بالإيمان والإحسان عقاب مماثل لسيئاتهم دون زيادة، أخذا بالعدل، ويغشاهم الهوان والخزي والذل والعار، ولا عاصم لهم، ولا مانع يمنعهم من عذاب الله، وجوههم مسودّة كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ في حال ظلمته.
جعلنا الله من أهل جنته بفضله ورحمته، وحمانا من عذاب أهل النار، تكرما وإحسانا وإنعاما، وهدانا إلى سواء السبيل.
وقد أثبت أهل السنة بهذه الآية وما وضحها من السنة جواز رؤية الله تعالى في الآخرة، وأكد ذلك قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة ٧٥/ ٢٢- ٢٣] فأثبت لأهل الجنة أمرين: أحدهما- نضرة الوجوه، والثاني- النظر إلى الله تعالى.
حشر الخلائق وتبرؤ الشركاء من المشركين ومن عبادتهم
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٢٨ الى ٣٠]
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠)
الإعراب:
جَمِيعاً نصب على الحال، أي نحشر الكل حال اجتماعهم.
مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ مَكانَكُمْ: اسم فعل لا لزموا، كما أن «مه» اسم لا كفف، و «صه» اسم لا سكت. وفتحة النون فتحة بناء لقيامه مقام فعل الأمر. وقال الرازي والسيوطي:
منصوب بإضمار: الزموا.
وأَنْتُمْ: توكيد لضمير مَكانَكُمْ المستتر، وشُرَكاؤُكُمْ: معطوف عليه لوجود التوكيد، كقوله تعالى: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة ٢/ ٣٥ والأعراف ٧/ ١٩].
فَزَيَّلْنا من زيّلت الشيء من الشيء: إذا نحيته. ولا يجوز أن يكون من زال يزول لأنه يلزم فيه الواو، فيقال: زوّلنا.
ما كُنْتُمْ إِيَّانا ما: نافية، وإِيَّانا مفعول به مقدم لتعبدون، وقدم مراعاة لفواصل الآيات.
إِنْ مخففة من الثقيلة، أي إنا كنا، واللام في لَغافِلِينَ هي الفارقة بينها وبين النافية.
المفردات اللغوية:
نَحْشُرُهُمْ أي الخلق وهم فريقا المحسنين والمسيئين المذكورين في الآية السابقة، والحشر:
الجمع من كل جانب إلى موقف واحد مَكانَكُمْ أي الزموا مكانكم حتى تنظروا ما يفعل بكم، وقد سد مسد قوله: «الزموا» ويراد بذلك التهديد والوعيد. وَشُرَكاؤُكُمْ أي الأصنام فَزَيَّلْنا فرقنا وميزنا وقطعنا ما بينهم من صلات وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ مجاز عن براءة ما عبدوه من عبادتهم، فإنهم إنما عبدوا في الحقيقة أهواءهم الآمرة بالإشراك إِنْ كُنَّا أي تقول الملائكة والمسيح ومن عبدوه من دونه من أولي العقل، وقيل: الأصنام ينطقها الله عز وجل، فتشافههم بذلك، مكان الشفاعة التي زعموها لهم، وعلقوا بها أطماعهم بقولهم: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر ٣٩/ ٣] وَيَقُولُونَ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يونس ١٠/ ١٨].
هُنالِكَ في ذلك اليوم أو في ذلك المقام تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ تختبر ما قدمت من عمل، فتعاين نفعه وضرره، وأَسْلَفَتْ: قدمت ورُدُّوا إِلَى اللَّهِ إلى جزائه إياهم بما أسلفوا مَوْلاهُمُ الْحَقِّ ربهم ومتولي أمرهم على الحقيقة، لا ما اتخذوه مولى: والحق: الثابت الدائم وَضَلَّ غاب أو ذهب وضاع عنهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ عليه من الشركاء.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى مصير المحسنين والمسيئين يوم القيامة، أعقبه بذكر يوم الجزاء الذي يتم فيه حشرهم، فيحشر العابد والمعبود، ثم يتبرأ المعبود من العابد، ويتبين له أنه ما فعل ذلك بعلمه وإرادته. والمقصود نفي الشفاعة، فإن
القوم كانوا يقولون: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يونس ١٠/ ١٨] فبين الله تعالى أنهم لا يشفعون لهؤلاء الكفار، بل يتبرءون منهم، وهو يدل على نهاية الخزي والنكال في حق الكفار.
التفسير والبيان:
هذا مشهد فاصل من مشاهد يوم القيامة، تصفّى فيه علاقة الشرك بين المشركين وآلهتهم المزعومة، فيقول الله لنبيه: واذكر أيها الرسول يوم نحشرهم أي نجمع أهل الأرض كلهم من جن وإنس وبرّ وفاجر، وفيهم الفريقان المذكوران سابقا وهم المحسنون والمسيئون كما قال تعالى: وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف ١٨/ ٤٧].
ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أي الذين اتخذوا مع الله شريكا: الزموا مكانكم أنتم وشركاؤكم، لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل بكم، كقوله تعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ [الصافات ٣٧/ ٢٤] وفي هذا وعيد وتوبيخ أمام الخلائق.
فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ أي فرقنا بين الشركاء والمشركين، وقطعنا ما كان بينهم في الدنيا من صلات وروابط.
وتبرأ الشركاء من عابديهم: وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ: ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ أي وقال الشركاء لعابديهم: ما كنتم تخصوننا بالعبادة، إنما كنتم تعبدون الشياطين حيث أمروكم أن تتخذوا لله أندادا، فأطعتموهم. وفي هذا أيضا تهديد ووعيد، وأنه تتبدد حينئذ آمال المشركين في شفاعة الشركاء.
والشركاء: إما الملائكة وعيسى المسيح ونحوهم ممن عبدوا من دون الله، أو الأصنام التي ينطقها الله عز وجل، فتكلمهم بذلك، والأولى أن المراد بالشركاء:
كل من عبد من دون الله تعالى، من صنم وشمس وقمر وملك وإنسي وجني.
فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أي كفى بالله شاهدا وحكما بيننا وبينكم أنا ما دعوناكم إلى عبادتنا، ولا أمرناكم بها، ولا رضينا منكم بذلك. وفي هذا تبكيت عظيم للمشركين، وتهديد في حق العابدين.
إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ أي إننا كنا في غفلة تامة عن عبادتكم، لا نعلم بها، ولا ننظر إليها، ولا نرضى عنها، وقال القرطبي. ما كنا عن عبادتكم إلا غافلين لا نسمع ولا نبصر ولا نعقل لأنا كنا جمادا لا روح فينا أي أنه جعل إِنْ هنا نافية، والحق أنها مخففة من الثقلية بدليل دخول اللام على:
غافلين.
هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ أي هنالك في موقف الحساب يوم القيامة تختبر كل نفس وتذوق وتعلم ما قدمت من العمل من خير وشر، فتعرف كيف هو، أقبيح أم حسن؟ كما يختبر الرجل الشيء ويتعرفه، ليتبين حاله؟ كما في قوله تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ [الطارق ٨٦/ ٩].
وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أي وأرجعوا إلى الله، ورجعت الأمور كلها إلى الله الحكم العدل، الحق الثابت الدائم، ففصلها، وأدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، دون تلك الشركاء والأنداد.
وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي وذهب عن المشركين افتراؤهم وما كانوا يعبدون من دون الله افتراء عليه، ويتخذون تلك الأنداد آلهة مزعومة، ولم يبق لهم نصير ولا شفيع، والأمر كله يومئذ لله تعالى. فهذا تنبيه على زوال ما يدعون أن أولئك الشركاء شفعاء، وأن عبادتهم تقرّب إلى الله تعالى.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- الحشر (أي جمع الخلائق من كل جانب في موقف واحد) أمر ثابت يوم القيامة.
٢- انقطاع الصلة تماما بين الشركاء والمشركين يوم القيامة.
٣- وعيد الكفار المشركين المتكرر في قوله تعالى: مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ وقوله: وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ: ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ وقوله:
فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ...
٤- إظهار الخيبة والخزي والإفلاس من عبادة الشرك والمشركين للآية هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ....
٥- وصف الله تعالى نفسه بالحق لأن الحق منه، كما وصف نفسه بالعدل لأن العدل منه أي كل عدل وحق فمن قبله.
٦- خيبة الآمال التي تعلق بها المشركون في شفاعة الشركاء وتقريبهم إياهم إلى الله تعالى.
والسبب في قوله تعالى: وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ مع أنه تعالى أخبر بأن الكافرين لا مولى لهم: هو أن المولى هنا يراد به أنه مولاهم في الرزق وإدرار النعم، وليس بمولاهم في النصرة والمعونة.