آيات من القرآن الكريم

قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ
ﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖﰗ ﰙﰚﰛﰜﰝﰞﰟﰠﰡﰢﰣﰤ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽ ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍ ﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛ ﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ ﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪ

مطلب الآية المدنية وشرط النسخ:
والآية المدنية من هذه السورة هي قوله تعالى «وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ» أي إن من قومك يا محمد من يؤمن بهذا القرآن لسابق سعادته «وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ» لشقائه الأولي «وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ٤٠» استعدادهم الفطري بقبول هذا القرآن واعراضهم عنه باقترافهم الأعمال الفاسدة التي أضلتهم عن الاهتداء به
«وَإِنْ كَذَّبُوكَ» يا سيد الرسل «فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ» أي جزاؤه وهذه الآية من آيات المتاركة على حد قوله تعالى (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) الآية الأخيرة من الكافرون في ج ١، وقوله (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) الآية ٢٥ من سورة سبأ الآتية «أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ» لا يصل وإليكم من جزائه شيء «وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ٤١» لا يصل إليّ من جزائه شيء.
وهذه الآية محكمة غير منسوخة بآية السيف كما زعمه بعض المفسرين لأن مدلولها اختصاص كل بأعماله وثمراتها له من ثواب وعقاب وإن ما فهم من معناها بعض المفسرين كمقاتل والكلبي وابن زيد، الإعراض وترك التعرض بشيء للكافرين الذين أمر حضرة الرسول أخيرا بقتالهم لا يدل على النسخ، لأن شرط الناسخ أن يكون رافعا للحكم المنسوخ وهنا لا رفع أصلا لأن مدلول الآية الاختصاص فقط كما ذكرنا وآية السيف لم ترفع شيئا من مدلولات هذه الآية، فكان القول بالنسخ باطلا وبعيدا عن الصحة، قال تعالى «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ» إذا قرأت عليهم القرآن ويصغون لما تبين لهم ما يأتون وما يذرون، ولكنهم لا يسمعون سماع قبول ولا يعون وعي أهل العقول، فلا تحزن عليهم لأنهم صم عن سماع الحق «أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ» كلا لا تقدر على ذلك لأن من أصمّه الله وختم على قلبه لا يمكن أن يسمع بأذنيه، ولا تقدر على إسماعه وهو أصم، فكيف إذا ضمّ إليه عدم العقل، إذ يقول الله تعالى «وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ ٤٢» فهل تطمع بإسماعهم بعد أن سلب الله عقولهم مع أسماعهم، لأن الله تعالى صرف قلوبهم عن الانتفاع بما تتلوه عليهم، إذ أن الأصم العاقل ربما تفرس واستدل إذا وقع في صماخه دوي

صفحة رقم 42

الصوت على ما يريده مخاطبه، فإذا اجتمع فقدان العقل مع عدم السمع فقد أيس من إسماعه وإفهامه. وأعيد الضمير في هذه الآية إلى من باعتبار معناها، إذ يكون للمفرد والجمع فأعاده في الآية الأولى للمفرد باعتبار لفظها، وفي الثانية للجمع باعتبار معناها، وفي الثالثة وهي «وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ» باعتبار لفظها أيضا، أي يتطلع إليك ببصره ظاهرا ليعاين أدلة صدقك، واعلام نبوتك، ولكنه لا يصدقك إذ أنتم إلى عمى بصره عمه قلبه «أَفَأَنْتَ» بعد هذا تقدر «تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ ٤٣» كلا لا تقدر على هداية عمي البصر عمه البصيرة، ولا يمكنك ذلك لئن الأعمى الذي في قلبه بصيرة قد بحس ويتفطن بالحدس لما لا يدركه البصير، وأما الأعمى الأحمق فلا يؤمل منه ذلك، لأنه جهد البلاء والعمدة على البصيرة، فمن فقدها فقد أيس من اعتباره وإبصاره، لأن من لا عقل له ولا بصيرة فهو جماد، ولا ينتفع انتفاعا كاملا بالحواس الظاهرة، إلا إذا ضم إليها الحواسّ الباطنة قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً» فلا ينقصهم مما نيطت به مصالحهم وكمالاتهم من مبادئ الإدراكات وأسباب العلوم والإرشاد إلى الحق، إذ أرسل لهم الرسل وأنزل عليهم الكتب ومتعهم بالعقل والسمع والبصر تفضلا منه عليهم «وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ٤٤» بعدم استعمال ما منحهم الله به من الجوارح لما خلقت لها، وعده انصياعهم للأمر بالخير وتدبرهم فوائده، وركونهم إلى الشر وعدم نظرهم إلى عاقبته، وإقبالهم على المناهي رغبة فيها، وإدبارهم عن الرشد. ورغبتهم عن طرقه، وصدودهم عن الهدى، وعدم مبالاتهم بما يؤول إليه، لهذا فإن تقدير الشقاء عليهم لم يكن ظلما من الله، وحاشاه وهو القائل (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) الآية ١١ من سورة الحج في ج ٣، وإنما نسب فعل الظلم إليهم لأنه كسبهم اقترفوه برغبة منهم إليه واختيار له، ولو أوقعوا شيئا من الظلم كرها لما عوقبوا عليه. وأعلم أنه لا يجوز نسبة الظلم إلى الله تعالى بوجه من الوجوه، ولو عذب بغير ذنب على سبيل الفرض، لأن الظلم التصرف بحق الغير دون وجه شرعي، والخلق كلهم ملك الله، والمالك يتصرف بملكه كيفما شاء وأراد، والتصرف بالملك ولو على غير وجهه لا يعد ظلما، إذ لا

صفحة رقم 43

حق للغير فيه، وهو لا يسأل عما يفعل، له الخلق والأمر. قال تعالى «وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ» واذكر يا محمد لقومك يوم يجمعهم ليوم الحساب، وإذ ذاك يرون أنفسهم «كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا» في دنياهم هذه التي يرونها طويلة الأمد «إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ» وقيل إن هذا اللبث في قبورهم، والأول أولى بالمقام، لأن حال المؤمن والكافر سواء في عدم المعرفة بمقدار اللبث في القبور إلى وقت الحشر، فتعين حمل المعنى على الكافر، لأن المؤمن انتفع في مكثه بالدنيا بما عمل من طاعة الله ورسوله بخلاف الكافر، فإنه لم ينتفع بعمره فيها، لأنه أنفذه بالمعاصي، لذلك استغل مدة لبثه في الدنيا، لأنه كان في
شهوات ولذات قانية، فصارت كالعدم «يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ» إذا خرجوا من قبورهم كتعارفهم بالدّنيا، ثم يشتد عليهم هول الموقف فتنقطع المعرفة، ويعرض الحبيب عن حبيبه، والزوج عن زوجته، والابن عن أبيه، والأخ عن أخيه، والأم عن ولدها، قال تعالى (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ) الآيات ٣٥ فما بعدها من سورة عبس في ج ١، وقال تعالى (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) الآية ١١ من سورة المعارج الآتية، وقال تعالى (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) الآية ١٠٣ من سورة المؤمنين الآتية لهذا يصير التقاطع بينهم، فلا ينظر أحدهم للآخر، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه عن صاحبه، وحينئذ يظهر مغزى قوله تعالى «قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ» إذ شاهدوه حقا وكانوا يجحدونه بالدنيا «وَما كانُوا مُهْتَدِينَ ٤٥» في بيع آخرتهم الباقية بدنياهم الفانية وضلوا طريق النجلة، فحصلت لهم خسارة عظيمة لا تتلافى، قال تعالى «فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ» من العذاب في الدنيا قبل موتك يا محمد «أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ» قبل أن نريك عذابا فيهم إذ نرجئه للآخرة «فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ» فيها، وهناك ترى ما أوعدناهم به من الوبال الدائم «ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ ٤٦» من المعاصي والقبائح لا حاجة إلى شهود عليها، لأنها كلها مدونة عنده لم يخف عليه شيء منها، فكل جارحة تشهد بما فعلت وتبين زمانه ومكانه وصفته، وإذ ذاك يذوقون العذاب الأليم. وهذه الآية لها نظائر كثيرة في القرآن بلفظها ومعناها كالآية ٩٤ من المؤمنين الآتية وغيرها،

صفحة رقم 44

وفيها وعيد وتهديد للكفار وأهل المعاصي، وبشارة لحضرة الرسول بأن الله تعالى سيريه العذاب الذي أوعدهم بإنزاله والذل والخزي في الدنيا والآخرة وقد أراه بعض ذلك يوم بدر، وفي فتح مكة وغيرها من أيام انتصاره عليهم، وسيريه أيضا ما خبىء لهم في الآخرة من العذاب الذي لا ينقضي «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ» فرقة وطائفة وقوم ورهط وعشيرة وفخذ وبيت «رَسُولٌ» يرسله الله تعالى لإصلاحها فيأمرهم وينهاهم ويحذرهم ويبشرهم، فيؤمن به من شاء الله إيمانه ويكفر به من شاء خذلانه، مثلك مع أمتك، وكما يكون حالك يا أكرم الرسل مع أمتك كان حالهم مع أممهم في الدنيا والآخرة، فإذا جاء رسولهم وبلغهم ما أمره به ربه فصدقه أناس وكفر به آخرون كما هي الحالة معك وأمتك، حتى إذا انتهى الأجل المضروب لهم «قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ» العدل فينجي الله رسوله والذين آمنوا به، ويهلك من كذبه وجحد ما جاءه به، وهذا عدل منه تعالى لأنه لا يهلك قوما إلا بعد أن يتقدم إليهم بالمعذرة وإقامة الحجة على لسان رسوله، وهذا القضاء قد يكون بالدنيا عذاب استئصال كقوم عاد ونوح، وقد يكون على البعض وقد يؤخر الله عذاب آخرين إلى الآخرة فيوقعه فيهم دفعة واحدة، وهؤلاء الذين ينالون العذاب في الدنيا سينالهم العذاب الأكبر يوم القيامة أيضا إذا شاء تعذيبهم، وفي ذلك اليوم يجمع الله الأمم كلها للحساب ويجاء برسول كل أمة ليشهد عليها بما كان منها، فيفصل بنجاة المؤمنين وإكرامهم عنه وفضله، وبتعذيب الكافرين وإهانتهم بعدله «وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ٤٧» شيئا من جزاء أعمالهم فينال المؤمن ثواب أعماله الطيبة وما صبر عليه من مضض العيش في دنياء ويجازى الكافر عقاب أعماله السيئة وما بطر ومرح في دنياه، فيربح المؤمن ويخسر الكافر، راجع الآية ١١ من سورة الحج في ج ٣، قال تعالى «وَيَقُولُونَ» لك يا حبيبي على طريق السخرية والاستهزاء «مَتى هذَا الْوَعْدُ» الذي توعدنا به من نزول العذاب إذا لم نؤمن بك وبربك وتهددنا به أنت وأصحابك أنزلوه بنا «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ٤٨» في ذلك، وهذه الآية لا توجد في ترتيب القرآن من أوله إلى هنا ومن هذه السورة إلى سورة الأنبياء وبعدها تكرر كثيرا عند كل مناسبة، أما في ترتيب النزول فقد مر مثلها

صفحة رقم 45
بيان المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني
الناشر
مطبعة الترقي - دمشق
الطبعة
الأولى، 1382 ه - 1965 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية