تعذيب المشركين في الدنيا والآخرة
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٤٦ الى ٥٦]
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (٤٦) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠)
أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٥٤) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٥)
هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦)
الإعراب:
بَياتاً منصوب على الظرف بمعنى وقت بيات.
ماذا يَسْتَعْجِلُ يجوز جعله جوابا للشرط، كقولك: إن أتيتك ماذا تطعمني؟ ويجوز جعل جواب الشرط محذوفا وهو: تندموا على الاستعجال أو تعرفوا الخطأ فيه.
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ إما بمعنى: يستخبرونك، فيتعدى إلى مفعولين، الأول هو الكاف والثاني جملة أَحَقٌّ هُوَ جملة اسمية في موضع المفعول الثاني. وإما بمعنى يستعملونك فيتعدى إلى ثلاثة مفاعيل، فتكون الجملة الاسمية قد سدت مسدّ المفعولين.
إِي وَرَبِّي أي: حرف يكون مع القسم بمعنى نعم، وجواب القسم: إِنَّهُ لَحَقٌّ.
أَرَأَيْتُمْ تستعمل «أرأيت» بمعنى أخبرني، والرؤية إما بصرية أو علمية، ولا تستعمل في غير الأمر العجيب مثل: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى.
البلاغة:
ضَرًّا وَلا نَفْعاً بينهما طباق، ومثله بين بَياتاً أَوْ نَهاراً وبين يُحيِي وَيُمِيتُ وبين يَسْتَأْخِرُونَ.. ويَسْتَقْدِمُونَ.
يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ فيه وضع الظاهر موضع المضمر للتهويل والتشنيع على الجرم، كما أن هذا الاستفهام للتهويل والتعظيم.
أَثُمَّ دخول حرف الاستفهام على ثم لإنكار التأخير لإيمانهم، فلا يقبل منهم.
المفردات اللغوية:
وَإِمَّا أدغمت فيه نون إن الشرطية في ما المزيدة. نُرِيَنَّكَ نبصرنك. بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ به من العذاب في حياتك، كما أراه يوم بدر، وجواب الشرط محذوف أي فذاك.
أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل تعذيبهم. فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فنريكه في الآخرة، وهو جواب: نتوفينك.
ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ مطلع أو مجاز عليه، فإنه ذكر الشهادة وأراد نتيجتها. عَلى ما يَفْعَلُونَ من تكذيبهم وكفرهم، فيعذبهم أشد العذاب.
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ من الأمم الماضية. فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ إليهم بالبينات فكذبوه. قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ بالعدل، أي بين الرسول ومكذبيه، فيعذبون وينجّى الرسول ومن آمن به. وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ بتعذيبهم بغير جرم، فكذلك نفعل بهؤلاء.
وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ؟ بالعذاب، يراد استبعاد له واستهزاء به، وقولهم خطاب للنبي صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين. إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أن أملكه أو يقدرني عليه، فكيف أملك لكم حلول العذاب. لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ مدة معلومة لهلاكهم. فَلا يَسْتَأْخِرُونَ يتأخرون عنه. وَلا يَسْتَقْدِمُونَ يتقدمون عليه.
قُلْ: أَرَأَيْتُمْ أخبروني. إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ عذاب الله الذي تستعجلون به. بَياتاً ليلا. ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ: أي شيء من العذاب يستعجلونه، وكله شديد مؤلم لا يلائم الاستعجال. الْمُجْرِمُونَ المشركون. وجواب الشرط: هي جملة الاستفهام، كقولك: إذا أتيتك ماذا تعطيني؟ والمراد به التهويل، أي ما أعظم ما استعجلوه. آلْآنَ تؤمنون؟ على إرادة القول، أي يقال لهم إن آمنوا بعد وقوع العذاب: آلآن آمنتم به؟ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ استهزاء وتكذيبا.
ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عطف على (قيل أو: يقال) المقدر قبل: آلْآنَ...
عَذابَ الْخُلْدِ أي الذي تخلدون فيه، أي المؤلم على الدوام. هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ أي ما تجزون إلا جزاء على ما كسبتموه من الكفر والمعاصي.
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ يستخبرونك. أَحَقٌّ هُوَ؟ أي أحق ما تقول من الوعد الذي وعدتنا به من العذاب والبعث. قُلْ: إِي نعم. بِمُعْجِزِينَ بفائتين العذاب.
ظَلَمَتْ بالشرك أو الكفر أو التعدي على الغير. ما فِي الْأَرْضِ ما فيها جميعا من خزائن وأموال. لَافْتَدَتْ بِهِ لجعلته فدية لها من العذاب يوم القيامة. النَّدامَةَ على ترك الإيمان. لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ لأنهم بهتوا بما عاينوا من الهول فلم يقدروا على النطق. وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بين الخلائق. بِالْقِسْطِ بالعدل. وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ شيئا. وليس هذا تكرارا مع ما سبق من القضاء بالقسط لأن الله يقضي بين الأنبياء ومكذبيهم، والثاني فيه مجازاة المشركين على الشرك، أو الحكم بين الظالمين والمظلومين.
أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تقرير لقدرته تعالى على الإثابة والعقاب. أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي إن وعده بالبعث والجزاء من ثواب وعقاب كائن ثابت لا خلف فيه. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أكثر الناس لا يعلمون ذلك، لقصور عقولهم إلا ظاهرا من الحياة الدنيا.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى خسارة المشركين المكذبين بالبعث الذين لم يهتدوا إلى وجوه الخير والصلاح، وأنهم سيعذبون، أوضح أن بعض هذا العذاب سيكون في
الدنيا، وبعضه في الآخرة، وهو تنبيه على أن عاقبة المذنبين مذمومة قبيحة جدا.
وليس هذا حال محمّد صلى الله عليه وسلّم مع قومه، بل هو حال كل الأنبياء مع أقوامهم.
ثم بيّن الله تعالى الشبهة الخامسة «١» من شبهات منكري النبوة، فإنه صلى الله عليه وسلّم كلما هددهم بنزول العذاب، ومرّ زمان ولم يظهر ذلك العذاب، قالوا: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟ واحتجوا بعدم وجوده على القدح في نبوته صلى الله عليه وسلّم. ثم أجابهم تعالى بأنه لو نزل هذا العذاب، ما الفائدة لكم فيه؟ فإن قلتم: نؤمن عنده، فالإيمان وقت الإلجاء والعسر باطل، فيكون هذا العذاب في الدنيا، ثم يعقبه عذاب آخر أشد منه يوم القيامة؟
وبالرغم من سؤالهم: مَتى هذَا الْوَعْدُ وإجابتهم، عادوا مرة أخرى إلى الرسول صلى الله عليه وسلّم يسألونه: أَحَقٌّ هُوَ أي المعاد والقيامة من القبور ثم العذاب؟
هو حق وأنه ليس للظالم شيء يفتدي به، فإن كل الأشياء ملك الله تعالى، وأن ثبوت النبوة وصحة المعاد متفرعان على إثبات الإله القادر الحكيم، وكل ما سواه ملكه.
التفسير والبيان:
كان المشركون يكذبون النبي صلى الله عليه وسلّم في توعده لهم بالعذاب، وكانوا يستعجلون نزوله تكذيبا له واستهزاء به، ويتمنون موته لتموت دعوته، فرد الله تعالى عليهم مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلّم: إن ننتقم منهم في حياتك لتقرّ عينك كما حدث يوم بدر وحنين وغيرهما، فذاك وإن توفيناك قبل ذلك فمصيرهم ومنقلبهم إلينا بكل حال، فنريك عذابهم في الآخرة، والله مطلع على أفعالهم بعدك، فيجازيهم به، على علم وشهادة حق. وذلك كقوله تعالى: وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ،
أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ، فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ، وَعَلَيْنَا الْحِسابُ [الرعد ١٣/ ٤٠].
وهذا يدل على أنه تعالى يري رسوله أنواعا من ذل الكافرين وخزيهم في الدنيا، وسيزيد عليه بعد وفاته.
وهذا ليس حال النبي صلى الله عليه وسلّم مع قومه، بل هو حال الأنبياء كلهم مع أقوامهم، فإنه تعالى أرسل لكل أمة من الأمم الخالية رسولا، يدعوهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وإلى العمل الصالح مناط النجاة في الآخرة. وهذا يدل على أن كل جماعة ممن تقدم قد بعث الله إليهم رسولا: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر ٣٥/ ٢٤].
فإذا جاء رسولهم إليهم بالبينات فكذبوه، قضى الله بينه وبينهم بالعدل، فيعذبون، وينجي الله رسوله ومن صدقه، وهم لا يظلمون في قضائه شيئا، مما ينزل بهم من عذاب، فلن يكون عذاب بغير ذنب ارتكبوه.
ويقول كفار قريش للرسول صلى الله عليه وسلّم وللمؤمنين تكذيبا واستهزاء، كلما هددهم بنزول العذاب على شركهم ولم ينزل: متى يقع هذا الوعيد، إن كنتم صادقين في تهديدكم وقولكم؟
فأجابهم الله تعالى بجواب يحسم هذه الشبهة: قل أيها الرسول لمن يستعجل العذاب: إني بشر لا أملك لنفسي ضرا أمنعه، ولا نفعا أجلبه، إلا ما شاء الله أن يقدرني. والمراد أن إنزال العذاب على الأعداء وإظهار نصر المؤمنين لا يقدر عليه أحد إلا الله سبحانه، وأنه تعالى ما عيّن لذلك الوعيد وقتا معينا، فهذا من شأن الإله، وأما الرسول فمهمته مقصورة على التبليغ لما جاء من عند الله.
والاستثناء هنا في رأي أهل السنة منقطع، أي ولكن ما شاء الله من ذلك كائن.
ولكل أمة من الأمم مدة من الزمن أو العمر مقدرة، فإذا جاء أجلهم، لا يملك رسولهم ولا غيره أن يقدمه ولا أن يؤخره ساعة من الزمان المقدر له.
وهذا يدل على أن الجزاء يحصل مع حصول الشرط، لا متأخرا عنه، وأن حرف الفاء لا يدل على التراخي، وإنما يدل على كونه جزاء.
ثم أجابهم الله تعالى بجواب آخر: قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ.. أي قل لهم أيها الرسول: أخبروني عن حالكم وما يمكنكم أن تفعلوه، إن أتاكم عذابه ليلا وقت مبيتكم، أو نهارا وقت شغلكم.
وأي نوع من العذاب تستعجلون، أعذاب الدنيا أم عذاب الآخرة؟ وكل من العذابين واقع شديد، وأي عذاب تطلبون تعجيله فهو جهل وحماقة؟ فأي فائدة لكم فيه؟ إن قلتم: نؤمن عنده، فالإيمان وقت الشدة واليأس باطل، فالعذاب القريب هو عذاب الدنيا، ويعقبه يوم القيامة عذاب آخر أشد منه.
وهذا معنى قوله: أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ؟ أي أتنتظرون مجيء هذا العذاب للإيمان؟ فإذا وقع بالفعل آمنتم به، في وقت لا ينفع الإيمان، ويقال لكم توبيخا: آلآن آمنتم بالله والرسول اضطرارا وقسرا، مع أنكم كنتم قبل ذلك تستعجلون العذاب على سبيل السخرية والاستهزاء والتكذيب والاستكبار؟! ودخلت ألف الاستفهام على ثُمَّ للتقرير والتوبيخ، وليدل على أن معنى الجملة الثانية بعد الأولى.
ثم يقال للذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعصيان، وتكذيب الرسول ووعيده: تجرعوا عذاب الله الدائم لكم أبدا، هل تجزون أي لا تجزون إلا بما كنتم تكسبون وتعملون باختياركم من الكفر والمعاصي.
وذكر هذه العلة: بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ كلما ذكر العقاب والعذاب دليل على أن جانب الرحمة راجح غالبا، وجانب العذاب مرجوح مغلوب.
وظاهر الآية يدل على أن الجزاء من جنس العمل، ويوجب العمل لأن ذلك الجزاء عند أهل السنة واجب بحكم الوعد المحض، وعند المعتزلة فلأن العمل الصالح يوجب استحقاق الثواب على الله تعالى.
والآية تدل أيضا على كون العبد مكتسبا للخير والشر، خلافا للجبرية.
وبالرغم من جواب الله تعالى بما ذكر عن سؤال الكفار: مَتى هذَا الْوَعْدُ؟ فإنه أخبر سبحانه أنهم رجعوا إلى الرسول مرة أخرى، وسألوه مرة أخرى، عن ذلك السؤال، فقال: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ.
أي ويستخبرونك أيها الرسول أن تخبرهم عن عذاب الدنيا والآخرة أحق أنه سيقع على ما نكسبه من المعاصي في الدنيا، أم هو مجرد إرهاب وتخويف؟.
وتكرار السؤال دليل على أن القوم تملّكهم إحساس شديد بالقلق والخوف من العذاب، كأنهم لم يكونوا على يقين من تكذيبهم.
فقل لهم أيها الرسول: نعم وربي، إنه لحق ثابت واقع ماله من دافع، وما أنتم بمعجزين أي بفائتين العذاب، وليس صيرورتكم ترابا بمعجز الله عن إعادتكم كما بدأكم من العدم: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ [يس ٣٦/ ٨٢].
وليس لهذه الآية نظير في القرآن إلا آيتان أخريان، يأمر الله تعالى رسوله أن يقسم به على من أنكر المعاد، وهما في سورة سبأ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا: لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ، قُلْ: بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [٣] وفي التغابن: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا، قُلْ: بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ، ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ، وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [٧].
ثم أخبر الله تعالى عن بعض مضايقات وأهوال القيامة فقال: وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ
نَفْسٍ..
أي أنه إذا قامت القيامة يود الكافر لو افتدى من عذاب الله بملء الأرض ذهبا.
وأسروا الندم: وهو ما يجد الإنسان في نفسه من الألم والحسرة عقب كل فعل ضارّ، لما رأوا العذاب الشديد، فصاروا مبهوتين متحيرين. وقد يجهرون بالندم كما قال: يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر ٣٩/ ٥٦] ثم بين تعالى أنه لا ظلم حينئذ فقال: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ.. أي وحكم الله بين الظالمين والمظلومين بالعدل. لأن الكفار وإن اشتركوا في العذاب، فإنه لا بد وأن يقضي الله تعالى بينهم بالحق، رفعا لما ظلم به بعضهم بعضا في الدنيا، فيكون في القضاء تخفيف عذاب بعضهم، وتثقيل عذاب الباقين.
ثم أتبع ذلك الاعلام وأنه ليس للظالم شيء يفتدي به، بأن الملك كله لله وأنه المعاقب فإن الله مالك السموات والأرض، وكل الأشياء ملكه وفي سلطانه، وأن وعده حق كائن لا محالة، ولكن أكثر الكفار منكري البعث والجزاء لا يعلمون أمر الآخرة والمعاد، لغفلتهم عنها، وعدم إيمانهم بالإله القادر الحكيم، فأبان تعالى لهم الحقيقة، وأن كل ما سواه مملوك له.
والدليل على قدرته تعالى على البعث والجزاء والثواب والعقاب أنه تعالى هو المحيي والمميت، وإليه مرجع الخلائق حين يحييهم بعد موتهم، فيحشرهم للحساب والجزاء على أعمالهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يلي:
١- عذاب الكفار شديد مضاعف في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا يعذبون بالهزيمة والذل والخزي ونحوها من القلق والخوف، وفي الآخرة بعذاب النار.
