آيات من القرآن الكريم

أُولَٰئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ۘ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ ۚ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ

والإعجاز هو الامتناع، وأعجزت فلاناً، أي: برهنت على أنه ممتنع عن الأمر وغير قادر عليه.
وقد تجلَّى الإعجاز على سبيل المثال في عجز هؤلاء الذين أنكروا أن القرآن معجزة أن يأتي بآية من مثله.
والمعجز في الأرض هو من لا تقدر عليه.
ويبيِّن لنا الحق سبحانه في هذه الآية أن هؤلاء الكافرين لا يُعجزون الله في الأرض، بدليل أن هناك نماذج من أمم قد سبقت وكفرت، فمنهم من أخذته الريح، ومنهم من خسف الله بهم الأرض، ومنهم من غرق، وإذا انتقلوا إلى الآخرة فليس لهم ولي أو نصير من دون الله؛ لأن الولي هو القريب منك، ولا يقرب منك إلا من تحبه، ومن ترجو خيره.
فإذا قَرُب منك إنسان له مواهب فوق مواهبك، نضح عليك من مواهبه، وإذا كان من يقرب منك قوياً وأنت ضعيف، ففي قوته سياج لك، وإن كان غنياً، فغناه ينضح عليك، وإن كان عالماً أفادك بعلمه، إن كان حليماً أفادك بحلمه لحظة غضبك، وكل صاحب موهبة تعلو موهبتك وأنت قريب منه، فسوف يفيدك من موهبته.

صفحة رقم 6407

والولي هو النصير أيضاً؛ لأنك أول ما تستصرخ سيأتي لك القريب منك.
وهؤلاء الذين يصدُّون عن سبيل الله لن يجدوا وليّاً ولا نصيراً في الآخرة وإن وجدوه في الدنيا لأن كل إنسان في الآخرة سيكون مشغولاً بنفسه:
﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ﴾ [الحج: ٢].
ويقول الحق سبحانه:
﴿ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً﴾ [لقمان: ٣٣].
وكذلك يقول الحق سبحانه:
﴿يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وصاحبته وَبَنِيهِ لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ [عبس: ٣٤٣٧].
إذن: فهؤلاء الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله لا يُعجزون الله في الأرض، ولا يجدون الولي أو النصير في الآخرة، بل:
﴿يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب﴾ [هود: ٢٠].

صفحة رقم 6408

ونحن نفهم الضِّعْفَ على أنه الشيء يصير مرتين، ونظن أن في ذلك قوة، ونقول: لا؛ لأن الذي يأتي ليسند الشيء الأول ويشفع له، كان الأول بالنسبة له ضعيف.
إذن: فالمُضَاعفة هي التي تظهر ضعف الشيء الذي يحتاج إلى ما يدعمه.
ومُضَاعفة العذاب أمر منطقي لهؤلاء الذين أرادوا الأمر عوجاً، وصدوا عن سبيل الله تعالى، وأرادوا بذلك إضلال غيرهم.
وقول الحق سبحانه:
﴿يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب﴾ [هود: ٢٠].
لا يتناقض مع قوله الحق:
﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى﴾ [الأنعام: ١٦٤].
لأن هؤلاء الذين صدوا عن سبيل الله ليس لهم وزر واحد، بل لهم وِزْران: ووزر الضلال في ذواتهم، ووزر الإضلال لغيرهم.
وهناك آية تقول:
﴿والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ العذاب﴾ [الفرقان: ٦٨٦٩].
أي: أن مَنْ يفعل ذلك يَلْقَ مضاعفة للعذاب.. لماذا؟

صفحة رقم 6409

لأنه كان أسوة لغيره في أن يرتكب نفس الجرم.
والحق سبحانه وتعالى لا يريد للذنوب أن تنتشر، ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يحض على أن يرى المؤمنون من ارتكب الجُرْم لحظةَ العقاب، مثلما يقول سبحانه في الزنا:
﴿وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين﴾ [النور: ٢].
وحين يرى المؤمنون وقوع العقوبة على جريمة ما، ففي ذلك تحذير من ارتكاب الجُرْم، وحدّ من وقوع الجرائم.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يضاعف العذاب لأولئك الذين صَدُّوا عن سبيل الله، وأرادوا إضلال غيرهم، فارتكبوا جريمتين:
أولاهما: ضلالهم.
والثانية: إضلالهم لغيرهم.
ولذلك تجد بعضاً من الذين أضلُّوا يقولون يوم القيامة:
﴿رَبَّنَآ أَرِنَا الذين أَضَلاَّنَا مِنَ الجن والإنس نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسفلين﴾ [فصلت: ٢٩].
ويقولون أيضاً:
﴿رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب والعنهم لَعْناً كَبِيراً﴾ [الأحزاب: ٦٧٦٨].

صفحة رقم 6410

إذن: فالدعوة إلى الانحراف إضلال، وعمل الشيء بالانحراف إضلال؛ لأنه أسوة أمام الغير.
ومضاعفة العذاب لا تعني الإحراق مرة واحدة في النار؛ لأن الحق سبحانه لو تركنا للنار لتحرقنا مرة واحدة لانتهى الإيلام؛ ولذلك أراد الحق سبحانه أن يكون هناك عذاب بعد عذاب.
يقول الحق سبحانه:
﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب﴾ [النساء: ٥٦].
فهو عذاب على الدوام.
أو أن العذاب الذي يضاعف له لون آخر، فهناك عذاب للكفر، وهناك عذاب للإفساد.
يقول الحق سبحانه:
﴿زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العذاب بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ﴾ [النحل: ٨٨].
فالعذاب على الكفر لا يلغي العذاب على المعاصي التي يرتكبها الكافر.
فإذا كانت الشاة القرناء يُقتصُّ للشاة الجلحاء منها، أي: أن الشاة التي لها قرون وتنطح الشاة التي لا قرون لها، فيوم القيامة يتم القصاص

صفحة رقم 6411

منها، رغم أنه لا حساب للحيوانات؛ لأنها لا تملك الاختيار، ولكنها سوف تُستخدم كوسيلة إيضاح لميزان العدالة.
ويقول الحق سبحانه:
﴿يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ﴾ [هود: ٢٠].
أي: ما كانوا يستطيعون الاستفادة من السمع رغم وجود آلة السمع، فلم يستمعوا لبلاغ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولا استطاعوا الاستفادة من أبصارهم ليروا آيات الله سبحانه وتعالى في الكون، فكأنهم صُمٌّ عُمْيٌ، أو يضاعف لهم العذاب مدة استطاعتهم السمع والإبصار.
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه:
﴿أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ﴾ [مريم: ٣٨].
أي: أن سمعهم وأبصارهم ستكون سليمة وجيدة في الآخرة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: ﴿أولئك الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ﴾

صفحة رقم 6412
تفسير الشعراوي
عرض الكتاب
المؤلف
محمد متولي الشعراوي
الناشر
مطابع أخبار اليوم
سنة النشر
1991
عدد الأجزاء
20
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية