آيات من القرآن الكريم

أُولَٰئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ۘ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ ۚ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼ

الصلاة والسلام. قال اللَّه تعالى: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الْأَعْرَافِ: ٦] وَالْفَائِدَةُ فِي اعْتِبَارِ قَوْلِ الْأَشْهَادِ الْمُبَالَغَةُ فِي إِظْهَارِ الْفَضِيحَةِ.
السُّؤَالُ الثَّالِثُ: الْأَشْهَادُ جَمْعٌ فَمَا وَاحِدُهُ؟
وَالْجَوَابُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ شَاهِدٍ مِثْلُ صَاحِبٍ وَأَصْحَابٍ، وَنَاصِرٍ وَأَنْصَارٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ شَهِيدٍ مِثْلُ شَرِيفٍ وَأَشْرَافٍ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: وَهَذَا كَأَنَّهُ أَرْجَحُ، لِأَنَّ مَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ فِي التَّنْزِيلِ جَاءَ عَلَى فَعِيلٍ، كَقَوْلِهِ: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [الْبَقَرَةِ: ١٤٣] وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النِّسَاءِ: ٤١] ثُمَّ لَمَّا أَخْبَرَ عَنْ حَالِهِمْ فِي عَذَابِ الْقِيَامَةِ أَخْبَرَ عَنْ حَالِهِمْ فِي الْحَالِ فَقَالَ: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ فِي الْحَالِ لَمَلْعُونُونَ مِنْ عِنْدِ اللَّه، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ صِفَاتِهِمْ أَنَّهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا يَعْنِي أَنَّهُمْ كَمَا ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْتِزَامِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، فَقَدْ أَضَافُوا إِلَيْهِ الْمَنْعَ مِنَ الدِّينِ الْحَقِّ وَإِلْقَاءَ الشُّبُهَاتِ، وَتَعْوِيجَ الدَّلَائِلِ الْمُسْتَقِيمَةِ، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ فِي الْعَاصِي يَبْغِي/ عِوَجًا، وَإِنَّمَا يُقَالُ ذَلِكَ فِيمَنْ يَعْرِفُ كَيْفِيَّةَ الِاسْتِقَامَةِ، وَكَيْفِيَّةَ الْعِوَجِ بِسَبَبِ إِلْقَاءِ الشُّبُهَاتِ وَتَقْرِيرِ الضَّلَالَاتِ.
ثُمَّ قَالَ: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ قَالَ الزَّجَّاجُ: كَلِمَةُ «هُمْ» كُرِّرَتْ عَلَى جِهَةِ التَّوْكِيدِ لِثَبَاتِهِمْ فِي الْكُفْرِ.
[سورة هود (١١) : الآيات ٢٠ الى ٢٢]
أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (٢٠) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (٢١) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٢٢)
اعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْمُنْكِرِينَ الْجَاحِدِينَ بِصِفَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ.
الصِّفَةُ الْأُولَى: كَوْنُهُمْ مُفْتَرِينَ عَلَى اللَّه، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [هود: ١٨].
وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَى اللَّه فِي مَوْقِفِ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ وَالْخِزْيِ وَالنَّكَالِ وَهِيَ قَوْلُهُ: أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ [هود: ١٨].
وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: حُصُولُ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ وَالْفَضِيحَةِ الْعَظِيمَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ [هود: ١٨].
وَالصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: كَوْنُهُمْ مَلْعُونِينَ مِنْ عِنْدِ اللَّه، وَهِيَ قَوْلُهُ: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هُودٍ: ١٨].
وَالصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: كَوْنُهُمْ صَادِّينَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه مَانِعِينَ عَنْ مُتَابَعَةِ الْحَقِّ، وَهِيَ قَوْلُهُ: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [هود: ١٩].
وَالصِّفَةُ السَّادِسَةُ: سَعْيُهُمْ فِي إِلْقَاءِ الشُّبُهَاتِ، وَتَعْوِيجِ الدلائل المستقيمة، وهي قوله: وَيَبْغُونَها عِوَجاً [هود: ١٩].
وَالصِّفَةُ السَّابِعَةُ: كَوْنُهُمْ كَافِرِينَ، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ [هود: ١٩].
وَالصِّفَةُ الثَّامِنَةُ: كَوْنُهُمْ عَاجِزِينَ عَنِ الْفِرَارِ مِنْ عَذَابِ اللَّه، وَهِيَ قَوْلُهُ: أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي

صفحة رقم 332

الْأَرْضِ
قَالَ الْوَاحِدِيُّ: مَعْنَى الْإِعْجَازِ الْمَنْعُ مِنْ تَحْصِيلِ الْمُرَادِ. يُقَالُ أَعْجَزَنِي فُلَانٌ أَيْ مَنَعَنِي عَنْ مُرَادِي، وَمَعْنَى مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أَيْ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَهْرُبُوا مِنْ عَذَابِنَا فَإِنَّ هَرَبَ الْعَبْدِ مِنْ عَذَابِ اللَّه مُحَالٌ، لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَادِرٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ، وَلَا تَتَفَاوَتُ قُدْرَتُهُ بِالْبُعْدِ وَالْقُرْبِ وَالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ.
وَالصِّفَةُ التَّاسِعَةُ: أَنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ أَوْلِيَاءُ يَدْفَعُونَ عَذَابَ اللَّه عَنْهُمْ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ فِي وَصْفِهِمُ الْأَصْنَامَ بِأَنَّهَا شُفَعَاؤُهُمْ عِنْدَ اللَّه وَالْمَقْصُودُ أَنَّ قَوْلَهُ: أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى الْفِرَارِ وَقَوْلُهُ: وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ هُوَ أَنَّ أَحَدًا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَخْلِيصِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ، فَجَمَعَ تَعَالَى بَيْنَ مَا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ وَبَيْنَ مَا يَرْجِعُ إِلَى غَيْرِهِمْ وَبَيَّنَ بِذَلِكَ انْقِطَاعَ حِيَلِهِمْ فِي الْخَلَاصِ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ قَوْمٌ الْمُرَادُ أَنَّ عَدَمَ نُزُولِ الْعَذَابِ لَيْسَ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ قَدَرُوا عَلَى مَنْعِ اللَّه مِنْ إِنْزَالِ الْعَذَابِ وَلَا لِأَجْلِ أَنَّ لَهُمْ نَاصِرًا يَمْنَعُ ذَلِكَ الْعَذَابَ عَنْهُمْ، بَلْ إِنَّمَا حَصَلَ ذَلِكَ الْإِمْهَالُ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمْهَلَهُمْ كَيْ يَتُوبُوا فَيَزُولُوا عَنْ كُفْرِهِمْ فَإِذَا أَبَوْا إِلَّا الثَّبَاتَ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ مُضَاعَفَةِ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ الْمُرَادُ أَنْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ للَّه عَمَّا يُرِيدُ إِنْزَالَهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ أَوْ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَجِدُونَ وَلِيًّا يَنْصُرُهُمْ وَيَدْفَعُ ذَلِكَ عَنْهُمْ.
وَالصِّفَةُ الْعَاشِرَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ قِيلَ سَبَبُ تَضْعِيفِ الْعَذَابِ فِي حَقِّهِمْ أَنَّهُمْ كَفَرُوا باللَّه وَبِالْبَعْثِ وَبِالنُّشُورِ، فَكُفْرُهُمْ بِالْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ صَارَ سَبَبًا لِتَضْعِيفِ الْعَذَابِ، وَالْأَصْوَبُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ مَعَ ضَلَالِهِمُ الشَّدِيدِ، سَعَوْا فِي الْإِضْلَالِ وَمَنْعِ النَّاسِ عَنِ الدِّينِ الْحَقِّ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى حَصَلَ هَذَا التَّضْعِيفُ عَلَيْهِمْ.
الصِّفَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ وَالْمُرَادُ مَا هُمْ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ صَمَمِ الْقَلْبِ وَعَمَى النَّفْسِ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى قَدْ يَخْلُقُ فِي الْمُكَلَّفِ مَا يَمْنَعُهُ الْإِيمَانَ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ إِنَّهُ تَعَالَى مَنَعَ الْكَافِرَ مِنَ الْإِيمَانِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فهو قوله:
يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ [الْقَلَمِ: ٤٢] وَحَاصِلُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ أَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعَ الْأَصْوَاتِ وَالْحُرُوفِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ/ كَوْنَهُمْ عَاجِزِينَ عَنِ الْوُقُوفِ عَلَى دَلَائِلِ اللَّه تَعَالَى، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْبَدِيهَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُمْ كانوا يسمعون الأصوات والحروف، وجب حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الثَّانِي أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ عَنْهُ بِأَنَّ السَّمْعَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنِ الْحَاسَّةِ الْمَخْصُوصَةِ، أَوْ عَنْ مَعْنَى يَخْلُقُهُ اللَّه تَعَالَى فِي صِمَاخِ الْأُذُنِ، وَكِلَاهُمَا لَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَوِ اجْتَهَدَ فِي أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ أَوْ يَتْرُكَهُ لَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ إِثْبَاتُ الِاسْتِطَاعَةِ فِيهِ مُحَالًا، وَإِذَا كَانَ إِثْبَاتُهَا مُحَالًا كَانَ نَفْيُ الِاسْتِطَاعَةِ عَنْهُ هُوَ الْحَقَّ، فَثَبَتَ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ لَا يَقْدَحُ فِي قَوْلِنَا. ثُمَّ قَالَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ إِهْمَالُهُمْ لَهُ وَنُفُورُهُمْ عَنْهُ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: هَذَا كَلَامٌ لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَسْمَعَهُ، وَهَذَا مِمَّا يَمُجُّهُ سَمْعِي وَذَكَرَ غَيْرُ الْجُبَّائِيِّ عُذْرًا آخَرَ، فَقَالَ إِنَّهُ تَعَالَى نَفَى أَنْ يَكُونَ لَهُمْ أَوْلِيَاءُ وَالْمُرَادُ الْأَصْنَامُ ثُمَّ بَيَّنَ نَفْيَ كَوْنِهِمْ أَوْلِيَاءَ بِقَوْلِهِ: مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ فَكَيْفَ يَصْلُحُونَ لِلْوِلَايَةِ.
وَالْجَوَابُ: أَمَّا حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى خلق الحاسة وعلى خلق المعنى فيها باطل، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَرَدَتْ فِي مَعْرِضِ الْوَعِيدِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعْنًى مُخْتَصًّا بِهِمْ، وَالْمَعْنَى الَّذِي قَالُوهُ حَاصِلٌ فِي

