
الْعَظِيمُ
عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ تِلْكَ الْحَالَةِ مَرْتَبَةً رفيعة، ودرجة عالية.
[سورة التوبة (٩) : آية ٩٠]
وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٠)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ أَحْوَالَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا فِي الْمَدِينَةِ ابْتَدَأَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِشَرْحِ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ فِي قَوْلِهِ: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ وَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْمُعَذِّرِينَ، وَذَهَبَ إِلَى أَنَّ الْمُعْذِرَ هُوَ الْمُجْتَهِدُ الَّذِي لَهُ عُذْرٌ، وَالْمُعَذِّرُ بِالتَّشْدِيدِ الَّذِي يَعْتَذِرُ بِلَا عُذْرٍ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْمُعْذِرَ هُوَ الْمُجْتَهِدُ الْبَالِغُ فِي الْعُذْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: قَدْ أَعْذَرَ مَنْ أَنْذَرَ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَصَلَ بَيْنَ أَصْحَابِ الْعُذْرِ وَبَيْنَ الْكَاذِبِينَ، فَالْمُعَذِّرُونَ هُمُ الَّذِينَ أَتَوْا بِالْعُذْرِ. قِيلَ: هُمْ أَسَدٌ وَغَطَفَانُ. قَالُوا: إِنَّ لَنَا عِيَالًا وَإِنَّا بِنَا جَهْدًا فَائْذَنْ لَنَا فِي التَّخَلُّفِ. وَقِيلَ: هُمْ رَهْطُ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ، قَالُوا: إِنْ غَزَوْنَا مَعَكَ أَغَارَتْ أَعْرَابُ طَيِّءٍ عَلَيْنَا، فَأَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ لَهُمْ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: نَفَرٌ مِنْ غَطَفَانَ اعْتَذَرُوا. وَالَّذِينَ قَرَءُوا الْمُعَذِّرُونَ بِالتَّشْدِيدِ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ فَلَهُ وَجْهَانِ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ.
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي هَذَا اللَّفْظِ الْمُعْتَذِرُونَ فَحُوِّلَتْ فَتْحَةُ التَّاءِ إِلَى الْعَيْنِ، وَأُبْدِلَتِ الذَّالُ مِنَ التَّاءِ، وَأُدْغِمَتْ فِي الذَّالِ الَّتِي بَعْدَهَا، فَصَارَتِ التَّاءُ ذَالًا مُشَدَّدَةً.
وَالِاعْتِذَارُ قَدْ يَكُونُ بِالْكَذِبِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ [التَّوْبَةِ: ٩٤] فَبَيَّنَ كَوْنَ هَذَا الِاعْتِذَارِ فَاسِدًا بِقَوْلِهِ: قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا وَقَدْ يَكُونُ بِالصِّدْقِ كَمَا فِي قَوْلِ لَبِيدٍ:
وَمَنْ يَبْكِ حَوْلًا كَامِلًا فَقَدِ اعْتَذَرَ
يُرِيدُ فَقَدْ جَاءَ بِعُذْرٍ صَحِيحٍ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُعَذِّرُونَ عَلَى وَزْنِ قَوْلِنَا: مُفَعِّلُونَ مِنَ التَّعْذِيرِ الَّذِي هُوَ التَّقْصِيرُ. يقال:
عذرا تَعْذِيرًا إِذَا قَصَّرَ وَلَمْ يُبَالِغْ. يُقَالُ: قَامَ فلان قيام تعذير، إذا اسكتفيته فِي أَمْرٍ فَقَصَّرَ فِيهِ، فَإِنْ أَخَذْنَا بِقِرَاءَةِ الخفيف، كَانَ الْمُعَذِّرُونَ كَاذِبِينَ. وَأَمَّا إِنْ أَخَذْنَا بِقِرَاءَةِ التَّشْدِيدِ، وَفَسَّرْنَاهَا بِالْمُعْتَذِرِينَ، فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ:
يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ كَانُوا صَادِقِينَ وَأَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ قَالَ: الْمُعَذِّرُونَ كَانُوا صَادِقِينَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَهُمْ قَالَ بَعْدَهُمْ: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلَمَّا مَيَّزَهُمْ عَنِ الْكَاذِبِينَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِكَاذِبِينَ. وَرَوَى الْوَاحِدِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو: أَنَّهُ لَمَّا قِيلَ لَهُ هَذَا الْكَلَامُ قَالَ: إِنْ أَقْوَامًا تَكَلَّفُوا عُذْرًا بِبَاطِلٍ، فَهُمُ الَّذِينَ عَنَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ وَتَخَلَّفَ الْآخَرُونَ لَا لِعُذْرٍ وَلَا لِشُبْهَةِ عُذْرٍ جَرَاءَةً عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَهُمُ الْمُرَادُونَ بِقَوْلِهِ: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِي قَالَهُ أَبُو عَمْرٍو مُحْتَمَلٌ، إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ أَظْهَرُ. وَقَوْلُهُ: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَهُمْ مُنَافِقُو الْأَعْرَابِ الَّذِينَ مَا جَاءُوا وَمَا اعْتَذَرُوا، وَظَهَرَ بِذَلِكَ أَنَّهُمْ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي ادِّعَائِهِمُ الْإِيمَانَ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ كَذَّبُوا بِالتَّشْدِيدِ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَفِي الْآخِرَةِ بِالنَّارِ، وَإِنَّمَا قَالَ: مِنْهُمْ لِأَنَّهُ تَعَالَى كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ بَعْضَهُمْ سَيُؤْمِنُ وَيَتَخَلَّصُ عَنْ هَذَا الْعِقَابِ، فَذَكَرَ لَفْظَةَ مِنْ الدَّالَّةِ عَلَى التبعيض.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٩١ الى ٩٢]
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (٩٢)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الْوَعِيدَ فِي حَقِّ مَنْ يُوهِمُ الْعُذْرَ، مَعَ أَنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُ، ذَكَرَ أَصْحَابَ الْأَعْذَارِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَبَيَّنَ أَنَّ تَكْلِيفَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْغَزْوِ وَالْجِهَادِ عَنْهُمْ سَاقِطٌ، وَهُمْ أَقْسَامٌ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الصَّحِيحُ فِي بَدَنِهِ، الضَّعِيفُ مِثْلُ الشُّيُوخِ. وَمَنْ خُلِقَ فِي أَصْلِ الْفِطْرَةِ ضَعِيفًا نَحِيفًا، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُرَادُونَ بِالضُّعَفَاءِ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِمُ الْمَرْضَى، والمعطوف مباين للمعطوف عليه، فما لَمْ يَحْمِلِ الضُّعَفَاءَ عَلَى الَّذِينَ ذَكَرْنَاهُمْ، لَمْ يَتَمَيَّزُوا عَنِ الْمَرْضَى.
وَأَمَّا الْمَرْضَى: فَيَدْخُلُ فِيهِمْ أَصْحَابُ الْعَمَى، وَالْعَرَجِ، وَالزَّمَانَةِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِمَرَضٍ يَمْنَعُهُ مِنَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْمُحَارَبَةِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ الْأُهْبَةَ وَالزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ، وَهُمُ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ، لِأَنَّ حُضُورَهُ فِي الْغَزْوِ إِنَّمَا يَنْفَعُ إِذَا قَدَرَ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَى نَفْسِهِ. إِمَّا مِنْ مَالِ نَفْسِهِ، أَوْ مِنْ مَالِ إِنْسَانٍ آخَرَ يُعِينُهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ تَحْصُلْ هَذِهِ الْقُدْرَةُ، صَارَ كَلًّا وَوَبَالًا عَلَى الْمُجَاهِدِينَ وَيَمْنَعُهُمْ مِنَ الِاشْتِغَالِ بِالْمَقْصُودِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ قَالَ: لَا حَرَجَ عَلَى هَؤُلَاءِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِ الْغَزْوِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ بَيَانُ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِمُ الْخُرُوجُ، لِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ لَوْ خَرَجَ لِيُعِينَ الْمُجَاهِدِينَ بِمِقْدَارِ الْقُدْرَةِ. إِمَّا بِحِفْظِ مَتَاعِهِمْ أَوْ بِتَكْثِيرِ سَوَادِهِمْ، بِشَرْطِ أَنْ لَا يَجْعَلَ نَفْسَهُ كَلًّا وَوَبَالًا عَلَيْهِمْ، كَانَ ذَلِكَ طَاعَةً مَقْبُولَةً. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى شَرَطَ فِي جَوَازِ هَذَا التَّأْخِيرِ شَرْطًا مُعَيَّنًا وَهُوَ قَوْلُهُ: إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ إِذَا أَقَامُوا فِي الْبَلَدِ احْتَرَزُوا عَنْ إِلْقَاءِ الْأَرَاجِيفِ، وَعَنْ إِثَارَةِ الْفِتَنِ، وَسَعَوْا فِي إِيصَالِ الْخَيْرِ إِلَى الْمُجَاهِدِينَ الَّذِينَ سَافَرُوا، إِمَّا بِأَنْ يَقُومُوا بِإِصْلَاحِ مُهِمَّاتِ بُيُوتِهِمْ، وَإِمَّا بِأَنْ يَسْعَوْا فِي إِيصَالِ الْأَخْبَارِ السَّارَّةِ مِنْ بُيُوتِهِمْ إِلَيْهِمْ، فَإِنَّ جُمْلَةَ هَذِهِ الْأُمُورِ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْإِعَانَةِ عَلَى الْجِهَادِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ دَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ هُوَ أَنَّهُ لَا إِثْمَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْقُعُودِ عَنِ الْجِهَادِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يُفِيدُ الْعُمُومَ فِي كُلِّ الْوُجُوهِ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّفْظَ مَقْصُورٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ، وَالْمُحْسِنُ هُوَ الْآتِي بِالْإِحْسَانِ، وَرَأْسُ أَبْوَابِ الْإِحْسَانِ وَرَئِيسُهَا، هُوَ قَوْلُ:
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَكُلُّ مَنْ قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ وَاعْتَقَدَهَا، كَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ يَقْتَضِي نَفْيَ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، فَهَذَا بِعُمُومِهِ يَقْتَضِي أَنَّ الْأَصْلَ فِي حَالِ كُلِّ مُسْلِمٍ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، وَعَدَمُ تَوَجُّهِ مُطَالَبَةِ الْغَيْرِ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي نَفْسِهِ حُرْمَةُ الْقَتْلِ، إِلَّا لِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وَالْأَصْلُ فِي مَالِهِ حُرْمَةُ الْأَخْذِ، إِلَّا لِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وَأَنْ لَا يَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ التَّكَالِيفِ، إِلَّا لِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، فَتَصِيرَ هَذِهِ الْآيَةُ بِهَذَا الطَّرِيقِ أَصْلًا/ مُعْتَبَرًا فِي الشَّرِيعَةِ، فِي تَقْرِيرِ أَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، فَإِنْ وَرَدَ نَصٌّ خَاصٌّ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ حُكْمٍ خَاصٍّ، فِي وَاقِعَةٍ خَاصَّةٍ، قَضَيْنَا بِذَلِكَ النَّصِّ الْخَاصِّ تَقْدِيمًا لِلْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَإِلَّا فَهَذَا النَّصُّ

كَافٍ فِي تَقْرِيرِ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ بِهَذَا عَلَى نَفْيِ الْقِيَاسِ. قَالَ: لِأَنَّ هَذَا النَّصَّ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ هو براءة الذمة، هو عدم الْإِلْزَامِ وَالتَّكْلِيفِ، فَالْقِيَاسُ إِمَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ أَوْ عَلَى شَغْلِ الذِّمَّةِ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ بَرَاءَةَ الذِّمَّةِ لَمَّا ثَبَتَتْ بِمُقْتَضَى هَذَا النَّصِّ، كَانَ إِثْبَاتُهَا بِالْقِيَاسِ عَبَثًا. وَالثَّانِي أَيْضًا بَاطِلٌ، لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَصِيرُ ذَلِكَ الْقِيَاسُ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ هَذَا النَّصِّ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ، لِمَا ثَبَتَ أَنَّ النَّصَّ أَقْوَى مِنَ الْقِيَاسِ. قَالُوا: وَبِهَذَا الطَّرِيقِ تَصِيرُ الشَّرِيعَةُ مَضْبُوطَةً، مَعْلُومَةً، مُلَخَّصَةً، بَعِيدَةً عَنِ الِاضْطِرَابِ وَالِاخْتِلَافَاتِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ السُّلْطَانَ إِذَا بَعَثَ وَاحِدًا مِنْ عُمَّالِهِ إِلَى سِيَاسَةِ بَلْدَةٍ، فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الرَّجُلُ تَكْلِيفِي عَلَيْكَ، وَعَلَى أَهْلِ تِلْكَ الْمَمْلَكَةِ، كَذَا وَكَذَا، وَعَدَّ عَلَيْهِمْ مِائَةَ نَوْعٍ مِنَ التَّكَالِيفِ مَثَلًا، ثُمَّ قَالَ: وَبَعْدَ هَذِهِ التَّكَالِيفِ لَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِمْ سَبِيلٌ، كَانَ هَذَا تَنْصِيصًا مِنْهُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِمْ فِيمَا وَرَاءَ تِلْكَ الْأَقْسَامِ الْمِائَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَلَوْ أَنَّهُ كَلَّفَ ذَلِكَ السُّلْطَانُ بِأَنْ يَنُصَّ عَلَى مَا سِوَى تِلْكَ الْمِائَةِ بِالنَّفْيِ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ كَانَ ذَلِكَ مُحَالًا، لِأَنَّ بَابَ النَّفْيِ لَا نِهَايَةَ لَهُ، بَلْ كَفَاهُ فِي النَّفْيِ أَنْ يَقُولَ: لَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ سَبِيلٌ إِلَّا فِيمَا ذَكَرْتُ وَفَصَّلْتُ، فكذا هاهنا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَتَوَجَّهَ عَلَى أَحَدٍ سَبِيلٌ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ أَلْفَ تَكْلِيفٍ، أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، كَانَ ذَلِكَ تَنْصِيصًا عَلَى أَنَّ التَّكَالِيفَ مَحْصُورَةٌ فِي ذَلِكَ الْأَلْفِ الْمَذْكُورِ، وَأَمَّا فِيمَا وَرَاءَهُ فَلَيْسَ لِلَّهِ عَلَى الْخَلْقِ تَكْلِيفٌ وَأَمْرٌ وَنَهْيٌ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ تَصِيرُ الشَّرِيعَةُ مَضْبُوطَةً سَهْلَةَ الْمَؤُنَةِ كَثِيرَةَ الْمَعُونَةِ، وَيَكُونُ الْقُرْآنُ وَافِيًا بِبَيَانِ التَّكَالِيفِ وَالْأَحْكَامِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [الْمَائِدَةِ: ٣] حَقًّا، وَيَصِيرُ قَوْلُهُ: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النَّحْلِ: ٤٤] حَقًّا، وَلَا حَاجَةَ الْبَتَّةَ إِلَى التَّمَسُّكِ بِالْقِيَاسِ فِي حُكْمٍ مِنَ الْأَحْكَامِ أَصْلًا، فَهَذَا مَا يُقَرِّرُهُ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ مِثْلُ دَاوُدَ الْأَصْفَهَانِيِّ وَأَصْحَابِهِ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْبَابِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الضُّعَفَاءَ وَالْمَرْضَى وَالْفُقَرَاءَ، بَيَّنَ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُمُ التَّخَلُّفُ عَنِ الْجِهَادِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونُوا نَاصِحِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَبَيَّنَ كَوْنَهُمْ مُحْسِنِينَ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِمْ سَبِيلٌ، ذَكَرَ قِسْمًا رَابِعًا مِنَ الْمَعْذُورِينَ، فَقَالَ: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ.
فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ هَؤُلَاءِ دَاخِلُونَ تَحْتَ قَوْلِهِ: وَلا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ فَمَا الْفَائِدَةُ فِي إِعَادَتِهِ؟
قُلْنَا: الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ، هُمُ الْفُقَرَاءُ الَّذِينَ لَيْسَ مَعَهُمْ دُونَ النَّفَقَةِ، وَهَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ فِي الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ هُمُ الَّذِينَ مَلَكُوا قَدْرَ النَّفَقَةِ، إِلَّا أَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا الْمَرْكُوبَ، وَالْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ:
قَالَ مُجَاهِدٌ: هُمْ ثَلَاثَةُ إِخْوَةٍ: مَعْقِلٌ، وَسُوَيْدٌ، وَالنُّعْمَانُ بَنُو مُقْرِنٍ، سَأَلُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى الْخِفَافِ الْمَدْبُوغَةِ، وَالنِّعَالِ الْمَخْصُوفَةِ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ» فَتَوَلَّوْا وَهُمْ يَبْكُونَ،
وَالثَّانِي:
قَالَ الْحَسَنُ: نَزَلَتْ فِي أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَأَصْحَابِهِ، أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَحْمِلُونَهُ، وَوَافَقَ ذَلِكَ مِنْهُ غَضَبًا، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «وَاللَّهِ مَا أَحْمِلُكُمْ وَلَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ» فَتَوَلَّوْا وَهُمْ يَبْكُونَ فَدَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم، فأعطاهم خير ذودا، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: أَلَسْتَ حَلَفْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «أَمَا إِنِّي إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَا أَحْلِفُ بِيَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْتُ عَنْ يميني».