
ثم أنسه تعالى بقوله: إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ، أي هذا القدر هو الذي فوض إليك، والله تعالى بعد ذلك هو الوكيل الممضي لإيمان من شاء وكفر من شاء.
وقوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ... الآية، هذه أَمْ التي هي عند سيبويه بمعنى بل وألف الاستفهام، كأنه أضرب عن الكلام الأول، واستفهم في الثاني على معنى التقرير، كقولهم: إنها لإبل أم شاء، و «الافتراء» أخص من الكذب، ولا يستعمل إلا فيما بهت به المرء وكابر، وجاء بأمر عظيم منكر، ووقع التحدي في هذه الآية بِعَشْرِ لأنه قيدها بالافتراء، فوسع عليهم في القدر لتقوم الحجة غاية القيام، إذ قد عجزهم في غير هذه الآية بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة: ٢٣، يونس: ٣٨] دون تقييد فهذه مماثلة تامة في غيوب القرآن ومعانيه الحجة، ونظمه ووعده ووعيده وعجزوا في هذه الآية بل قيل لهم عارضوا القدر منه بعشر أمثاله في التقدير والغرض واحد واجعلوه مفترى لا يبقى لكم إلا نظمه فهذه غاية التوسعة وليس المعنى عارضوا عشر سور بعشر، لأن هذه إنما كانت تجيء معارضة سورة بسورة مفتراة ولا تبالي عن تقديم نزول هذه على هذه: ويؤيد هذا النظر أن التكليف في آية البقرة إنما هو بسبب الريب، ولا يزيل الريب إلا العلم بأنهم لا يقدرون على المماثلة التامة وفي هذه الآية إنما التكليف بسبب قولهم افْتَراهُ فكلفوا نحو ما قالوا: ولا يطرد هذا في آية يونس. وقال بعض الناس: هذه مقدمة في النزول على تلك، ولا يصح أن يعجزوا في واحدة فيكلفوا عشرا والتكليفان سواء، ولا يصح أن تكون السورة الواحدة إلا مفتراة وآية سورة يونس في تكليف سورة متركبة على قولهم: افْتَراهُ، وكذلك آية البقرة وإنما ريبهم بأن القرآن مفترى.
قال القاضي أبو محمد: وقائل هذا القول لم يلحظ الفرق بين التكليفين: في كمال المماثلة مرة، ووقوفها على النظم مرة.
ومَنِ في قوله: مَنِ اسْتَطَعْتُمْ يراد بها الآلهة والأصنام والشياطين وكل ما كانوا يعظمونه، وقوله: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يريد في أن القرآن مفترى.
قوله عز وجل:
[سورة هود (١١) : الآيات ١٤ الى ١٦]
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٤) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٦)
لهذه الآية تأويلان:
أحدهما أن تكون المخاطبة من النبي ﷺ للكفار أي فإن لم يستجب من تدعون إلى شيء من المعارضة ولا قدر جميعكم عليها، فأذعنوا حينئذ واعلموا أنه من عند الله ويأتي قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ متمكنا.

والثاني: أن تكون مخاطبة من الله تعالى للمؤمنين: أي فإن لم يستجب الكفار إلى ما دعوا إليه من المعارضة فاعلموا أن ذلك من عند الله، وهذا على معنى دوموا على علمكم لأنهم كانوا عالمين بذلك. قال مجاهد: قوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ هو لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: بِعِلْمِ اللَّهِ يحتمل معنيين:
أحدهما: بإذنه وعلى علم منه.
والثاني: أنه أنزل بما علمه الله تعالى من الغيوب، فكأنه أراد المعلومات له وقوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ تقرير.
وقوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا... الآية، قالت فرقة: ظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الكفرة: هذا قول قتادة والضحاك، وقال مجاهد: هي في الكفرة وفي أهل الرياء من المؤمنين: وإلى هذا ذهب معاوية حين حدثه سيافه شفي بن ماتع الأصبحي عن أبي هريرة بقول رسول الله ﷺ في الرجل المتصدق والمجاهد المقتول والقائم بالقرآن ليله ونهاره وكل ذلك رياء، «إنهم أول من تسعر به النار يوم القيامة» فلما حدثه شفي بهذا الحديث، بكى معاوية وقال: صدق الله ورسوله: وتلا: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها... الآية، إلى قوله: وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.
فأما من ذهب إلى أنها في الكفرة فمعنى قوله يُرِيدُ يقصد ويعتمد، أي هي وجهه ومقصده لا مقصد له غيرها. فالمعنى: من كان يريد بأعماله الدنيا فقط إذ لا يعتقد آخرة، فإن الله يجازيه على حسن أعماله- في الدنيا- بالنعم والحواس وغير ذلك: فمنهم مضيق عليه ومنهم موسع له، ثم حكم عليهم بأنهم لا يحصل لهم يوم القيامة إلا بالنار ولا تكون لهم حال سواها.
قال القاضي أبو محمد: فاستقام هذا المعنى على لفظ الآية. وهو عندي أرجح التأويلات- بحسب تقدم ذكر الكفار المناقضين في القرآن- فإنما قصد بهذه الآية أُولئِكَ.
وأما من ذهب إلى أنها في العصاة من المؤمنين فمعنى يُرِيدُ عنده يحب ويؤثر ويفضل ويقصد، وإن كان له مقصدا آخر بإيمانه فإن الله يجازيه على تلك الأعمال الحسان التي لم يعملها لله بالنعم في الدنيا، ثم يأتي قوله: لَيْسَ لَهُمْ بمعنى ليس يجب لهم أو يحق لهم إلا النار، وجائز أن يتغمدهم الله برحمته، وهذا هو ظاهر ألفاظ ابن عباس وسعيد بن جبير.
وقال أنس بن مالك: هي في أهل الكتاب.
قال القاضي أبو محمد: ومعنى هذا أن أهل الكتاب الكفرة يدخلون في هذه الآية، لا أنها ليست في غيرهم.
وقرأ جمهور الناس: «نوف» بنون العظمة وقرأ طلحة وميمون بن مهران «يوف» بياء الغائب.
ويُبْخَسُونَ معناه: يعطون أقل من ثوابهم، وحَبِطَ معناه: يبطل وسقط ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يقتل حبطا أو يلم»، وهي مستعملة في فساد الأعمال، والضمير في قوله: فِيها عائد