استمع إلى السورة الكريمة في ختامها وهي تقول:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١٠٤ الى ١٠٩]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨)
وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (١٠٩)
والمعنى: قُلْ أيها الرسول الكريم، لجميع من ارتاب في دينك.
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي الذي جئتكم به من عند الله- تعالى-، وترغبون في تحويلي عنه، فاعلموا أنى برىء من شككم ومن أديانكم التي أنتم عليها.
ومادام الأمر كذلك، فأنا «لا أعبد الذين تعبدون من دون الله» من آلهة باطلة في حال من الأحوال.
وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ- تعالى- الذي خلقكم والَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ عند انقضاء آجالكم، ويعاقبكم على كفركم.
وقوله وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ تأكيد لإخلاص عبادته ﷺ لله وحده.
أى: وأمرت من قبل خالقي- عز وجل- بأن أكون من المؤمنين بأنه لا معبود بحق سواه.
وأوثر الخطاب باسم الجنس «الناس» مع تصديره بحرف التنبيه، تعميما للخطاب، وإظهارا لكمال العناية بشأن المبلغ إليهم.
وعبر عن شكهم «بإن» المفيدة لعدم اليقين، مع أنهم قد شكوا فعلا في صحة هذا الدين بدليل عدم إيمانهم به، تنزيلا للمحقق منزلة المشكوك فيه، وتنزيها لساحة هذا الدين عن أن يتحقق الشك فيه من أى أحد، وتوبيخا لهم على وضعهم الأمور في غير مواضعها.
وقدم- سبحانه- ترك عبادة الغير على عبادته- عز وجل-، إيذانا بمخالفتهم من أول الأمر، ولتقديم التخلية على التحلية.
وتخصيص التوفي بالذكر، للتهديد والترهيب، أى: ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم فيفعل بكم ما يفعل من العذاب الشديد، ولأنه أشد الأحوال مهابة في القلوب.
وقوله: وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً... معطوف على قوله: أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
وحَنِيفاً حال من الدين أو من الوجه، والحنيف: هو المائل عن كل دين من الأديان إلى دين الإسلام.
وخص الوجه بالذكر، لأنه أشرف الأعضاء.
والمعنى: أن الله- سبحانه- أمره بالاستقامة في الدين. والثبات عليه، وعدم التزلزل عنه بحال من الأحوال.
قال الآلوسى: «إقامة الوجه للدين، كناية عن توجيه النفس بالكلية إلى عبادته- تعالى-، والإعراض عما سواه، فإن من أراد أن ينظر إلى شيء نظر استقصاء، يقيم وجهه في مقابلته، بحيث لا يلتفت يمينا ولا شمالا، إذ لو التفت بطلت المقابلة، فلذا كنى به عن صرف العمل بالكلية إلى الدين، فالمراد بالوجه الذات.
أى: اصرف ذاتك وكليتك للدين..» «١».
وقوله- تعالى-: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تأكيد للأمر بإخلاص العبادة لله- تعالى- وحده. وهو معطوف على أَقِمْ.
أى: استقم على ما أنت عليه من إخلاص العبادة لله- تعالى- وحده واثبت على ذلك، ولا تكونن من الذين أشركوا مع الله آلهة أخرى.
ثم أضاف- سبحانه- إلى ذلك تأكيدا آخر فقال: وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ.
أى: ولا تدع من دون الله في أى وقت من الأوقات ما لا يَنْفَعُكَ إذا دعوته لدفع مكروه أو جلب محبوب وَلا يَضُرُّكَ إذا تركته وأهملته.
فَإِنْ فَعَلْتَ شيئا مما نهيناك عنه فَإِنَّكَ إِذاً تكون مِنَ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بإيرادها مورد المهالك، لإشراكها مع الله- تعالى- آلهة أخرى.
ثم بين- سبحانه- أنه وحده هو الضار والنافع فقال: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ، وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
«المس» : أعم من اللمس في الاستعمال، يقال: مسه السوء والكبر والعذاب والتعب، أى: أصابه ذلك ونزل به.
والضر: اسم للألم والحزن وما يفضى إليهما أو إلى أحدهما، كما أن النفع اسم للذة والسرور وما يفضى إليهما أو إلى أحدهما.
والخير: اسم لكل ما كان فيه منفعة أو مصلحة حاضرة أو مستقبلة.
والمعنى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ كمرض وتعب وحزن، فلا كاشف له، أى: لهذا الضر إِلَّا هُوَ- سبحانه-.
وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ كمنحة وغنى وقوة فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ أى: فلا يستطيع أحد أن يرد هذا الخير عنك.
وعبر- سبحانه- بالفضل مكان الخير للإرشاد إلى تفضله على عباده بأكثر مما يستحقون من خيرات.
وقوله يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أى: يصيب بذلك الفضل والخير مَنْ يَشاءُ إصابته مِنْ عِبادِهِ.
وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أى: وهو الكثير المغفرة والرحمة لمن تاب إليه، وتوكل عليه، وأخلص له العبادة.
وفي معنى هذه الآية جاء قوله- تعالى-: ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها،
وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
«١».
وقال ابن كثير: «وروى ابن عساكر عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«اطلبوا الخير دهركم كله، وتعرضوا لنفحات ربكم، فإن لله نفحات من رحمته، يصيب بها من يشاء من عباده، واسألوه أن يستر عوراتكم، ويؤمن روعاتكم» «٢».
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بنداء آخر- أمر رسوله ﷺ أن يوجهه للناس فقال: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ...
أى: قل- أيها الرسول الكريم- مخاطبا جميع الناس، سواء منهم من سمع نداءك أم من سيبلغه هذا النداء من بعدك قل لهم جميعا: قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ المتمثل في كتاب الله وفي سنتي مِنْ رَبِّكُمْ وليس من أحد سواه.
فَمَنِ اهْتَدى إلى هذا الحق، وعمل بمقتضاه فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ أى: فإنما تكون منفعة هدايته لنفسه لا لغيره.
وَمَنْ ضَلَّ عن هذا الحق وأعرض عنه فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أى: فإنما يكون وبال ضلاله على نفسه.
وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ أى بحفيظ يحفظ أموركم، وإنما أنا بشير ونذير والله وحده هو الذي يتولى محاسبتكم على أعمالكم.
ثم أمره- سبحانه- باتباع ما أوحاه إليه فقال: وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ، وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ.
أى: وَاتَّبِعْ- أيها الرسول الكريم- في جميع شئونك ما يُوحى إِلَيْكَ من ربك من تشريعات حكيمة، وآداب قويمة..
وَاصْبِرْ على مشاق الدعوة وتكاليفها..
حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بينك وبين قومك، وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ. لأنه هو العليم بالظواهر والبواطن، وهو الذي لا معقب لحكمه.
وبعد: فهذه هي سورة يونس- عليه السلام- رأينا ونحن نفسرها كيف أقامت الأدلة على وحدانية الله- عز وجل- وعلى كمال قدرته، وشمول علمه، ونفاذ إرادته، وسعة رحمته، وسمو عزته..
(٢) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٣٤.
وكيف أنها أقامت الأدلة- أيضا- على صدق الرسول ﷺ فيما يبلغه عن ربه، وعلى أن هذا القرآن من عنده- سبحانه.
وكيف أنها ساقت الأدلة على أن يوم القيامة حق، وعلى أحوال الناس فيه، مما يرقق القلوب القاسية، ويبعث في النفوس الخشية وحسن الاستعداد لهذا اليوم الهائل الشديد، وكيف أنها ساقت جانبا من أحوال بعض الأنبياء مع أممهم، وقررت سنة من سنن الله التي لا تتخلف، وهي نجاة رسل الله والمؤمنين بهم، وجعل الرجس على الذين لا يعقلون.
وكيف أنها بينت أحوال الناس في السراء والضراء... بيانا صادقا قويا مؤثرا، من شأنه أن يحملهم على التحلي بالأخلاق الكريمة والتخلي عن الأخلاق الذميمة.
نسأل الله- تعالى- أن يجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا، وأنس نفوسنا.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين.
المدينة المنورة السبت ٧ من المحرم سنة ١٤٠١ الموافق ١٥/ ١١/ ١٩٨٠ م
تفسير سورة هود عليه السلام
صفحة رقم 145
تعريف بسورة هود- عليه السلام-
١- سورة هود- عليه السلام- هي السورة الحادية عشرة في ترتيب المصحف فقد سبقتها في هذا الترتيب سورة الفاتحة، والبقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، والتوبة، ويونس.
أما ترتيبها في النزول، فهي السورة الثانية والخمسون، وكان نزولها بعد سورة يونس.
٢- وعدد آياتها: ثلاث وعشرون ومائة آية.
٣- وقد سماها النبي ﷺ بسورة هود، فقد روى الترمذي عن ابن عباس قال:
قال أبو بكر: يا رسول الله قد شبت! قال: «شيبتني» «هود» و «الواقعة»، و «المرسلات» و «عم يتساءلون» و «إذا الشمس كورت».
وفي رواية: شيبتني هود وأخواتها.
قال القرطبي بعد أن ساق بعض الأحاديث في فضل هذه السورة. ففي تلاوة هذه السور ما يكشف لقلوب العارفين سلطانه وبطشه فتذهل منه النفوس. وتشيب منه الرءوس» «١».
٤- متى نزلت سورة هود؟
جمهور العلماء على أن سورة هود جميعها مكية، وقيل هي مكية إلا ثلاث آيات منها: وهي قوله- تعالى- فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ، وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ... الآية ١٢.
وقوله- تعالى- أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ الآية ١٧.
وقوله- تعالى-: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ الآية ١١٤.
والذي نرجحه أن السورة كلها مكية، وسنرى عند تفسيرنا لهذه الآيات التي قيل بأنها مدنية، ما يشهد لصحة ما ذهبنا إليه.
كذلك نرجح أن هذه السورة الكريمة، كان نزولها في الفترة التي أعقبت حادث الإسراء والمعراج، وذلك لأن نزولها- كما سبق أن أشرنا- كان بعد سورة يونس، وسورة يونس كان نزولها بعد سورة الإسراء، التي افتتحت بالحديث عنه.
وهذه الفترة التي كانت قبيل حادث الإسراء والمعراج والتي أعقبته، تعتبر من أشق الفترات وأحرجها وأصعبها في تاريخ الدعوة الإسلامية.
ففي هذه الفترة مات أبو طالب عم النبي ﷺ والمدافع عنه، وماتت كذلك السيدة خديجة- رضى الله عنها- التي كانت نعم المواسى له عما يصيبه من أذى... ففقد الرسول ﷺ بموتهما نصيرين عزيزين، كانت لهما مكانتهما العظيمة في نفسه، وتعرض ﷺ في هذه الفترة لألوان من الأذى والاضطهاد فاقت كل ما سبقها وبلغت الحرب المعلنة من المشركين عليه وعلى دعوته، أقسى وأقصى مداها..
قال ابن إسحاق خلال حديثه عن هذه الفترة: ثم إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا في عام واحد، فتتابعت على رسول الله ﷺ المصائب بهلك خديجة- وكانت له وزير صدق على الإسلام يشكو إليها- ويهلك عمه أبى طالب- وكان له عضدا وحرزا في أمره، ومنعة وناصرا على قومه، وذلك قبل مهاجره إلى المدينة بثلاث سنين.
فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله ﷺ من الأذى، ما لم تكن تطمع فيه في حياة أبى طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش، فنثر على رأسه ترابا.
ثم قال ابن إسحاق: فحدثني هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير قال لما نثر ذلك السفيه على رأس رسول الله ﷺ ذلك التراب دخل رسول الله ﷺ بيته، والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته، فجعلت تغسل عنه التراب، وهي تبكى، ورسول الله ﷺ يقول لها: «لا تبكى يا بنية، فإن الله مانع أباك»..
قال: ويقول بين ذلك: «ما نالت منى قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب» «١».
وسنرى عند استعراضنا للسورة الكريمة، أنها صورت هذه الفترة أكمل تصوير.
٥- مناسبتها لسورة يونس- عليه السلام-:
قال الآلوسى- رحمه الله-: ووجه اتصالها بسورة يونس، أنه ذكر في سورة يونس قصة نوح- عليه السلام- مختصرة جدا ومجملة، فشرحت في هذه السورة وبسطت فيها ما لم تبسط في غيرها من السور.. ثم إن مطلعها شديد الارتباط بمطلع تلك، فإن قوله- تعالى- هنا الر. كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ... نظير قوله- سبحانه- هناك الر. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ... بل بين مطلع هذه وختام تلك شدة ارتباط- أيضا-، حيث ختمت بنفي الشرك، واتباع الوحى، وافتتحت هذه ببيان الوحى والتحذير من الشرك «٢».
(٢) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ١٧٨ الطبعة المنيرية.
٦- عرض إجمالى للسورة الكريمة:
عند ما نطالع سورة هود بتدبر وتأمل، نراها في الربع الأول «١» منها- قد افتتحت بالتنويه بشأن القرآن الكريم. وبدعوة الناس إلى إخلاص العبادة لله- تعالى- وحده، وإلى التوجه إليه بالاستغفار والتوبة الصادقة، حتى ينالوا السعادة في دنياهم وآخرتهم.
قال- تعالى-: الر. كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ. أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ. وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ. إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
ثم وضحت السورة جانبا من مسالك الكافرين، تلك المسالك التي تدل على جهالاتهم بعلم الله التام، وبقدرته النافذة، وفصلت مظاهر هذه القدرة، وشمول هذا العلم..
قال- تعالى-: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ، أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ، يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ.
ثم بينت أحوال الإنسان في حالة منحه النعمة، وفي حالة سلبها عنه، وساقت للرسول ﷺ من الآيات ما يسليه عما أصابه من كفار مكة، وتحدتهم أن يأتوا بعشر سور من مثل القرآن الكريم، وأنذرتهم بسوء عاقبة المعرضين عن دعوة الله، الصادين عن سبيله، الكافرين بالآخرة وما فيها من ثواب وعقاب، وبشرت المؤمنين بحسن العاقبة، وضربت المثل المناسب لكل من فريقى الكافرين والمؤمنين.
استمع إلى السورة الكريمة وهي تصور كل ذلك بأسلوبها البليغ المؤثر فتقول:
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ. وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ، لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ. إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ....
إلى أن تقول بعد حديث مفصل عن الكافرين وسوء عاقبتهم: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا، أَفَلا تَذَكَّرُونَ.
فإذا ما وصلنا إلى الربع «٢» الثاني من سورة هود، وجدناها تسوق لنا بأسلوب مفصل،
(٢) الآيات من ٢٥- ٤٠.
قصة نوح- عليه السلام- مع قومه، فتحكى أمره لهم بعبادة الله وحده، كما تحكى الرد القبيح الذي رد به عليه زعماؤهم، وكيف أنه- عليه السلام- لم يقابل سفاهتهم بمثلها، بل خاطبهم بلفظ «يا قوم» الدال على أنه واحد منهم، يسره ما يسرهم، ويؤلمه ما يؤلمهم، ومع هذا فقد لجوا في طغيانهم وقالوا له- كما حكى القرآن عنهم- يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا، فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ....
فكان رده عليهم إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ....
وقد أتاهم الله- تعالى- بالعذاب الذي استعجلوه فأغرقهم بالطوفان الذي غشيهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم، والذي قطع دابرهم.
ثم نراها بعد ذلك في الربع «١» الثالث، تقص علينا مشهدا مؤثرا، مشهد نوح- عليه السلام- وهو ينادى ابنه الذي استحب الكفر على الإيمان فيقول له بشفقة وحرص:
يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ.
ولكن الابن العاق لا يستمع إلى نصيحة أبيه العطوف بل يقول له: سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ.
ويجيبه الأب بحزن وحسم لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ، وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ.
ويتضرع الأب الحزين إلى ربه فيقول: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ.
ويأتيه الجواب من الله- تعالى-: يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ، فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ.
ويلجأ نوح- عليه السلام- إلى خالقه، مستعيذا به من غضبه فيقول: رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ، وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ.
فيقبل الله- تعالى- ضراعته فيقول: يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ، وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ، وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ.
ثم يختم الله- تعالى- قصة نوح، بتسلية النبي- صلى الله عليه وسلم-، وبما يدل على أن هذا القرآن من عند الله، فيقول: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ، إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ.
ثم تسوق السورة بعد ذلك قصة هود- عليه السلام- مع قومه، فتحكى دعوته لهم إلى عبادة الله- تعالى-، ومصارحته إياهم بأنه لا يريد منهم أجرا على دعوته وإرشادهم إلى ما يزيدهم غنى على غناهم وقوة على قوتهم، ولكنهم قابلوا تلك النصائح الغالية بالتكذيب والسفاهة، فقالوا له- كما حكت السورة عنهم- يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ، وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ، وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ. إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ.....
فيرد عليهم هود بقوله: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ، وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها....
ثم كانت النتيجة بعد هذه المحاورات والمجادلات أن نجى الله هودا، والذين آمنوا معه، أما الكافرون بدعوته، فقد نزل بهم العذاب الغليظ، الذي تركهم صرعى، كأنهم أعجاز نخل خاوية...
وفي الربع «١» الرابع منها تسوق لنا السورة الكريمة، ما دار بين صالح وقومه، حيث أمرهم بعبادة الله، وذكرهم بنعمه عليهم، وحذرهم من الاعتداء على الناقة التي هي لهم آية.. ولكنهم استخفوا بتذكيره وبتحذيره فكانت النتيجة إهلاكهم...
قال- تعالى- فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا، وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ. وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ. كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها، أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ.
ثم قصت علينا السورة الكريمة، ما فعله إبراهيم- عليه السلام- عند ما جاءه رسل الله بالبشرى، وكيف أنهم قالوا له عند ما أنكرهم وأوجس منهم خيفة: لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ....
ثم وضحت حال لوط- عليه السلام- عند ما جاءه هؤلاء الرسل وحكت ما دار بينه وبين قومه الذين جاءوه يهرعون إليه عند ما رأوا الرسل، فقال لهم: يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي، أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ.....
فيقولون له في صفاقة وانحراف عن الفطرة السليمة: لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ، وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ.
وأسقط في يد لوط- عليه السلام-، وأحس بضعفه أمام هؤلاء المنحرفين المندفعين إلى
ارتكاب الفاحشة، اندفاع المجنون إلى حتفه، فقال بأسى وحزن: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ.
وهنا كشف له الرسل عن طبيعتهم، وأخبروه بمهمتهم وطلبوا منه أن يغادر هو ومن آمن معه مكان إقامتهم، فإن العذاب نازل بهؤلاء المجرمين بعد وقت قصير.
قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ، لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ، إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ، إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ، أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ. فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ، مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ.
ثم تتابع السورة الكريمة في الربع الخامس «١»، حديثها عن جانب من قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم، فتحدثنا عن قصة شعيب- عليه السلام- مع قومه، وكيف أنه قال لهم مقالة كل رسول لقومه يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ.
ثم نهاهم بأسلوب رصين حكيم، عن ارتكاب الفواحش التي كانت منتشرة فيهم، وهي إنقاص الكيل والميزان، وبخس الناس أشياءهم...
ولكنهم- كعادة السفهاء الطغاة- قابلوا نصائحه بالتهكم والاستخفاف والوعيد...
فكانت النتيجة أن حل بهم عذاب الله الذي أهلكهم، كما أهلك أمثالهم.
قال- تعالى- وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا، وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ. كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها، أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ.
ثم تسوق السورة بعد ذلك بإيجاز، جانبا من قصة موسى مع فرعون وملئه، الذين اتبعوا أمر فرعون، وما أمر فرعون برشيد.
ثم تعقب على كل تلك القصص السابقة، بتعقيب يدل على أن هذا القرآن من عند الله، وأنه- سبحانه- لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون... قال- تعالى-:
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ. وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ، وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ....
أما في الربع السادس «٢» والأخير منها، فنراها تبين بأسلوب قوى منذر، أن الناس سيأتون
(٢) الآيات ص ١٠٨ إلى آخر السورة.
يوم القيامة، منهم الشقي ومنهم السعيد، وأنه- سبحانه- سيوفى كل فريق منهم جزاءه غير منقوص.
ثم ترشد إلى ما يوصل إلى السعادة، فتدعو إلى الاستقامة على أمر الله، وإلى عدم الركون إلى الظالمين، وإلى إقامة الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل، وإلى الصبر الجميل.
قال- تعالى-: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا، إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ. وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ، إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ. وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ.
ثم ختمت السورة الكريمة ببيان أن من أهم مقاصد ذكر قصص الأنبياء في القرآن الكريم، تثبيت فؤاد النبي ﷺ وتقوية قلبه، وتسليته عما أصابه، وتبشيره بأن العاقبة له ولأتباعه.
قال- تعالى-: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ، وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ. وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ، فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ، وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
٧- أهم الموضوعات التي عنيت السورة الكريمة بالحديث عنها:
من استعراضنا لسورة هود، ومن معرفة الفترة التي نزلت فيها، نستطيع أن نقول: إن السورة الكريمة قد عنيت بالحديث عن موضوعات متنوعة من أهمها ما يأتى:
(ا) ترغيب الناس في طاعة الله، وتحذيرهم من معصيته، وهذا المعنى نراه في كثير من آيات سورة هود، ومن ذلك:
قوله- تعالى-: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ....
وقوله- تعالى- حكاية عن هود- عليه السلام-: وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً، وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ....
وقوله- تعالى- حكاية عن شعيب- عليه السلام-: وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ، وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ....
(ب) تسلية الرسول ﷺ عما أصابه من قومه، ومن مظاهر هذه التسلية، أن
السورة الكريمة قد اشتملت في معظم آياتها على قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم. فقد ذكرت نواحي متنوعة من قصة نوح مع قومه، ومن قصة هود مع قومه، ومن قصة صالح مع قومه، ومن قصة شعيب مع قومه، ومن قصة لوط مع قومه...
وقد تحدثت خلال كل قصة عن المسالك الخبيثة، والمجادلات الباطلة، التي اتبعها الطغاة مع أنبيائهم الذين جاءوا لسعادتهم وهدايتهم.
كما ختمت كل قصة من هذه القصص، ببيان حسن عاقبة المؤمنين، وسوء عاقبة المكذبين..
وفي ذلك ما فيه من التسلية للرسول الكريم ﷺ عما لحقه من أذى، وما أصابه من اضطهاد، وما تعرض له من اعتداء عليه وعلى أصحابه.
وكأن ما ورد في هذه السورة من قصص طويل متنوع، يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: إن ما أصابك من قومك يا محمد، قد أصاب الأنبياء السابقين من أقوامهم، فاصبر كما صبروا، فإنه ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسول من قبلك.
(ج) إقامة الأدلة على أن هذا القرآن من عند الله، وليس من كلام البشر..
فقد تحداهم هنا أن يأتوا بعشر سور من مثله فعجزوا، ثم تحداهم في موطن آخر أن يأتوا بسورة من مثله فما استطاعوا، وساق لهم- على لسان الرسول ﷺ الكثير من أخبار الأولين، ومن قصص الأنبياء مع أقوامهم مع أن الرسول ﷺ لم يكن معاصرا لهؤلاء السابقين، ولم يكن قارئا لأخبارهم فدل ذلك على أن هذا القرآن من عند الله، وعلى أن الرسول ﷺ صادق فيما يبلغه عن ربه.
قال- تعالى-: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
وقال- تعالى-: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ، إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ.
(د) بيان سنة من سنن الله التي لا تتخلف، وهي أنه- سبحانه- لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس هم الذين يظلمون أنفسهم بإعراضهم عن الحق، واتباعهم للهوى، واستحقاقهم للعقوبة التي هي جزاء عادل لكل ظالم.
وهذا البيان نراه في مواضع متعددة من السورة، ومن ذلك قوله- تعالى- في ختام الحديث عن قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم.
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ. وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ، لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ. وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ، ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ، وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ. وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ. يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ.....
وبعد: فهذه تعريفات عن سورة هود، رأينا أن نذكرها قبل البدء في تفسيرها، وأرجو أن يكون في ذكرها ما يعطى القارئ صورة واضحة عن هذه السورة الكريمة.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم محمد سيد طنطاوى