليه من إرادة الحياة الدنيا وهو غير ما صنعوه من الأعمال التي نسب إليها الحبوط وإطلاق مثل ذلك على الإرادة مما لا بأس به لأنها من أعمال القلب، ووجه الإتيان- بكان- فيه موافقته لما أشار هو إليه، وفي الجملة تصريح باستمرار بطلان تلك الإرادة وشرح حالها بعد شرح حال المريد وشرح أعماله أراد بها الحياة الدنيا وزينتها، وأيا ما كان فالظاهر أن باطِلٌ خبر مقدم وما كانُوا هو المبتدأ، وجوز في البحر كون باطِلٌ خبرا بعد خبر، وما مرتفعة به على الفاعلية، وقرىء- وبطل- بصيغة الفعل أي ظهر بطلانه حيث علم هناك أن ذاك وما يستتبعه من الحظوظ الدنيوية مما لا طائل تحته أو انقطع أثره الدنيوي فبطل مطلقا، وقرأ أبي وابن مسعود- وباطلا- بالنصب ونسب ذلك إلى عاصم وخرجه صاحب اللوامح على أن ما سيف خطيب- وباطل- مفعول- ليعملون- وفيه تقديم معمول كان وفيه- كتقديم الخبر- خلاف، والأصح الجواز لظاهر قوله تعالى: أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ [سبأ: ٤٠] ومن منع تأول، وجوز أن يكون منصوبا- بيعملون- و «ما» إبهامية صفة له أي باطلا أي باطل، ونظير ذلك حديث ما على قصره ولأمر ما جدع قصير أنفه، وأن يكون مصدرا بوزن فاعل، وهو منصوب بفعل مقدر، و «ما» اسم موصول فاعله أي بطل بطلانا الذي كانوا يعملونه، ونظيره خارجا في قول الفرزدق:
ألم ترني عاهدت ربي وأنني | لبين رتاج قائما ومقام |
عليّ حلفة لا أشتم الدهر مسلما | ولا «خارجا» من في زور كلام |
اذهب فليس لك عندنا شيء، وهكذا لغيره من المتصدق والمقتول في الجهاد وغيرهما ممن عمل من أعمال البر لا لوجه الله تعالى، وربما يؤيد ذلك ما روي عن معاوية حين حدثه أبو هريرة بما تضمن ذلك فبكى، وقال: صدق الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها إلى قوله سبحانه: وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ وعليه فلا بد من تقييد قوله عز وجل: لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ بأن ليس لهم بسبب أعمالهم الريائية إلا ذلك وهو خلاف الظاهر، والسياق يقتضي أنها في الكفرة مطلقا وبرهم كما قلنا، ومن هنا اشتهر أن الكافر يعجل له ثواب أعماله في الدنيا بتوسعة الرزق وصحة البدن وكثرة الولد ونحو ذلك وليس لهم في الآخرة من نصيب لكن ذهب جماعة إلى أنه يخفف بها عنه عذاب الآخرة، ويشهد له قصة أبي طالب، وذهب آخرون إلى أن ما يتوقف على النية من الأعمال لا ينتفع الكافر به في الآخرة أصلا لفقدان شرطه إذ لم يكن من أهل النية لكفره، وما لا ينتفع به ويخفف به عذابه، وبذلك يجمع بين الظواهر المقتضي بعضها للانتفاع في الجملة وبعضها لعدمه أصلا فتدبر.
ووجه ارتباط هذه الآية بما قبلها على ما في مجمع البيان أنه سبحانه لما قال: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ؟ فكأن قائلا قال: إن أظهرنا الإسلام لسلامة النفس والمال يكون ماذا؟ فقيل: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا إلخ، أو يقال:
إن فيما قبل ما يتضمن إقناط الكفرة من أن يجيرهم آلهتهم من بأس الله عز سلطانه كما تقدم، وذكره بعض المحققين فلا يبعد أن يكون سماعهم ذلك سببا لعزمهم على إظهار الإسلام، أو فعل بعض الأعمال الصالحة ظنا منهم أن ذلك مما يجيرهم وينفعهم فشرح لهم حكم مثل ذلك بقوله سبحانه: مَنْ كانَ يُرِيدُ إلخ لكن أنت تعلم أن هذا يحتاج إلى ادعاء أن ذلك العزم من باب الاحتياط، وفي البحر في بيان المناسبة أنه سبحانه لما ذكر شيئا من أحوال الكفار في القرآن ذكر شيئا من أحوالهم الدنيوية وما يؤولون إليه في الآخرة، وأبو السعود بين ذلك على وجه يقوي به ما ادعاه من أنسبية كون الخطاب فيما سلف له عليه الصلاة والسلام والمؤمنين، فقال: والذي يقتضيه جزالة النظم الكريم أن المراد مطلق الكفرة بحيث يندرج فيهم القادحون في القرآن العظيم اندراجا أوليا فإنه عز وجل لما أمر نبيه صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين بأن يزدادوا علما ويقينا بأن القرآن منزل بعلم الله سبحانه وبأن لا قدرة لغيره سبحانه على شيء أصلا وهيجهم على الثبات على الإسلام والرسوخ فيه عند ظهور عجز الكفرة وما يدعون من دون الله تعالى عن المعارضة وتبين أنهم ليسوا على شيء أصلا اقتضى الحال أن يتعرض لبعض شؤونهم الموهمة لكونهم على شيء في الجملة من نيلهم الحظوظ العاجلة واستوائهم على المطالب الدنيوية، وبيان أن ذلك بمعزل عن الدلالة عليه، ولقد بين ذلك أي بيان انتهى، ولا يخفى أنه يمكن أن يقرر هذا على وجه لا يحتاج فيه إلى توسيط حديث جعل الخطاب السابق له صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين فليفهم، واستدل في الأحكام بالآية على أن ما سبيله أن لا يفعل إلا على وجه القربة لا يجوز أخذ الأجرة عليه لأن الأجرة من صفحة رقم 227
حظوظ الدنيا فمن أخذ عليه الأجرة خرج من أن يكون قربة بمقتضى الكتاب والسنة، وادعى الكيا أنها مثل
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات»
وتدل على أن من صام في رمضان لا عن رمضان لا يقع عن رمضان، وعلى أن من توضأ للتبرد أو التنظف لا يصح وضوءه، وفي ذلك خلاف مبسوط بما له وعليه في محله.
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ تدل على الحق والصواب فيما يأتيه ويذره، ويدخل في ذلك الإسلام دخولا أوليا، واقتصر عليه بعضهم بناء على أنه المناسب لما بعد، وأصل- البينة- كما قيل: الدلالة الواضحة عقلية كانت أو محسوسة، وتطلق على الدليل مطلقا، وهاؤها للمبالغة، أو النقل، وهي وإن قيل: إنها من بان بمعنى تبين واتضح لكنه اعتبر فيها دلالة الغير والبيان له، وأخذها بعضهم من صيغة المبالغة، والتنوين فيها هنا للتعظيم أي بينة عظيمة الشأن، والمراد بها القرآن وباعتبار ذلك أو البرهان ذكر الضمير الراجع إليها في قوله سبحانه: وَيَتْلُوهُ أي يتبعه شاهِدٌ عظيم يشهد بكونه من عند الله تعالى شأنه وهو- كما قال الحسين بن الفضل- الإعجاز في نظمه، ومعنى كون ذلك تابعا له أنه وصف له لا ينفك عنه حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها فلا يستطيع أحد من الخلق جيلا بعد جيل معارضته ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. وكان الضمير في مِنْهُ وهو متعلق بمحذوف وقع صفة لشاهد، ومعنى كونه منه أنه غير خارج عنه.
وجوز أن يكون هذا الضمير راجعا إلى الرب سبحانه، ومعنى كونه منه تعالى أنه وارد من جهته سبحانه للشهادة، وعلى هذا يجوز أن يراد بالشاهد المعجزات الظاهرة على يد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإنها من الشواهد التابعة للقرآن الواردة من قبله عز وجل، وأمر التبعية فيها ظاهر، والمراد بالموصول كل من اتصف بتلك الكينونة من المؤمنين.
وعن أبي العالية أنه النبي عليه الصلاة والسلام ولا يخفى أن قوله سبحانه الآتي: أُولئِكَ إلخ لا يلائمه إلا أن يحمل على التعظيم، وأيضا إن السياق كما ستعلم إن شاء الله تعالى للفرق بين الفريقين المؤمنين ومن يريد الحياة الدنيا لا بينهم وبين النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفسر أبو مسلم وغيره البينة بالدليل العقلي، والشاهد بالقرآن وضمير مِنْهُ لله تعالى، ومن ابتدائية، أو للقرآن فقد تقدم ذكره، ومن حينئذ إما بيانية، وإما تبعيضية بناء على أن القرآن ليس كله شاهدا وليس من التجريد على ما توهم الطيبي، فيكون في الآية إشارة إلى الدليلين العقلي، والسمعي، ومعنى كون الثاني تابعا للأول على ما قيل: إنه موافق له لا يخالفه أصلا، ومن هنا قالوا: إن النقل الصحيح لا يخالف العقل الصريح، ولذا أولوا الدليل السمعي إذا خالف ظاهره الدليل العقلي، ولعل في التعبير عن الأول بالبينة التي جاء إطلاقها في كلام الشارع على شاهدين، وعن الثاني بالشاهد الإيماء إلى أن الدليل العقلي أقوى دلالة من الدليل السمعي لأن دلالة الأول قطعية، ودلالة الثاني ظنية غالبا للاحتمالات الشهيرة التي لا يمكن القطع معها، وقد يقال: إن التعبير عن الثاني بالشاهد لمكان التلو.
وعن ابن عباس، ومجاهد، والنخعي، والضحاك، وعكرمة، وأبي صالح، وسعيد بن جبير أن البينة القرآن، والشاهد هو جبريل عليه السلام- ويتلو- من التلاوة لا التلو، وضمير مِنْهُ لله تعالى، وفي رواية عن مجاهد أن الشاهد ملك يحفظ القرآن وليس المراد الحفظ المتعارف لأنه- كما قال ابن حجر- خاص بجبريل عليه السلام، وضمير مِنْهُ كما في سابقه إلا أن يتلو من التلو والضمير المنصوب للبينة، وقيل: لمن كان عليها، وعن الفراء أن الشاهد هو الإنجيل، وَيَتْلُوهُ وضمير مِنْهُ على طرز ما روي عن مجاهد سوى أن ضمير- يتلوه- للقرآن.
وأخرج أبو الشيخ عن محمد بن الحنفية أن الشاهد لسانه صلّى الله عليه وسلّم، وقد ذكر أهل اللغة ذلك، وكذا الملك من معانيه، ويتلو- حينئذ من التلاوة، والإسناد مجازي ومفعوله للبينة، وضمير مِنْهُ للرسول صلّى الله عليه وسلّم بناء على أنه المراد
بالموصول، ومن تبعيضية، وقيل: الشاهد صورته عليه الصلاة والسلام ومخائله لأن كل عاقل يراه يعلم أنه عليه الصلاة والسلام رسول الله.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: «ما من رجل من قريش إلا نزل فيه طائفة من القرآن، فقال له رجل: ما نزل فيك؟ قال: أما تقرأ سورة هود أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ الآية من كان على بينة من ربه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا شاهد منه»، وأخرج المنهال عن عبادة بن عبد الله مثله،
وأخرج ابن مردويه بوجه آخر عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ أنا وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ علي.
وأخرج الطبرسي نحو ذلك عن بعض أهل البيت رضي الله تعالى عنهم وتعلق به بعض الشيعة في أن عليا كرم الله تعالى وجهه هو خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأن الله تعالى سماه شاهدا كما سمى نبيه عليه الصلاة والسلام كذلك في قوله سبحانه: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً [الفتح: ٨] والمراد شاهِداً على الأمة كما يشهد له عطف مُبَشِّراً وَنَذِيراً عليه فينبغي أن يكون مقامه كرم الله تعالى وجهه بين الأمة كمقامه عليه الصلاة والسلام بينهم.
وحيث أخبر سبحانه أنه يتلوه أي يعقبه ويكون بعده دل على أنه خليفته، وأنت تعلم أن الخبر مما لا يكاد يصح، وفيما سيأتي في الآية إن شاء الله تعالى إباء عنه، ويكذبه ما أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والطبراني في الأوسط عن محمد بن الحنفية رضي الله تعالى عنه قال: قلت لأبي كرم الله تعالى وجهه: إن الناس يزعمون في قول الله تعالى: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ أنك أنت التالي؟ قال: وددت أني هو ولكنه لسان محمد صلّى الله عليه وسلّم، على أن في تقرير الاستدلال ضعفا وركاكة بلغت الغاية القصوى كما لا يخفى على من له أدنى فطنة.
ونقل أبو حيان أن هذا الشاهد هو أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وفيه ما فيه، وفي عطف- يتلوه- احتمالان: الأول أن يكون على ما وقع صفة لبينة، والثاني أن يكون على جملة «كان» ومرفوعها، وقوله سبحانه: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى عطف على شاهِدٌ والضمير المجرور له، وقد توسط الجار والمجرور بينهما، والظاهر أنه متعلق بمحذوف وقع حالا من الكتاب أي وَيَتْلُوهُ في التصديق كِتابُ مُوسى منزلا من قبله، وحاصله أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ويشهد لصدقه شاهد منه وشاهد آخر من قبله وهو كتاب موسى، قيل: وإنما قدم في الذكر المؤخر في النزول لكونه وصفا لازما له غير مفارق عنه ولعراقته في وصف التلو، وهذا على تقدير أن يكون المراد بالشاهد الإعجاز- كما اختاره بعض المحققين- وقد يقال: إن تأخير بيان شهادة هذا الشاهد عن بيان شهادة الشاهد الأول لأنها ليست في الظهور عند الأمة كشهادة الأول وهو جار على غير ذلك التقدير أيضا، وتخصيص كتاب موسى عليه السلام بالذكر بناء على عدم إرادة الإنجيل فيما تقدم لأن الملتين مجتمعتان على أنه من عند الله تعالى بخلاف الإنجيل فإن اليهود مخالفون فيه فكان الاستشهاد بما تقوم به الحجة على الفريقين أولى.
وأوجب بعضهم كون وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى جملة مبتدأة غير داخلة في حيز شيء مما قبلها وهو مبني على كثير من الاحتمالات السابقة في الشاهد، وقرأ محمد بن السائب الكلبي وغيره كِتابُ بالنصب على أنه معطوف على مفعول- يتلوه- أو منصوب بفعل مقدر أي ويتول كتاب موسى، والأول أولى لأن الأصل عدم التقدير، ويتلو في هذه القراءة من التلاوة، والضمير المنصوب للقرآن والمجرور لمن، ومِنْ تبعيضية لا تجريدية، والمعنى على ما يقتضيه كلام الكشاف أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ على أن القرآن حق لا مفترى، والمراد به أهل الكتاب ممن كان يعلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على الحق وأن كتابه هو الحق لما كانوا وجدوه في التوراة، ويقرأ القرآن شاهد من هؤلاء، ويقرأ من قبل القرآن كتاب موسى، والمراد بهذا الشاهد ما أريد به في قوله سبحانه: وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي
إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ [الأحقاف: ١٠] وهو عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه، ففي الآية مدح أهل الكتاب وخص من بينهم تالي الكتابين وشاهدهم بالذكر دلالة على مزيد فضله وتنبيها على أنهم مشايعوه في اتباع الحق وإن لم يبلغوا رتبة الشاهد، وفي قوله تعالى: يَتْلُوهُ استحضار للحال ودلالة على استمرار التلاوة، وهو كما قيل في غاية التطابق للكلام إِماماً، أي مؤتما به في الدين ومقتدى، وفي التعرض لهذا الوصف مع بيان تلو الكتاب ما لا يخفى من تفخيم شأن المتلو والتنوين فيه للتعظيم، وكذا في قوله سبحانه: وَرَحْمَةً أي نعمة عظيمة على من أنزل إليهم ومن بعدهم إلى يوم القيامة باعتبار أحكامه الباقية المؤيدة بالقرآن العظيم وهما حالان من الكتاب أُولئِكَ أي الموصوفون بتلك الصفة الحميدة وهي الكون على بينة يُؤْمِنُونَ بِهِ أي يصدقون بالقرآن حق التصديق حسبما يشهد به تلك الشواهد الحقة المعربة عن حقيته ولا يقلدون أحدا من عظماء الدين فالضمير للقرآن، وقيل: إنه لكتاب موسى عليه السلام لأنه أقرب ولا يناسب ما بعد، وإن لم يك خاليا عن الفائدة، وقيل: إنه للنبي صلّى الله عليه وسلّم وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ أي بالقرآن ولم يعتد بتلك الشواهد الحقة ولم يصدق بها مِنَ الْأَحْزابِ من أهل مكة ومن تحزب معهم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قاله بعضهم، وأخرج عبد الرزاق عن قتادة أن الأحزاب الكفار مطلقا فإنهم تحزبوا على الكفر، وروي ذلك عن ابن جبير، وفي رواية أبي الشيخ عن قتادة أنهم اليهود والنصارى، وقال السدي: هم قريش، وقال مقاتل: هم بنو أمية وبنو المغيرة ابن عبد الله المخزومي وآل أبي طلحة بن عبيد الله فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ أي يردها لا محالة حسبما نطق به قوله سبحانه:
لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وآيات أخر، والموعد اسم مكان الوعد كما في قول حسان:
أوردتموها حياض الموت ضاحية | فالنار موعدها والموت لاقيها |
تقرر أن الآية مرتبطة بقوله سبحانه: مَنْ كانَ إلخ، ومساقها عند شيخ الإسلام للترغيب أيضا فيما ذكر من الإيمان بالقرآن والتوحيد والإسلام، وادعى الطبرسي أنها مرتبطة بقوله تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ [هود: ١٣] وأن المراد أنهم إذا لم يأتوا بذلك فقل لهم: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ ولا بينة على ذلك.
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن نسب إليه ما لا يليق به كقولهم: الملائكة بنات الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وقولهم لآلهتهم: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يونس: ١٨] والمراد من الآية ذم أولئك الكفرة بأنهم مع كفرهم بآيات الله تعالى مفترون عليه سبحانه، ويجوز أن تكون لنوع آخر من الدلالة على أن القرآن ليس بمفترى، فإن من يعلم حال من يفتري على الله سبحانه كيف يرتكبه، وأن تكون من الكلام المنصف أي لا أحد أظلم مني أن أقول لما ليس بكلام الله تعالى إنه كلامه كما زعمتم، أو منكم إن كنتم نفيتم أن يكون كلامه سبحانه مع تحقق أنه كلامه جل وعلا، وفيه من الوعيد والتهويل ما لا يخفى، ويجوز عندي إذا كان ما قبل في مؤمني أهل الكتاب أن يكون هذا في بيان حال كفرتهم الذين أسندوا إليه سبحانه ما لم ينزله من المحرف الذي صنعوه ونفوا عنه سبحانه ما أنزله من القرآن أو من نعت النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأيا ما كان فالمراد نفي أن يكون أظلم من ذلك أو مساويا في الظلم على ما تقدم أُولئِكَ أي الموصوفون بالظلم البالغ وهو الافتراء يُعْرَضُونَ من حيث إنهم موصوفون بذلك عَلى رَبِّهِمْ أي مالكهم الحق والمتصرف فيهم حسبما يريد، وفيه على ما قيل: إيماء إلى بطلان رأيهم في اتخاذهم أربابا من دونه سبحانه وتعالى، وجعل بعضهم الكلام على تقدير المضاف أي تعرض أعمالهم، أو على ارتكاب المجاز ولا يحتاج إلى ذلك على ما أشير إليه لأن عرضهم من تلك الحيثية وبذلك العنوان عرض لأعمالهم على وجه أبلغ فإن عرض العامل بعمله أفظع من عرض عمله مع غيبته، والظاهر أنه لا حذف في قوله سبحانه: عَلى رَبِّهِمْ ويفوض من يقف على الله.
وقيل: هناك مضاف محذوف أي على ملائكة ربهم وأنبياء ربهم وهم المراد بالأشهاد في قوله تعالى: وَيَقُولُ الْأَشْهادُ وتفسيرهم بالملائكة مطلقا هو المروي عن مجاهد، وعن ابن جريج تفسيرهم بالحفظة من الملائكة عليهم السلام، وقيل: المراد بهم الملائكة، والأنبياء، والمؤمنون، وقيل: جوارحهم، وعن مقاتل وقتادة هم جميع أهل الموقف، وهو جمع شاهد بمعنى حاضر- كصاحب وأصحاب- بناء- على جواز جمع فاعل على أفعال، أو جمع شهيد بمعناه كشريف وأشراف أي ويقول الحاضرون عند العرض أو في موقف القيامة هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ ويحتمل أن يكون شهادة على تعيين من صدر منه الكذب كأن وقوعه أمر واضح غني عن الشهادة، وإنما المحتاج إليها ذلك ولذا لم يقولوا: هؤلاء كذبوا بدون الموصول، ويحتمل أن يكون ذما لهم بتلك الفعلة الشنيعة لا شهادة عليهم كما يشعر به قوله تعالى: وَيَقُولُ دون ويشهد، وتوطئة لما يعقبه من قوله تعالى: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ أي بالافتراء المذكور، والظاهر أن هذا من كلام الأشهاد على الاحتمالين، ويؤيده ما
أخرجه الشيخان وخلق كثير عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله تعالى يدني المؤمن حتى يضع كنفه عليه ويستره من الناس ويقرره بذنوبه ويقول له: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: رب أعرف حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ثم يعطي كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون فيقول: الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين».
وجوز على الاحتمال الأول أن يكون من كلام الله تعالى، وحينئذ يجوز أن يراد بالظالمين ما يعم الظالمين بالافتراء والظالمين بغير ذلك، ويدخل فيه الأولون دخولا أولياء، ويؤيده ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران
قال: إن الرجل ليصلي ويلعن نفسه في قراءته فيقول: ألا لعنة الله على الظالمين وهو ظالم. وربما يجوز ذلك على الاحتمال الثاني أيضا، وأيّا ما كان- فهؤلاء الذين- مبتدأ وخبر، واحتمال أن يكون هؤُلاءِ مبتدأ، والَّذِينَ تابع له، وجملة أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ خبره، وقد أقيم الظاهر مقام المضمر أي عليهم لذمهم بمبدأ الاشتقاق مع الإشارة إلى علة الحكم كما ترى، وجملة- يقول الأشهاد- قيل: مستأنفة على أنها جواب سؤال مقدر كأن سائلا سأل إذ سمع أنهم يعرضون على ربهم ماذا يكون إذ ذاك؟ فأجيب بما ذكر، وقيل وهو الظاهر- إنها معطوفة على جملة يُعْرَضُونَ على معنى أولئك يعرضون ويقول الأشهاد في حقهم، أو ويقول أشهادهم والحاضرون عند عرضهم هؤُلاءِ إلخ، وكأن هذا لبيان أنها مرتبطة في التقدير بالمبتدأ كارتباط الجملة المعطوفة هي عليها به، وقيل: كفى اسم الإشارة القائم مقام الضمير للتحقير رابطا فتدبر.
الَّذِينَ يَصُدُّونَ أي كل من يقدرون على صده أو يفعلون الصد عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي دينه القويم وإطلاق ذلك عليه كالصراط المستقيم مجاز وَيَبْغُونَها عِوَجاً أي يطلبون لها انحرافا، والمراد أنهم يصفونها بذلك وهي أبعد شيء عنه، وإطلاق الطلب على الوصف مجاز من إطلاق السبب على المسبب، ويجوز أن يكون الكلام على حذف مضاف أي يبغون أهلها أن ينحرفوا عنها ويرتدوا، وقيل: المعنى يطلبونها على عوج ونصب عِوَجاً على أنه مفعول به، وقيل: على أنه حال ويؤول بمعوجين وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ أي والحال أنهم لا يؤمنون بالآخرة، وتكرير الضمير لتأكيد كفرهم واختصاصهم به لأنه بمنزلة الفصل فيفيد الاختصاص وضربا من التأكيد، والاختصاص ادعائي مبالغة في كفرهم بالآخرة كأن كفر غيرهم بها ليس بكفر في جنبه، وقيل: إن التكرير للتأكيد وتقديم بِالْآخِرَةِ للتخصيص، والأولى كون تقديمه لرؤوس الآي.
أُولئِكَ الموصوفون بما يوجب التدمير لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ لله تعالى مفلتين أنفسهم من أخذه لو أراد ذلك فِي الْأَرْضِ مع سعتها وإن هربوا منها كل مهرب بعضهم كناية عن الدنيا وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ينصرونهم من بأسه ولكن أخر ذلك لحكمة تقتضيه. ومِنْ زائدة لاستغراق النفي، وجمع أَوْلِياءَ إما باعتبار أفراد الكفرة كأنه قيل: وما كان لأحد منهم من ولي، أو باعتبار تعدد ما كانوا يدعون من دون الله تعالى فيكون ذلك بيانا لحال آلهتهم من سقوطها عن رتبة الولاية يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ جملة مستأنفة بين فيها ما يكون لهم ويحل بهم، وادعى أنها تتضمن حكمة تأخير المؤاخذة، وزعم بعضهم أنها من كلام الأشهاد، وهي دعائية ليس بشيء.
وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب- «يضعّف» - بالتشديد ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ أي إنهم كانوا يستثقلون سماع الحق الذي جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم ويستكرهونه إلى أقصى الغايات حتى كأنهم لا يستطيعونه، وهو نظير قول القائل: العاشق لا يستطيع أن يسمع كلام العاذل، ففي الكلام استعارة تصريحية تبعية، ولا مانع من اعتبار الاستعارة التمثيلية بدلها وإن قيل به، وبالجملة لا ترد الآية على المعتزلة وكذا على أهل السنة لأنهم لا ينفون الاستطاعة رأسا وإن منعوا إيجاد العبد لشيء ما، وكأنه لما كان قبح حالهم في عدم إذعانهم للقرآن الذي طريق تلقيه السمع أشد منه في عدم قبولهم سائر الآيات المنوطة بالإبصار. بالغ سبحانه في نفي الأول عنهم حسبما علمت واكتفى في الثاني بنفي الإبصار فقال عز قائلا: وَما كانُوا يُبْصِرُونَ أي أنهم كانوا يتعامون عن آيات الله تعالى المبسوطة في الأنفس والآفاق، وكأن الجملة جواب سؤال مقدر عن علة مضاعفة العذاب كأنه قيل: ما لهم استوجبوا تلك المضاعفة؟ فقيل:
لأنهم كرهوا الحق أشد الكراهة واستثقلوا سماعه أعظم الاستثقال وتعاموا عن آيات الملك المتعال، ولا يشكل على
هذا قوله سبحانه: مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الأنعام: ١٦٠] بناء على أن المراد بمثل السيئة ما تقتضيه من العقاب عند الله تعالى فلعل ما فعلوه من السيئات يقتضي تلك المضاعفة فتكون هي المثل كما أن مثل سيئة الكفر هو الخلود في النار، وقيل: إن المضاعفة لافترائهم وكذبهم على ربهم وصدّهم عن سبيل الله تعالى وبغيهم إياها العوج وكفرهم بالآخرة- على ما يدل عليه نسبة مضاعفة العذاب إلى هؤلاء الموصوفين بتلك الصفات- وبه جمع بين ما هنا وقوله سبحانه: مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ [الأنعام: ١٠٦] الآية، ولعل التعليل بما تفيده الجملة على هذا لأنه الأصل الأصيل لسائر قبائحهم ومعاصيهم.
وزعم بعضهم أن المضاعفة لحفظ الأصل إذ لولا ذلك لارتفع ولم يبق عذابا للألف بطول الأمد وفيه ما فيه، وقيل: إن الجملة بيان لما نفي من ولاية الآلهة فإن ما لا يسمع ولا يبصر بمعزل عن الولاية وقوله سبحانه: يُضاعَفُ إلخ اعتراض وسط بينهما نعيا عليهم من أول الأمر بسوء العاقبة، وفيه أنه مخالف للسياق ومستلزم تفكيك الضمائر، وجوز أبو البقاء أن تكون ما مصدرية ظرفية أي يضاعف لهم العذاب مدة استطاعتهم السمع وإبصارهم، والمعنى أن العذاب وتضعيفه دائم لهم متماد، وأجاز الفراء أن تكون مصدرية وحذف حرف الجر منها كما يحذف من أن وأن، وفيه بعد لفظا ومعنى أُولئِكَ
الموصوفون بتلك القبائح.
الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
باشتراء عبادة الآلهة بعبادة الله تعالى شأنه، وقيل: خَسِرُوا
بسبب تبديلهم الهداية بالضلالة والآخرة بالدنيا وضاع عنهم ما حصلوه بذلك التبديل من متاع الحياة الدنيا والرياسة.
وفي البحر أنه على حذف مضاف أي خَسِرُوا
سعادة أنفسهم وراحتها فإن أنفسهم باقية معذبة.
وتعقب بأن إبقاءه على ظاهره أولى لأن البقاء في العذاب كلا بقاء وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ
من الآلهة وشفاعتها لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ أي لا أحد أبين أو أكثر خسرانا منهم، فأفعل للزيادة إما في الكم أو الكيف، وتعريف المسند بلام الجنس لإفادة الحصر، وإن جعل هُمُ ضمير فصل أفاد تأكيد الاختصاص، وإن جعل مبتدأ وما بعده خبره والجملة خبر أن أفاد تأكيد الحكم، وفي لا جَرَمَ أقوال: ففي البحر عن الزجاج أن- لا- نافية ومنفيها محذوف أي لا ينفعهم فعلهم مثلا، وجرم- فعل ماض بمعنى كسب يقال: جرمت الذنب إذا كسبته وقال الشاعر:
نصبنا رأسه في جذع نخل | بما «جرمت» يداه وما اعتدينا |
وذكر أبو حيان أن مذهب سيبويه وكذا الخليل أيضا كون مجموع لا جَرَمَ بمعنى حق وأن ما بعده رفع به على الفاعلية، وقيل: لا صلة وجَرَمَ فعل بمعنى كسب أو حق، وعن الكسائي أن لا نافية وجَرَمَ اسمها مبني معها على الفتح نحو لا رجل، والمعنى لا ضد ولا منع، والظاهر أن الخبر على هذا محذوف وحذف حرف الجر من أن ويقدر حسبما يقتضيه المعنى، وقيل: إن جَرَمَ اسم لا ومعناه القطع من جرمت الشيء أي قطعته، والمعنى لا قطع لثبوت أكثرية خسرانهم أي إن ذلك لا ينقطع في وقت فيكون خلافه.
ونقل السيرافي عن الزجاج أن لا جَرَمَ في الأصل بمعنى لا يدخلنكم في الجرم أي الإثم كإثمه أي أدخله في الإثم، ثم كثر استعماله حتى صار بمعنى لا بد، ونقل هذا المعنى عن الفراء، وفي البحر أن جَرَمَ عليه اسم صفحة رقم 233
لا، وقيل: إن جَرَمَ بمعنى باطل إما على أنه موضوع له، وإما أنه بمعنى كسب والباطل محتاج له، ومن هنا يفسر لا جَرَمَ بمعنى حقا لأن الحق نقيض الباطل، وصار لا باطل يمينا كلا كذب في
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنا النبي لا كذب»
وفي القاموس أنه يقال: لا جَرَمَ ولاذا جرم ولا أن ذا جرم ولا عن ذا جرم ولا جرم ككرم، ولا جَرَمَ بالضم أي لا بد أو حقا أو لا محالة وهذا أصله ثم كثر حتى تحول إلى معنى القسم فلذلك يجاب عنه باللام، فيقال:
لا جَرَمَ لآتينك انتهى، وفيه مخالفة لما نقله السيرافي عن الزجاج، وما ذكره من لا جَرَمَ ككرم رواه بعضهم عن أبي عمرو في الآية، ومن لا ذا جرم حكاه الفراء عن بني عامر، وحكي أيضا لا جَرَمَ بالضم عن أناس من العرب، ولكن قال الشهاب: إن في ثبوت هذه اللغة في فصيح كلامهم ترددا، وجرم فيها يحتمل أن يكون اسما وأن يكون فعلا مجهولا سكن للتخفيف، وحكى بعضهم لا ذو جرم ولا عن جرم ولا جر بحذف الميم لكثرة الاستعمال كما حذفت الفاء من سوف لذلك في قولهم: سو ترى.
والظاهر أن المقحمات بين لا وجَرَمَ زائدة، وإليه يشير كلام بعضهم، وحكي بغير لا جرم أنك أنت فعلت ذاك، ولعل المراد أن كونك الفاعل لا يحتاج إلى أن يقال فيه لا جرم فليراجع ذاك والله تعالى يتولى هداك.
ثم إنه تعالى لما ذكر طريق الكفار وأعمالهم وبين مصيرهم وما لهم شرع في شرح حال أضدادهم وهم المؤمنون وبيان ما لهم من العواقب الحميدة تكملة لما سلف من محاسن المؤمنين المذكورة عند جمع في قوله سبحانه: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ الآية ليتبين ما بينهما من التباين البين حالا ومآلا فقال عز من قائل:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا أي صدقوا بكل ما يجب التصديق به من القرآن وغيره ولا يكون ذلك إلا باستماع الحق ومشاهدة الآيات الآفاقية والأنفسية والتدبر فيها، أو المعنى فعلوا الإيمان واتصفوا به كما في فلان يعطي ويمنع وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الأعمال الصالحات ولعل المراد بها ما يشمل الترغيب في سلوك سبيل الله عز وجل ونحوه مما على ضده فريق الكفار وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أي اطمأنوا إليه سبحانه وخشعوا له، وأصل الإخبات نزول الخبت وهو المنخفض من الأرض، ثم أطلق على اطمئنان النفس والخشوع تشبيها للمعقول بالمحسوس ثم صار حقيقة فيه، ومنه الخبيت بالتاء المثناة للدنيء، وقيل: إن التاء بدل من الثاء المثلثة أُولئِكَ المنعوتون بتلك النعوت الجليلة الشأن أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون أبدا وليس المراد حصر الخلود فيها لأن العصاة من المؤمنين يدخلون الجنة عند أهل الحق ويخلدون فيها، ولعل من يدعي ذلك يريد بنفي الخلود عن العصاة نقصه من أوله كما قيل به فيما ستسمعه إن شاء الله تعالى مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ المذكورين من المؤمنين والكفار أي حالهما العجيب، وأصل المثل كالمثل النظير ثم استعير لقول شبه مضربه بمورده ولا يكون إلا لما فيه غرابة وصار في ذلك حقيقة عرفية، ومن هنا يستعار للقصة والحال والصفة العجيبة.
كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ أي كحال من جمع بين العمى والصمم، ومن جمع بين البصر والسمع فهناك تشبيهان: الأول تشبيه حال الكفرة الموصوفين بالتعامي والتصام عن آيات الله تعالى بحال من خلق أعمى أصم لا تنفعه عبارة ولا إشارة، والثاني تشبيه حال الذين آمنوا وعملوا الصالحات فانتفعوا بأسماعهم وأبصارهم اهتداء إلى الجنة وانكفاء عما كانوا خابطين فيه من ضلال الكفر والدجنة بحال من هو بصير سميع يستضيء بالأنوار في الظلام ويستفيء بمغانم الإنذار والإبشار فوزا بالمرام، والعطف لتنزيل تغاير الصفات منزلة تغاير الذوات كما في قوله:
يا لهف زيابة للحرث الص... ابح فالغانم فالآيب
ويحتمل أن يكون هناك أربع تشبيهات بأن يعتبر تشبيه حال كل من الفريقين الفريق الكافر والفريق المؤمن بحال
اثنين أي مثل الفريق الكافر كالأعمى ومثله أيضا كالأصم، ومثل الفريق المؤمن كالبصير ومثله أيضا كالسميع، وقد يعتبر تنويع كل من الفريقين إلى نوعين فيشبه نوع من الكفار بالأعمى ونوع منهم بالأصم ويشبه نوع من المؤمنين بالبصير ونوع منهم بالسميع، واستبعد ذلك إذ تقسيم الكفار إلى مشبه بالأول ومشبه بالثاني وكذلك المؤمنون غير مقصود البتة بدليل نظائره في الآيات الأخر كقوله سبحانه: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ [فاطر: ١٩، غافر: ٥٨] وكقوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [البقرة: ٧] في الكفار الخلص، وقوله تبارك وتعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [البقرة:
١٨، ١٧١] في المنافقين، وللآية على احتمالاتها شبه في الجملة بقول امرئ القيس:
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا | لدى وكرها العناب والحشف البالي |
وفي البحر إنما لم يجىء التركيب كالأعمى والبصير، والأصم والسميع ليكون كل من المتقابلين على إثر مقابلة لأنه تعالى لما ذكر انسداد العين أتبعه بانسداد السمع، ولما ذكر انفتاح البصر أتبعه بانفتاح السمع وذلك هو الأسلوب في المقابلة والأتم في الإعجاز، وسيأتي إن شاء الله تعالى نظير ذلك في قوله سبحانه: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى [طه: ١١٨، ١١٩] ثم الظاهر مما تقدم أن الكلام على حذف مضاف وهو مجرور بالكاف، والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع خبرا عن مثل.
وجوز أن تكون الكاف نفسها خبر المبتدأ ويكون معناها معنى المثل، ولا حاجة إلى تقدير مضاف أي مثل الفريقين مثل الأعمى والأصم والبصير والسميع هَلْ يَسْتَوِيانِ يعني الفريقين المذكورين، والاستفهام إنكاري مذكر على ما قيل: لما سبق من إنكار المماثلة في قوله سبحانه: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ إلخ مَثَلًا أي حالا وصفة ونصبه على التمييز المحول عن الفاعل، والأصل هل يستوي مثلهما.
وجوز ابن عطية أن يكون حالا، وفيه بعد أَفَلا تَذَكَّرُونَ أي أتشكون في عدم الاستواء وما بينهما من التباين أو تغفلون عنه فلا تتذكرونه بالتأمل فيما ذكر لكم من المثل، فالهمزة للاستفهام الإنكاري وهو وارد على المعطوفين معا أو أتسمعون هذا فلا تتذكرون فيكون الإنكار واردا على عدم التذكر بعد تحقق ما يوجب وجوده وهو المثل المضروب أي أفلا تفعلون التذكر، أو أفلا تعقلون، ومعنى إنكار عدم التذكر استبعاده من المخاطبين وأنه مما لا يصح أن يقع، وليس من قبيل الإنكار في أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وهَلْ يَسْتَوِيانِ فإن ذلك لنفي المماثلة ونفي الاستواء، ثم إنه تعالى شرع في ذكر قصص الأنبياء الداعين إلى الله تعالى وبيان حالهم مع أممهم ليزداد صلّى الله عليه وسلّم تشميرا في الدعوة وتحملا لما يقاسيه من المعاندين، فقال عز من قائل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ الواو ابتدائية صفحة رقم 235
واللام واقعة في جواب قسم محذوف ويقدر حرفه ياء لا واو وإن كان هو الشائع لئلا يجتمع واوان. وبعضهم يقدرها- ولا يبالي بذلك..
ونوح في المشهور ابن لمك بن متوشلخ بن إدريس عليه السلام وأنه أول نبي بعث بعده قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: بعث عليه السلام على رأس أربعين من عمره ولبث يدعو قومه ما قص الله تعالى ألف سنة إلا خمسين عاما وعاش بعد الطوفان ستين سنة وكان عمره ألفا وخمسين سنة. وقال مقاتل: بعث وهو ابن مائة سنة، وقيل: ابن خمسين، وقيل: ابن مائتين وخمسين ومكث يدعو قومه ما قص سبحانه وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة فكان عمره ألفا وأربعمائة وخمسين سنة إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ بالكسر على إرادة القول أي فقال أو قائلا.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالفتح على إضمار حرف الجر أي ملتبسا بذلك الكلام وهو إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ فلما اتصل الجار فتح كما فتح في كان، والمعنى على الكسر وهو قولك: إن زيدا كالأسد بناء على أن كان مركبة وليست حرفا برأسه، وليس في ذلك خروج من الغيبة إلى الخطاب خلافا لأبي علي، ولعل الاقتصار على ذكر كونه عليه السلام نذيرا لأنهم لم يغتنموا مغانم إبشاره عليه السلام مُبِينٌ أي موضح لكم موجبات العذاب ووجه الخلاص منه أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ أي بأن لا تعبدوا إلا الله على أن أَنْ مصدرية والباء متعلقة- بأرسلنا- ولا ناهية أي أرسلناه ملتبسا بنهيهم عن الإشراك إلا أنه وسط بينهما بيان بعض أوصافه ليكون أدخل في القبول ولم يفعل ذلك في صدر السورة لئلا يكون من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه، وجوز كون أَنْ وما بعدها في تأويل مصدر مفعولا- لمبين- أي مبينا النهي عن الإشراك، ويجوز أن تكون أَنْ مفسرة متعلقة- بأرسلنا- أو- بنذير- أو- بمبين- أي أرسلناه بشيء أو نذير بشيء أو مبين شيئا هو أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ لكن قيل: الإنذار في هذا غير ظاهر وهذا على قراءة الكسر فيما مر، وأما على قراءة الفتح فإن لا إلخ بدل من إِنِّي لَكُمْ إلخ ويقدر القول بعد أَنْ فيكون التقدير أرسلناه بقوله: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ، وبقوله لا تَعْبُدُوا فهو بدل البعض أو الكل على المبالغة، وادعاء أَنْ الإنذار كله هو، وجاز أن لا يقدر القول، فالأظهر حينئذ بدل الاشتمال، ومن زعم أنه كذلك مطلقا إذ لا علاقة بينهما بجزئية أو كلية فقد غفل عن أنه على تقدير القول يكون قوله تعالى: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ المعلل به النهي من جملة المقول، وهو إنذار خاص فيكون ذلك بعضا له أو كلّا على الادعاء، والظاهر أن المراد- باليوم- يوم القيامة، وجوز أن يكون يوم الطوفان، ووصفه- بالأليم- أي المؤلم على الإسناد المجازي لأن المؤلم هو الله سبحانه نزل الظرف منزلة الفاعل نفسه لكثرة وقوع الفعل فيه، فجعل كأنه وقع الفعل منه، وكذا وصف العذاب بذلك في غير موضع من القرآن العظيم ويمكن اعتباره هنا أيضا، وجعل الجر للجوار، ووجه التجوز حينئذ أنه جعل وصف الشيء لقوة تلبسه به كأنه عينه فأسند إليه ما يسند إلى الفاعل، ونظير ذلك على الوجهين نهاره صائم، وجد جده، وقد يقال: إن وصف العذاب بالإيلام حقيقة عرفية ومثله يعدّ فاعلا في اللغة، فيقال:
آلمه العذاب من غير تجوز، قيل: وهذه المقالة- وكذا ما في معناها- مما قص في غير آية لما لم تصدر عنه عليه السلام مرة واحدة بل كان يكررها في مدته المتطاولة حسبما نطق به قوله تعالى حكاية عنه: رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً [نوح: ٥] الآيات عطف على فعل الإرسال المقارن لها أو القول المقدر بعده جوابهم المتعرض لأحوال المؤمنين الذين اتبعوه بعد اللتيا والتي بالفاء التعقيبية فقال سبحانه: فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ أي الأشراف منهم- وهو كما قال غير واحد- من قولهم: فلان مليء بكذا إذا كان قادرا عليه لأنهم ملئوا بكفاية الأمور وتدبيرها، أو لأنهم متمالئون أي متظاهرون متعاونون، أو لأنهم يملؤون القلوب جلالا والعيون جمالا والأكف نوالا، أو
لأنهم مملؤون بالآراء الصائبة والأحلام الراجحة على أنه من الملأ لازما، ومتعديا ووصفهم بالكفر لذمهم والتسجيل عليهم بذلك من أول الأمر لا لأن بعض أشرافهم ليسوا بكفرة.
ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا أرادوا ما أنت إلا بشر مثلنا ليس فيك مزية تخصك من بيننا بالنبوة ولو كان ذلك لرأيناه لا أن ذلك محتمل لكن لا نراه، وكذا الحال في وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ فالفعلان من رؤية العين- وبشرا واتبعك- حالان من المفعول بتقدير قد في الثاني أو بدونه على الخلاف ويجوز أن يكونا من رؤية القلب وهو الظاهر فهما حينئذ المفعول الثاني، وتعلق الرأي في الأول بالمثلية لا البشرية فقط، ويفهم من الكشاف أن في الآية وجهين: الأول أنهم أرادوا التعريض بأنهم أحق بالنبوة كأنهم قالوا: هب أنك مثلنا في الفضيلة والمزية من كثرة المال والجاه فلم اختصصت بالنبوة من دوننا، والثاني أنهم أرادوا أنه ينبغي أن يكون ملكا لا بشرا، وتعقب هذا بأن فيه اعتزالا خفيا، وقد بينه العلامة الطيبي، ونوزع في ذلك ففي الكشف أن قولهم مِثْلَنا علية لتحقيق البشرية، وقولهم وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إلخ استدلال بأنهم ضعفاء العقول لا تمييز لهم، فجوّزوا أن يكون الرسول بشرا وقولهم الآتي وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ تسجيل بأن دعوى النبوة باطلة- لإدخاله عليه السلام والأراذل- في سلك على أسلوب يدل على أنهم أنقص البشر فضلا عن الارتقاء، وليس في هذا الكلام اعتزال خفي ولا المقام عنه أبي انتهى.
وفي الانتصاف يجوز أن يكونوا قد أرادوا الوجهين جميعا كأنهم قالوا: من حق الرسول أن يكون ملكا لا بشرا وأنت بشر، وإن جاز أن يكون الرسول بشرا فنحن أحق منك بالرسالة، ويشهد لإرادتهم الأولى قوله في الجواب وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ ويشهد لإرادتهم الثانية وَما نَرى لَكُمْ إلخ، والظاهر أن مقصودهم ليس إلا إثبات أنه عليه السلام مثلهم وليس فيه مزية يترتب عليها النبوة ووجوب الإطاعة والاتباع، ولعل قولهم وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إلخ جواب عما يرد عليهم من أنه عليه السلام ليس مثلهم حيث اتبعه من وفق لاتباعه، فكأنهم قالوا: إنه لم يميزك اتباع من اتبعك فيوجب علينا اتباعك لأنه لم يتبعك إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا أي أخساؤنا وأدانينا، وهو جمع أرذل والأغلب الأقيس في مثله إذا أريد جمعه أن يجمع جمع سلامة كالأخسرون جمع أخسر لكنه كسر هنا لأنه صار بالغلبة جاريا مجرى الاسم، ولذا جعل في القاموس الرذل والأرذل بمعنى وهو الخسيس الدنيء، ومعنى جريانه مجرى الاسم أنه لا يكاد يذكر الموصوف معه كالأبطح والأبرق.
وجوز أن يكون جمع أرذل جمع رذل فهو جمع الجمع ونظير ذلك أكالب وأكلب وكلب وكونه جمع رذل مخالف للقياس وإنما لم يقولوا: إلا أراذلنا مبالغة في استرذالهم وكأنهم إنما استرذلوهم لفقرهم لأنهم لما لم يعلموا إلا ظاهرا من الحياة الدنيا كان الأشرف عندهم الأكثر منها حظا والأرذل من حرمها ولم يفقهوا أن الدنيا بحذافيرها لا تعدل عند الله تعالى جناح بعوضة وأن النعيم إنما هو نعيم الآخرة. والأشرف من فاز به والأرذل من حرمه، ومثل هؤلاء في الجهل كثير من أهل هذا الزمان عافانا الله سبحانه مما هم فيه من الخذلان والحرمان وكان القوم على ما في بعض الأخبار حاكة وأساكفة وحجامين وأرادوا بقولهم بادِيَ الرَّأْيِ ظاهره وهو ما يكون من غير تعمق، والرأي من رؤية الفكر والتأمل، وقيل: من رؤية العين وليس بذاك.
وجوز أن يكون البادي بمعنى الأول، وهو على الأول من البدو، وعلى الثاني من البدء، والباء مبدلة من الهمزة لانكسار ما قبلها وقد قرأ أبو عمرو وعيسى الثقفي بها، وانتصابه على القراءتين على الظرفية- لاتبعك- على معنى اتبعوك في ظاهر رأيهم أو أوله ولم يتأملوا ولم يتثبتوا ولو فعلوا ذلك لم يتبعوك وغرضهم من هذا المبالغة في عدم اعتبار
ذلك الاتباع وجعل ذلك بعضهم علة الاسترذال وليس بشيء، وقيل: المعنى أنهم اتبعوك في أول رأيهم أو ظاهره وليسوا معك في الباطن.
واستشكل هذا التعليق بأن ما قبل إِلَّا لا يعمل فيما بعدها إلا إذا كان مستثنى منه نحو ما قام إلا زيدا القوم أو مستثنى نحو جاء القوم إلا زيدا أو تابعا للمستثنى منه نحو ما جاءني أحد إلا زيدا خير من عمرو، وبادِيَ الرَّأْيِ ليس واحدا من هذه الثلاثة في بادي الرأي وأجيب بأنه يغتفر ذلك في الظرف لأنه يتسع فيه ما لا يتسع في غيره، واستشكل أمر الظرفية بأن فاعلا ليس بظرف في الأصل، وقال مكي: إنما جاز في فاعل أن يكون ظرفا كما جاز في فعيل كقريب، ومليء لإضافته إلى الرأي وهو كثيرا ما يضاف إلى المصدر الذي يجوز نصبه على الظرفية نحو جهد رأيي أنك منطلق.
وقال الزمخشري:- وتابعه غيره- أن الأصل وقت حدوث أول أمرهم أو وقت حدوث ظاهر رأيهم فحذف ذلك وأقيم المضاف إليه مقامه، ولعل تقدير الوقت ليكون نائبا عن الظرف فينتصب على الظرفية، واعتبار الحدوث بناء على أن اسم الفاعل لا ينوب عن الظرف وينتصب والمصدر ينوب عنه كثيرا فأشاروا بذكره إلى أنه متضمن معنى الحدوث بمعنييه فلذا جاز فيه ذلك، وليس مرادهم أنه محذوف إذ لا داعي لذلك في المعنى على التفسيرين، وما ذكروه هنا من أن الصفات لا ينوب منها عن الظرف إلا فعيل من الفوائد الغريبة- كما قال الشهاب- لكن استدركه بالمنع لأن فاعلا وقع ظرفا كثيرا كفعيل، وذلك مثل خارج الدار وباطن الأمر وظاهره وغير ذلك مما هو كثير في كلامهم، وقيل: هو ظرف- لنراك- أي ما نراك في أول رأينا أو فيما يظهر منه، وقيل: لأراذلنا أي أنهم أراذل في أول النظر أو ظاهره لأن رذالتهم مكشوفة لا تحتاج إلى تأمل.
وقيل: هو نعت- لبشرا- وقيل: منصوب على أنه حال من ضمير نوح في اتَّبَعَكَ أي وأنت مكشوف الرأي لا حصافة فيك، وقيل: انتصب على النداء لنوح عليه السلام أي- يا بادي الرأي- أي ما في نفسك من الرأي ظاهر لكل أحد، وقيل: هو مصدر على فاعل منصوب على المفعولية المطلقة والعامل فيه ما تقدم على تقدير الظرفية.
وَما نَرى لَكُمْ خطاب له عليه السلام ولمتبعيه جميعا على سبيل التغليب أي وما نرى لك ولمتبعيك.
عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ أي زيادة تؤهلكم لاتباعنا لكم، وعن ابن عباس تفسير ذلك بالزيادة في الخلق والخلق، وعن بعضهم تفسيره بكثرة الملك والملك، ولعل ما ذكرناه أولى، وكأنّ مرادهم نفي رؤية فَضْلٍ بعد الاتباع أي ما نرى فيك وفيهم بعد الاتباع فضيلة علينا لنتبع وإلا فهم قد نفوا أولا أفضليته عليه السلام في قولهم ما نَراكَ إلخ وصرحوا بأن متبعيه- وحاشاهم- أراذل، وهو مستلزم لنفي رؤية فَضْلٍ لهم عليهم، وقيل: إن هذا تأكيد لما فهم أولا، وقيل: الخطاب لأتباعه عليه السلام فقط فيكون التفاتا أي ما نرى لكم علينا شرف في تلك التبعية لنوافقكم فيها، وحمل الفضل على التفضل والإحسان في احتمالي الخطاب على أن يكون مراد الملأ من جوابهم له عليه السلام حين دعاهم إلى ما دعاهم إليه أنا لا نتبعك ولا نترك ما نحن عليه لقولك لأنك بشر مثلنا ليس فيك ما يستدعي نبوتك وكونك رسول الله تعالى إلينا بذلك وأتباعك أراذل اتبعوك من غير تأمل وتثبت فلا يدل اتباعهم على أن فيك ما يستدعي ذلك وخفي عنا، وأيضا لست ذا تفضل علينا ليكون تفضلك داعيا لنا لموافقتك كيفما كنت ولا أتباعك ذوو تفضل علينا لتوافقهم وإن كانوا أراذل مراعاة لحق التفضل، فإن الإنسان قد يوافق الرذيل لتفضله ولا يبالي بكونه رذيلا لذلك مما يدور في الخلد إلا أن في القلب منه شيئا بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ جميعا لكون كلامكم واحدا ودعوتكم واحدة أو إياك في دعوى النبوة وإياهم في تصديقك، قيل: واقتصروا على الظن احترازا منهم عن نسبتهم إلى المجازفة كما
أنهم عبروا بما عبروا أولا لذلك مع التعريض من أول الأمر برأي المتبعين ومجاراة معه عليه السلام بطريق الآراء على نهج الإنصاف قالَ استئناف بياني يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني، وفيه إيماء إلى ركاكة رأيهم المذكور إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ حجة ظاهرة مِنْ رَبِّي وشاهد يشهد لي بصحة دعواي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ هي النبوة على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وجوز أن تكون هي البينة نفسها جيء بها إيذانا بأنها مع كونها بينة من الله تعالى رحمة ونعمة عظيمة منه سبحانه، ووجه إفراد الضمير في قوله تعالى: فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أي أخفيت على هذا ظاهر، وإن أريد بها النبوة وبالبينة البرهان الدال على صحتها فالافراد لإرادة كل واحدة منهما، أو لكون الضمير للبينة والاكتفاء بذلك لاستلزام خفاء البينة خفاء المدعى، وجملة وَآتانِي رَحْمَةً على هذا معترضة أو لكونه للرحمة، وفي الكلام مقدر أي أخفيت الرحمة بعد إخفاء البينة وما يدل عليها وحذف للاختصار، وقيل: إنه معتبر في المعنى دون تقدير، أو لتقدير- عميت- غير المذكور بعد لفظ البينة وحذف اختصارا، وفيه تقدير جملة قبل الدليل.
وقرأ أكثر السبعة «فعميت» بفتح العين وتخفيف الميم مبنيا للفاعل، وهو من العمى ضد البصر، والمراد به هذا الخفاء مجازا يقال: حجة عمياء كما يقال: مبصرة للواضحة، وفي الكلام استعارة تبعية من حيث إنه شبه خفاء الدليل بالعمى في أن كلّا منهما يمنع الوصول إلى المقاصد، ثم فعل ما لا يخفى عليك، وجوز أن يكون هناك استعارة تمثيلية بأن شبه الذي لا يهتدي بالحجة لخفائها عليه بمن سلك مفازة لا يعرف طرقها واتبع دليلا أعمى فيها، وقيل: الكلام على القلب، والأصل فعميتم عنها كما تقول العرب: أدخلت القلنسوة في رأسي، ومنه قول الشاعر:
ترى الثور فيها يدخل الظل رأسه
وقوله سبحانه: فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ [إبراهيم: ٤٧] وتعقبه أبو حيان بأن القلب عند أصحابنا مطلقا لا يجوز إلا في الضرورة، وقول الشاعر ليس منه بل من باب الاتساع في الظرف، وكذا الآية ليست منه أيضا لأن أخلف يتعدى إلى المفعولين، والوصف منه كذلك ولك أن تضيفه إلى أيهما شئت على أنه لو كان ما ذكر من القلب لكان التعدي بعن دون على، ألا ترى أنك تقول: عميت عن كذا ولا تقول: عميت على كذا.
وروى الأعمش عن وثاب- وعميت- بالواو الخفيفة، وقرأ أبيّ والسلمي والحسن وغيرهم فعماها عليكم على أن الفعل لله تعالى، وقرىء بالتصريح به وظاهر ذلك مع أهل السنة القائلين بأن الحسن والقبيح منه تعالى، ولذا أوله الزمخشري حفظا لعقيدته أَنُلْزِمُكُمُوها أي أنكرهكم على الاهتداء بها وهو جواب أرأيتم وساد مسد جواب الشرط.
وفي البحر أنه في موضع المفعول الثاني له ومفعول الأول البينة مقدرا وجواب الشرط محذوف دل عليه أَرَأَيْتُمْ أي إِنْ كُنْتُ إلخ فأخبروني وحيث اجتمع ضميران منصوبان وقد قدم أعرفهما- وهو ضمير المخاطب الأعرف من ضمير الغائب- جاز في الثاني الوصل والفصل فيجوز في غير القرآن أنلزمكم إياها وهو الذي ذهب إليه ابن مالك في التسهيل ووافقه عليه بعضهم، وقال ابن أبي الربيع: يجب الوصل في مثل ذلك ويشهد له قول سيبويه في الكتاب: فإذا كان المفعولان اللذان تعدى إليهما فعل الفاعل مخاطبا وغائبا فبدأت بالمخاطب قبل الغائب فإن علامة الغائب العلامة التي لا يقع موقعها إياه وذلك نحو أعطيتكه وقد أعطاكه، قال الله تعالى: أَنُلْزِمُكُمُوها فهذا كهذا إذ بدأت بالمخاطب قبل الغائب انتهى، ولو قدم الغائب وجب الانفصال على الصحيح فيقال: أنلزمها إياكم.
وأجاز بعضهم الاتصال، واستشهد بقول عثمان رضي الله تعالى عنه: أراهمني، ولم يقل: أراهم إياي، وتمام الكلام على ذلك في محله، وجيء بالواو تتمة لميم الجمع، وحكي عن أبي عمرو إسكان الميم الأولى تخفيفا،
ويجوز مثل ذلك عند الفراء، وقال الزجاج: أجمع النحويون البصريون على أنه لا يجوز إسكان حركة الإعراب إلا في ضرورة الشعر كقوله:
فاليوم أشرب غير مستحقب | إثما من الله ولا واغل |
وناع يخبرنا بمهلك سيد | تقطع من وجد عليه الأنامل |
وظاهره مشعر بصدوره عنه عليه السلام بطريق إظهار اليأس عن إلزامهم والقعود عن محاجتهم كقوله: وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي [هود: ٣٤] إلخ لكنه محمول على أن مراده عليه السلام ردهم عن الإعراض عنها وحثهم على التدبر فيها بصرف الإنكار المستفاد من الهمزة إلى الإلزام حال كراهتهم لا إلى الإلزام مطلقا، وقال مولانا سعدي جلبي: إن المراد من الإلزام هنا الجبر بالقتل ونحوه لا الإيجاب لأنه واقع فليفهم.
وجوز أن يراد بالبينة دليل العقل الذي هو ملاك الفضل وبحسبه يمتاز أفراد البشر بعضها عن بعض وبه تناط الكرامة عند الله عز وجل والاجتباء للرسالة وبالكون عليها التمسك به والثبات عليه وبخفائها على الكفرة على أن يكون الضمير للبينة عدم إدراكهم لكونها رحمة عليهم وبالرحمة النبوة التي أنكروا اختصاصه عليه السلام بها بين ظهرانيهم ويكون المعنى أنكم زعمتم أن عهد النبوة لا يناله إلا من له فضيلة على سائر الناس مستتبعة لاختصاصه به دونهم أخبروني إن امتزت عليكم بزيادة مزية وحيازة فصيلة من ربي وآتاني بحسبها نبوة من عنده فخفيت عليكم تلك البينة ولم تصيبوها ولم تنالوها ولم تعلموا حيازتي لها وكوني عليها إلى الآن حتى زعمتم أني مثلكم وهي متحققة في نفسها أنلزمكم قبول نبوتي التابعة لها والحال أنكم كارهون لذلك، ثم قيل: فيكون الاستفهام للحمل على الإقرار وهو الأنسب بمقام المحاجة، وحينئذ يكون كلامه عليه السلام جوابا عن شبهتهم التي أدرجوها في خلال مقالهم من كونه عليه السلام بشرا قصارى أمره أن يكون مثلهم من غير فضل له عليهم وقطعا لشأفة آرائهم الركيكة انتهى، وفيه أن كون معنى- أنلزمكموها- أنلزمكم قبول نبوتي التابعة لها غير ظاهر على أن في أمر التبعية نظرا كما لا يخفى، ولعل الإتيان بما أتي به من الشرط من باب المجاراة وإسناد الإلزام لضمير الجماعة إما للتعظيم أو لاعتبار متبعيه عليه السلام معه في ذلك وَيا قَوْمِ ناداهم بذلك تلطفا بهم واستدراجا لهم لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي التبليغ المفهوم مما تقدم، وقيل:
الضمير للإنذار، وإفراد الله سبحانه بالعبادة، وقيل: للدعاء إلى التوحيد، وقيل: غير ذلك، وكلها أقوال متقاربة أي لا أطلب منكم على ذلك مالًا تؤدونه إلي بعد إيمانكم، وأجرا لي في مقابلة اهتدائكم إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ فهو سبحانه يثيبني على ذلك في الآخرة ولا بدّ حسب وعده الذي لا يخلف. فالمراد بالأجر الأجر على التبليغ، وجوز صفحة رقم 240
أن يراد الأجر على الطاعة مطلقا، ويدخل فيه ذلك دخولا أوليا، وفي التعبير بالمال أولا وبالأجر ثانيا ما لا يخفى من مزية ما عند الله تعالى على ما عندهم وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا قيل: هو جواب عما لوحوا به بقولهم: وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا من أنه لو اتبعه الأشراف لوافقوهم وأن اتباع الفقراء مانع لهم عن ذلك كما صرحوا به في قولهم أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشعراء: ١١١] فكان ذلك التماسا منهم لطردهم وتعليقا لإيمانهم به عليه السلام بذلك أنفة من الانتظام معهم في سلك واحد انتهى، والمروي عن ابن جريج أنهم قالوا له: يا نوح إن أحببت أن نتبعك فاطرد هؤلاء وإلا فلن نرضى أن نكون نحن وهم في الأمر سواء، وذلك كما قال قريش للنبي صلّى الله عليه وسلّم في فقراء الصحابة رضي الله تعالى عنهم: اطرد هؤلاء عنك ونحن نتبعك فإنا نستحيي أن نجلس معهم في مجلسك فهو جواب عما لم يذكر في النظم الكريم لكن فيه نوع إشارة إليه، وقرىء «بطارد» بالتنوين قال الزمخشري: على الأصل يعني أن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال فأصله أن يعمل ولا يضاف، وهو ظاهر كلام سيبويه، واستدرك عليه أبو حيان بأنه قد يقال: إن الأصل الإضافة لأنه قد اعتوره شبهان: أحدهما شبهه بالمضارع وهو شبه بغير جنسه، والآخر شبهه بالأسماء إذا كانت فيها الإضافة، وإلحاقه بجنسه أولى من إلحاقه بغير جنسه انتهى، وربما يقال: إن أولوية إلحاقه بالأسماء إنما يتم القول بها إذا كانت الإضافة في الأسماء هي الأصل وليس فليس إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ تعليل للامتناع من طردهم كأنه قيل: لا أطردهم ولا أبعدهم عن مجلسي لأنهم من أهل الزلفى المقربون الفائزون عند الله تعالى وانفهام الفوز بمعونة المقام وإلا فملاقاة الله تعالى تكون للفائز وغيره، أو أنهم ملاقو ربهم فيخاصمون طاردهم عنده فيعاقبه على ما فعل- وحمله على أنهم مصدقون في الدنيا بلقاء ربهم موقنون به عالمون أنهم ملاقوه لا محالة فكيف أطردهم- خلاف الظاهر على أن هذا التصديق من توابع الإيمان، وقيل: المعنى أنهم يلاقونه تعالى فيجازيهم على ما في قلوبهم من إيمان صحيح ثابت كما ظهر لي أو على خلاف ذلك مما تعرفونهم به من بناء أمرهم على بادىء الرأي من غير تعمق في الفكر، وما علي أن أشق عن قلوبهم وأتعرف سر ذلك منهم حتى أطردهم إن كان الأمر كما تزعمون، وفيه أنه مع كونه مبنيا على أن سؤال الطرد لعدم إخلاصهم لا لاسترذالهم وحاله أظهر من أن يخفى يأباه الجزم بترتب غضب الله تعالى على طردهم كما سيأتي إن شاء الله تعالى: وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ أي بكل ما ينبغي أن يعلم، ويدخل فيه جهلهم بمنزلتهم عند الله تعالى وبما يترتب من المحذور على طردهم وبركاكة رأيهم في التماس ذلك، وتوقيف إيمانهم عليه وغير ذلك وإيثار صيغة الفعل للدلالة على التجدد والاستمرار، وعبر بالرؤية موافقة لتعبيرهم، وجوز أن يكون الجهل بمعنى الجناية على الغير وفعل ما يشق عليه لا بمعنى عدم العلم المذموم وهو معنى شائع كما في قوله:
ألا لا يجهلن أحد علينا | فنجهل فوق جهل الجاهلينا |
الطيبي- لأنه مقدمة وتمهيد للجواب، وبينه بأن قوله يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ إثبات لنبوته يعني ما قلت لكم إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إلا عن بينة على إثبات نبوتي وصحة دعوتي لكن خفيت عليكم وعميت حتى أوردتم تلك الشبه الواهية ومع ذلك ليس نظري فيما ادعيت إلا إلى الهداية وإني لا أطمع بمال حتى ألازم الأغنياء منكم وأطرد الفقراء وأنتم تجهلون هذا المعنى حيث تقولون: اطرد الفقراء وإن الله سبحانه ما بعثني إلا للترغيب في طلب الآخرة ورفض الدنيا فمن ينصرني إن كنت أخالف ما جئت به، ثم شرع فيما شرع، وفي الكشف إن قوله أَرَأَيْتُمْ الآية جواب إجمالي عن الشبه كلها مع التعبير بأنهم لا يرجعون فيما يرمون إلى أدنى تدبر وقوله وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ تتميم للتعبير وحث على ما ضمنه من التشويق إلى ما عنده، وقوله:
ما أَنَا بِطارِدِ تصريح بجواب ما ضمنوه في قولهم: وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا من خسة الشركاء وأنه لولا مكانهم لكان يمكن الاتباع إظهارا للتصلب فيما هو فيه وأن ما يورده ويصدره عن برهان من الله تعالى يوافيه وأنى يدع الحق الأبلج بالباطل اللجلج، ثم شرع في الجواب التفصيلي بقوله: وَلا أَقُولُ إلخ، وهو أحسن مما ذكره الطيبي، وجعلوا هذا ردا لقولهم: وَما نَرى لَكُمْ إلخ كأنه يقول: عدم اتباعي وتكذيبي إن كان لنفيكم عني فضل المال والجاه فأنا لم أدعه ولم أقل لكم إن خزائن رزق الله تعالى وماله عندي حتى أنكم تنازعوني في ذلك وتنكرونه وإنما كان مني دعوى الرسالة المؤيدة بالمعجزات، ولعل جوابه عليه السلام عن ذلك من حيث إنه معني به مستتبع للجواب عنه من حيث إنه عني به متبعوه عليه السلام أيضا، وجعله جوابا عن قولهم: ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا كما جوزه الطبرسي ليس بشيء، وحمل الخزائن على ما أشرنا إليه هو المعول عليه.
وقال الجبائي وأبو مسلم: إن المراد بها مقدورات الله تعالى أي لا أقول لكم حين أدعي النبوة عندي مقدورات الله تعالى فأفعل ما أشاء وأعطي ما أشاء وأمنع ما أشاء وليس بشيء، ومثله- بل أدهى وأمر- قول ابن الأنباري: إن المراد بها غيوب الله تعالى وما انطوى عن الخلق، وجعل ابن الخازن هذه الجملة عطفا على لا أَسْئَلُكُمْ إلخ، والمعنى عنده لا أسألكم عليه مالا ولا أقول لكم عندي خزائن الله التي لا يفنيها شيء فأدعوكم إلى اتباعي عليها لأعطيكم منها وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ عطف على عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ المقول للقول، وذكر معه النفي مع أن العطف على مقول القول المنفي منفي أيضا من غير أن يذكر معه أداة نفي لتأكيد النفي السابق والتذكير به ودفع احتمال أن لا يقول هذا المجموع فلا ينافي أن يقول أحدهما أي ولا أقول أنا أعلم الغيب حتى تكذبوني لاستبعاد ذلك وما ذكرت من دعوى النبوة والإنذار بالعذاب إنما هو بوحي وإعلام من الله تعالى مؤيد بالبينة والغيب ما لم يوح به ولم يقم عليه دليل، ولعله إنما لم ينف عليه السلام القول بعلم الغيب على نحو ما فعل في السابق واللاحق مبالغة في نفي هذه الصفة التي ليس لأحد سوى الله تعالى منها نصيب أصلا، ويجوز عطفه على أَقُولُ أي لا أقول لكم ذلك ولا أدعي علم الغيب في قولي إني نذير مبين إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم حتى تسارعوا إلى الإنكار والاستبعاد، وقيل: هو معطوف على هذا أو ذاك إلا أن المعنى لا أعلم الغيب حتى أعلم أن هؤلاء اتبعوني بادي الرأي من غير بصيرة وعقد قلب ولا يخفى حاله، واعترض على الأول بأنه غير ملائم للمقام، ثم قيل: والظاهر أنه صلّى الله عليه وسلّم حين ادعى النبوة سألوه عن المغيبات، وقالوا له: إن كنت صادقا أخبرنا عنها فقال: أنا أدعي النبوة بآية من ربي ولا أعلم الغيب إلا بإعلامه سبحانه، ولا يلزم أن يذكر ذلك في النظم الكريم كما أن سؤال طردهم كذلك انتهى، وفيه أن زعم عدم الملاءمة ليس على ما ينبغي، وأيضا لا يخفى أنه لا قرينة تدل على وقوعه جوابا لما لم يذكر، وأما سؤال طردهم فإن الاستحقار قرينة عليه في الجملة، وقد صرح بعض السلف به ومثله لا يقال من قبل الرأي وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ رد لقولهم ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا أي لا أقول ترويجا لما أدعيه من النبوة إني ملك حتى تقولوا لي ذلك وتكذبوني فإن البشرية ليست من موانع النبوة بل من
مباديها يعني كما قيل: إنكم اتخذتم فقدان هذه الأمور الثلاثة ذريعة إلى تكذيبي، والحال أني لا أدعي شيئا من ذلك ولا الذي يتعلق بشيء منها، وإنما الذي أدعيه يتعلق بالفضائل التي تتفاوت بها مقادير البشر، وقيل: أراد بهذا لا أقول:
إني روحاني غير مخلوق من ذكر وأنثى بل إنما أنا بشر مثلكم فلا معنى لردكم علي بقولكم ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وعلى القولين لا دليل فيه على أن الملائكة أفضل من الأنبياء عليهم السلام خلافا لمن استدل به، وجعل ذلك كلاما آخر ليس ردا لما قالوه سابقا مما لا وجه له فتدبر وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ أي تستحقرهم والأصل تزتري بالتاء إلا أنها قلبت دالا لتجانس الزاي في الجهر لأنها من المهموسة، وأصل الازدراء الإعابة يقال: ازدراه إذا عابه، والتعبير بالمضارع للاستمرار، أو لحكاية الحال لأن الازدراء قد وقع، وإسناده إلى الأعين مجاز للمبالغة في رأي من حيث إنه إسناد إلى الحاسة التي لا يتصور منها تعييب أحد فكأن من لا يدرك ذلك يدركه، وللتنبيه على أنهم استحقروهم بادي الرؤية وبما عاينوا من رثاثة حالهم وقلة منالهم دون تأمل وتدبر في معانيهم وكمالاتهم، وعائد الموصول محذوف كما أشرنا إليه، واللام للأجل لا للتبليغ وإلا لقيل فيما بعد يؤتيكم أي لا أقول مساعدة لكم ونزولا على هواكم في شأن الذين استرذلتموهم واستحقرتموهم لفقرهم من المؤمنين لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً في الدنيا أو في الآخرة فعسى الله سبحانه يؤتيهم خيري الدارين.
اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ مما يستعدون به لإيتاء ذلك، وفي إرشاد العقل السليم من الإيمان، وفيه توجيه لعطف نفي هذا القول الذي ليس مما يستنكره الكفرة ولا مما يتوهمون صدوره عنه عليه السلام أصالة واستتباعا على نفي هاتيك الأقوال التي هي مما يستنكرونه ويتوهمون صدوره عنه عليه السلام إن ذلك من جهة أن كلا النفيين رد لقياسهم الباطل الذي تمسكوا به فيما سلف فإنهم زعموا أن النبوة تستتبع الأمور المذكورة من ادعاء الملكية وعلم الغيب وحيازة الخزائن وأن العثور على مكانها واغتنام مغانمها ليس من داب الأراذل، فأجاب عليه السلام بنفي ذلك جميعا فكأنه قال: لا أقول وجود تلك الأشياء من مواجب النبوة ولا عدم المال والجاه من موانع الخير، واقتصر عليه السلام على نفي القول المذكور مع أنه عليه السلام جازم بأن الله سبحانه سيؤتيهم خيرا عظيما في الدارين وأنهم على يقين راسخ في الإيمان جريا على سنن الإنصاف مع القوم واكتفاء بمخالفة كلامهم وإرشادا لهم إلى مسلك الهداية بأن اللائق لكل أحد أن لا يبت القول إلا فيما يعلمه يقينا ويبني أموره على الشواهد الظاهرة ولا يجارف فيما ليس فيه على بينة انتهى، وأنت تعلم أنه عليه السلام قد بتّ القول بفوز هؤلاء في قوله: وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ بناء على أنهم المعنيون بالذين آمنوا، وأن المراد من كونهم ملاقو ربهم أنهم مقربون في حضرة القدس- كما قال به غير واحد- وكذا الحكم إذا كان المعني بالموصول من اتصف بعنوان الصلة مطلقا إذ يدخلون فيه دخولا أوليا لما أن المسئول صريحا أو تلويحا طردهم، ولعل البت تارة وعدمه أخرى لاقتضاء المقام ذلك وأن في كون الكفرة قد زعموا أن العثور على مكان النبوة واغتنام مغانمها ليس من دأب الأراذل خفاء مع دعوى أنهم لوحوا بقولهم: وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إلخ الذي هو مظنة ذلك الزعم إلى التماس طردهم وتعليق إيمانهم به عليه السلام بذلك أنفة من الانتظام معهم في سلك واحد.
وفي البحر أن معنى وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ إلخ ليس احتقاركم إياهم ينقص ثوابهم عند الله تعالى ولا يبطل أجورهم ولست أحكم عليهم بشيء من هذا، وإنما الحكم بذلك للذي يعلم ما في أنفسهم فيجازيهم عليه، وقيل: إن هذا رد لقولهم وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إلخ على معنى لست أحكم عليهم بأن لا يكون لهم خير لظنكم بهم أن بواطنهم ليست كظواهرهم الله أعلم بما في نفوسهم انتهى، ولا يخفى ما فيه.
وقد أخرج أبو الشيخ عن السدي أنه فسر الخير بالإيمان أي- لا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله إيمانا- واستشكل بأن الظاهر أن المراد بالموصول أولئك المتبعون المسترذلون وهم مؤمنون عندهم فلا معنى لنفي القول بإيتاء الله تعالى إياهم الإيمان مساعدة لهم ونزولا على هواهم.
وأجيب بأن المراد من هذا الإيمان هو المعتد به الذي لا يزول أصلا كما ينبىء عن ذلك التعبير عنه بالخير وهم إنما أثبتوا لهم الاتباع بادي الرأي وأرادوا بذلك أنهم آمنوا إيمانا لا ثبات له، ويجعل ذلك ردا لذلك القول، ويراد من لَنْ يُؤْتِيَهُمُ ما آتاهم فكأنهم قالوا: إنهم اتبعوك وآمنوا بك بلا تأمل ومثل ذلك الإيمان في معرض الزوال، فهم لا يثبتون عليه ويرتدون فرد عليهم عليه السلام بأني لا أحكم على أولئك بأن الله تعالى ما آتاهم إيمانا لا يزول وأنهم سيرتدون كما زعمتم ويكون قوله عليه السلام: اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ تفويضا للحكم بذلك إليه تعالى أو إشارة إلى جلالة ما آتاهم الله تعالى إياه من الإيمان كما يقال الله تعالى أعلم بما يقاسي زيد من عمرو وإذا كان ما يقاسيه منه أمرا عظيما لا يستطاع شرحه، فكأنه قيل: إن إيمانهم عظيم القدر جليل الشأن فكيف أقول لن يؤتيهم الله تعالى إيمانا ثابتا، وفيه من التكلف والتعسف ما الله تعالى به أعلم، وحمل الموصول على أناس مسترذلين جدا غير أولئك ولم يؤمنوا بعد أي لا أقول للذين تزدريهم أعينكم ولم يؤمنوا بعد لن يوفقهم الله تعالى للإيمان حيث كانوا في غاية من رثاثة الحال والدناءة التي تزعمونها مانعة من الخير اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ مما يتأهلون به لإفاضة التوفيق عليهم وهو المدار لذلك لا الأحوال الظاهرة مما لا أقول به إِنِّي إِذاً أي إذا قلت ذلك لَمِنَ الظَّالِمِينَ لهم بحط مرتبتهم ونقص حقوقهم، أو من الظالمين لأنفسهم بذلك، وفيه تعريض بأنهم ظالمون في ازدرائهم واسترذالهم.
ويجوز أن يكون إذا قلت شيئا مما ذكر من حيازة الخزائن وادعاء علم الغيب والملكية، ونفي إيتاء الله تعالى أولئك الخير والقوم لمزيد جهلهم محتاجون لأن يعلل لهم نحو الأقوال الأول بلزوم الانتظام في زمرة الظالمين.
قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا أي خاصمتنا ونازعتنا، وأصله من جدلت الحبل أي أحكمت فتله ومنه الجديل وجدلت البناء أحكمته، ودرع مجدولة، والأجدل الصقر المحكم البنية، والمجدل القصر المحكم البناء، وسميت المنازعة جدالا لأن المتجادلين كأنهما يفتل كل واحد منهما الآخر عن رأيه، وقيل: الأصل في الجدال الصراع وإسقاط الإنسان صاحبه على الجدالة، وهي الأرض الصلبة فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا عطف على ما قبله على معنى شرعت في جدالنا فأطلته أو أتيت بنوع من أنواع الجدال فأعقبته بأنواع أخر فالفاء على ظاهرها، ولا حاجة إلى تأويل جادَلْتَنا بأردت جدالنا- كما قاله الجمهور- في قوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [النحل: ٩٨] ونظير ذلك جادل فلان فأكثر، وجعل بعضهم مجموع ذلك كناية عن التمادي والاستمرار.
وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما جدلنا، وهو- كما قال ابن جني- اسم بمعنى الجدال ولما حجهم عليه السلام وأبرز لهم ما ألقمهم به الحجر ضاقت عليهم الحيل وعيت بهم العلل. وقالوا: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب المعجل، وجوز أن يكون المراد به العذاب الذي أشير إليه في قوله: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ بناء على أن لا يكون المراد باليوم يوم القيامة، و «ما» موصولة والعائد محذوف أي بالذي تعدنا به، وفي البحر تعدناه، وجوز أن تكون مصدرية وفيه نوع تكلف إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في حكمك بلحوق العذاب إن لم نؤمن بك.
قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ أي إن ذلك ليس إلي ولا مما هو داخل تحت قدرتي وإنما هو لله عز وجل الذي كفرتم به وعصيتم أمره يأتيكم به عاجلا أو آجلا إن تعلقت به مشيئته التابعة للحكمة، وفيه كما قيل: ما لا يخفى
من تهويل الموعود، فكأنه، قيل: الإتيان به أمر خارج عن دائرة القوى البشرية وإنما يفعله الله تعالى.
وفي الإتيان بالاسم الجليل الجامع تأكيد لذلك التهويل وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ بمصيريه سبحانه وتعالى عاجزا بدفع العذاب أو الهرب منه، والباء زائدة للتأكيد، والجملة الاسمية للاستمرار، والمراد استمرار النفي وتأكيده لا نفي الاستمرار والتأكيد وله نظائر وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي النصح تحري قول أو فعل فيه صلاح وهو كلمة جامعة، وقيل:
هو إعلام مواقع الغي ليتقي ومواضع الرشد ليقتفي، وهو من قولهم: نصحت له الود أي أخلصته، وناصح العسل خالصه، أو من قولهم نصحت الجلد خطته، والناصح الخياط، والنصاح الخيط، وقرأ عيسى بن عمر الثقفي «نصحي» بفتح النون وهو مصدر، وعلى قراءة الجماعة- على ما قال أبو حيان- يحتمل أن يكون مصدرا كالشكر، وأن يكون اسما إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ شرط حذف جوابه لدلالة ما سبق عليه وليس جوابا له لامتناع تقدم الجواب على الشرط على الأصح الذي ذهب إليه البصريون أي إن أردتم أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي، والجملة كلها دليل جواب قوله سبحانه: إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ والتقدير إن كان الله يريد أن يغويكم فإن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي، وجعلوا الآية من باب اعتراض الشرط على الشرط، وفي شرح التسهيل لابن عقيل أنه إذا توالى شرطان مثلا كقولك: إن جئتني إن وعدتك أحسنت إليك، فالجواب للأول، واستغنى به عن جواب الثاني، وزعم ابن مالك أن الشرط الثاني مفيد للأول بمنزلة الحال، فكأنه قيل في المثال: إن جئتني في حال وعدي لك أحسنت إليك، والصحيح في المسألة أن الجواب للأول، وجواب الثاني محذوف لدلالة الشرط الثاني وجوابه عليه، فإذا قلت: إن دخلت الدار إن كلمت زيدا إن جاء إليك فأنت حر، فأنت حر جواب إن دخلت وهو وجوابه دليل جواب إن كلمت وإن كلمت وجوابه دليل جواب إن جاء، والدليل على الجواب جواب في المعنى، والجواب متأخر، فالشرط الثالث مقدم وكذا الثاني، فكأنه قيل إن جاء فإن كلمت فإن دخلت فأنت حر فلا يعتق إلا إذا وقع هكذا مجيء. ثم كلام ثم دخول، وهو مذهب الشافعي عليه الرحمة، وذكر الجصاص أن فيها خلافا بين محمد وأبي يوسف رحمهما الله تعالى، وليس مذهب الإمام الشافعي فقط، وقال بعض الفقهاء: إن الجواب للأخير. والشرط الأخير وجوابه جواب الثاني. والشرط الثاني وجوابه جواب الأول، وعلى هذا لا يعتق حتى يوجد هكذا دخول ثم كلام ثم مجيء، وقال بعضهم: إذا اجتمعت حصل العتق من غير ترتيب وهذا إذا كان التوالي بلا عاطف فإن عطف بأو فالجواب لأحدهما دون تعيين نحو إن جئتني أو إن أكرمت زيدا أحسنت إليك وإن كان بالواو فالجواب لهما وإن كان بالفاء فالجواب للثاني وهو وجوابه جواب الأول فتخرج الفاء عن العطف، وادعى ابن هشام أن في كون الآية من ذلك الباب نظرا قال: إذ لم يتوال شرطان وبعدهما جواب كما فيما سمعت من الأمثلة، وكما في قول الشاعر:
إن تستغيثوا بنا إن تذعروا تجدوا | منا معاقل عز زانها كرم |
وقد ألف في المسألة رسالة- كما قال الجلال السيوطي- وأوردها في حاشيته على المغني حسنة، ولا يخفى عليك أن المقدر في قوة المذكور، والكثير في توالي شرطين بدون عاطف تأخره سماعا فيقدر كذلك ويجري عليه حكمه.
والكلام على ما تقدم متضمن لشرطين مختلفين: أحدهما جواب للآخر وقد جعل المتأخر في الذكر متقدما في صفحة رقم 245
المعنى على ما هو المعهود في المسألة، وهو عند الزمخشري على ما قيل شرطية واحدة مقيدة حيث جعل لا ينفعكم دليل الجواب لأن كان، وجعل إن أردت قيدا لذلك نظير إن أحسنت إلي أحسنت إليك إن أمكنني فتأمل، والكلام متعلق بقولهم: قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا صدر عنه عليه السلام إظهارا للعجز عن ردهم عما هم عليه من الضلال بالحجج والبينات لفرط تماديهم في العناد وإيذانا بأن ما سبق منه إنما كان بطريق النصيحة لهم والشفقة عليهم وأنه لم يأل جهدا في إرشادهم إلى الحق وهدايتهم إلى سبيله المستبين ولكن لا ينفعهم ذلك عند إرادته سبحانه لإغوائهم، وتقييد عدم نفع النصح بإرادته مع أنه محقق لا محالة للإيذان بأن ذلك النصح مقارن للإرادة والاهتمام به، ولتحقيق المقابلة بين ذلك، وبين ما وقع بإزائه من إرادته تعالى لإغوائهم، وإنما اقتصر في ذلك على مجرد إرادة الإغواء دون نفسه حيث لم يقل إن كان الله يغويكم مبالغة في بيان غلبة جنابه جل جلاله حيث دل ذلك على أن نصحه المقارن للاهتمام به لا يجديهم نفعا عند مجرد إرادة الله تعالى إغواءهم فكيف عند تحققه وخلقه فيهم، وزيادة كان للإشعار بتقدم إرادته تعالى زمانا كتقدمه رتبة، وللدلالة على تجددها واستمرارها، وقدم على هذا الكلام ما يتعلق بقولهم: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من قوله: إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ ردا عليهم من أول الأمر وتسجيلا عليهم بحلول العذاب مع ما فيه من اتصال الجواب بالسؤال- قال ذلك مولانا شيخ الإسلام- ثم إن إِنْ أَرَدْتُ أن أبقى على الاستقبال لا ينافي كونه نصحهم في الزمن الماضي، وقيل: إنه مجاراة لهم لاستظهار الحجة لأنهم زعموا أن ما فعله ليس بنصح إذ لو كان نصحا قبل منه، واللام في لَكُمْ ليست للتقوية كما قد يتوهم لتعدي الفعل بنفسه كما في قوله:
نصحت بني عوف فلم يتقبلوا | رسولي ولم تنجح لديهم رسائلي |
وقيل: إن الإغواء مجاز عن عقوبته أي إن كان الله يريد عقوبة إغوائكم الخلق وإضلالكم إياهم.
وقيل: إن قوم نوح كانوا يعتقدون أن الله تعالى أراد إغواءهم فأخرج عليه السلام ذلك مخرج التعجب والإنكار أي إن نصحي لا ينفعكم إن كان الأمر كما تزعمون، وقيل: سمي ترك إلجائهم وتخليتهم وشأنهم إغواء مجازا، وقيل:
إن نافية أي ما كان الله يريد أن يغويكم، ونفي ذلك دليل على نفي الإغواء، ويكون لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إلخ إخبارا منه عليه السلام لهم وتعزية لنفسه عنهم لما رأى من إصرارهم وتماديهم على الكفر، ولا يخفى ما في ذلك من مخالفة الظاهر المعروف في الاستعمال وارتكاب ما لا ينبغي ارتكاب مثله في كلام الملك المتعال.
ومن الناس من اعترض الاستدلال بأن الشرطية لا تدل على وقوع الشرط ولا جوازه فلا يتم ولا يحتاج إلى التأويل ولا إلى القال والقيل، ودفع بأن المقام ينبو عنه لعدم الفائدة في مجرد فرض ذلك فإن أرادوا إرجاعه إلى قياس استثنائي فإما أن يستثنى عين المقدم فهو المطلوب أو نقيض التالي فخلاف الواقع لعدم حصول النفع.
وبالجملة الآية ظاهرة جدا فيما ذهب إليه أهل السنة، والله سبحانه الموفق هُوَ رَبُّكُمْ أي خالقكم ومالك أمركم وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيجازيكم على أفعالكم لا محالة.
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: يعني نوحا عليه السلام أي بل أيقول قوم نوح إن صفحة رقم 246
نوحا افترى ما جاء به مسندا إلى الله عز وجل قُلْ يا نوح إِنِ افْتَرَيْتُهُ بالفرض البحت. فَعَلَيَّ إِجْرامِي أي وباله فهو على تقدير مضاف، أو على التجوز بالسبب عن المسبب، وفسر الإجرام بكسب الذنب وهو مصدر أجرم، وجاء على قلة جرم، ومن ذلك قوله:
طريد عشيرة ورهين ذنب | بما «جرمت» يدي وجنى لساني |
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ دلالة على كمال العناد وأن مثله بعد الإتيان بالقصة على هذا الأسلوب المعجز مما لا ينبغي أن ينسب إلى افتراء فجاء زيادة إنكار على إنكار كأنه قيل: بل أمع هذا البيان أيضا يقولون: افْتَراهُ وهو نظير اعتراض قوله سبحانه في سورة وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ [العنكبوت: ١٨] بين قصة إبراهيم عليه السلام في أحد الوجهين انتهى، ولا أراه معولا عليه.
وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ إقناط له عليه السلام من إيمانهم وإعلام بأنه لم يبق فيهم من يتوقع إيمانه، أخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس قال: إن نوحا عليه السلام كان يضرب ثم يلف في لبد فيلقى في بيته يرون أنه قد مات ثم يخرج فيدعوهم، واتفق أن جاءه رجل ومعه ابنه وهو يتوكأ على عصا فقال:
يا بني انظر هذا الشيخ لا يغرنك قال: يا أبت أمكني من العصا فأخذ العصا ثم قال: ضعني على الأرض فوضعه فمشى إليه فضربه فشجه موضحة في رأسه وسالت الدماء فقال نوح عليه السلام: رب قد ترى ما يفعل بي عبادك فإن يك لك في عبادك حاجة فاهدهم وإن يكن غير ذلك فصبرني إلى أن تحكم وأنت خير الحاكمين فأوحى الله تعالى إليه وآيسه من إيمان قومه وأخبره أنه لم يبق في أصلاب الرجال ولا في أرحام النساء مؤمن. وقال سبحانه: يا نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ إلخ، والمراد بمن آمن قيل: من استمر على الإيمان وللدوام حكم الحدوث، ولذا لو حلف لا يلبس هذا الثوب وهو لابسه فلم ينزعه في الحال حنث، وقيل: المراد إلا من قد استعد للإيمان وتوقع منه ولا يراد ظاهره وإلا كان المعنى إلا من آمن فإنه يؤمن، وأورد عليه أنه مع بعده يقتضي أن من القوم من آمن بعد ذلك، وهو ينافي تقنيطه من إيمانهم، وقد يقال: المراد ما هو الظاهر والاستثناء على حد الاستثناء في قوله تعالى: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ [النساء: ٢٣] على ما قاله غير واحد، فيفيد الكلام الإقناط على أتم وجه وأبلغه أي لن يحدث من قومك إيمانا صفحة رقم 247
ويحصله بعد إلا من قد أحدثه وحصله قبل، وذلك مما لا يمكن لما فيه من تحصيل الحاصل وإحداث المحدث، فإحداث الإيمان وتحصيله بعد مما لا يكون أصلا، وفي الحواشي الشهابية لو قيل: إن الاستثناء منقطع وإن المعنى لا يؤمن أحد بعد ذلك غير هؤلاء لكان معنى بليغا فتدبر، وقرأ أبو البرهسم وَأُوحِيَ مبنيا للفاعل وأنه بكسر الهمزة على إضمار القول على مذهب البصريين وعلى إجراء أُوحِيَ مجرى قال على مذهب الكوفيين، واستدل بالآية من أجاز التكليف بما لا يطاق.
فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ أي لا تلتزم البؤس ولا تحزن بما كانوا يتعاطونه من التكذيب والاستهزاء والإيذاء في هذه المدة الطويلة فقد حان وقت الانتقام منهم وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا عطف على فَلا تَبْتَئِسْ والأمر قيل للوجوب إذ لا سبيل إلى صيانة الروح من الغرق إلا به فيجب كوجوبها، وقيل: للإباحة وليس بشيء، وأل في الْفُلْكَ إما للجنس أو للعهد بناء على أنه أوحي إليه عليه السلام من قبل أن الله سبحانه سيهلكهم بالغرق وينجيه ومن معه بشيء يصنعه بأمره تعالى من شأنه كيت وكيت واسمه كذا، والباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال من الفاعل، والأعين حقيقة في الجارحة وهي جارية مجرى التمثيل كأن لله سبحانه أعينا تكلؤه من تعدي الكفرة ومن الزيغ في الصنعة، والجمع للمبالغة، وقد انسلخ عنه لإضافته على ما قيل. معنى القلة وأريد به الكثرة، وحينئذ يقوى أمر المبالغة، وزعم بعضهم أن الأعين بمعنى الرقباء وأن في ذلك ما هو من أبلغ أنواع التجريد، وذلك أنهم ينتزعون من نفس الشيء آخر مثله في صفته مبالغة بكمالها كما أنشد أبو علي:
أفات بنو مروان ظلما دماءنا | وفي الله إن لم يعدلوا حكم عدل |
وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا أي لا تراجعني فيهم ولا تدعني باستدفاع العذاب عنهم وفيه من المبالغة ما ليس فيما لو قيل: ولا تدعني فيهم، وحيث كان فيه ما يلوح بما يستتبعه أكد التعليل فقيل: إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ أي محكوم عليهم بالإغراق وقد جرى به القضاء وجف القلم فلا سبيل إلى كفه، والظاهر أن المراد من الموصول من لم يؤمن من قومه مطلقا، وقيل: المراد واعلة زوجته وكنعان ابنه وليس بشيء وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ حكاية حال ماضية لاستحضار صورتها العجيبة. صفحة رقم 248
وقيل: تقديره، وأخذ أو أقبل يصنع الفلك، وكانت على ما روي عن قتادة وعكرمة والكلبي من خشب الساج وقد غرسه بنفسه ولم يقطعه حتى صار طوله أربعمائة ذراع والذراع إلى المنكب في أربعين سنة على ما روي عن سليمان الفراسي، وقيل: أبقاه عشرين سنة، وقيل: مكث مائة سنة يغرس ويقطع وييبس، وقال عمرو بن الحارث: لم يغرسه بل قطعه من جبل لبنان.
وعن ابن عباس أنها كانت من خشب الشمشاد وقطعه من جبل لبنان، وقيل: إنه ورد في التوراة أنها كانت من الصنوبر، وروي أنه كان سام وحام ويافث ينحتون معه، وفي رواية أنه عليه السلام كان معه أيضا أناس استأجرهم ينحتون، وذكر أن طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسون وارتفاعها في السماء ثلاثون.
وأخرج ابن جرير وغيره عن الحسن قال: كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع وصنع لها بابا في وسطها، وأتم صنعها على ما روي عن مجاهد في ثلاث سنين.
وعن كعب الأحبار في أربعين سنة، وقيل: في ستين، وقيل: في مائة سنة، وقيل: في أربعمائة سنة، واختلف في أنه في أي موضع صنعها، فقيل: في الكوفة، وقيل: في الهند، وقيل: في أرض الجزيرة، وقيل: في أرض الشام، وسفينة الأخبار في تحقيق الحال فيما أرى لا تصلح للركوب فيها إذ هي غير سالمة عن عيب، فالحري بحال من لا يميل إلى الفضول أن يؤمن بأنه عليه السلام صنع الفلك حسبما قص الله تعالى في كتابه ولا يخوض في مقدار طولها وعرضها وارتفاعها ومن أي خشب صنعها وبكم مدة أتم عملها إلى غير ذلك مما لم يشرحه الكتاب ولم تبينه السنة الصحيحة، هذا وفي التعبير- بيصنع- على ما قيل: ملاءمة للاستمرار المفهوم من الجملة الواقعة حالا من ضميره أعني قوله تعالى:
وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ أي استهزؤوا به لعمله السفينة إما لأنهم ما كانوا يعرفونها ولا كيفية استعمالها فتعجبوا من ذلك وسخروا منه، ويشهد لعدم معرفتهم ما روي عن ابن عباس أنه عليه السلام حين قال الله تعالى له: اصْنَعِ الْفُلْكَ قال: يا رب وما الفلك؟ قال: بيت من خشب يجري على وجه الماء، قال: يا رب وأين الماء؟ قال: إني على ما أشاء قدير، وإما لأنه عليه السلام كان يصنعها في برية بعيدة عن الماء وكانوا يتضاحكون، ويقولون: يا نوح صرت نجارا بعد ما كنت نبيا، وهذا مبني على أن السفينة كانت معروفة بينهم، ويشهد له ما
أخرجه ابن جرير والحاكم وصححه- وضعفه الذهبي- عن عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كان نوح قد مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم حتى كان آخر زمانه غرس شجرة فعظمت وذهبت كل مذهب ثم قطعها ثم جعل يعملها سفينة فيرونه ويسألونه فيقول أعملها سفينة فيسخرون منه ويقولون: تعمل سفينة في البر وكيف تجري؟ فيقول:
سوف تعلمون الحديث
والأكثرون- كما قال ابن عطية- على أنهم لم يكونوا رأوا سفينة قط ولا كانت إذ ذاك، وقد ذكر في كتب الأوليات أن نوحا عليه السلام أول من عمل السفينة، والحق أنه لا قطع بذلك، وكل- منصوب على الظرفية و «ما» مصدرية وقتية أي كل وقت مرور، والعامل فيه جوابه وهو سَخِرُوا وقوله سبحانه:
قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ استئناف بياني كأن سائلا سأل فقال: فما صنع نوح عليه السلام عند بلوغهم منه هذا المبلغ؟ فقيل: قال: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا لهذا العمل ومباشرة أسباب الخلاص من العذاب فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ لما أنتم فيه من الإعراض عن استدفاعه بالإيمان والطاعة ومن الاستمرار على الكفر والمعاصي، والتعرض لأسباب حلول سخط الله تعالى التي من جملتها سخريتكم منا واستهزاؤكم بنا، وإطلاق السخرية عليهم حقيقة، وعليه عليه السلام للمشاكلة لأنها لا تليق بالأنبياء عليهم السلام، وفسرها بعضهم بالاستجهال وهو مجاز لأنه سبب للسخرية، فأطلقت السخرية وأريد سبها.
وقيل: إنها منه عليه السلام لما كانت لجزأئهم من جنس صنيعهم لم تقبح فلا حاجة لارتكاب خلاف الظاهر، وجمع الضمير في مِنَّا إما لأن سخريتهم منه عليه السلام سخرية من المؤمنين أيضا أو لأنهم كانوا يسخرون منهم أيضا إلا أنه اكتفى بذكر سخريتهم منه عليه السلام ولذلك تعرض الجميع للمجازاة في قوله: نَسْخَرُ مِنْكُمْ فتكافأ الكلام من الجانبين، والتشبيه في قوله سبحانه: كَما تَسْخَرُونَ إما في مجرد التحقق والوقوع، وإما في التجدد والتكرر حسبما صدر عن ملأ بعد ملأ، وقيل: لا مانع من أن يراد الظاهر ولا ضرر في ذلك لحديث الجزاء، ومن هنا قال بعضهم: إن في الآية دليلا على جواز مقابلة نحو الجاهل والأحمق بمثل فعله ويشهد له قوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى [البقرة: ١٩٤] وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: ٤٠] وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل: ١٢٦] إلى غير ذلك، والظاهر أن كلا الفعلين واقع في الحال.
وقال ابن جريج: المعنى إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا في الدنيا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ في الآخرة، وقيل: في الدنيا عند الغرق. وفي الآخرة عند الحرق، قال الطبرسي: إن المراد من نسخر منكم على هذا نجازيكم على سخريتكم أو نشمت بكم عند غرقكم وحرقكم، وفيه خفاء، هذا وجوز أن يكون عامل كُلَّما قال، وهو الجواب، وجملة سَخِرُوا صفة لملأ أو بدل من مَرَّ بدل اشتمال لأن مرورهم للسخرية فلا يضركون السخرية ليست بمعنى المرور ولا نوعا منه، وأبو حيان جعل ذلك مبعدا للبدلية وليس بذلك، ويلزم على هذا التجويز استمرار هذا القول منه عليه السلام وهو ظاهر، وعلى الاعراب قيل: لا استمرار وإنما أجابهم به في بعض المرات، ورجح بأن المقصود بيان تناهيهم في إيذائه عليه السلام وتحمله لأذيتهم لا مسارعته عليه السلام إلى الجواب كُلَّما وقع منهم ما يؤذيه من الكلام، وقد يقال: إن في ذلك إشارة إلى أنه عليه السلام بعد أن يئس من إيمانهم لم يبال بإغضابهم ولذا هددهم التهديد البليغ بقوله: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ أي يفضحه أو يذله أو يهلكه، وهي أقوال متقاربة، والمراد بذلك العذاب الغرق وَيَحِلُّ عَلَيْهِ حلول الدين المؤجل عَذابٌ مُقِيمٌ أي دائم وهو عذاب النار، ومَنْ عبارة عنهم، وهي موصولة في محل نصب مفعول للعلم، وهو بمعنى المعرفة فيتعدى إلى واحد.
وجوز ابن عطية أن يراد العلم المتعدي إلى مفعولين لكنه اقتصر على واحد، وتعقبه في البحر بأنه لا يجوز حذف الثاني اقتصارا لأن أصله خبر مبتدأ، ولا اختصارا هنا لأنَّه لا دليل على حذفه.
وقيل: إن مَنْ استفهامية مبتدأ، والجملة بعدها خبر، وجملة المبتدأ والخبر معلق عنها سادة مسد المفعول أو المفعولين، قيل: ولما كان مدار سخريتهم استجالهم إياه عليه السلام في مكابدة المشاق الفادحة لدفع ما لا يكاد يدخل تحت الصحة على زعمهم من الطوفان ومقاساة الشدائد في عمل السفينة وكانوا يعدونه عذابا قيل: بعد استجهالهم فَسَوْفَ إلخ يعني أن ما أباشره ليس فيه عذاب لاحق بي فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ من يعذب، ولقد أصاب العلم بعد استجالهم محزه انتهى، وهو ظاهر على تقدير حمل السخرية المنسوبة إليه عليه السلام على الاستجهال.
ولعله يمكن إجراؤه على تقدير حملها على ظاهرها أيضا بأدنى عناية فافهم، ووصف العذاب بالإخزاء لما في الاستهزاء والسخرية من لحوق الخزي والعار عادة والتعرض لحلول العذاب المقيم للمبالغة في التهديد، وفيه من المجاز ما لا يخفى، وتخصيصه بالمؤجل، وإيراد الأول بالإتيان غاية الجزالة، وحكى الزهراوي أنه قرىء يحل بضم الحاء.
حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا غاية لقوله سبحانه: يَصْنَعُ الْفُلْكَ وحَتَّى إما جارة متعلقة به، وإِذا لمجرد الظرفية، وإما ابتدائية داخلة على الشرط وجوابه، والجملة لا محل لها من الإعراب، وحال ما وقع في البين قد
مرت الإشارة إليه، والأمر إما واحد الأوامر أي الأمر بركوب السفينة أو بالفوران أو للسحاب بالإرسال أو للملائكة عليهم السلام بالتصرف فيما يراد أو نحو ذلك، وإما واحد الأمور وهو الشأن أعني نزول العذاب بهم وَفارَ التَّنُّورُ أي نبع منها الماء وارتفع بشدة كما تفور القدر بغليانها وفيه من الاستعارة ما لا يخفى، والمراد من التنور تنور الخبز عند الجمهور، وكان على ما روي عن الحسن ومجاهد تنورا لحواء تخبز فيه ثم صار لنوح عليه السلام وكان من حجارة، وقيل:
هو تنور في الكوفة في موضع مسجدها عن يمين الداخل مما يلي باب كندة، وجاء ذلك في رواية عن علي كرم الله تعالى وجهه،
وقيل: تنور بالهند، وقيل: بعين وردة من أرض الجزيرة العمرية أو من أرض الشام، وقيل: ليس المراد به تنورا معينا بل الجنس، والمراد فار الماء من التنانير، وفي ذلك من عجيب القدرة ما لا يخفى، ولا تنافي بين هذا وقوله سبحانه: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً [القمر: ١٢] إذ يمكن أن يكون التفجير غير الفوران فحصل الفوران للتنور والتفجير للأرض، أو يراد بالأرض أماكن التنانير، ووزنه تفعول من النور، وأصله تنوور فقلبت الواو الأولى همزة لانضمامها، ثم حذفت تخفيفا، ثم شددت النون عوضا عما حذف، ونقل هذا عن ثعلب، وقال أبو علي الفارسي: وزنه فعول، وقيل: على هذا إنه أعجمي ولا اشتقاق له، ومادته تنر، وليس في كلام العرب نون قبل راء، ونرجس معرب أيضا، والمشهور أنه مما اتفق فيه لغة العرب والعجم كالصابون والسمور، وعن ابن عباس وعكرمة والزهري أن التَّنُّورُ وجه الأرض هنا، وعن قتادة أنه أشرف موضع منها أي أعلاه وأرفعه،
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ وغيرهما عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه تنوير الصبح،
والظاهر أنه لم يستعمل في اللغة العجمية بهذه المعاني الأخيرة، وجوز أن يكون فوران التنور مجازا عن ظهور العذاب وشدة الهول، وهذا كما جاء في الخبر حمى الوطيس مجازا عن شدة الحرب وليس بين الجملتين كثير فرق في المعنى وهو معنى حسن لكنه بعيد عما جاءت به الأخبار قُلْنَا احْمِلْ فِيها أي في الفلك، وأنث الضمير لأنه بمعنى السفينة، والجملة استئناف أو جواب إذا مِنْ كُلٍّ أي من كل نوع من الحيوانات ينتفع به الذين ينجون من الغرق وذراريهم بعد، ولم تكن العادة جارية بخلقه من غير ذكر وأنثى، والجار والمجرور متعلق- بأحمل- أو بمحذوف وقع حالا من مفعوله أعني قوله سبحانه: زَوْجَيْنِ وهو تثنية زوج، والمراد به الواحد المزدوج بآخر من جنسه، فالذكر زوج للأنثى كما هي زوج له، وقد يطلق على مجموعها، وليس بمراد، وإلا لزم أن يحمل من كل صنف أربعة، ولئلا يراد ذلك وصف بقوله تعالى: اثْنَيْنِ وحاصل المعنى احمل ذكرا وأنثى من كل نوع من الحيوانات، وقرأ الأكثرون مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ بالإضافة فاثنين على هذا مفعول- احمل- ومِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ حال منه، ولو أخر لكان صفة له أي احمل اثنين من كل زوجين أي صنف ذكر وصنف أنثى، وقيل: مِنْ زائدة وما بعدها مفعول احمل، واثْنَيْنِ نعت لزوجين بناء على جواز زيادة مِنْ في الموجب ثم ما ذكرناه في تفسير العموم الذي مال إليه البعض وأدرج فيه أناس الهوام والطير، وذكر أنه
روي أنه عليه السلام جعل للسفينة ثلاثة بطون وحمل في البطن الأسفل الوحوش والسباع والهوام، وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام، وركب هو ومن معه في البطن الأعلى مع ما يحتاج إليه من الزاد، وحمل معه جسد آدم عليه السلام وجعله معترضا بين الرجال والنساء، وكان حمله بوصية منه عليه السلام توارثها ولده حتى وصلت إلى نوح عليه السلام،
ويعارض هذا التقسيم ما
روي أن الطبقة السفلى للوحش. والوسطى للطعام والعليا له عليه السلام ولمن آمن،
وتوسع بعضهم في العموم فأدرج فيه ما ليس من جنس الحيوان، وأيد بما
أخرجه إسحاق بن بشر وغيره عن علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعا أن نوحا عليه السلام حمل معه في السفينة من جميع الشجر،
وبما
أخرجه أبو الشيخ عن جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما قال: أمر نوح عليه السلام أن يحمل معه مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ فحمل من التمر العجوة واللون.
وأخرج النسائي عن أنس بن مالك أن نوحا عليه السلام نازعه الشيطان في عود الكرم، فقال: هذا لي، وقال نوح: هو لي فاصطلحا على أن لنوح ثلثها، وللشيطان ثلثيها
ولا يكاد يعول على مثل هذه الأخبار عند التنقير، ومما يحمل معها في سفينة ما
أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: تأذى أهل السفينة بالفأر فعطس الأسد فخرج من منخريه سنوران ذكر وأنثى فأكلا الفأر إلا ما أراد الله تعالى أن يبقي منه، وتأذوا بأذى أهل السفينة فعطس الفيل فخرج من منخريه خنزيران ذكر وأنثى فأكلا أذى أهل السفينة،
وفي رواية الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير وغيرهما عنه أن نوحا عليه السلام شكا إلى الله تعالى قرض الفأر حبال السفينة فأوحى الله إليه فسمح جبهة الأسد فخرج سنوران، وشكا عذرة في السفينة فأوحى إليه سبحانه، فمسح ذنب الفيل فخرج خنزيران فأكلا العذرة.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق زيد بن أسلم عن أبيه مرفوعا أن أهل السفينة شكوا الفأرة فقالوا: الفويسقة تفسد علينا طعامنا ومتاعنا. فأوحى الله تعالى إلى الأسد فعطس فخرجت الهرة منه فتخبأت الفأرة منها،
ولم يذكر فيه بحث الخنزير، ويفهم منها على ما فيها أن الهرة لم تكن عند الحمل، ومن الأولين أنها والخنزير لم يكونا، وفي بعض الآثار ما يخالفه،
فقد أخرج أحمد في الزهد وأبو الشيخ عن وهب بن منبه قال لما أمر الله تعالى نوحا عليه السلام بالحمل قال: كيف أصنع بالأسد، والبقرة وكيف أصنع بالعناق والذئب، وكيف أصنع بالحمام والهر؟ فقال الله تعالى: من ألقى بينهما العداوة؟ قال: أنت يا رب قال: فإني أؤلف بينهم حتى لا يتضارون،
ولا يخفى ما بين هذا وبين التقسيم الأول أيضا، وجاء في شأن الأسد روايات مختلفة:
ففي رواية أن أصحابه عليه السلام قالوا: كيف نطمئن ومعنا الأسد؟
فسلط الله تعالى عليه الحمى، وكانت أول حمى نزلت الأرض وفي رواية أنه كان يؤذيهم في السفينة فألقيت عليه الحمى ليشتغل بنفسه، وفي أخرى أنه عليه السلام حين أمر بالحمل قال: يا رب كيف بالأسد والفيل؟ فقال له سبحانه:
سألقي عليهما الحمى وهي ثقيلة وفي أخرى عن أبي عبيدة أنه عليه السلام حين أمر بالحمل لم يستطع أن يحمل الأسد حتى ألقيت عليه الحمى فحمله فأدخله،
ولا يخفى أنها مع دلالة بعضها على أن إلقاء الحمى قبل الدخول، وبعضها على أنه بعده، وكان يغني عن إلقائها بعد دفعا لأذاء التأليف بينه وبين الإنسان كما ألف بين ما مر بعضه مع بعض، ولعل لدفع الأذى بالحمى دون التأليف إن صح ذلك حكمة لكنها غير ظاهرة لنا، وجاء في بعض الآثار ما يفهم منه أنه كان معه عليه السلام في السفينة من الجن ما كان، وفي بعضها أن إبليس عليه اللعنة كان أيضا.
فعن ابن عباس أنه لما أراد الله تعالى أن يدخل الحمار السفينة أخذ نوح بأذني الحمار وأخذ إبليس بذنبه فجعل نوح يجذبه وجعل إبليس يجذبه فقال نوح عليه السلام: ادخل شيطان فدخل الحمار ودخل إبليس معه فلما سارت السفينة جلس في ذنبها يتغنى فقال له نوح: ويلك من أذن لك؟ قال: أنت قال: متى؟ قال: إذ قلت للحمار ادخل شيطان فدخلت بإذن منك، وفي رواية أخرى عنه أن نوحا عليه السلام قال للحمار: ويحك ادخل وإن كان الشيطان معك كلمة جرت على لسانه فدخل ودخل معه الشيطان.
وأخرج ابن عساكر عن عطاء أن اللعين جاء ليركب السفينة فدفعه نوح عليه السلام فقال: يا نوح إني منظور ولا سبيل لك علي فعرف أنه صادق فأمره أن يجلس على خيزران السفينة،
وهو بظاهره مخالف لما روي عن ابن عباس، واختلفوا في أنه كيف جمعت الحيوانات على تفرقها في أكناف الأرض، فقيل: إنها أحست بالعذاب فاجتمعت وعن الزهري أن الله تعالى بعث ريحا فحمل إليه من كل زوجين اثنين من الطير والسباع والوحش والبهائم.
وعن جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما أن الله تعالى بعث جبريل عليه السلام فحشرها فجعل عليه السلام
يضرب بيديه على الزوجين فتقع يده اليمنى على الذكر واليسرى على الأنثى فيدخلهما السفينة حتى أدخل عدة ما أمر الله تعالى به،
وروى إسحاق بن بشر وغيره عن زيد بن ثابت أنه استعصت عليه عليه السلام الماعزة فدفعها في ذنبها فمن ثم انكسر وبدا حياها ومضت النعجة حتى دخلت فمسح على ذنبها فستر حياها.
وفي كتب الأخبار كثير من هذه الآثار التي يقضى منها العجب، وأنا لا أعتقد سوى أن الله عزت قدرته خلق الماعزة والنعجة من قبل على ما هما عليه اليوم وأنه سبحانه لم يخلق الهرة من الأسد وإن أشبهته صورة ولا الخنزير من الفيل وإن كان بينهما شبه ما كما شاهدناه عام مجيء الفيل إلى بغداد ولو كلف الفيل أكل العذرة لكان أحب إلى أهل السفينة من زيادة خنزير فيها وأحب من ذلك كله إليهم أن لا يكون في السفينة غيرهم أو يكون حيوان واحد يخلق لهم من عطاسه ما يريدونه من الحيوانات ويحتاجون إليه بعد.
والذي يميل القلب إليه أن الطوفان لم يكن عاما- كما قال به البعض- وأنه عليه السلام لم يؤمر بحمل ما جرت العادة بتكونه من عفونة الأرض كالفأر والحشرات بل أمر بحمل ما يحتاج إليه إذا نجا ومن معه من الغرق لئلا يغتموا لفقده ويتكلفوا مشقة جلبه من الأصقاع النائية التي لم يصلها الغرق فكأنه قيل: قلنا احمل فيها من كل ما تحتاجونه إذا نجوتم زوجين اثنين، وإن قلنا بعموم الغرق نقول أيضا: إنه عليه السلام لم يكلف بحمل شيء من المتكونات من العفونة بل كلف بالحمل مما يتناسل من الحيوانات لمصلحة بقاء النوع، وكانت السفينة بحيث تسع ذلك عادة أو معجزة وقدرة الله تعالى أجل من أن تضيق عن ذلك، وإن قيل بالعموم على وجه يبقى معه بعض الجبال أجاز أن يقال: إنه عليه السلام لم يحمل إلا مما لا مهرب له ويضر فقده بجماعته، ولو قيل: إن العموم على إطلاقه وأنه عليه السلام لم يحمل في السفينة إلا ما تتسع له عادة مما يحتاج إليه لئلا يضيق أصحابه ذرعا بفقده بالكلية حسبما تقتضيه الطباع البشرية وغرق ما عدا ذلك لكن الله تعالى جلت قدرته خلق نظير ما غرق بعد على الوجه الذي فعل قبل لم يكن ذلك بدعا ممن أمره بين الكاف والنون جل شأنه وعظم سلطانه.
هذا وإنما قدم ذلك على أهله وسائر المؤمنين قيل: لكونه عريقا بالحمل المأمور به لأنه يحتاج إلى مزاولة الأعمال منه عليه السلام في تمييز بعض عن بعض وتعيين الأزواج، وأما البشر فإنما يدخل الفلك باختياره فيخف فيه معنى الحمل، أو لأن ذلك إنما يحمل بمباشرة البشر وهم إنما يدخلونها بعد حملهم إياه، ويجوز أن يكون التقديم حفظا للنظم الكريم عن الانتشار، وأيا ما كان فقوله سبحانه: وَأَهْلَكَ عطف على زَوْجَيْنِ أو على اثْنَيْنِ والمراد بأهله على ما في بعض الآثار امرأته المسلمة وبنوه منها وهم سام عليه السلام- وهو أبو العرب- وأصله على ما قال البكري: بالشين المعجمة، وحام- وهو أبو السودان- قيل: إنه أصاب زوجته في السفينة فدعا نوح عليه السلام أن تغير نطفته فغيرت، وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن أبي صالح، ويافث كصاحب- وهو أبو الترك ويأجوج ومأجوج- وزوجة كل منهم إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ بأنه من المغرقين لظلمهم، وذلك في قوله سبحانه:
وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا الآية، والمراد زوجة له أخرى تسمى واعلة بالعين المهملة، وفي رواية والقة وابنه منها كنعان وكان اسمه فيما قيل: يام وهذا لقبه عند أهل الكتاب وكانا كافرين، وفي هذا دلالة على أن الأنبياء عليهم السلام يحل لهم نكاح الكافرة بخلاف نبينا صلّى الله عليه وسلّم لقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ [الأحزاب: ٥٠] الآية، والاستثناء جوز أن يكون متصلا إن أريد بالأهل الأهل إيمانا، وأن يكون منقطعا إن أريد به الأهل قرابة، ويكفي في صحة الاستثناء المعلومية عند المراجعة إلى أحوالهم والتفحص عن أعمالهم، وجيء بعلى لكون السابق ضارا لهم كما جيء باللام فيما هو نافع في قوله تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ [الصافات: ١٧١] وقوله سبحانه: إِنَّ
الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى
[الأنبياء: ١٠١] وَمَنْ آمَنَ عطف على الأهل أي والمؤمنين من غيرهم وإفراد أولئك منهم للاستثناء المذكور، وإيثار صيغة الافراد في آمَنَ محافظة على لفظ مِنْ للإيذان بالقلة كما أفصح عن ذلك قوله تعالى: وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ قيل: كانوا سبعة زوجته وأبناؤه الثلاثة وكنائنه الثلاث، وروي هذا عن قتادة والحكم بن عقبة وابن جريج ومحمد بن كعب، ويرده عطف وَمَنْ آمَنَ على الأهل إلا أن يكون الأهل بمعنى الزوجة فإنه قد ثبت بهذا المعنى لكن قيل: إنه خلاف الظاهر، والاستثناء عليه منقطع أيضا، وعن ابن إسحاق أنهم عشرة خمسة رجال وخمس نسوة، وعنه أنهم كانوا مع نوح عليه السلام عشرين نصفهم رجال ونصفهم الآخر نساؤهم، وقيل: كانوا ثمانية وسبعين نصفهم ذكور ونصفهم إناث، وقيل: كانوا ثمانين رجلا وثمانين امرأة- وقيل:
والرواية الصحيحة أنهم كانوا تسعة وسبعين، زوجته وبنوه الثلاثة ونساؤهم واثنان وسبعون رجلا وامرأة من غيرهم من بني شيث، واعتبار المعية في الإيمان للإيماء إلى المعية في مقر الإيمان والنجاة.
وَقالَ أي نوح عليه السلام لمن معه من المؤمنين كما ينبىء عنه قوله تعالى: إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.
وقيل: الضمير لله تعالى، وفيه أنه لو كان كذلك لكان المناسب إن ربكم إلخ، ولعل هذا القول بعد إدخال ما أمر بحمله في الفلك من الأزواج كأنه قيل: فحمل الأزواج حسبما أمر أو أدخلها في الفلك، وقال للمؤمنين ارْكَبُوا فِيها أي صيروا فيها، وجعل ذلك ركوبا لأنها في الماء كالمركوب في الأرض ففيه استعارة تبعية من حيث تشبيه الصيرورة فيها بالركوب، وقيل: استعارة مكنية والتعدية بفي لاعتبار الصيرورة وإلا فالفعل يتعدى بنفسه، وإلى هذا ذهب القاضي البيضاوي، وقيل: التعدية بذلك لأنه ضمن معنى ادخلوا، وقيل: تقديره اركبوا الماء فيها، وقيل: في زائدة للتوكيد، وكأن الأول أولى، وقال بعض المحققين: الركوب العلو على شيء متحرك ويتعدى بنفسه واستعماله هاهنا بفي ليس لأن المأمور به كونهم في جوفها لا فوقها كما ظن فإن أظهر الروايات أنه عليه السلام ركب هو ومن معه في الأعلى بل لرعاية جانب المحلية والمكانية في الفلك.
والسر فيه أن معنى الركوب العلو على شيء له حركة إما إرادية كالحيوان أو قسرية كالسفينة والعجلة ونحوهما فإذا استعمل في الأول توفر له حظ الأصل فيقال: ركبت الفرس، وعليه قوله تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها [النحل: ٨] وإن استعمل في الثاني يلوح بمحلية المفعول بكلمة في فيقال: ركبت في السفينة، وعليه الآية الكريمة، وقوله سبحانه: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ [العنكبوت: ٦٥] وحَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها [الكهف: ٧١] انتهى، وظاهره أن الركوب هاهنا حقيقي. وصرح بعضهم أنه ليس به.
وقال الراغب: الركوب في الأصل كون الإنسان على ظهر حيوان، وقد يستعمل في السفينة، وفيه تأكيد لما صرح به البعض بِسْمِ اللَّهِ حال من فاعل (١) ارْكَبُوا والباء للملابسة ولما كانت ملابسة اسم الله عز اسمه بذكره قالوا: المعنى اركبوا مسمين الله، وجوزوا أن تكون الحال محذوفة وهذا معمول لها سادّ مسدّها ولذلك سموه حالا، والأصل ارْكَبُوا قائلين بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها نصب على الظرفية أي وقت إجرائها وإرسائها على أنهما اسما زمان أو مصدران ميميان بمعنى الإجراء والإرساء، ويقدر مضاف محذوف وهو وقت كما في قولك:
أتيتك خفوق النجم فإن التقدير وقت خفوقه إلا أنه لما حذف المضاف سدّ المضاف إليه مسده وانتصب انتصابه وهو
كثير في المصادر، ويجوز أن يكونا اسمي مكان وانتصابهما بالاستقرار الذي تعلق به الجار والمجرور أو بقائلين، ولا يجوز أن يكون- باركبوا- إذ ليس المعنى على ارْكَبُوا في وقت الإجراء والإرساء، أو في مكانهما وإنما المعنى متبركين أو قائلين فيهما، وتعقب القول بانتصابهما مطلقا بأنهما محدودان ومحدود المكان لا بد له من في، وبعضهم يجوز النصب في مثل ذلك بما فيه من الإبهام، وجوز رفعهما فاعلين بالظرف لاعتماده على ذي الحال أو على أنهما مبتدأ ومعطوف عليه وبِسْمِ اللَّهِ خبرا والخبر محذوف تقديره متحققان ونحوه وهو صلة لهما، والجملة إما مقتضية منقطعة عما قبلها لاختلافهما خبرا وطلبا على أن نوحا عليه السلام أمرهم بالركوب في السفينة ثم أخبرهم بأن إجراءها وإرساءها بسم الله تعالى أو بأن إجراءها وإرساءها باسمه تعالى متحققان لا يشك فيهما، وفي ذلك حث على الركوب وإزالة لما عسى يختلج في قلوبهم من خوف الغرق ونحوه، ويروى عن الضحاك أنه عليه السلام كان إذا أراد أن يجريها، ويقول: بِسْمِ اللَّهِ فتجري، وإذا أراد أن يرسيها قال: بِسْمِ اللَّهِ فترسوا، وإما في موضع الحال من ضمير الفلك أي اركبوا فيها مجراة ومرساة باسم الله وهي حال مقدرة إذ لا إجراء ولا إرساء وقت الركوب كذا قيل، وتعقبه في التقريب بأن الحال إنما تكون مقدرة إذا كانت مفردة كمجراة أما إذا كانت جملة فلا لأن معنى الجملة اركبوا وإجراؤها بِسْمِ اللَّهِ وهذا واقع حال الركوب انتهى، وأجاب عنه في الكشف بأنه لا فرق بين قوله تعالى:
فَادْخُلُوها خالِدِينَ [الزمر: ٧٣] وقول القائل: ادخلوها وأنتم مخلدون في عدم المقارنة والرجوع إلى الحال المقدرة فكذلك ما نحن فيه، واعترض على المجيب بأن مراد ذلك القائل إجراؤها مجرى المفرد على نحو كلمته فوه إلى في بأنه تكلف لا حاجة إليه، وهو غير مسلم في المستشهد به أيضا، وإنما ذلك في قول القائل كلمته فاه إلى في انتهى، وكأنه لم ينكشف له مراد صاحب التقريب فإنهم ذكروا أن الفرق بين الحال إذا كانت مفردة وإذا كانت جملة أن الثانية تقتضي التحقق في نفسها والتلبس بها، وربما أشعرت بوقوعها قبل العامل واستمرارها معه كما إذا قلت:
جاءني وهو راكب فإنه يقتضي تلبسه بالركوب واستمراره عليه، وهذا ينافي كونها منتظرة ولا أقل من أن لا يحسن الحمل عليه حيث تيسر الإفراد فافهم، وجوز أن تكون حالا مقدرة أيضا من فاعل ارْكَبُوا، واعترض بأنه لا عائد على ذي الحال، وضمير بِسْمِ اللَّهِ للمبتدأ وتقديره أي فإجراؤها معكم أو بكم كائن بِسْمِ اللَّهِ تكلف، والقول بأن الرضي قد ذكر أن الجملة الحالية إذا كانت اسمية قد تخلو من الرابطين عند ظهور الملابسة نحو خرجت زيد على الباب ليس بشيء لضعف ما ذكر في العربية فلا ينبغي التخريج عليه نعم كون الاسمية لا بد فيها من الواو والقول بأن الحال المقدرة لا تكون جملة مطلقا كل منهما في حيز المنع كما لا يخفى. وجوز أن يكون الاسم مقحما كما في قول لبيد:
فقوما وقولا بالذي قد عرفتما | ولا تخمشا وجها ولا تحلقا الشعر |
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما | ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر |
وقرأ- مجراها ومرساها- بفتح الميم مصدرين أو زمانين أو مكانين على أنهما من جرى ورسا الثلاثيين، وقرأ مجاهد- مجريها ومرسيها- بصيغة اسم الفاعل، وخرج ذلك أبو البقاء على أنهما صفتان للاسم الجليل، وقيل عليه: إن إضافة اسم الفاعل إذا كان بمعنى المستقبل لفظية فهو نكرة لا يصح توصيف المعرفة به فالحق البدلية، والقول بأن مراد المعرب الصفة المعنوية لا النعت النحوي فلا ينافي البدلية بعيد لكن عن الخليل إن ما كانت إضافته غير محضة قد صفحة رقم 255
يصح أن تجعل محضة فتعرف إلا ما كان من الصفة المشبهة فلا تتمحض إضافتها فلا تعرف، والرسو الثبوت والاستقرار ومنه قول الشاعر:
فصبرت نفسا عند ذلك حرة | «ترسو» إذا نفس الجبان تطلع |
وقال بعض المحققين: إن هذا النداء إنما كان قبل الركوب في السفينة والواو لا تدل على الترتيب، وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قرأ ابنها على أن ضمير التأنيث لامرأته، وفي إضافته إليها إشعار بأنه ربيبه لأن الإضافة إلى الأم مع ذكر الأب خلاف الظاهر، وإن جوزوه، ووجه بأنه نسب إليها لكونه كافرا مثلها، وما يقال من أنه كان لغير رشدة لقوله سبحانه: فَخانَتاهُما [التحريم: ١٠] فارتكاب عظيمة لا يقادر قدرها فإن الله تعالى قد طهر الأنبياء عليهم السلام عما هو دون ذلك من النقص بمراحل فحاشاهم ثم حاشاهم أن يشار إليهم بأصبع الطعن وإنما المراد بالخيانة الخيانة في الدين، ونسبة هذا القول إلى الحسن ومجاهد- كما زعم الطبرسي- كذب صريح، وقرأ محمد بن علي وعروة بن الزبير رضي الله تعالى عنهم ابْنَهُ بهاء مفتوحة دون ألف اكتفاء بالألف (١) عنها وهو لغة- كما قال ابن عطية- ومن ذلك قوله:
أما تقود بها شاة فتأكلها | أو أن تبيعه في بعض الأراكيب |
قيل: وهو ضعيف في العربية حتى خصه بعضهم بالضرورة والضمير للأم أيضا، وقرأ ابن عباس ابنه بسكون الهاء، وهي على ما قال ابن عطية وأبو الفضل الرازي لغة أزد فإنهم يسكنون هاء الكناية من المذكر، ومنه قوله:
ونضواي (٢) مشتاقان له أرقان وقيل: إنها لغة لبني كلاب وعقيل، ومن النحويين من يخص هذا السكون بالضرورة وينشد:
وأشرب الماء ما بي نحوه عطش | ألا لأن عيونه سيل واديها |
وقال أبو حاتم: هي لغة سوء لا تعرف وَكانَ فِي مَعْزِلٍ أي مكان عزل فيه نفسه عن أبيه وإخوته ومن آمن من قومه، والمراد بعده عنهم إما حسا أو معنى، وحاصله المخالفة لهم في الدين فمعزل بالكسر اسم مكان العزلة، وهي إما حقيقية أو مجازية، وقد يكون اسم زمان، وإذا فتح كان مصدرا، وقيل: المراد- كان في معزل- عن الكفار قد انفرد عنهم، وظن نوح عليه السلام أنه يريد مفارقتهم ولذلك دعاه إلى السفينة، وقيل: إنما ناداه لأنه كان ينافقه فظن أنه مؤمن، واختاره كثير من المحققين كالماتريدي وغيره، وقيل: كان يعلم أنه كافر إلى ذلك الوقت لكنه عليه السلام ظن أنه عند مشاهدة تلك الأهوال وبلوغ السيل الزبي ينجر عما كان عليه ويقبل الإيمان، وقيل: لم يجزم بدخوله في الاستثناء لما أنه كان كالمجمل فحملته شفقة الأبوة على أن ناداه يا بُنَيَّ بفتح الياء التي هي لام الكلمة اجتزاء بالفتحة عن الألف المبدلة من ياء الإضافة في قوله يا بنيا، وقيل: إنها سقطت لالتقائها ساكنة مع الراء الساكنة بعدها، ويؤيد الأول أنه قرىء كذلك حيث لا ساكن بعد.
ومن الناس من قال: فيه ضعف على ما حكاه يونس من ضعف يا أب ويا أم بحذف الألف والاجتزاء عنها بالفتحة.
وقرأ الجمهور بالكسر اقتصارا عليه من ياء الإضافة، وقيل: إنها حذفت لالتقاء الساكنين كما قيل ذلك في الألف، ونداؤه بالتصغير من باب التحنن والرأفة، وكثيرا ما ينادي الوالد ولده كذلك ارْكَبْ مَعَنا أي في السفينة ولتعينها وللإيذان بضيق المقام حيث حال الجريض دون القريض مع إغناء المعية عن ذكرها لم تذكر، وأطلق الركوب وتخفيف الباء وإدغامها في الميم قراءتان سبعيتان ووجه الإدغام التقارب في المخرج وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ تأكيد للأمر وهو نهي عن مشايعة الكفرة والدخول في غمارهم، وقطع بأن الدخول فيه يوجب الغرق على الطريق البرهاني قالَ سَآوِي أي سأنضم إِلى جَبَلٍ من الجبال، وقيل: عنى طورزيتا يَعْصِمُنِي أي يحفظني بارتفاعه مِنَ
الْماءِ فلا يصل إلي. قال ذلك زعما منه أن ذلك كسائر المياه في أزمنة السيول المعتادة التي ربما يتقي منها بالصعود إلى مرتفع وجهلا منه بأن ذلك إنما كان لإهلاك الكفرة فلا بد أن يدركهم ولو كانوا في قلل الجبال قالَ مبينا له حقيقة الحال وصارفا له عن ذلك الفكر المحال لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ نفي لجنس العاصم المنتظم لنفي جميع أفراده ذاتا وصفة للمبالغة في نفي كون الجبل عاصما، وزاد الْيَوْمَ للتنبيه على أنه ليس كسائر الأيام التي تقع فيها الوقائع وتلم فيها الملمات المعتادة التي ربما يتخلص منها بالالتجاء إلى بعض الأسباب العادية، وعبر عن الماء في محل إضماره بأمر الله أي عذابه الذي أشير إليه أولا بقوله سبحانه: حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا تفخيما لشأنه وتهويلا لأمره وتنبيها لابنه على خطئه في تسميته ماء وتوهمه أنه كسائر المياه التي يتخلص منها بالهرب إلى بعض المهارب المعهودة، وتعليلا للنفي المذكور فإن أمر الله سبحانه لا يغالب وعذابه لا يرد، وتمهيدا لحصر العصمة في جناب الله تعالى عز جاره بالاستثناء كأنه قيل: لا عاصم من أمر الله تعالى إلا هو تعالى، وإنما قيل: إِلَّا مَنْ رَحِمَ تفخيما لشأنه الجليل جل شأنه وإشعارا بعلية رحمته بموجب سبقها غضبه كل ذلك لكمال عنايته عليه السلام بتحقيق ما يتوخاه من نجاة ابنه ببيان شأن الداهية وقطع أطماعه الفارغة وصرف عنانه عن التعلل بما لا يغني عنه شيئا وإرشاده إلى العياذ بالمعاذ الحق عز حماه، ولذا عدل عما يقتضيه الظاهر من الجواب بقوله: لا يعصمك الجبل منه كذا ذكره بعض المحققين وهو أحد أوجه في الآية وأقواها.
والوجه الثاني أن عاصما صيغة نسبة، والمراد بالموصول المرحوم أي لا ذا عصمة أي معصوم إلا من رحمه الله تعالى، وأيد ذلك بأنه قرىء إِلَّا مَنْ رَحِمَ بالبناء للمفعول، واعترضه في الكشف بأن فاعلا بمعنى النسبة قليل، وأجيب بأنه إن أراد قلته في نفسه فممنوع وإن بالنسبة إلى الوصف فلا يضر.
والثالث أن- عاصما- على ظاهره، ومَنْ رَحِمَ بمعنى المرحوم والاستثناء منقطع لا متصل كما في الوجهين الأولين أي لا عاصم من أمر الله لكن من رحمه الله تعالى فهو معصوم، وأورد عليه بأن مثل هذا المنقطع قليل لأنه في الحقيقة جملة منقطعة تخالف الأولى لا في النفي والإثبات فقط بل في الاسمية والفعلية أيضا، والأكثر فيه مثل ما جاءني القوم إلا حمارا، والرابع أن- عاصما- بمعنى معصوم كدافق بمعنى مدفوق وفاتن بمعنى مفتون في قوله:
بطيء القيام رخيم الكلا | م أمسى فؤادي به «فاتنا» |
يعصم اليوم والجار والمجرور متعلق بذلك الفعل ومنع جواز أن يكون الْيَوْمَ منصوبا باسم- لا- وأن يكون الجار متعلقا به لأنه يلزم حينئذ أن يكون معربا منونا للطول.
وجوز الحوفي أن يكون الْيَوْمَ متعلقا بمحذوف وقع خبرا- للا- والجار متعلق بذلك المحذوف أيضا، وأن يكون متعلقا بمحذوف هو الخبر، والْيَوْمَ في موضع النعت لعاصم، ورد أبو البقاء خبرية اليوم بأنه ظرف زمان وهو لا يكون خبرا عن الجثة، والتزم كونه معمول من أمر الله وكون الخبر هو الجار والمجرور، ورد أبو حيان جواز النعتية بأن ظرف الزمان لا يكون نعتا للجثث كما لا يكون خبرا عنها وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ أي بين نوح عليه السلام وابنه فانقطع ما بينهما من المجاوبة، قيل: كانا يتراجعان الكلام فما استتمت المراجعة حتى جاءت موجة عظيمة وكان راكبا على فرس قد بطر وأعجب بنفسه فالتقمته وفرسه، وليس في الآية هنا إلا إثبات الحيلولة، وأما علمه عليه السلام بغرقه فلم يحصل إلا بعد، وقال الفراء: بينهما أي بين ابن نوح عليه السلام والجبل، وأخرج ذلك ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن القاسم بن أبي بزة، وتعقبه العلامة أبو السعود بأن قوله تعالى: فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ إنما يتفرع على حيلولة الموج بينه عليه السلام وبين ابنه لا بينه وبين الجبل لأنه بمعزل عن كونه عاصما وإن لم يحل بينه وبين الملتجأ إليه موج، وأجيب بأن التفريع لا ينافي ذلك لأن المراد فكان من غير مهلة أو هو بناء على ظنه أن الماء لا يصل إليه، وفي الآية دلالة على غرق سائر الكفرة على أبلغ وجه. فكأن ذلك أمر مقرر الوقوع غير مفتقر إلى البيان، وفي إيراد- كان- دون صار مبالغة في كونه منهم وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي أي انشفي استعير من ازدراد الحيوان ما يأكله للدلالة على أن ذلك ليس كالشف المعتاد التدريجي، وتخصيص البلع بما يؤكل هو المشهور عن اللغويين، وقال الليث: يقال:
بلع الماء إذا شربه وهو ظاهر في أنه غير خاص بالمأكول، وذكر السيد أن ذلك مجاز، وأخرج ابن المنذر وغيره عن وهب بن منبه أن البلع بمعنى الازدراد لغة حبشية، وأخرج أبو الشيخ عن جعفر بن محمد عن أبيه أنه بمعنى الشرب لغة هندية ماءَكِ أي ما على وجهك من ماء الطوفان وعبر عنه بالماء بعد ما عبر عنه فيما سلف بأمر الله تعالى لأن المقام مقام النقص والتقليل لا مقام التفخيم والتهويل وَيا سَماءُ أَقْلِعِي أي أمسكي عن إرسال المطر يقال: أقلعت السماء إذا انقطع مطرها وأقلعت الحمى إذا كفت، والظاهر أن المطر لم ينقطع حتى قيل للسماء ما قيل، وهل فوران الماء كان مستمرا حتى قيل للأرض ما قيل أم لا؟ لم أر فيه شيئا، والآية ليست نصا في أحد الأمرين وَغِيضَ الْماءُ أي نقص يقال: غاضه إذا نقصه وجميع معانيه راجعة إليه.
وقول الجوهري: غاض الماء إذا قل ونضب، وغيض الماء فعل به ذلك لا يخالفه فإن القلة عين النقصان، وتفسير ذلك بالنقص مروي عن مجاهد وَقُضِيَ الْأَمْرُ أي أنجز ما وعد الله تعالى نوحا عليه السلام من إهلاك كفار قومه وإنجائه بأهله المؤمنين، وجوز أن يكون المعنى أتم الأمر وَاسْتَوَتْ استقرت يقال: استوى على السرير إذا استقر عليه عَلَى الْجُودِيِّ بتشديد الياء، وقرأ الأعمش وابن أبي عبلة بتخفيفها وهما لغتان- كما قال ابن عطية- وهو جبل بالموصل، أو بالشام، أو بآمل- بالمد وضم الميم والمشهور الأول.
وجاء في بعض الآثار أن الجبال تشامخت إذ ذاك وتواضع هو لله تعالى شأنه فأكرمه سبحانه باستواء السفينة عليه، من تواضع الله سبحانه رفعه، وكان استواؤها عليه يوم عاشوراء فقد أخرج أحمد وغيره عن أبي هريرة قال: «مر النبي صلّى الله عليه وسلّم بأناس من اليهود وقد صاموا يوم عاشوراء فقال: ما هذا الصوم؟ فقيل: هذا اليوم الذي أنجى الله تعالى فيه موسى عليه السلام وبني إسرائيل من الغرق وغرق فيه فرعون، وهذا يوم استوت فيه السفينة على الجودي فصامه نوح وموسى عليهما السلام شكرا لله تعالى، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أنا أحق بموسى عليه السلام وأحق بصوم هذا اليوم فصامه وأمر أصحابه بالصوم»
وأخرج الأصبهاني في الترغيب عنه رضي الله تعالى عنه أنه اليوم الذي ولد فيه عيسى عليه
السلام أيضا وأن صيامه يعدل سنة مبرورة، وكان ركوبه عليه السلام- فيما روي عن قتادة- في عشر خلون من رجب.
وأخرج ابن جرير عن عبد العزيز بن عبد الغفور عن أبيه مرفوعا أنه عليه السلام ركب في أول يوم من رجب فصام هو ومن معه وجرت بهم السفينة ستة أشهر فانتهى ذلك إلى المحرم فأرست السفينة على الجودي يوم عاشوراء فصام نوح عليه السلام وأمر جميع من معه من الوحش والدواب فصاموا شكرا لله.
وفي بعض الآثار أنها طافت بهم الأرض كلها ولم تدخل الحرم لكنها طافت به أسبوعا وأن الحجر الأسود خبىء في جبل أبي قبيس وأن البيت رفع إلى السماء، وفي رواية ابن عساكر عن مجاهد أنه لم يدخل الحرم من الماء شيء،
والظاهر على هذا أنه لا خبء كما أنه لا رفع، وعندي أن رواية ثبوتهما جميعا مما لا تكاد تصح، وبفرض صحتها لا يظهر لي سر رفع البيت بلا حجر وخبء الحجر بلا بيت بل عندي في رفع البيت مطلقا تردد، وإن كنت ممن لا يتردد في أن الله تعالى على كل شيء قدير وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي هلاكا لهم، واللام صلة المصدر، وقيل: متعلق بقيل وأن المعنى قيل لأجلهم بعدا وهو خلاف الظاهر، والتعرض لوصف الظلم للإشعار بعليته للهلاك ولتذكير ما سبق في قوله سبحانه: وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا [هود: ٣٧] ولا يخفى ما في هذه الآية أيضا من الدلالة على عموم هلاك الكفرة. ويشهد لذلك آيات أخر وأخبار كثيرة بل فيها ما هو على علاته ظاهر في عموم هلاك من على الأرض ما عدا أهل السفينة فعن عبيد بن عمير أن فيمن أصاب الغرق امرأة معها صبي لها فوضعته على صدرها فلما بلغها الماء وضعته على منكبها فلما بلغها الماء وضعته على يديها فقال الله سبحانه: لو رحمت أحدا من أهل الأرض لرحمتها ولكن حق القول مني.
وزعم بعضهم أنه لم ينج أحد من الكفار سوى عوج بن عوق وكان الماء يصل إلى حجرته، وسبب نجاته أن نوحا عليه السلام احتاج إلى خشب ساج فلم يمكنه نقله فحمله عوج من الشام إليه عليه السلام فنجاه الله تعالى من الغرق لذلك، وظاهر كلام القاموس يقتضي نجاته، فقد ذكر فيه عوج بن عوق- بضمهما- رجل ولد في منزل آدم عليه السلام فعاش إلى زمن موسى عليه السلام، والحق أنه لم ينج أحد من الكفار أصلا، وخبر عوج يرويه هيان بن بيان فلا تعج إلى القول به ولا يشكل إغراق الأطفال الذين لا ذنب لهم لما أنه مجرد سبب للموت بالنسبة إليهم وأي محذور في إماتة من لا ذنب له وفي كل وقت يميت الله سبحانه من ذلك ما لا يحصى وهو جل شأنه المالك الحق والمتصرف المطلق يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ولا يحتاج في الجواب إلى ما
أخرجه إسحاق بن بشر وابن عساكر عن عبد الله ابن زياد بن سمعان عن رجال سماهم أن الله تعالى أعقم رجالهم قبل الطوفان بأربعين عاما وأعقم نساءهم فلم يتوالدوا أربعين عاما منذ دعا نوح عليه السلام حتى أدرك الصغير فبلغ الحنث وصارت لله تعالى عليهم الحجة ثم أنزل السماء عليهم بالطوفان إذ يبقى عليه مع ضعفه والتعارض بينه
وبين الخبر السابق آنفا أمر إهلاك ما لم يكن في السفينة من الحيوانات وقد جاء عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أن نوحا عليه السلام لما حمل من حمل في السفينة رأت البهائم والوحش والسباع العذاب فجعلت تلحس قدمه عليه السلام وتقول: احملنا معك فيقول: إنما أمرت أن أحمل من كل زوجين اثنين ولم يحملها وكذا لا يحتاج إلى الجواب بأن الله تعالى إنما أهلك أولئك الأطفال لعلمه جل شأنه بما كانوا فاعلين وذلك كما يقال في وجه إدخال أطفال الكفار النار يوم القيامة على قول من يراه لما أن فيه ما فيه، وبالجملة إماتة الأحياء بأي سبب كان دفعة أو تدريجا مما لا محذور فيه ولا يسأل عنه.
هذا واعلم أن هذه الآية الكريمة قد بلغت من مراتب الإعجاز أقاصيها واستذلت مصاقع العرب فسفعت بنواصيها وجمعت من المحاسن ما يضيق عنه نطاق البيان وكانت من سمهري البلاغة مكان السنان، يروى أن كفار قريش قصدوا أن يعارضوا القرآن فعكفوا على لباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوما لتصفوا أذهانهم فلما أخذوا فيما قصدوه وسمعوا هذه الآية قال بعضهم لبعض: هذا الكلام لا يشبه كلام المخلوقين فتركوا ما أخذوا فيه وتفرقوا، ويروى أيضا أن ابن المقفع- وكان كما في القاموس فصيحا بليغا، بل قيل: إنه أفصح أهل وقته- رام أن يعارض القرآن فنظم كلاما وجعله مفصلا وسماه سورا فاجتاز يوما بصبي يقرؤها في مكتب فرجع ومحا ما عمل، وقال: أشهد أن هذا لا يعارض أبدا وما هو من كلام البشر، ولا يخفى أن هذا لا يستدعي أن لا يكون سائر آيات القرآن العظيم معجزا لما أن حد الإعجاز هو المرتبة التي يعجز البشر عن الإتيان بمثلها ولا تدخل على قدرته قطعا، وهي تشتمل على شيئين: الأول الطرف الأعلى من البلاغة أعني ما ينتهي إليه البلاغة ولا يتصور تجاوزها إياه، والثاني ما يقرب من ذلك الطرف أعني المراتب العلية التي تتقاصر القوى البشرية عنها أيضا ومعنى إعجاز آيات الكتاب المجيد بأسرها هو كونها مما تتقاصر القوى البشرية عن الإتيان بمثلها سواء كانت من القسم الأول أو الثاني، فلا يضر تفاوتها في البلاغة وهو الذي قاله علماء هذا الشأن، وأنشد بعض الفرس في ذلك:
در بيان ودر فصاحت كي بود يكسان سخن | ور چهـ كوينده بود جون حافظ وجون أصمعي |
وقد فصل بعض مزايا هذه الآية المهرة المتقنون وتركوا من ذلك ما لا يكاد يصفه الواصفون، ولا بأس بذكر شيء مما ذكر إفادة لجاهل وتذكير لفاضل غافل، فنقول: ذكر العلامة السكاكي أن النظر فيها من أربع جهات: من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني وهما مرجعا البلاغة ومن جهة الفصاحة المعنوية ومن جهة الفصاحة اللفظية، أما النظر فيها من جهة علم البيان وهو النظر فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بذلك من القرينة والترشيح والتعريض فهو أنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى أردنا أن نردّ ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد. وأن نقطع طوفان السماء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح عليه السلام وهو إنجاء ما كنا وعدناه من إغراق قومه فقضى، وأن نسوي السفينة على الجودي فاستوت وأبقينا الظلمة غرقى، بنى سبحانه الكلام على تشبيه المراد منه بالمأمور الذي لا يتأتى منه لكمال هيبته من الآمر العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود تصويرا لاقتداره سبحانه العظيم، وأن هذه الأجرام العظيمة من السماوات والأرض تابعة لإرادته تعالى إيجادا وإعداما ولمشيئته فيها تغييرا أو تبديلا كأنها عقلاء مميزون قد عرفوه جل شأنه حق معرفته وأحاطوا علما بوجوب الانقياد لأمره والإذعان لحكمه وتحتم بذل المجهود عليه في تحصيل مراده وتصوروا مزيد اقتداره فعظمت مهابته في نفوسهم وضربت سرادقها في أفنية ضمائرهم فكما يلوح لهم إشارته سبحانه كان المشار إليه مقدما، وكما يرد عليهم أمره تعالى شأنه كان المأمور به متمما لا تلقى لإشارته بغير الإمضاء والانقياد ولا لأمره بغير الإذعان والامتثال. ثم بنى على مجموع التشبيهين نظم الكلام فقال جل وعلا: قِيلَ على سبيل المجاز عن الإرادة من باب ذكر المسبب وإرادة السبب لأن الإرادة تكون سببا لوقوع القول في الجملة وجعل قرينة هذا المجاز خطاب الجماد وهو يا أَرْضُ وَيا سَماءُ إذ يصح أن يراد حصول شيء متعلق بالجماد ولا يصح القول له ثم قال سبحانه كما ترى: يا أَرْضُ وَيا سَماءُ مخاطبا لهما على سبيل الاستعارة للشبه المذكور، والظاهر أنه أراد أن هناك استعارة بالكناية حيث ذكر المشبه أعني السماء والأرض المراد منهما حصول أمر وأريد المشبه به أعني المأمور صفحة رقم 261
الموصوف بأنه لا يتأتى منه العصيان ادعاء بقرينة نسبة الخطاب إليه ودخول حرف النداء عليه- وهما من خواص المأمور المطيع- ويكون هذا تخييلا.
وقد يقال: أراد أن الاستعارة هاهنا تصريحية تبعية في حرف النداء بناء على تشبيه تعلق الإرادة بالمراد منه بتعلق النداء والخطاب بالمنادى المخاطب وليس بشيء إذ لا يحسن هذا التشبيه ابتداء بل تبعا للتشبيه الأول فكيف يجعل أصلا لمتبوعه؟! على أن قوله للشبه المذكور يدفع هذا الحمل، ثم استعار لغور الماء في الأرض البلع الذي هو اعمال الجاذبة في المطعوم للشبه بينهما وهو الذهاب إلى مقر خفي.
وفي الكشاف جعل البلع مستعارا لنشف الأرض الماء وهو أولى، فإن النشف دال على جذب من أجزاء الأرض لما عليها كالبلع بالنسبة إلى الحيوان، ولأن النشف فعل الأرض والغور فعل الماء مع الطباق بين الفعلين تعديا، ثم استعار الماء للغذاء استعارة بالكناية تشبيها له بالغذاء لتقوي الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوي الآكل بالطعام، وجعل قرينة الاستعارة لفظة ابْلَعِي لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء.
ولا يخفى عليك أنه إذا اعتبر مذهب السلف في الاستعارة يكون ابْلَعِي استعارة تصريحية ومع ذلك يكون بحسب اللفظ قرينة للاستعارة بالكناية في الماء على حد ما قالوا في: يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ [البقرة: ٢٧، الرعد:
٢٥] وأما إذا اعتبر مذهبه فينبغي أن يكون البلع باقيا على حقيقته كالإنبات في أنبت الربيع البقل وهو بعيد، أو يجعل مستعارا لأمر متوهم كما في نطقت الحال، فيلزمه القول بالاستعارة التبعية كما هو المشهور، ثم إنه تعالى أمر على سبيل الاستعارة للتشبيه الثاني وخاطب في الأمر ترشيحا لاستعارة النداء.
والحاصل أن في لفظ ابْلَعِي باعتبار جوهره استعارة لغور الماء وباعتبار صورته أعني كونه صورة أمر استعارة أخرى لتكوين المراد وباعتبار كونه أمر خطاب ترشيح للاستعارة المكنية التي في المنادى فإن قرينتها النداء وما زاد على قرينة المكنية يكون ترشيحا لها، وأما جعل النداء استعارة تصريحية تبعية حتى يكون خطاب الآمر ترشيحا لها فقد عرفت ما فيه، ثم قال جل وعلا: ماءَكِ بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالمالك، واختار ضمير الخطاب لأجل الترشيح، وحاصله أن هناك مجازا لغويا في الهيئة الإضافية الدالة على الاختصاص الملكي ولهذا جعل الخطاب ترشيحا لهذه الاستعارة من حيث إن الخطاب يدل على صلوح الأرض للمالكية فما قيل: إن المجاز عقلي والعبارة مصروفة عن الظاهر ليس بشيء، ثم اختار لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان من المطر أو الفعل ففي أَقْلِعِي استعارة باعتبار جوهره وكذا باعتبار صيغته أيضا وهي مبنية على تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ، والخطاب فيه أيضا ترشيح لاستعارة النداء، والحاصل أن الكلام فيه مثل ما مر في ابْلَعِي ثم قال سبحانه: وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً
فلم يصرح جل وعلا بمن غاض الماء ولا بمن قضى الأمر وسوى السفينة وقال بعدا كما لم يصرح سبحانه بقائل يا أَرْضُ وَيا سَماءُ في صدر الآية سلوكا في كل واحد من ذلك لسبيل الكناية لأن تلك الأمور العظام لا تصدر إلا من ذي قدرة لا يكتنه قهار لا يغالب فلا مجال لذهاب الوهم إلى أن يكون غيره جلت عظمته قائلا: يا أَرْضُ ويا سَماءُ ولا غائض ما غاض ولا قاضي مثل ذلك الأمر الهائل، أو أن يكون تسوية السفينة وإقرارها بتسوية غيره.
والحاصل أن الفعل إذا تعين لفاعل بعينه استتبع لذلك أن يترك ذكره ويبني الفعل لمفعوله، أو يذكر ما هو أثر لذلك الفعل على صيغة المبني للفاعل، ويسند إلى ذلك المفعول فيكون كناية عن تخصيص الصفة التي هي الفعل بموصوفها، وهذا أولى مما قيل في تقرير الكناية هنا: إن ترك ذكر الفاعل وبناء الفعل للمفعول من لوازم العلم بالفاعل
وتعينه لفاعلية ذلك الفعل فذكر اللازم وأريد الملزوم لما أن استوت غير مبني للمفعول- كقيل وغيض- ثم إنه تعالى ختم الكلام بالتعريض تنبيها لسالكي مسلك أولئك القوم في تكذيب الرسل عليهم السلام ظلما لأنفسهم لا غير ختم إظهار لمكان السخط ولجهة استحقاقهم إياه وأن قيامة الطوفان وتلك الصورة الهائلة ما كانت إلا لظلمهم كما يؤذن بذلك الدعاء بالهلاك بعد هلاكهم والوصف بالظلم مع تعليق الحكم به، وذكر بعضهم أن البعد في الأصل ضد القرب وهو باعتبار المكان ويكون في المحسوس، وقد يقال في المعقول نحو ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً [النساء: ١٦٧] واستعماله في الهلاك مجاز، قال ناصر الدين: يقال بعد بعدا بضم فسكون وبعدا بالتحريك إذا بعد بعدا بعيدا بحيث لا يرجى عوده، ثم استعير للهلاك وخص بدعاء السوء ولم يفرق في القاموس بين صيغتي الفعل في المعنيين حيث قال:
البعد معروف والموت وفعلهما- ككرم وفرح- بعدا وبعدا فافهم.
وزعم بعضهم أن الأرض والسماء أعطيتا ما يعقلان به الأمر فقيل لهما حقيقة ما قيل، وأن القائل بُعْداً نوح عليه السلام ومن معه من المؤمنين، ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر ولا أثر فيه يعول عليه، والكلام على الأول أبلغ، وأما النظر فيها من جهة علم المعاني وهو النظر في فائدة كل كلمة فيها وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها فذلك أنه اختير يا دون سائر أخواتها لكونها أكثر في الاستعمال وأنها دالة على بعد المنادى الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة وإبداء شأن العزة والجبروت، وهو تبعيد المنادى المؤذن بالتهاون به ولم يقل يا أَرْضُ بالكسر لأن الإضافة إلى نفسه جل شأنه تقتضي تشريفا للأرض وتكريما لها فترك إمدادا للتهاون لم يقل يا أيتها الأرض مع كثرته في نداء أسماء الأجناس قصدا إلى الاختصار والاحتراز عن تكلف التنبيه المشعر بالغفلة التي لا تناسب ذلك المقام، واختير لفظ الأرض والسماء على سائر أسمائهما كالمقلة والغبراء وكالمظلة والخضراء لكونهما أخصر وأورد في الاستعمال وأوفى بالمطابقة، فإن تقابلهما إنما اشتهر بهذين الاسمين، واختير لفظ ابْلَعِي على ابتلعي لكونه أخصر وأوفر تجانسا- باقلعي- لأن همزة الوصل إن اعتبرت تساويا في عدد الحروف وإلا تقاربا فيه بخلاف ابتلعي، وقيل:
ماءَكِ بالإفراد دون الجمع لما فيه من صورة الاستكثار المتأبى عنها مقام إظهار الكبرياء وهو الوجه في إفراد الأرض والسماء وإنما لم يقل ابْلَعِي بدون المفعول لئلا يستلزم تركه ما ليس بمراد من تعميم الابتلاع للجبال والتلال والبحار وساكنات الماء بأسرهن نظرا إلى مقام عظمة الآمر المهيب وكمال انقياد المأمور، ولما علم أن المراد بلع الماء وحده علم أن المقصود بالإقلاع إمساك السماء عن إرسال الماء فلم يذكر متعلق أَقْلِعِي اختصارا واحترازا عن الحشو المستغنى عنه وهذا هو السبب في ترك ذكر حصول المأمور به بعد الأمر فلم يقل قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي فبلعت وَيا سَماءُ أَقْلِعِي فقلعت لأن مقام الكبرياء وكمال الانقياد يغني عن ذكره الذي ربما أوهم إمكان المخالفة، واختير غيض على غيض المشدد لكونه أخصر.
وقيل: الماء دون ماء طوفان السماء، وكذا الأمر دون أمر نوح وهو إنجاز ما وعد لقصد الاختصار، والاستغناء بحرف التعريف عن ذلك لأنه إما بدل من المضاف إليه كما هو مذهب الكوفية، وإما لأنه يغني غناء الإضافة في الإشارة إلى المعهود، واختير استوت على سويت أي أقرت مع كونه أنسب بأخواته المبنية للمفعول اعتبارا لكون الفعل المقابل للاستقرار أعني الجريان منسوبا إلى السفينة على صيغة المبني للفاعل في قوله تعالى: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ مع أن اسْتَوَتْ أخصر من سويت، واختير المصدر أعني بُعْداً على ليبعد القوم طلبا لتأكيد معنى الفعل بالمصدر مع الاختصار في العبارة وهو نزول بُعْداً وحده منزلة ليبعدوا بعدا مع فائدة أخرى هي الدلالة على استحقاق الهلاك بذكر اللام، وإطلاق الظلم عن مقيداته في مقام المبالغة يفيد تناول كل نوع فيدخل فيه ظلمهم على
أنفسهم لزيادة التنبيه على فظاعة سوء اختيارهم في التكذيب من حيث إن تكذيبهم للرسل ظلم على أنفسهم لأن ضرره يعود إليهم، هذا من حيث النظر إلى تركيب الكلم، وأما من حيث النظر إلى ترتيب الجمل فذلك أنه قدم النداء على الأمر فقيل: يا أَرْضُ ابْلَعِي وَيا سَماءُ أَقْلِعِي دون أن يقال: ابلعي يا أرض، واقلعي يا سماء جريا على مقتضى اللازم فيمن كان مأمورا حقيقة من تقديم التنبيه ليتمكن الأمر الوارد عقيبه في نفس المنادى قصدا بذلك لمعنى الترشيح للاستعارة المكنية في الأرض والسماء، ثم قدم أمر الأرض على أمر السماء لكونها الأصل نظرا إلى كون ابتداء الطوفان منها حيث فار تنورها أولا، ثم جعل قوله سبحانه: وَغِيضَ الْماءُ تابعا لأمر الأرض والسماء لاتصاله بقصة الماء وأخذه بحجزتها، ألا ترى أصل الكلام قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ فبلعت ماءها وَيا سَماءُ أَقْلِعِي عن إرسال الماء فأقلعت عن إرساله وَغِيضَ الْماءُ النازل من السماء فغاض.
وقيد الماء بالنازل وإن كان في الآية مطلقا لأن ابتلاع الأرض ماءها فهم من قوله سبحانه: ابْلَعِي ماءَكِ.
واعترض بأن الماء المخصوص بالأرض إن أريد به ما على وجهها فهو يتناول القبيلين الأرضي والسمائي وإن أريد به ما نبع منها فاللفظ لا يدل عليه بوجه، ولهذا حمل الزمخشري الماء على مطلقه، وأشعر كلامه بأن غيض الماء إخبار عن الحصول المأمور به من قوله سبحانه: يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي فالتقدير قيل لهما ذلك فامتثلا الأمر ونقص الماء.
ورجح الطيبي ما ذهب إليه السكاكي زاعما أن معنى الغيض حينئذ ما قاله الجوهري، وهو عنده مخالف للمعنى الذي ذكره الزمخشري فقال: إن إضافة الماء إلى الأرض لما كانت ترشيحا للاستعارة تشبيها لاتصاله بها باتصال الملك بالمالك ولذا جيء بضمير الخطاب اقتضت إخراج سائر المياه سوى الذي بسببه صارت الأرض مهيأة للخطاب بمنزلة المأمور المطيع وهو المعهود في قوله تعالى: وَفارَ التَّنُّورُ وبهذا الاعتبار يحصل التواغل في تناسي التشبيه والترشيح، ولو أجريت الإضافة على غير هذا تكون كالتجريد وكم بينهما، هذا ولو حمل على العموم لاستلزام تعميم ابتلاعه المياه بأسرها لورود الأمر من مقام العظمة كما علمت من كلام السكاكي، وليس بذاك، وتعقبه في الكشف بأنه دعوى بلا دليل ورد يمين إذ لا معهود، والظاهر ما على وجه الأرض من الماء ولا ينافي الترشيح وإضافة المالكية، ثم الظاهر من تنزيل الماء منزلة الغذاء أن تجعل الإضافة من باب إضافة الغذاء إلى المغتذي في النفع والتقوية وصيرورته جزءا منه ولا نظر فيه إلى كونه مملوكا أو غير ذلك، وأما التعميم فمطلوب وحاصل على التفسيرين لانحصار الماء في الأرضي والسمائي، وقد قلتم بنضوبهما من قوله سبحانه فبلعت. وقوله تعالى: وَغِيضَ ولا شك أن ما عندنا من الماء غير ماء الطوفان، هذا والمطابق تفسير الزمخشري، ألا ترى إلى قوله جل وعلا: فَالْتَقَى الْماءُ أي الأرضي والسمائي، وهاهنا تقدم الماءان في قوله سبحانه: ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي لأن تقديره عن إرسال الماء على زعمهم، فإذا قيل: وغيض الماء رجع إليهما لا محالة لتقدمهما، ثم إذا جعل من توابع أَقْلِعِي خاصة لم يحسن عطفه على أصل القصة أعني وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي كيف وفي إيثار هذا التفسير الإشارة إلى أنه زال كونه طوفانا لأن نقصان الماء غير الإذهاب بالكلية، وإلى أن الأجزاء الباطنة من الأرض لم تبق على ما كانت عليه من قوة الإنباع ورجعت إلى الاعتدال المطلوب وليس في الاختصاص بالنضوب هذا المعنى البتة انتهى.
وزعم الطبرسي أن أئمة البيت رضي الله تعالى عنهم على أن الماء المضاف هو ما نبع وفار وأنه هو الذي ابتلع وغاض لا غير، وأن ماء السماء صار بحارا أو نهارا.
وأخرج ابن عساكر من طريق الكلبي عن ابن عباس ما يؤيده، وهذا مخالف لما يقتضيه كلام السكاكي مخالفة
ظاهرة، وفي القلب من صحته ما فيه، ثم إنه تعالى أتبع غيض الماء ما هو المقصود الأصلي من القصة، وهو قوله جلت عظمته: وَقُضِيَ الْأَمْرُ ثم أتبع ذكر المقصود حديث السفينة لتأخره عنه في الوجود، ثم ختمت القصة بالتعريض الذي علمته، وهذا كله نظر في الآية من جانبي البلاغة، وأما النظر فيها من جانب الفصاحة المعنوية فهي كما ترى نظم للمعاني لطيف. وتأدية لها ملخصة مبينة لا تعقيد يعثر الكفر في طلب المراد ولا التواء يشيك الطريق إلى المرتاد بل إذا جربت نفسك عند استماعها وجدت ألفاظها تسابق معانيها ومعانيها تسابق ألفاظها فما من لفظة فيها تسبق إلى أذنك إلا ومعناها أسبق إلى قلبك، وأما النظر فيها من جانب الفصاحة اللفظية فألفاظها على ما ترى عربية مستعملة جارية على قوانين اللغة سليمة عن التنافر بعيدة عن البشاعة عذبة على العذبات سلسلة على الإسلات كل منها كالماء في السلالة وكالعسل في الحلاوة وكالنسيم في الرقة، ولله تعالى در التنزيل ماذا جمعت آياته:
وعلى تفنن واصفيه بحسنه | يفني الزمان وفيه ما لم يوصف |
وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ أي أراد ذلك بدليل تفريع قوله سبحانه: فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي عليه، وقيل:
النداء على حقيقته والعطف بالفاء لكون حق التفصيل يعقب الإحمال وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ أي وإن وعدك ذلك أو كل وعد تعده حق لا يتطرق إليه خلف فيدخل فيه الوعد المعهود دخولا أوليا.
وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ لأنك أعلمهم وأعدلهم، وقد ذكر أنه إذا بنى أفعل من الشيء الممتنع من التفضيل والزيادة يعتبر فيما يناسب معناه معنى الممتنع، وقال العز بن عبد السلام في أماليه: إن هذا ونحوه من أرحم الراحمين وأحسن الخالقين مشكل لأن أفعل لا يضاف إلا إلى جنسه، وهنا ليس كذلك لأن الخلق من الله سبحانه بمعنى الإيجاد ومن غيره بمعنى الكسب وهما متباينان يعني على المشهور من مذهب الأشاعرة، والرحمة من الله تعالى إن حملت على الإرادة أو جعلت من مجاز التشبيه صح وإن أريد إيجاد فعل الرحمة كان مشكلا أيضا إذ لا موجد سواه سبحانه، صفحة رقم 265
وأجاب الآمدي بأنه بمعنى أعظم من يدعي بهذا الاسم، واستشكل بأن فيه جعل التفاضل في غير ما وضع اللفظ بإزائه وهو يناسب مذهب المعتزلة فافهم، وقيل: المعنى هنا أنك أكثر حكمة من ذوي الحكم على أن الحاكم من الحكم كالدارع من الدرع، واعترض عليه بأن الباب ليس بقياسي وأنه لم يسمع حاكم بمعنى حكيم وأنه لا يبنى منه أفعل إذا لأنه ليس جاريا على الفعل لا يقال: ألبن وأتمر من فلان إذا لا فعل بذلك المعنى، والجواب بأنه قد كثر في كلامهم فجوز على أن يكون وجها مرجوحا وبأنه من قبيل أحنك الشاتين لا يخلو عن تعسف كما في الكشف، وتعقب بأن للحكمة فعلا ثلاثيا وهو حكم، وأفعل من الثلاثي مقيس، وأيضا سمع احتنك الجراد وألبن وأتمر فغايته أن يكون من غير الثلاثي ولا يخفى ما فيه، ومنهم من فسره على هذا بأعلمهم بالحكمة كقولهم: آبل من أبل بمعنى أعلم وأحذق بأمر الإبل، وأيا ما كان فهذا النداء منه عليه السلام يقطر منه الاستعطاف، وجميل التوسل إلى من عهده منعما مفضلا في شأنه أولا وآخرا وهو على طريقة دعاء أيوب عليه السلام إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:
٨٣] فيكون ذلك قبل الغرق، والواو لا تقتضي الترتيب، وقيل: إن النداء إنما كان بعده والمقصود منه الاستفسار عن سبب عدم إنجائه مع سبق وعده تعالى بإنجاء أهله وهو منهم، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا تمام الكلام في ذلك قالَ استئناف بياني كأنه قيل، ما قال له ربه سبحانه حين ناداه بذلك؟ فقيل: قال: يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ أي ليس منهم أصلا لأن مدار الأهلية هو القرابة الدينية وقد انقطعت بالكفر فلا علاقة بين مسلم وكافر ولذا لم يتوارثا، وقد ذكروا أن قرابة الدين أقرب من قرابة النسب كما أشار إلى ذلك أبو فراس بقوله:
كانت مودة سلمان له نسبا | ولم يكن بين نوح وابنه رحم |
ما أم سقب على بو تحن له | قد ساعدتها على التحنان آظار |
ترتع ما رتعت حتى إذا ادّكرت | فإنما هي إقبال وإدبار |
يوما بأوجع مني حين فارقني | صخر وللعيش إحلاء وإمرار |
وقرأ الكسائي ويعقوب «إنه عمل غير صالح» على صيغة الماضي، ونصب «غير» وهي قراءة عليّ كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وأنس وعائشة، وقد روتها هي وأم سلمة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، والأصل عمل عملا غير صالح، وبه قرىء أيضا كما روي عن عكرمة فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه، وذلك شائع مطرد عند انكشاف المعنى وزوال اللبس، وضعفه بعضهم هنا بأن العرب لا تكاد تقول: عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ وإنما تقول عمل عملا غير صالح، وليس بشيء، وأيد بهذه القراءة كون ضمير إنه في القراءة الأولى لابن نوح لأنه فيها له قطعا فيضعف ما قيل: إنه في الأولى لترك الركوب معهم والتخلف عنهم أي إن ذلك الترك عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ على أنه خلاف الظاهر في نفسه كما لا صفحة رقم 266
يخفى. ومثله في ذلك ما قيل: إنه لنداء نوح عليه السلام أي إن نداءك هذا عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ وتخرج بذلك الجملة عن أن تكون تعليلا لما تقدم ويفوت ما في ذاك من الفائدة ولا يكون الكلام على مساق واحد، نعم روي عن ابن عباس ما يقتضيه فقد أخرج ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عنه أنه قال: إن نساء الأنبياء عليهم السلام لا يزنين، ومعنى الآية مساءلتك إياي يا نوح عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ لا أرضاه لك.
وفي رواية ابن جرير عنه سؤالك ما ليس لك به علم غير صالح، ولعل ذلك لم يثبت عن هذا الحبر لأن الظاهر من الرواية الأولى أنه إنما جعل الضمير للمسألة دون ابن نوح لما في ذلك من نسبة الزنا إلى من لا ينسب إليه وهو رضي الله تعالى عنه أجل قدرا من أن يخفى عليه أنه لا يلزم من ذلك هذا المحذور، ثم إنه لما كان دعاؤه عليه السلام مبنيا على كون كنعان من أهله وقد نفى ذلك وحقق ببيان علته فرع على ذلك النهي عن سؤال إنجائه إلا أنه جيء بالنهي على وجه عام يندرج فيه ما ذكر اندراجا أوليا فقال سبحانه: فَلا تَسْئَلْنِ أي إذا وقفت على جلية الحال فلا تطلب مني ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي مطلبا لا تعلم يقينا أن حصوله صواب وموافق للحكمة على تقدير كون ما عبارة عن المسئول الذي هو مفعول للسؤال أو طلبا لا تعلم أنه صواب على تقدير كونه عبارة عن المصدر الذي هو مفعول مطلق فيكون النهي واردا بصريحه في كل من معلوم الفساد ومشتبه الحال قاله شيخ الإسلام، وجوز أن يكون ما ليس لك علم بأنه صواب أو غير صواب وهو الذي ذهب إليه القاضي فيكون النهي واردا في مشتبه الحال ويفهم منه حال معلوم الفساد بالطريق الأولى، وأيا ما كان فهو عام يندرج تحته ما نحن فيه كما ذكرنا، وسمي النداء سؤالا لتضمنه إياه وإن لم يصرح به كما لا يخفى، وبه على ما نقل عن أبي علي إما متعلق بما يدل عليه العلم المذكور وإن لم يتسلط عليه كقوله:
ربيته حتى إذا تمعددا | كان جزائي بالعصا أن أجلدا |
وقيل: إن السؤال عن موجب عدم النجاة مع ما فيه من الجرأة، وشبه الاعتراض فيه أنه تعين له عليه السلام أنه من المستثنين بهلاكه فهو غير سديد كيف ونداؤه ذاك مما يقطر منه الاستعطاف.
وقيل: إن النهي إنما هو عن سؤال ما لا حاجة إليه إما لأنه لا يهمّ أو لأنه قامت القرائن على حاله لا عن السؤال للاسترشاد فلا ضير إذن في كلام القاضي وهو كما ترى:
ولا يصلح العطار ما أفسد الدهر فالحق أن ذلك مسألة الإنجاء، وكان قبل تحقق الغرق عند رؤية المشارفة عليها ولم يكن عالما بكفره إذ ذاك لأنه لم يكن مجاهرا به وإلا لم يدع له بل لم يدعه أيضا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ لا يدل على أنه كافر عنده بل هو صفحة رقم 267
نهي عن الدخول في غمارهم، وقطع بأن ذلك يوجب الغرق على الطريق البرهاني كما قدمنا، وكأنه عليه السلام حمل مقاولته على غير المكابرة والتعنت لغلبة المحبة وذهوله عن إعطاء التأمل حقه فلذلك طلب ما طلب، فعوتب بأن مثله في معرض الإرشاد والقيام بأعباء الدعوة تلك المدة المتطاولة لا ينبغي أن يشتبه عليه كلام المسترشد والمعاند، ويرجع هذا إلى ترك الأولى، وهو المراد بقوله: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ.
وذكر شيخ الإسلام أن اعتزاله قصده الالتجاء إلى الجبل ليس بنص في الإصرار على الكفر لظهور جواز أن يكون ذلك لجهله بانحصار النجاة في الفلك، وزعمه أن الجبل أيضا يجري مجراه أو لكراهة الاحتباس في الفلك بل قوله: سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ بعد ما قال له نوح وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ ربما يطعمه عليه السلام في إيمانه حيث لم يقل أكون معهم أو سنأوي أو يعصمنا فإن إفراد نفسه بنسبة الفعلين المذكورين ربما يشعر بانفراده من الكافرين واعتزاله عنهم وامتثاله ببعض ما أمره به نوح عليه السلام إلا أنه عليه السلام لو تأمل في شأنه حق التأمل وتفحص عن أحواله في كل ما يأتي وما يذر لما اشتبه عليه أنه ليس بمؤمن وأنه مستثنى من أهله ولذلك قيل له:
إِنِّي إلخ، وهو ظاهر في أن مدار العتاب الاشتباه كما ذكرنا، وإليه ذهب الزمخشري قال: إن الله تعالى قدم إليه عليه السلام الوعد بإنجاء أهله مع استثناء من سبق عليه القول منهم فكان عليه أن يعتقد أن في الجملة من هو مستوجب للعذاب لكونه غير صالح وأن كلهم ليسوا بناجين وأن لا تخالجه شبهة حين شارف ولده الغرق في أنه من المستثنين لا من المستثنى منهم فعوتب على أن اشتبه عليه ما يجب أن لا يشتبه، وكأنه أراد أن الاستثناء دل على أن المعنى المعتبر الصلاح لا القرابة فكان ينبغي أن يجعله الأصل ويتفحص في الأهل عن وجوده، وأن يجعل كلهم سواسية في استحقاق العذاب إلا من علم صلاحه وإيمانه لا أن يجعل كونه من الأهل أصلا فيسأل إنجاءه مع الشك في إيمانه فقد قصر فيما كان عليه بعض التقصير وأولي العزم مؤاخذون بالنقير والقطمير وحسنات الأبرار سيئات المقربين، وابن المنير لم يرض كون ذلك عتابا قال: وفي كلام الزمخشري ما يدل على أنه يعتقد أن نوحا عليه السلام صدر منه ما أوجب نسبة الجهل إليه ومعاتبته على ذلك وليس الأمر كما تخيله، ثم قال: ونحن نوضح أن الحق في الآية منزلا على نصها مع تبرئة نوح عليه السلام مما توهم الزمخشري نسبته إليه فنقول: لما وعد عليه السلام بتنجية أهله إلا من سبق عليه القول منهم ولم يكن كاشفا لحال ابنه ولا مطلعا على باطن أمره بل كان معتقدا بظاهر الحال أنه مؤمن بقي على التمسك بصيغة العموم للأهلية الثابتة ولم يعارضها يقين في كفر ابنه حتى يخرج من الأهل ويدخل في المستثنين فسأل الله تعالى فيه بناء على ذلك فبين له أنه في علمه من المستثنين وأنه هو لا علم له بذلك فلذلك سأل فيه، وهذا بأن يكون إقامة عذر أولى منه من أن يكون عتبا فإن نوحا عليه السلام لا يكلفه الله تعالى علم ما استأثر به غيبا وأما قوله سبحانه: إِنِّي أَعِظُكَ إلخ فالمراد النهي عن وقوع السؤال في المستقبل بعد أن أعلمه سبحانه باطن أمره وأنه إن وقع في المستقبل في السؤال كان من الجاهلين، والغرض من ذلك تقديم ما يبقيه عليه السلام على سمت العصمة، والموعظة لا تستدعي وقوع ذنب بل المقصد منها أن لا يقع الذنب في الاستقبال ولذلك امتثل عليه السلام ذلك واستعاذ بالله سبحانه أن يقع منه ما نهى عنه كما يدل عليه قوله سبحانه: قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ولا يخفى سقوطه على ما علمت وهو خلاف الظاهر جدا،
وقد جاء عن الفضيل بن عياض أنه قال: بلغني أن نوحا عليه السلام بكى عن قول الله تعالى له ما قال أربعين يوما، وأخرج أحمد في الزهد عن وهيب بن الورد الحضرمي قال: لما عاتب الله تعالى نوحا في ابنه وأنزل عليه إِنِّي أَعِظُكَ بكى ثلاثمائة عام حتى صار تحت عينيه مثل الجدول من البكاء.
وزعم الواحدي أن السؤال قبل الغرق ومع العلم بكفره، وذلك أن نوحا عليه السلام لم يعلم أن سؤاله ربه نجاة ولده محظور عليه مع إصراره على الكفر حتى أعلمه الله تعالى ذلك، واعترض بأنه إذا كان عالما بكفره مع التصريح بأن في أهله من يستحق العذاب كان طلب النجاة منكرا من المناكير فتدبر، والظاهر على ما قررنا أن قوله: رَبِّ إلخ توبة مما وقع منه عليه السلام وما هنا أيضا عبارة إما عن المسئول أو عن السؤال أي أعوذ بك أن أطلب منك من بعد مطلوبا لا أعلم أن حصوله مقتضى الحكمة أو طلبا لا أعلم أنه صواب سواء كان معلوم الفساد أو مشتبه الحال، أو لا أعلم أنه صواب أو غير صواب، ولم يقل أعوذ بك منه أو من ذلك مبالغة في التوبة وإظهارا للرغبة والنشاط فيها وتبركا بذكر ما لقنه الله تعالى وهو أبلغ من أن يقول: أتوب إليك أن أسألك لما فيه من الدلالة على كون ذلك أمرا هائلا محذورا لا محيص منه إلا بالعوذ بالله تعالى وأن قدرته عليه السلام قاصرة عن النجاة من المكاره إلا بذلك كما في إرشاد العقل السليم، واحتمال أن يكون فيه رد وإنكار نظير ما في [البقرة: ٦٧] من قول موسى عليه السلام:
أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ مما لا يكاد يمر بفكر أحد من الجاهلين.
هذا وفي مصحف ابن مسعود إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ أن تسألني، ورجح به كون ضمير إِنَّهُ في القراءة المتواترة للنداء المتضمن للسؤال، وقرأ ابن كثير فَلا تَسْئَلْنِ بفتح اللام وتشديد النون مفتوحة وهي قراءة ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وكذا قرأ نافع وابن عامر غير أنهما كسرا النون على أن أصله تسألنني فحذفت نون الوقاية لاجتماع النونات وكسرت الشديدة للياء ثم حذفت الياء اكتفاء بالكسرة، وقرأ أبو جعفر وشيبة وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما كذلك إلا أنهم أثبتوا الياء بعد النون وأمره ظاهر، وقرأ الحسن وابن أبي مليكة «تسألني» من غير همز من سال يسال فهما يساولان، وهي لغة سائرة، وقرأ باقي السبعة بالهمز وإسكان اللام وكسر النون وتخفيفها. وأثبت الياء في الوصل ورش وأبو عمرو، وحذفها الباقون وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي ما صدر عني من السؤال المذكور وَتَرْحَمْنِي بقبول توبتي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ أعمالا بسبب ذلك وتأخير ذكر هذا عن حكاية الأمر الوارد على الأرض والسماء وما يتلوه مع أن حقه أن يذكر عقيب قوله سبحانه: فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ حسبما وقع في الخارج على ما علمت من أن النداء كان لطلب الإنجاء قبل العلم بالهلاك قيل: ليكون على أسلوب قصة البقرة في سورتها دلالة على استقلال هذا المعنى بالغرض لما فيه من النكت من جعل قرابة الدين غامرة لقرابة النسب وأن لا يقدم في الأمور الدينية الأصولية إلا بعد اليقين، وتعقب بالفرق بين ما هنا وما هناك عند من كان ذا قلب، وما ذكر من جعل قرابة الدين غامرة لقرابة النسب إلخ لا يفوت على تقدير سوق الكلام على ترتيب الوقوع أيضا.
واختار بعض المحققين أن ذلك لأن ذكر هذا النداء كما ترى مستدع لما مر من الجواب المستدعي لذكر توبته عليه السلام المؤدي إلى ذكر قبولها في ضمن الأمر بهبوطه عليه السلام من الفلك بالسلام والبركات الفائضة عليه وعلى المؤمنين حسبما يجيء إن شاء الله تعالى، ولا ريب أن هذه المعاني آخذ بعضها بحجزة بعض بحيث لا تكاد تفرق الآيات الكريمة المنطوية عليها بعضها من بعض وأن ذلك إنما يتم بتمام القصة، وذلك إنما يكون بتمام الطوفان فلا جرم اقتضى الحال ذكر تمامها قبل هذا النداء وهو إنما يكون عند ذكر كون كنعان من المغرقين، ولهذه النكتة ازداد حسن موقع الإيجاز البليغ، وفيه فائدة أخرى هي التصريح بهلاكه من أول الأمر ولو ذكر النداء بعد فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ لربما توهم من أول الأمر إلى أن يرد أنه ليس من أهلك إلخ أنه ينجو بدعائه فنص على هلاكه، ثم ذكر القصة على وجه أفحم مصاقع البلغاء، ثم تعرض لما وقع في تضاعيف ذلك مما جرى بين نوح عليه السلام ورب العزة جلت حكمته وعلت كلمته، ثم ذكر بعد توبته عليه السلام قبولها: بقوله عز وجل: قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ إلخ وهو من
الحسن بمكان، وبني الفعل لما لم يسم فاعله لظهور أن القائل هو الله تعالى، وقيل: القائل الملائكة عليهم السلام والهبوط النزول قيل: أي أنزل من الفلك، وقيل: من الجبل إلى الأرض وذلك أنه روي أن السفينة استوت على الجودي في عاشر ذي الحجة فأقام بمن معه هناك شهرا، ثم قيل له: اهبط فهبط بأرض الموصل وبنى قرب الجبل قرية يقال لها:
قرية الثمانين عدد من في السفينة، وفي رواية عن ابن عباس أنه بنى كل منهم بيتا فسميت سوق الثمانين.
وأخرج ابن مردويه عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: لما استقرت السفينة على الجودي لبث نوح عليه السلام ما شاء الله تعالى، ثم إنه أذن له بالهبوط فهبط على الجبل فدعا الغراب فقال: ائتني بخبر الأرض، فانحدر إلى الأرض وفيها الغرقى من قوم نوح فوقع على جيفة منهم فأبطأ عليه فلعنه، ودعا الحمامة فوقفت على كفه فقال: اهبطي فأتني بخبر الأرض فانحدرت فلم تلبث قليلا حتى جاءت تنفض ريشها بمنقارها فقالت: اهبط فقد أنبتت الأرض فقال نوح:
بارك الله تعالى فيك وفي بيت يأويك وحببك إلى الناس ولولا أن يغلبك الناس على نفسك لدعوت الله سبحانه أن يجعل رأسك من الذهب،
والظاهر عندي أن الهبوط من الجودي الذي استقرت عليه السفينة إلى الأرض، وليس في الكلام ما يستدعي أن يكون بعد الاستقرار بلا مهلة ليقال: إن ما تحت الجبل مغمور إذ ذاك بالماء، والتعبير بالهبوط على هذا في غاية الظهور، ولعل ذلك على أن يكون المراد من السفينة لمكان الركوب، وخبر الحمامة والغراب قد طار في الآفاق وأولع به القصاصون، والله تعالى أعلم بصحته، وغالب الظن أنه لم يصح، وكذا اشتهر خبر قرية الثمانين في أرض الموصل وأنها لما ضاقت عليهم تحولوا إلى بابل فبنوها.
وأخرج ابن عساكر عن كعب الأحبار أنه قال: أول حائط وضع على وجه الأرض بعد الطوفان حائط حران ودمشق ثم بابل وقرىء اهْبِطْ بضم الباء بِسَلامٍ أي ملتبسا بسلامة مما تكره كائنة مِنَّا أي من جهتنا، ويجوز أن يكون السلام بمعنى التسليم والتحية أي مسلما عليك من جهتنا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ أي خيرات نامية في نسلك وما يقوم به معاشك ومعاشهم من أنواع الأرزاق، أو مباركا عليك أي مدعوا لك بالبركة بأن يقال: بارك الله تعالى فيك وهو مناسب لكون السلام بمعنى التسليم فيكون كقوله: السلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته. وأصل البرك- كما قال الراغب- صدر البعير يقال: برك البعير إذا ألقى بركه، واعتبر فيه اللزوم ولذا سمي محتبس الماء بركة، والبركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء سمي بذلك لثبوت الخير فيه ثبوت الماء في البركة.
ولما كان الخير الإلهي يصدر على وجه لا يحس ولا يحصى قيل لكل ما يشاهد فيه زيادة غير محسوسة: هو مبارك وفيه بركة، ولما في ذلك من الإشعار باللزوم- وكونه غير محسوس- اختص تبارك بالاستعمال في الله تبارك وتعالى كما قيل: وفي الكشف كل شيء ثبت وأقام فقد برك وأخذ بروك البعير منه، ثم البرك بمعنى الصدر من الثاني لأنه آلة بروكه أظهر، وحكى عبد العزيز بن يحيى عن الكسائي أنه قرأ- وبركة- بالتوحيد، وفي الآية على القراءتين صنعة الاحتباك لأنه حذف من الثاني ما ذكر في الأول، وذكر فيه ما حذف من الأول، والتقدير سلام منا عليك وبركات، أو وبركة منا عليك، وهذا منه تعالى إعلام وبشارة بقبول توبته عليه السلام وخلاصه من الخسران مع الإشارة إلى عود الأرض إلى حالها من الإنبات وغيره وَعَلى أُمَمٍ ناشئة مِمَّنْ مَعَكَ متشعبة منهم- فمن- ابتدائية، والمراد الأمم المؤمنة المتناسلة ممن معه إلى يوم القيامة، والمراد- ممن معه- أولاده من إطلاق العام وإرادة الخاص بناء على ما قيل: إنه لم يعقب غيرهم، فالناس كلهم على هذا من نسل نوح عليه السلام ومن هنا سمي عليه السلام آدم الثاني وآدم الأصغر، واستدل لذلك بقوله تعالى: وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ [الصافات: ٧٧] وقد يقال ببقاء- من- على عمومه بناء على ما عليه أكثر المفسرين من عدم اختصاص النسل بأولاده عليه السلام بل لمن معه نسل باق
أيضا، والكلام في استدلال الأولين سيأتي إن شاء الله تعالى، وقوله سبحانه: وَأُمَمٌ بالرفع- وهو على ما ذهب إليه الزمخشري- مبتدأ، وجملة قوله تعالى: سَنُمَتِّعُهُمْ صفته، والخبر محذوف أي ومنهم أمم، وساغ ذلك لدلالة ما سبق عليه فإن إيراد الأمم المبارك عليهم المتشعبة منهم نكرة يدل على أن بعض من يتشعب منهم ليسوا على صفتهم، والمعنى ليس جميع من يتشعب منهم مشاركا له في السلام والبركات بل منهم أمم يمتعون في الدنيا ثُمَّ يَمَسُّهُمْ فيها أو في الآخرة أو فيهما مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ وجوز أبو حيان أن يكون أُمَمٍ مبتدأ محذوف الصفة وهي المسوغة للابتداء بالنكرة، والتقدير وأمم منهم، وجملة سَنُمَتِّعُهُمْ هو الخبر كما قالوا: السمن منوان بدرهم، وأن يكون مبتدأ ولا يقدر له صفة والخبر أيضا سَنُمَتِّعُهُمْ ومسوغ الابتداء كون المكان مكان تفصيل فكان مثل قول الشاعر:
إذا ما بكى من خلفها انحرفت له | بشق وشق عندنا لم يحول |
وقال أبو البقاء: إن أُمَمٍ معطوف على الضمير في اهْبِطْ والتقدير- اهبط أنت وأمم- وكان الفصل بينهما مغنيا عن التأكيد، وسَنُمَتِّعُهُمْ نعت لأمم، وفيه إن الذين كانوا مع نوح عليه السلام في السفينة كلهم مؤمنون لقوله تعالى: وَمَنْ آمَنَ ولم يكونوا قسمين كفارا ومؤمنين ليؤمر الكفار بالهبوط معه اللهم إلا أن يلتزم أن من أولئك المؤمنين من علم الله سبحانه أنه يكفر بعد الهبوط فأخبر عنهم بالحالة التي يؤولون إليها وفيه بعد.
وجوز أن تكون- من- في مِمَّنْ مَعَكَ بيانية أي وعلى أمم هم الذين معك، وسموا أمما لأنهم أمم متحزبة وجماعات متفرقة أو لأن جميع الأمم إنما تشعبت منهم فهم أمم مجازا فحينئذ يكون المراد بالأمم المشار إليهم في قوله سبحانه: وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ بعض الأمم المتشعبة منهم وهي الأمم الكافرة المتناسلة منهم إلى يوم القيامة.
وفي الكشاف إن الوجه هو الأول قيل: ليقابل قوله تعالى: وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ولأنه أشمل ولأن- من- الابتدائية لا سيما في المنكر أكثر وللنكتة في إدخال الناشئين في المسلم عليهم، وقطع الممتعين عنهم من الدلالة على ما صرح به في قوله سبحانه: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ ولهذه النكتة حذف منهم في الثاني، واكتفى بسلام نوح عليه السلام عن سلام مؤمني قومه لأن النبي زعيم أمته وكفاهم هذا التعظيم والاتحاد معه عليه السلام، فلا يراد أن الحمل على البيانية أرجح لئلا يلزم أن لا يكون مسلما عليهم على أن لفظ الأمم في الإطلاق على من معه بأحد الاعتبارين لا فخامة فيه لأن تسمية الجماعة القليلة بالأمة لا يناسب فكيف بالأمم، ولا مبالغة في هذا المقام فيه فلا يعدل عن الحقيقة، وإن جعل من باب إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النحل: ١٢٠] لم يلائم تفخيم نوح عليه السلام، وقد ذكر أنه يبقى على البيانية أمر الأمم المؤمنة الناشئة من الذين معه عليه السلام مبهما غير متعرض له ولا مدلول عليه إلا أن يقال:
حيث كان المراد بمن معك المؤمنين يعلم أن المشاركين لهم في وصف الإيمان مثلهم فيما تقدم، نعم قيل: إن في دلالة المذكور على الخبر المحذوف على ذلك الوجه خفاء لأن- من المذكورة بيانية، والمحذوفة تبعيضية، أو ابتدائية، وربما يجاب عنه أيضا بإلزام أن لا حذف أصلا كما هو أحد الأوجه التي ذكرناها آنفا فتدبر جميع ما ذكر.
والمأثور عدم تخصيص الأمم في الموضعين بمؤمنين معينين وكافرين كذلك، فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر صفحة رقم 271
وغيرهما عن محمد القرظي قال: دخل في ذلك السلام والبركات كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة ودخل في ذلك المتاع والعذاب الأليم كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة، وأخرج أبو الشيخ عن الحسن أنه قال في الآية ما زال الله تعالى يأخذ لنا بسهمنا وحظنا ويذكرنا من حيث لا نذكر أنفسنا كلما هلكت أمة خلقنا في أصلاب من ينجو بلطفه حتى جعلنا في خير أمة أخرجت للناس، وقيل: المراد بالأمم الممتعة قوم هود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام، وبالعذاب ما نزل بهم، وبالغ بعضهم في عموم الأمم في الأول فجعلها شاملة لسائر الحيوانات التي كانت معه عليه السلام فإن الله تعالى جعل فيها البركة- وليس بشيء- كما لا يخفى، وهاهنا لطيفة وهي أنه قد تكرر في هذه الآية حرف واحد مرات مع غاية الخفة ولم تتكرر الراء مثله في قوله:
وقبر حرب بمكان قفر... وليس قرب قبر حرب قبر
ومع ما ترى فيه من غاية الثقل وعسر النطق، ولله تعالى شأن التنزيل ما أكثر لطائفه تِلْكَ إشارة إلى قصة نوح عليه السلام وهي لتقضيها في حكم البعيد، ويحتمل أنه أشير بأداة البعد إلى بعد منزلتها، وقيل: إن الإشارة إلى آيات القرآن وليس بذاك وهي في محل الرفع على الابتداء، وقوله سبحانه: مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ أي بعض أخباره التي لها شأن وكونها بعض ذلك باعتبار أنها على التفصيل لم تبق لطول العهد معلومة لغيره تعالى حتى أن المجوس على ما قيل: ينكرونها رأسا، وقيل: إن كونها من الغيب لغير أهل الكتاب. وقد ذكر غير واحد أن الغيب قسمان: ما لا يتعلق به علم مخلوق أصلا وهو الغيب المطلق، وما لا يتعلق به علم مخلوق معين وهو الغيب المضاف بالنسبة إلى المخلوق، وهو مراد الفقهاء في تكفير الحاكم على الغيب، وقوله سبحانه: نُوحِيها خبر ثان- لتلك- والضمير لها أي موحاة إِلَيْكَ أو هو الخبر، ومِنْ أَنْباءِ متعلق به، وفائدة تقديمه نفي أن يكون علم ذلك بكهانة أو تعلم من الغير، والتعبير بصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية، أو مِنْ أَنْباءِ هو الخبر، وهذا في موضع الحال من أَنْباءِ والمقصود من ذكر كونها موحاة إلجاء قومه صلّى الله عليه وسلَّم للتصديق بنبوته عليه الصلاة والسلام وتحذيرهم مما نزل بالمكذبين، وقوله تعالى:
ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ خبر آخر أي مجهولة عندك وعند قومك مِنْ قَبْلِ هذا أي الإيحاء إليك المعلوم مما مر، وقيل: أي الوقت، وقيل: أي العلم المكتسب بالوحي.
وفي مصحف ابن مسعود- من قبل هذا القرآن- ويحتمل أن يكون حالا من الهاء في نُوحِيها أو الكاف من إِلَيْكَ أي غير عالم أنت ولا قومك بها، وذكر القوم معه صلّى الله عليه وسلّم من باب الترقي كما تقول: هذا الأمر لا يعلمه زيد ولا أهل بلدة لأنهم مع كثرتهم إذا لم يعلموا ذلك فكيف يعلمه واحد منهم، وقد علم أنه لم يخالط غيرهم. فَاصْبِرْ متفرع على الإيحاء أو على العلم المستفاد منه المدلول عليه بما تقدم مِنْ قَبْلِ هذا أي وإذ قد أوحيناها إليك أو علمتها بذلك فاصبر على مشاق تبليغ الرسالة وأذية قومك كما صبر نوح عليه السلام على ما سمعته من أنواع البلايا في هذه المدة المتطاولة. قيل: وهذا ناظر إلى ما سبق من قوله سبحانه: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ [هود:
١٢] إلخ إِنَّ الْعاقِبَةَ بالظفر في الدنيا وبالفوز بالآخرة لِلْمُتَّقِينَ كما سمعت ذلك في نوح عليه السلام وقومه، قيل: وهو تعليل للأمر بالصبر وتسلية له صلّى الله عليه وسلّم، والمراد بالتقوى الدرجة الأولى منها، وجوز أن يراد بها الدرجة الثالثة وهي بذلك المعنى منطوية على الصبر فكأنه قيل: فاصبر فإن العاقبة للصابرين، وقيل: الآية فذلكة لما تقدم وبيان للحكمة في إيحاء ذلك من إرشاده صلّى الله عليه وسلّم وتهديد قومه المكذبين له والله تعالى أعلم.
ومن باب الإشارة في الآيات: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ إلخ لما كان مقتضى الطباع البشرية عدم
نشاط المتكلم إذا لم يجد محلا قابلا لكلامه وضيق صدره من ذلك هيج جل شأنه نشاط نبيه صلّى الله عليه وسلّم بما أنزل عليه من هذه الآية الكريمة، وقال سبحانه: إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ ولا يخلو الإنذار عن إحدى فائدتين: رفع الحجاب عمن وفق وإلزام الحجة لمن خذل وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ فكل الهداية إليه مَنْ كانَ يُرِيدُ بعلمه الذي هو بظاهره من أعمال الآخرة الْحَياةَ الدُّنْيا كالجاه والمدح نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ أي جزاءها فيها إن شئنا وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ أي لا ينقصون شيئا منها أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ لتعذب قلوبهم بالحجب الدنيوية وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها من أعمال البر فلم ينتفعوا بها،
وجاء «إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى» الحديث
أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ أي يقين برهاني عقلي أو وجداني كشفي وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وهو القرآن المصدق لذلك، ومن هنا تؤيد الأدلة العقلية بالآيات النقلية القرآنية. ويحكم بكون الكشف صحيحا إذا شهدت له ووافقته، ولذا قالوا: كل كشف خالف ما جاء عن الله تعالى ليس بمعتبر وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى أي يتبع البرهان من قبل هذا الكتاب كتاب موسى عليه السلام في حالة كونه إِماماً يؤتم به في تحقيق المطالب وَرَحْمَةً لمن يهتدي به، وهذا وجه في الآية ذكره بعضهم، وقد قدمنا ما فيها من الاحتمالات وقد ذكروا أن المراد بيان بعد ما بين مرتبتي من يريد الحياة الدنيا ومن هو على بينة من ربه.
وللصوفية قدست أسرارهم عبارات شتى في البينة فقال رويم: هي الإشراف عن القلوب والحكم على الغيوب، وقال سيد الطائفة: هي حقيقة يؤيدها ظاهر العلم، وقيل: غير ذلك، وعن أبي بكر بن طاهر أن من كان على بينة من ربه كانت جوارحه وقفا على الطاعات والموافقات ولسانه مشغولا بالذكر ونشر الآلاء والنعماء وقلبه منورا بأنوار التوفيق وضياء التحقيق وسره وروحه مشاهدين للحق في جميع الأوقات وكان عالما بما يبدو من مكنون الغيوب ورؤيته يقين لا شك فيه وحكمه على الخلق كحكم الحق لا ينطق إلا بالحق ولا يرى إلا الحق لأنه مستغرق به فأنى يرى سواه وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً إلخ جعله بعضهم إشارة إلى المثبتين لغيره سبحانه وجودا وهم أهل الكثرة والحجاب، وفسر الأشهاد بالموحدين الذين لا يشهدون في الدار غيره سبحانه ديارا.
ومن الناس من عكس الأمر وجعلها ردا على أهل الوحدة القائلين: إن كل ما شاهدته بعينك أو تصورته بفكرك فهو الله سبحانه بمعنى كفر النصارى إيمان بالنسبة إليه وحاش أهل الله تعالى من القول به على ما يشعر به ظاهره، ومنهم من جعلها مشيرة إلى حال من يزعم أنه ولي الله تعالى ويتزيا بزي السادات ويتكلم بكلماتهم وهو في الباطن أفسق من قرد وأجهل من حمار تومه مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ قيل: الْبَصِيرِ من عاين ما يراد به وما يجري له وعليه في جميع أوقاته وَالسَّمِيعِ من يسمع ما يخاطب به من تقريع وتأديب وحث وندب لا يغفل عن الخطاب في حال من الأحوال، وقيل: الْبَصِيرِ الناظر إلى الأشياء بعين الحق فلا ينكر شيئا ولا يتعجب من شيء وَالسَّمِيعِ من يسمع من الحق فيميز الإلهام من الوسواس، وقيل: الْبَصِيرِ هو الذي يشهد أفعاله بعلم اليقين وصفاته بعين اليقين وذاته بحق اليقين فالغائبات له حضور والمستورات له كشف وَالسَّمِيعِ من يسمع من دواعي العلم شرعا، ثم من خواطر التعريف قدرا، ثم يكاشف بخطاب من الحق سرا، وقيل: السَّمِيعِ من لا يسمع إلا كلام حبيبه، والْبَصِيرِ من لا يشاهد إلا أنواره فهو في ضيائها ليلا ونهارا، وإلى هذا يشير قول قائلهم:
ليلي من وجهك شمس الضحى | وإنما السدفة في الجو |
الناس في الظلمة من ليلهم | ونحن من وجهك في الضو |
يَسْتَوِيانِ
أنهما لا يستويان لما بينهما من التقابل والتباعد إلى حيث لا تتراءى نارهما، ثم إنه تعالى ذكر من قصة نوح عليه السلام مع قومه ما فيه إرشاد وتهديد وعظة ما عليها مزيد فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ أي الأشراف المليئون بأمور الدنيا الذين حجبوا بما هم فيه عن الحق ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا لكونهم واقفين عند حد العقل المشوب بالوهم فلا يرون لأحد طورا وراء ما بلغوا إليه ولم يشعروا بمقام النبوة ومعناها وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وصفوهم بذلك لفقرهم حيث كانوا لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا ولم يعلموا أن الشرف بالكمال لا بالمال.
وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ وتقدم يؤهلكم لما تدعونه بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ فلا نبوة لك ولا علم لهم.
قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي يجب عليكم الإذعان بها وَآتانِي رَحْمَةً هداية خاصة كشفية متعالية عن درجة البرهان مِنْ عِنْدِهِ فوق طور عقولكم من العلوم اللدنية ومقام النبوة فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ لاحتجابكم بالظاهر عن الباطن وبالخليقة عن الحقيقة أَنُلْزِمُكُمُوها ونجبركم عليها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ لا تلتفتون إليها كأنه عليه السلام أراد أنه لا يكون إلزام ذلك مع الكراهة لكن إن شئتم تلقيه فزكوا أنفسكم واتركوا إنكاركم حتى يظهر عليكم أثر نور الإرادة فتقبلوا ذلك، وفيه إشارة إلى أن المنكر لا يمكن له الاستفاضة من أهل الله تعالى ولا يكاد ينتفع بهم ما دام منكرا ومن لم يعتقد لم ينتفع وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا أي ليس لي مطمح في شيء من أموالكم التي ظننتم أن الشرف بها إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ فهو يثيبني بما هو خير وأبقى وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ أي إنهم أهل الزلفى عنده تعالى وهم حمائم أبراج الملكوت وبزاة معارج الجبروت وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ تسفهون عليهم وتؤذونهم وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ كما تريدون وهم بتلك المثابة أَفَلا تَذَكَّرُونَ لتعرفوا التماس طردهم ضلال، وفيه إشارة إلى أن الإعراض عن فقراء المؤمنين مؤد إلى سخط رب العالمين.
قال أبو عثمان: في الآية ما أَنَا بمعرض عمن أقبل على الله تعالى، فإن من أقبل على الله تعالى بالحقيقة أقبل الله تعالى عليه، ومن أعرض عمن أقبل الله تعالى عليه فقد أعرض عن الله سبحانه وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ إلخ أي أنا لا أدعي الفضل بكثرة المال ولا بالاطلاع على الغيب ولا بالملكية حتى تنكروا فضلي بفقدان ذلك وبمنافاة البشرية لما أنا عليه وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تنظرون إليهم بعين الحقارة لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً كما تقولون أنتم إذ الخير عندي ما عند الله تعالى لا المال اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ من الخير مني ومنكم وهو أعلم بقدرهم وخطرهم إِنِّي إِذاً أي إذ نفيت لَمِنَ الظَّالِمِينَ مثلكم وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا قيل: فيه إشارة إلى عين الجمع المشار إليه
بخبر «لا زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل» الحديث.
وقيل: أي كن في أعين رعايتنا وحفظنا ولا تكن في رؤية عملك والاعتماد عليه، فإن من نظر إلى غيري احتجب به عني، وقال بعضهم: أي أسقط عن نفسك تدبيرك واصنع ما أنت صانع من أفعالك على مشاهدتنا دون مشاهدة نفسك أو أحد من خلقي، وقيل: أي اصنع الفلك ولا تعتمد عليه فإنك بأعيننا رعاية وكلاءة فإن اعتمدت على الفلك وكلت إليه وسقطت من أعيننا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ فيه إشارة إلى رقة قلبه عليه السلام بعد احتمال جفوتهم وأذيتهم، وهكذا شأن الصديقين، والكلام في باقي الآية ظاهر، ولا يخفى أنه يجب الإيمان بظاهرها والتصديق بوقوع الطوفان حسبما قص الله سبحانه وإنكار ذلك كفر صريح، لكن ذكر بعض السادة أنه بعد
الإيمان بذلك يمكن احتمال التأويل على أنه حظ الصوفي من الآية وذلك بأن يؤول الفلك بشريعة نوح التي نجا بها هو ومن آمن معه، والطوفان باستيلاء بحر الهيولى وإهلاك من لم يتجرد عنها بمتابعة نبي وتزكية نفس كما جاء في مخاطبات إدريس عليه السلام لنفسه ما معناه أن هذه الدنيا بحر مملوء ماء فإن اتخذت سفينة تركبها عند خراب البدن نجوت منها إلى عالمك وإلا غرقت فيها وهلكت، وعلى هذا يقال: معنى وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ يتخذ شريعة من ألواح الأعمال الصالحة ودسر العلوم تنتظم بها الأعمال وتحكم وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ كما هو المشاهد في أرباب الخلاعة الممطتين غارب الهوى يسخرون من المتشرعين المتقيدين بقيود الطاعة قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا بجهلكم فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ عند ظهور وخامة عاقبتكم كَما تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عند ذلك مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ في الدنيا من حلول ما لا يلائم غرضه وشهوته وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ في الآخرة من استيلاء نيران الحرمان وظهور هيئات الرذائل المظلمة حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا بإهلاك أمته وَفارَ التَّنُّورُ باستيلاء الأخلاط الفاسدة والرطوبات الفضلية على الحرارة الغريزية وقوة طبيعة ماء الهيولى على نار الروح الحيوانية، أو أَمْرُنا بإهلاكهم المعنوي وَفارَ التَّنُّورُ باستيلاء ماء هوى الطبيعة على القلب وإغراقه في بحر الهيولى الجسماني قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ أي من كل صنفين من نوع اثنين هما صورتاهما النوعية والصنفية الباقيتان عند فناء الأشخاص.
ومعنى حملهما فيها علمه ببقائهما مع بقاء الأرواح الإنسية فإن علمه جزء من السفينة المتركبة من العلم والعمل فمعلوميتهما محموليتهما وعالميته بهما حامليته إياهما فيها وَأَهْلَكَ ومن يتصل بك في سيرتك من أقاربك إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ أي الحكم بإهلاكه في الأزل لكفره وَمَنْ آمَنَ من أمتك وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها أي بسم الله تعالى الأعظم الذي هو وجود كل عارف كامل من أفراد نوع الإنسان إجراء أحكامها وترويجها في بحر العالم الجسماني وإثباتها وأحكامها كما ترى من إجراء كل شريعة وأحكامها بوجود الكامل ممن ينسب إليها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ لهيئات نفوسكم البدنية المظلمة وذنوب ملابس الطبيعة المهلكة إياكم المغرقة في بحرها وذلك بمتابعة الشريعة رَحِيمٌ بإفاضة المواهب العلمية والكشفية والهيئات النورانية التي ينجيكم بها وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ من بحر الطبيعة الجسمانية كَالْجِبالِ الحاجبة للنظر المانعة من السير وهم لا يبالون بذلك محفوظون من أن يصيبهم شيء من ذلك الموج، وهذا الجريان يعرض للسالك في ابتداء أمره ولولا أنه محفوظ في لزوم سفينة الشرع لهلك.
ولعل في الآية على هذا تغليبا وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ المحجوب بالعقل المشوب بالوهم وَكانَ فِي مَعْزِلٍ لذلك الحجاب عن الدين والشريعة يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا أي ادخل في ديننا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ المحجوبين الهالكين بأمواج هوى النفس المغرقين في بحر الطبع قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ أي سألتجىء إلى الدماغ وأستعصم بالعقل المشرق هناك ليحفظني من استيلاء بحر الهيولى فلا أغرق فيه قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وهو الله الذي رحم أهل التوحيد وأفاض عليهم من شآبيب لطفه ما عرفوا به دينه الحق وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ أي موج هوى النفس واستيلاء ماء بحر الطبيعة وحجب عن الحق فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ في بحر الهيولى الجسمانية، وقيل: من جهة الحق على لسان الشرع لأرض الطبيعة يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وقفي على حد الاعتدال، ولسماء العقل المحجوبة بالعادة والحس المشوبة بالوهم المغيمة بغيم الهوى يا سَماءُ أَقْلِعِي عن إمداد الأرض وَغِيضَ الْماءُ أي ماء قوة الطبيعة الجسمانية ومدد الرطوبة الحاجبة لنور الحق