صفحة رقم 333

الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ فَكَيْفَ يُمْكِنُ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَثْقِلُونَ سَمَاعَ كَلَامِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِبْصَارَ صُورَتِهِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ تَعَالَى نَفَى الِاسْتِطَاعَةَ فَحَمَلَهُ عَلَى مَعْنًى آخَرَ خِلَافَ الظَّاهِرِ، وَأَيْضًا أَنَّ حُصُولَ ذَلِكَ الِاسْتِثْقَالِ إِمَّا أَنْ يَمْنَعَ مِنَ الْفَهْمِ وَالْوُصُولِ إِلَى الْغَرَضِ أَوْ لَمْ يَمْنَعْ، فَإِنْ مَنَعَ فَهُوَ الْمَقْصُودُ، وَإِنْ لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ فَحِينَئِذٍ كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا أَجْنَبِيًّا عَنِ الْمَعَانِي الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْفَهْمِ وَالْإِدْرَاكِ، وَلَا تَخْتَلِفُ أَحْوَالُ الْقَلْبِ فِي الْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ بِسَبَبِهِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ جَعْلُهُ ذَمًّا لَهُمْ فِي هَذَا الْمَعْرِضِ، وَأَيْضًا قَدْ بَيَّنَّا مِرَارًا كَثِيرَةً فِي هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ حُصُولَ الْفِعْلِ مَعَ قِيَامِ الصَّارِفِ مُحَالٌ، فَلَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى كَوْنَ هَذَا الْمَعْنَى صَارِفًا عَنْ قَبُولِ الدِّينِ الْحَقِّ وَبَيَّنَ فِيهِ أَنَّهُ حَصَلَ حُصُولًا عَلَى سَبِيلِ اللُّزُومِ بِحَيْثُ لَا يَزُولُ الْبَتَّةَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ الْمُكَلَّفُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَمْنُوعًا عَنِ الْإِيمَانِ، وَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ الْمَطْلُوبُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فَإِنَّا نَجْعَلُ هَذِهِ الصِّفَةَ مِنْ صِفَةِ الْأَوْثَانِ فَبَعِيدٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ثُمَّ قَالَ: مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَائِدًا إِلَى عَيْنِ مَا عَادَ إِلَيْهِ الضَّمِيرُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأُولَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَما كانُوا يُبْصِرُونَ فَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْبَصِيرَةُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّهُمْ عَدَلُوا عَنْ إِبْصَارِ مَا يَكُونُ حُجَّةً لَهُمْ.
الصِّفَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمُ اشْتَرَوْا عِبَادَةَ الْآلِهَةِ بِعِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى فَكَانَ هَذَا الْخُسْرَانُ أَعْظَمَ وُجُوهِ الْخُسْرَانِ.
الصِّفَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ
وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَمَّا بَاعُوا الدِّينَ بِالدُّنْيَا فَقَدْ خَسِرُوا، لِأَنَّهُمْ أَعْطَوُا الشَّرِيفَ، وَرَضُوا بِأَخْذِ الْخَسِيسِ، وَهَذَا عَيْنُ الْخُسْرَانِ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ فِي الْآخِرَةِ فَهَذَا الْخَسِيسُ يَضِيعُ وَيَهْلَكُ وَلَا يَبْقَى مِنْهُ أَثَرٌ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ.
الصِّفَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: قَوْلُهُ: لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ وَتَقْرِيرُهُ مَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا أَعْطَى الشَّرِيفَ الرَّفِيعَ وَرَضِيَ بِالْخَسِيسِ الْوَضِيعِ فَقَدْ خَسِرَ فِي التِّجَارَةِ. ثُمَّ لَمَّا كَانَ هَذَا الْخَسِيسُ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَهْلَكَ وَيَفْنَى انْقَلَبَتْ تِلْكَ التِّجَارَةُ إِلَى النِّهَايَةِ فِي صِفَةِ الْخَسَارَةِ، فَلِهَذَا قَالَ: لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ وَقَوْلُهُ لَا جَرَمَ قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِنَا لَا بُدَّ وَلَا مَحَالَةَ، ثُمَّ كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا حَتَّى صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ حَقًّا، تَقُولُ الْعَرَبُ: لَا جَرَمَ أَنَّكَ مُحْسِنٌ، عَلَى مَعْنَى حَقًّا إِنَّكَ مُحْسِنٌ، وَأَمَّا النَّحْوِيُّونَ فَلَهُمْ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: لَا حَرْفُ نَفْيٍ وَجَزْمٍ، أَيْ قَطْعٍ، فَإِذَا قُلْنَا: لَا جَرَمَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا قَطْعَ قَاطِعٍ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ. الثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ إِنَّ كَلِمَةَ لَا نفي لما ظنوا أنه ينفعهم، وجَرَمَ مَعْنَاهُ كَسَبَ ذَلِكَ الْفِعْلُ، وَالْمَعْنَى: لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ وَكَسَبَ ذَلِكَ الْفِعْلُ لَهُمُ الْخُسْرَانَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَذَكَرْنَا جَرَمَ بِمَعْنَى كَسَبَ فِي تفسير قوله تعالى: لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ [الْمَائِدَةِ: ٢] قَالَ الْأَزْهَرِيُّ، وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي هَذَا الْبَابِ، الثَّالِثُ: قَالَ سِيبَوَيْهِ وَالْأَخْفَشُ: لَا رَدٌّ عَلَى أهل الكفر كما ذكرنا وجرم معناه حق وصحح، وَالتَّأْوِيلُ أَنَّهُ حَقُّ كُفْرِهِمْ وُقُوعُ الْعَذَابِ وَالْخُسْرَانِ بِهِمْ. وَاحْتَجَّ سِيبَوَيْهِ بِقَوْلِ الشَّاعِرِ:

وَلَقَدْ طَعَنْتُ أبا عيينة طعنة جرمت فزاة بَعْدَهَا أَنْ يَغْضَبُوا
أَرَادَ حَقَّتِ الطَّعْنَةُ فَزَارَةَ أن يغضبوا.

صفحة رقم 334
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية