
اختلاف مسعى الناس
[سورة الليل (٩٢) : الآيات ١ الى ١١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤)فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (١١)
الإعراب:
إِذا يَغْشى، إِذا تَجَلَّى إِذا في الموضعين: لمجرد الظرفية، والعامل فيها فعل القسم.
وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى ما: فيها ثلاثة أوجه كما في السورة السابقة.
وَما بَناها إما أن تكون مصدرية، أو بمعنى الذي وهو الأولى، أو بمعنى (من).
ويجوز الجر في الذكر والأنثى على البدل من ما.
إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى جواب القسم.
وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ ما: نافية.
البلاغة:
اللَّيْلِ والنَّهارِ بينهما طباق، وكذا بين الذَّكَرَ وَالْأُنْثى وبين (اليسرى، والعسرى) وبين صَدَّقَ وكَذَّبَ.
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى وأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى بينهما مقابلة، والمقابلة والطباق من المحسنات البديعية.
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى بينهما جناس اشتقاق.
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى حذف المفعول لإفادة التعميم وإطالة التأمل. صفحة رقم 268

المفردات اللغوية:
يَغْشى يغطي كل شيء بظلامه. تَجَلَّى ظهر وانكشف. وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى أي والقادر الذي خلق آدم وحواء وكل ذكر وأنثى في الإنسان والحيوان والنبات.
سَعْيَكُمْ عملكم أو مسعاكم. لَشَتَّى مختلف متفرق، جمع شتيت: وهو المتباعد عن غيره.
واختلاف المنهج والمسعى إما بالعمل للجنة بالطاعة، أو للنار بالمعصية.
أَعْطى بذل المال. وَاتَّقى التزم الأوامر وفعل الخير، واجتنب النواهي والشر.
وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى بالكلمة أو الخصلة الحسنى- صفة تأنيث الأحسن، وهي كلمة التوحيد: لا إله إلا اللَّه، والجنة والثواب، وكل فضيلة. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى نهيئه للحالة التي هي أيسر عليه وأهون والتي تؤدي إلى الخير، وذلك في الدنيا والآخرة، كدخول الجنة.
بَخِلَ أمسك المال وشح به ولم يؤد حق اللَّه فيه. وَاسْتَغْنى عن ربه عز وجل وعن الثواب. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى نهيئه للحالة السيئة في الدنيا والآخرة التي لا تنتج إلا شرا.
وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ لا يفيده ماله وغناه. إِذا تَرَدَّى هوى وسقط في النار أو في القبر.
سبب النزول:
نزول الآية (٥) :
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى..: أخرج ابن جرير والحاكم عن عامر بن عبد اللَّه بن الزبير قال: كان أبو بكر رضي اللَّه عنه يعتق على الإسلام بمكة، فكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن، فقال له أبوه (أبو قحافة) : أي بني! أراك تعتق أناسا ضعفاء، فلو أنك تعتق رجالا جلداء، يقومون معك.
ويمنعونك، ويدفعون عنك، فقال: أي أبت، إنما أريد ما عند اللَّه، فنزلت هذه الآيات فيه: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى.. إلى آخر السورة.
نزول الآية (٨) :
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ: قال ابن عباس: نزلت في أمية بن خلف.

التفسير والبيان:
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى، وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى، وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى أي أقسم بالليل حين يغطي بظلامه كل ما كان مضيئا، وبالنهار متى ظهر وانكشف ووضح، لزوال ظلمة الليل، والقادر العظيم الذي خلق الذكر والأنثى من جميع الأجناس، من الناس وغيرهم، كقوله تعالى: وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً [النبأ ٧٨/ ٨].
ولم يذكر مفعول يَغْشى للعلم به، وقيل: يغشى النهار، أو الخلائق أو الأرض أو كل شيء بظلمته.
إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى هذا هو المحلوف عليه جواب القسم، أي إن أعمال العباد مختلفة متباعدة، فمن فاعل خيرا، ومن فاعل شرا، وبعض الأعمال ضلال وبعضها هدى، وبعضها يوجب الجنة، وبعضها يوجب النار.
ويقرب من هذه الآية قوله تعالى: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ [الحشر ٥٩/ ٢٠] وقوله: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً، لا يَسْتَوُونَ [السجدة ٣٢/ ١٨] وقوله: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ
[الجاثية ٤٥/ ٢١].
ثم فصل أحوال الناس وقسمتهم فريقين، فقال:
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى أي فأما من بذل ماله في وجوه الخير، واتقى محارم اللَّه التي نهى عنها، وصدق بموعود اللَّه الذي وعده عوضا عن الإيمان والنفقة الخيرية، فإنا نسهل عليه كل ما كلّف به من الأفعال والتروك، ونهيئه للخطة السهلة التي تؤدي به إلى الخير، ونيسر له الإنفاق في سبيل الخير والعمل بطاعة اللَّه.

وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى، وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى أي وأما من بخل بماله، فلم يبذله في سبل الخير، واستغنى بشهوات الدنيا عن نعيم الآخرة، وزهد في الأجر والثواب وفضل اللَّه، وكذّب بالجزاء في الدار الآخرة، فسنهيئه للخصلة العسرى والطريقة الصعبة التي لا تنتج إلا شرا، حتى تتعسر عليه أسباب الخير والصلاح، ويضعف عن فعلها، حتى يصل إلى النار، ولا يغني عنه شيئا ماله الذي بخل به، إذا سقط في جهنم.
ويلاحظ أن التيسير والبشارة في الأصل على الشيء المفرح والسّاتر، لكن إذا جمع في الكلام بين خير وشر، جاء التيسير والبشارة فيهما جميعا.
أخرج البخاري ومسلّم عن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه قال: كنا مع رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم في بقيع الغرقد في جنازة، فقال: «ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة، ومقعده من النار، فقالوا: يا رسول اللَّه، أفلا نتكل؟
فقال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له» ثم قرأ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى.
وهناك أحاديث كثيرة في هذا المعنى «١».
فقه الحياة أو الأحكام:
أقسم اللَّه عز وجل بالليل حينما يغطّي كل شيء بظلامه، وبالنهار إذا انكشف ووضح وظهر، وبالذي خلق الذكر والأنثى فيكون قد أقسم بنفسه عز وجل، على أن عمل الناس مختلف في الجزاء، فبعضهم مؤمن وبر، وكافر وفاجر، ومطيع وعاص، وبعضهم في هدى أو في ضلال، وبعضهم ساع في فكاك نفسه من النار، وبعضهم بائع نفسه فموبقها في المعاصي، كما
ذكر الثعلبي من قوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: «الناس غاديان: فبائع نفسه فمعتقها، أو موبقها».

ثم أوضح سبحانه معنى اختلاف الأعمال المذكور من العاقبة المحمودة والمذمومة، والثواب والعقاب، وذكر فريقين:
الأول- من بذل ماله في سبيل اللَّه، وأعطى حق اللَّه عليه، واتقى المحارم والمنكرات، وصدّق بوعد اللَّه بالعوض على عطائه، فاللَّه يهيئ له الطريق اليسرى السهلة للوصول إلى غايته، ويرشده لأسباب الخير والصلاح، حتى يسهل عليه فعلها.
جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا».
والثاني- من ضنّ بما عنده، فلم يبذل خيرا، وكذلك بتعويض اللَّه، فاللَّه يسهل طريقه للشر، ويعسّر عليه أسباب الخير والصلاح، حتى يصعب عليه فعلها.
قال العلماء: ثبت بهذه الآية: وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ.. وبقوله تعالى:
وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة ٢/ ٣] وقوله: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً [البقرة ٢/ ٢٧٤] إلى غير ذلك من الآيات أن الجود من مكارم الأخلاق، والبخل من أرذلها، والجواد: هو الذي يعطي في موضع العطاء، والبخيل: هو الذي يمنع في موضع العطاء، فكل من استفاد بما يعطي أجرا وحمدا، فهو الجواد، وكل من استحق ذما أو عقابا، فهو البخيل، والمسرف المذموم، وهو من المبذّرين الذين جعلهم اللَّه إخوان الشياطين، وأوجب الحجر عليهم «١».
ولا يفيد هذا البخيل ماله إذا مات أو صار في القبر أو سقط في جهنم.