والله تعالى يري رسوله في الدنيا نماذج من عذابهم، وسيريه يوم القيامة ما هو أشد وأكثر، مما يدل على أن عاقبة المؤمنين محمودة، وعاقبة المذنبين مذمومة.
٢- لكل أمة رسول شاهد عليهم، فإذا جاء رسولهم يوم القيامة قضي بينهم، وكذلك لا يعذب الناس في الدنيا حتى يرسل الله إليهم رسولا، فمن آمن فاز ونجا، ومن لم يؤمن هلك وعذّب لقوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء ١٧/ ١٥].
٣- القضاء بين العباد حق قائم على العدل المطلق، وهم لا يعذبون بغير ذنب، ولا يؤاخذون بغير حجة.
٤- النقاش حول نزول العقاب الإلهي ومجيء القيامة قديم بين الأمم مع الرسل عليهم السلام، وبين الأمة العربية مع النبي صلى الله عليه وسلّم، وهو مستمر دائم بين الكفار ودعاة الإسلام المصلحين.
٥- إنزال العذاب مقدر بأجل معين في علم الله تعالى، ولا يملك إنزاله إلا الله تعالى، ومتى حان وقت هلاك أمة من الأمم، فلا يتأخر ولا يتقدم لحظة.
وليس لرسول أو نبي أو غير هما الحيلولة دون وقوع العذاب المقرر.
٦- استعجال العذاب لا نفع فيه، وإنما النافع هو الإيمان قبل نزول العذاب، فإذا نزل فلا فائدة ولا نفع فيه لأن إيمان اليأس غير مفيد ولا صحيح.
والقائل في قوله: آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ إما الملائكة استهزاء بهم، وإما من قول الله تعالى.
٧- تبكيت الظالمين بما يقال لهم: ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ أي الذي لا ينقطع، والجزاء لا يكون إلا جزاء الكفر والعصيان.
٨- قيام الساعة والبعث والمعاد حق ثابت أقسم الله ورسوله على أنه حق كائن لا شك في وقوعه، وجميع الناس غير فائتين عن عذابه ومجازاته.
٩- لا يقبل من أحد الفداء عن ذنبه لأن الله هو مالك السموات والأرض وكل شيء في ملكه وسلطانه، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا، وَهُمْ كُفَّارٌ، فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً، وَلَوِ افْتَدى بِهِ [آل عمران ٣/ ٩١].
١٠- يندم الكفار والظلمة والعصاة على أعمالهم في الدنيا، وهم إما أن يخفوا الندامة أحيانا، وإما أن يظهروها أحيانا أخرى. ورؤساء الضلالة يخفون ندامتهم عن أتباعهم قبل الإحراق بالنار، فإذا وقعوا في النار ألهتهم النار عن التصنع، بدليل قولهم: رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا، وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ [المؤمنون ٢٣/ ١٠٦] فبيّن أنهم لا يكتمون ما بهم.
١١- القضاء بالعدل بين الكفار أنفسهم لدفع الظلم الذي كان بينهم واقع أيضا في الآخرة، فيخفف العذاب حينئذ عن المظلوم، ويزاد على الظالم.
١٢- تنبيه الناس قاطبة على أمور هي: أن الله مالك السموات والأرض، وأن وعد الله حق كائن لا محالة فلا مانع يمنعه من إنفاذ ما وعده، وأنه يحيي ويميت، وإليه مرجعهم، وأنه القادر على ما يريد، العليم بأماكن وجودهم قبل البعث والحشر في البر والبحر، وأن أكثر الكفار منكري البعث غافلون عن أمر الآخرة، مقصّرون في الاستعداد لها.
والله تعالى في الآخرة كما في الدنيا قادر لذاته على الإحياء والإماتة، لا تزول قدرته، والمادة القابلة بالذات للحياة والموت قابلة لهما أبدا.