آيات من القرآن الكريم

۞ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ ۖ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ ۚ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤ

سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ
[الرَّعْدِ: ٢٣، ٢٤] وَهُمْ أَيْضًا يُحَيِّي بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالسَّلَامِ قَالَ تَعَالَى: تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ [يونس: ١٠] وَأَيْضًا فَسَلَامُهُمْ يَصِلُ إِلَى السُّعَدَاءِ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، قَالَ تَعَالَى: وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ [الْوَاقِعَةِ: ٩٠، ٩١].
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ كَمَالَ جُودِ اللَّه تَعَالَى وَكَمَالَ قُدْرَتِهِ وَكَمَالَ رَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ مَعْلُومٌ، فَدَعَوَتُهُ عَبِيدَهُ إِلَى دَارِ السَّلَامِ، تَدُلُّ عَلَى أَنَّ دَارَ السَّلَامِ قَدْ حَصَلَ فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، لِأَنَّ الْعَظِيمَ إِذَا اسْتَعْظَمَ شَيْئًا وَرَغَّبَ فِيهِ وَبَالَغَ فِي ذَلِكَ التَّرْغِيبِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى كَمَالِ حَالِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ مَلَأَ اللَّه هَذَا الْكِتَابَ الْمُقَدَّسَ مِنْ وَصْفِ الْجَنَّةِ مِثْلَ قَوْلِهِ: فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ [الْوَاقِعَةِ: ٨٩] وَنَحْنُ نَذْكُرُ هَاهُنَا كَلَامًا كُلِّيًّا فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَطْلُوبِ، فَنَقُولُ: الْإِنْسَانُ إِنَّمَا يَسْعَى/ فِي يَوْمِهِ لِغَدِهِ وَلِكُلِّ إِنْسَانٍ غَدَانِ، غَدٌ فِي الدُّنْيَا وَغَدٌ فِي الْآخِرَةِ فَنَقُولُ: غَدُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ مِنْ غَدِ الدُّنْيَا مِنْ وُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ: أَوَّلُهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ لَا يُدْرِكُ غَدَ الدُّنْيَا وَبِالضَّرُورَةِ يُدْرِكُ غَدَ الْآخِرَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يُدْرِكَ غَدَ الدُّنْيَا فَلَعَلَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِمَا جَمَعَهُ، إِمَّا لِأَنَّهُ يَضِيعُ مِنْهُ ذَلِكَ الْمَالُ أَوْ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ فِي بَدَنِهِ مَرَضٌ يَمْنَعُهُ مِنَ الِانْتِفَاعِ بِهِ. أَمَّا غد الآخرة فكلما اكْتَسَبَهُ الْإِنْسَانُ لِأَجْلِ هَذَا الْيَوْمِ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَجِدَ غَدَ الدُّنْيَا وَيَقْدِرَ عَلَى أَنْ يَنْتَفِعَ بِمَالِهِ، إِلَّا أَنَّ تِلْكَ الْمَنَافِعَ مَخْلُوطَةٌ بِالْمَضَارِّ وَالْمَتَاعِبِ، لِأَنَّ سِعَادَاتِ الدُّنْيَا غَيْرُ خَالِصَةٍ عَنِ الْآفَاتِ، بَلْ هِيَ مَمْزُوجَةٌ بِالْبَلِيَّاتِ، وَالِاسْتِقْرَاءُ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَلِذَلِكَ
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ طَلَبَ مَا لَمْ يُخْلَقْ أَتْعَبَ نَفْسَهُ وَلَمْ يُرْزَقْ» فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّه وَمَا هُوَ؟ قال: «سرور يوم بتمامه»
وأما منافع عز الْآخِرَةِ فَهِيَ خَالِصَةٌ عَنِ الْغُمُومِ وَالْهُمُومِ وَالْأَحْزَانِ سَالِمَةٌ عَنْ كُلِّ الْمُنَفِّرَاتِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ بِتَقْدِيرِ أن يصل الإنسان إلى عز الدُّنْيَا وَيَنْتَفِعَ بِسَبَبِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ الِانْتِفَاعُ خَالِيًا عَنْ خَلْطِ الْآفَاتِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا وَمَنَافِعُ الْآخِرَةِ دَائِمَةٌ مُبَرَّأَةٌ عَنِ الِانْقِطَاعِ، فَثَبَتَ أَنَّ سَعَادَاتِ الدُّنْيَا مَشُوبَةٌ بِهَذِهِ الْعُيُوبِ الْأَرْبَعَةِ، وَأَنَّ سَعَادَاتِ الْآخِرَةِ سَالِمَةٌ عَنْهَا فَلِهَذَا السَّبَبِ كَانَتِ الْجَنَّةُ دَارَ السَّلَامِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ بِقَضَاءِ اللَّه تَعَالَى قَالُوا: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ دَعَا جَمِيعَ الْخَلْقِ إِلَى دَارِ السَّلَامِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ مَا هَدَى إِلَّا بَعْضَهُمْ فَهَذِهِ الْهِدَايَةُ الْخَاصَّةُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُغَايِرَةً لِتِلْكَ الدَّعْوَةِ الْعَامَّةِ، وَلَا شَكَّ أَيْضًا أَنَّ الْإِقْدَارَ وَالتَّمْكِينَ وَإِرْسَالَ الرُّسُلِ وَإِنْزَالَ الْكُتُبِ أُمُورٌ عَامَّةٌ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْهِدَايَةُ الْخَاصَّةُ مُغَايِرَةً لِكُلِّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّهُ بِالْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ دُونَ غَيْرِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُشْكِلَةٌ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَمَا قَدَرُوا عَلَى إِيرَادِ الْأَسْئِلَةِ الْكَثِيرَةِ، وَحَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَيَهْدِي اللَّه مَنْ يَشَاءُ إِلَى إِجَابَةِ تِلْكَ الدَّعْوَةِ، بِمَعْنَى أَنَّ مَنْ أَجَابَ الدُّعَاءَ وَأَطَاعَ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّه يَهْدِيهِ إِلَيْهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْأَلْطَافُ. وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى اللَّه فِعْلُ هَذِهِ الْهِدَايَةِ، وَمَا كَانَ وَاجِبًا لَا يَكُونُ مُعَلَّقًا بِالْمَشِيئَةِ، وَهَذَا مُعَلَّقٌ بالمشيئة، فامتنع حمله على ما ذكروه.
[سورة يونس (١٠) : آية ٢٦]
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦)

صفحة رقم 239

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا دَعَا عِبَادَهُ إِلَى دَارِ السَّلَامِ، ذَكَرَ السَّعَادَاتِ الَّتِي تَحْصُلُ لَهُمْ فِيهَا فَقَالَ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ فَيُحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ.
أَمَّا اللَّفْظُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُهُ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ: لِلَّذِينِ ذَكَرُوا كَلِمَةَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه.
وَقَالَ الْأَصَمُّ: مَعْنَاهُ: لِلَّذِينِ أَحْسَنُوا فِي كُلِّ مَا تَعَبَّدُوا بِهِ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ أَتَوْا بِالْمَأْمُورِ بِهِ كَمَا يَنْبَغِي، وَاجْتَنَبُوا الْمَنْهِيَّاتِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي صَارَتْ مَنْهِيًّا عَنْهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ لِأَنَّ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا لِأَهْلِ الطَّاعَاتِ.
وَأَمَّا اللَّفْظُ الثَّانِي: وَهُوَ الْحُسْنى فَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْحُسْنَى فِي اللُّغَةِ تَأْنِيثُ الْأَحْسَنِ، وَالْعَرَبُ تُوَقِعُ هَذِهِ اللَّفْظَةَ عَلَى الْحَالَةِ الْمَحْبُوبَةِ وَالْخَصْلَةِ الْمَرْغُوبِ فِيهَا، وَلِذَلِكَ لَمْ تُؤَكَّدْ، وَلَمْ تُنْعَتْ بِشَيْءٍ، وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْمُرَادُ: الْمَثُوبَةُ الْحُسْنَى وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ [الرَّحْمَنِ:
٦٠].
وَأَمَّا اللَّفْظُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الزِّيَادَةُ فَنَقُولُ: هَذِهِ الْكَلِمَةُ مُبْهَمَةٌ، وَلِأَجْلِ هَذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَفْسِيرِهَا، وَحَاصِلُ كَلَامِهِمْ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلَيْنِ:
القول الأول: أن المراد من مِنْهَا رُؤْيَةُ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ النَّقْلُ وَالْعَقْلُ.
أَمَّا النَّقْلُ:
فَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الْوَارِدُ فِيهِ، وَهُوَ أَنَّ الْحُسْنَى هِيَ الْجَنَّةُ، وَالزِّيَادَةُ هِيَ النَّظَرُ إِلَى اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
وَأَمَّا الْعَقْلُ: فَهُوَ أَنَّ الْحُسْنَى لَفْظَةٌ مُفْرَدَةٌ دَخَلَ عَلَيْهَا حَرْفُ التَّعْرِيفِ، فَانْصَرَفَ إِلَى الْمَعْهُودِ السَّابِقِ، وَهُوَ دَارُ السَّلَامِ وَالْمَعْرُوفُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُتَقَرِّرِ بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ مِنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ هُوَ الْجَنَّةُ، وَمَا فِيهَا مِنَ الْمَنَافِعِ وَالتَّعْظِيمِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الزِّيَادَةِ أَمْرًا مُغَايِرًا لِكُلِّ مَا فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالتَّعْظِيمِ، وَإِلَّا لَزِمَ التَّكْرَارُ وَكُلُّ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ قَالَ: إِنَّمَا هِيَ رُؤْيَةُ اللَّه تَعَالَى فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الزِّيَادَةِ:
الرُّؤْيَةُ. وَمِمَّا يُؤَكِّدُ هَذَا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [الْقِيَامَةِ: ٢٢، ٢٣] فَأَثْبَتَ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: نَضْرَةُ الْوُجُوهِ وَالثَّانِي: النَّظَرُ إِلَى اللَّه تَعَالَى، وَآيَاتُ الْقُرْآنِ يُفَسِّرُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَوَجَبَ حَمْلُ الْحُسْنَى هَاهُنَا عَلَى نَضْرَةِ الْوُجُوهِ، وَحَمْلُ الزِّيَادَةِ عَلَى رُؤْيَةِ اللَّه تَعَالَى. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً [الْإِنْسَانِ: ٢٠] أَثْبَتَ لَهُ النَّعِيمَ، ورأية الْمُلْكِ الْكَبِيرِ، فَوَجَبَ هَاهُنَا حَمْلُ الْحُسْنَى وَالزِّيَادَةِ عَلَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَمْلُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ عَلَى الرُّؤْيَةِ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ:
أَنَّ الدَّلَائِلَ الْعَقْلِيَّةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ رُؤْيَةَ اللَّه تَعَالَى مُمْتَنِعَةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ الزِّيَادَةَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ، وَرُؤْيَةُ اللَّه تَعَالَى لَيْسَتْ مِنْ جَنْسِ نَعِيمِ الْجَنَّةِ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْخَبَرَ الَّذِي تَمَسَّكْتُمْ بِهِ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ الزِّيَادَةَ، هِيَ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّه تَعَالَى، وَهَذَا الْخَبَرُ يُوجِبُ التَّشْبِيهَ، لِأَنَّ النَّظَرَ عِبَارَةٌ عَنْ تَقْلِيبِ الْحَدَقَةِ إِلَى جِهَةِ الْمَرْئِيِّ وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَ الْمَرْئِيِّ فِي الْجِهَةِ، لِأَنَّ الْوَجْهَ اسْمٌ لِلْعُضْوِ الْمَخْصُوصِ، وَذَلِكَ أَيْضًا يُوجِبُ التَّشْبِيهَ فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الرُّؤْيَةِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ، وَعِنْدَ هَذَا قَالَ الْجُبَّائِيُّ: الْحُسْنَى عِبَارَةٌ عَنِ الثَّوَابِ الْمُسْتَحَقِّ، وَالزِّيَادَةُ هِيَ مَا يَزِيدُهُ اللَّه تَعَالَى عَلَى هَذَا الثَّوَابِ مِنَ التَّفَضُّلِ

صفحة رقم 240

قَالَ: وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ: الْقُرْآنُ وَأَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ.
أَمَّا الْقُرْآنُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [فَاطِرٍ: ٣٠].
وَأَمَّا أَقْوَالُ الْمُفَسِّرِينَ:
فَنُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: الزِّيَادَةُ غُرْفَةٌ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْحُسْنَى هِيَ الْحَسَنَةُ، وَالزِّيَادَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَعَنِ الْحَسَنِ: عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ: الزِّيَادَةُ مَغْفِرَةُ اللَّه وَرِضْوَانُهُ. وَعَنْ يَزِيدِ بْنِ سَمُرَةَ: الزِّيَادَةُ أَنْ تَمُرَّ السَّحَابَةُ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ فَتَقُولَ:
مَا تُرِيدُونَ أَنْ أُمْطِرَكُمْ فَلَا يُرِيدُونَ شَيْئًا إِلَّا أَمْطَرَتْهُمْ. أَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ فَقَالُوا: أَمَّا قَوْلُكُمْ إِنَّ الدَّلَائِلَ الْعَقْلِيَّةَ دَلَّتْ عَلَى امْتِنَاعِ رُؤْيَةِ اللَّه تَعَالَى فَهَذَا مَمْنُوعٌ، لِأَنَّا بَيَّنَّا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ أَنَّ تِلْكَ الدَّلَائِلَ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَنِهَايَةِ السَّخَافَةِ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ فِي الْعَقْلِ مَا يَمْنَعُ مِنْ رُؤْيَةِ اللَّه تَعَالَى وَجَاءَتِ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ بِإِثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ، وَجَبَ إِجْرَاؤُهَا عَلَى ظَوَاهِرِهَا. أَمَّا قَوْلُهُ الزِّيَادَةُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْمَزِيدِ عَلَيْهِ فَنَقُولُ: الْمَزِيدُ عَلَيْهِ، إِذَا كَانَ مُقَدَّرًا بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ، وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ مُخَالِفَةً لَهُ.
مِثَالُ الْأَوَّلِ: قَوْلُ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ: أَعْطَيْتُكَ عَشَرَةَ أمداد من الحنطة وزيادة، فههنا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الزِّيَادَةُ مِنَ الْحِنْطَةِ.
ومثال الثاني: قوله أعطيتك الحنطة وزيادة، فههنا يَجِبُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الزِّيَادَةُ غَيْرَ الْحِنْطَةِ، وَالْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَفْظُ الْحُسْنى وَهِيَ الْجَنَّةُ، وَهِيَ مُطْلَقَةٌ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا شَيْئًا مُغَايِرًا لِكُلِّ مَا فِي الْجَنَّةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: الْخَبَرُ الْمَذْكُورُ فِي هَذَا الْبَابِ، اشْتَمَلَ عَلَى لَفْظِ النَّظَرِ، وَعَلَى إِثْبَاتِ الْوَجْهِ للَّه تَعَالَى، وَكِلَاهُمَا يُوجِبَانِ التَّشْبِيهَ فَنَقُولُ: هَذَا الْخَبَرُ أَفَادَ إِثْبَاتَ الرُّؤْيَةِ، وَأَفَادَ إِثْبَاتَ الْجِسْمِيَّةِ. ثُمَّ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ، وَلَمْ يَقُمِ الدَّلِيلُ عَلَى امْتِنَاعِ رُؤْيَتِهِ، فَوَجَبَ تَرْكُ الْعَمَلِ بِمَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِهِ فَقَطْ، وَأَيْضًا فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لَفْظَ هَذِهِ الْآيَةِ/ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ هِيَ الرُّؤْيَةُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ تُنَافِي تَقْرِيرَ ذَلِكَ الْخَبَرِ، واللَّه أَعْلَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ مَا يَحْصُلُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ مِنَ السَّعَادَاتِ، شَرَحَ بَعْدَ ذَلِكَ الْآفَاتِ الَّتِي صَانَهُمُ اللَّه بِفَضْلِهِ عَنْهَا، فَقَالَ: وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ وَالْمَعْنَى: لَا يَغْشَاهَا قَتَرٌ، وَهِيَ غَبَرَةٌ فِيهَا سَوَادٌ وَلا ذِلَّةٌ وَلَا أَثَرُ هَوَانٍ وَلَا كُسُوفٍ.
فالصفة الأولى: هي قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ [عَبَسَ: ٤٠].
وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ عامِلَةٌ ناصِبَةٌ [الْغَاشِيَةِ: ٢، ٣] وَالْغَرَضُ مِنْ نَفْيِ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ، نَفْيُ أَسْبَابِ الْخَوْفِ وَالْحُزْنِ وَالذُّلِّ عَنْهُمْ، لِيُعْلَمَ أَنَّ نَعِيمَهُمُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى خَالِصٌ غَيْرُ مَشُوبٍ بِالْمَكْرُوهَاتِ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ مَا إِذَا حَصَلَ غَيَّرَ صَفْحَةَ الْوَجْهِ، وَيُزِيلُ مَا فِيهَا مِنَ النَّضَارَةِ وَالطَّلَاقَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمْ خَالِدُونَ فِي الْجَنَّةِ لَا يَخَافُونَ الِانْقِطَاعَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ عُلَمَاءَ الْأُصُولِ قَالُوا: الثَّوَابُ مَنْفَعَةٌ خَالِصَةٌ دَائِمَةٌ مَقْرُونَةٌ بِالتَّعْظِيمِ، فَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ [يُونُسَ: ٢٥] يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ التَّعْظِيمِ. وَقَوْلُهُ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْمَنْفَعَةِ وَقَوْلُهُ: وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهَا خَالِصَةً وَقَوْلُهُ: أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ إِشَارَةٌ إِلَى كَوْنِهَا دَائِمَةً آمِنَةً مِنَ الِانْقِطَاعِ واللَّه أعلم.

صفحة رقم 241
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية