
كان في الأعمال فهو معصية. وعلى هذا فإن الخيانة والكذب ونقض العهد والفجور عند الخصام التي هي آية المنافق في الحديث تعتبر معاص لا تكفّر مرتكبها، قال ابن العربي: قد قام الدليل الواضح على أن متعمد هذه الخصال لا يكون كافرا، وإنما يكون كافرا باعتقاد يعود إلى الجهل بالله وصفاته أو التكذيب له، تعالى وتقدس عن اعتقاد الجاهلين وعن زيغ الزائغين. ثم قال:
والذي عندي أنه لو غلبت عليه المعاصي ما كان بها كافرا ما لم يؤثر في الاعتقاد «١».
وقالت طائفة عن الحديث: ذلك مخصوص بالمنافقين زمان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم.
٧- يوصف الله تعالى بأنه علام الغيوب، أي أن ذاته تقتضي العلم بجميع الأشياء، فيعلم بجميع المعلومات، وهو عالم بما في الضمائر والسرائر. فأما وصف الله بالعلّامة فإنه لا يجوز لأنه مشعر بنوع تكلف بالعلم، والتكلف في حق الله تعالى محال.
طعن المنافقين بالمؤمنين وعدم المغفرة لهم
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٧٩ الى ٨٠]
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٩) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٨٠)

الإعراب:
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ... الَّذِينَ: اسم موصول مبتدأ، ويَلْمِزُونَ: صلته، وفِي الصَّدَقاتِ من صلة يَلْمِزُونَ. وما بين يَلْمِزُونَ وفِي الصَّدَقاتِ داخل في صلة الَّذِينَ. والَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ: عطف على الَّذِينَ يَلْمِزُونَ وخبر المبتدأ: إما أن يكون سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ أو أن يكون مقدرا، تقديره: ومنهم الذين يلمزون.
البلاغة:
فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ هذا من باب المقابلة على سوء صنيعهم واستهزائهم بالمؤمنين.
وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ التنوين في عَذابٌ: للتهويل والتفخيم.
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ بينهما طباق السلب، والمراد بالأمر التسوية.
سَبْعِينَ مَرَّةً هذا جار مجرى المثل للمبالغة، وليس لتحديد العدد. وقد شاع استعمال السبعة والسبعين والسبع مائة ونحوها في التكثير، لاشتمال السبعة على جملة أقسام العدد، فكأنه العدد بأسره.
المفردات اللغوية:
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ يعيبون. الْمُطَّوِّعِينَ المتطوعين أو المتنفلين المؤدي النفل بعد الواجب. إِلَّا جُهْدَهُمْ طاقتهم: وهي أقصى ما يستطيعه الإنسان، فيأتون به. سَخِرَ استهزأ بهم احتقارا، والمراد هنا جازاهم على سخريتهم، مثل: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة ٢/ ١٥] فهو خبر غير دعاء. اسْتَغْفِرْ لَهُمْ يا محمد. أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ يراد به التسوية بين الأمرين.
سَبْعِينَ مَرَّةً المراد بالسبعين: المبالغة في كثرة الاستغفار.
سبب النزول:
روى الشيخان عن أبي مسعود البدري قال: «لما نزلت آية الصدقة، كنا نحامل «١» على ظهورنا فجاء رجل (أبو عقيل اسمه الحبحاب) بشيء كثير،

فقالوا: مرائي، فتصدق بصاع، فقالوا: إن الله لغني عن صدقة هذا، فنزل:
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ... الآية.
المناسبة:
هذا نوع آخر من أعمال المنافقين القبيحة، وهو لمزهم من يأتي بالصدقات طوعا وطبعا.
قال ابن عباس رضي الله عنهما فيما رواه عنه ابن جرير: إن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم خطبهم ذات يوم، وحث على أن يجمعوا الصدقات، فجاءه عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم، وقال: كان لي ثمانية آلاف درهم، فأمسكت لنفسي وعيالي أربعة، وهذه الأربعة أقرضتها ربي، فقال: بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت.
قيل: قبل الله دعاء الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم فيه، حتى صالحت امرأته ناضر عن ربع الثمن على ثمانين ألفا.
وجاء عمر بنحو ذلك، وجاء عاصم بن عدي الأنصاري بسبعين وسقا من تمر الصدقة، وجاء عثمان بن عفان بصدقة عظيمة،
وجاء أبو عقيل بصاع من تمر، وقال: آجرت الليلة الماضية نفسي من رجل لإرسال الماء إلى نخيله، فأخذت صاعين من تمر، فأمسكت أحدهما لعيالي، وأقرضت الآخر ربي، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم بوضعه في الصدقات.
فقال المنافقون على وجه الطعن: ما جاؤوا بصدقاتهم إلا رياء وسمعة. وأما أبو عقيل فإنما جاء بصاعه ليذكر مع سائر الأكابر، والله غني عن صاعه، فأنزل الله تعالى هذه الآية «١».

التفسير والبيان:
إن شأن المنافقين في كل أمة عجيب وغريب، ديدنهم تثبيط الهمم، وتدمير القيم، فلا يسلم أحد من طعنهم، ولو كان العمل خيرا محضا فهم يعيبون المتطوعين في الصدقات، والمراد بها هنا النوافل، سواء أكان المتطوع غنيا يأتي بالكثير كعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان، أم فقيرا كأبي عقيل، الذي يأتي بالقليل، وهو جهد المقلّ، فلا يجدون ما ينفقونه في سبيل الله إلا غاية جهدهم ومنتهى طاقتهم، فيهزءون منهم، وذكر هؤلاء، وإن كانوا داخلين في المتطوعين لأن السخرية منهم كانت أشد وأوقع.
ولكن الله تعالى سخر منهم، أي جازاهم على سخريتهم بمثل ذنبهم، حيث صاروا إلى النار، فقوله: سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ من باب المقابلة أو المشاكلة على سوء صنيعهم، واستهزائهم بالمؤمنين لأن الجزاء من جنس العمل، فعاملهم معاملة من سخر منهم، انتصارا للمؤمنين في الدنيا.
وأعد للمنافقين في الآخرة عذابا شديدا مؤلما لأن الجزاء من جنس العمل.
ثم أبان الله تعالى أنهم كالكفار ليسوا أهلا للاستغفار، ولا ينفعهم الدعاء، فسواء استغفر لهم الرسول أو لم يستغفر لهم، فلن يستر الله عليهم ذنوبهم بالعفو عنها، وترك فضيحتهم بها، وإنه لو استغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ولن يعفو عنهم، وذلك نظير قوله تعالى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [المنافقون ٦٣/ ٦].
وليس المراد بالسبعين هنا التحديد بعدد معين، فيكون ما زاد عليها بخلافها، وإنما المراد المبالغة في الكلام بحسب أسلوب العرب.
وقد كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم إظهارا لرحمته بالأمة، ولطلبهم الاستغفار منه، يدعو الله لهم بالهداية، ويستغفر لهم، كما كان يدعو للمشركين كلما اشتد إيذاؤهم له،

فيقول كما روى ابن ماجه: «اللهم اغفر لقومي، فإنهم لا يعلمون»
فمنعه الله من ذلك.
وكان عذر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم في استغفاره: هو عدم يأسه من إيمانهم، ما لم يعلم أنهم مطبوعون على الضلالة، والممنوع هو الاستغفار بعد العلم لقوله تعالى:
ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ، وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى، مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ [التوبة ٩/ ١١٣].
وقد ذكر الله تعالى هنا سبب عدم قبول الاستغفار والدعاء لهم بقوله:
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا... أي إنهم كفروا وجحدوا بالله ورسوله، فلم يقروا بوحدانية الله تعالى، ولم يعترفوا ببعثه النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وأصروا على الجحود والإنكار، فلم تعد قلوبهم مستعدة لقبول الخير والنور، وإن سنة الله ألا يوفق للخير القوم المتمردين في الكفر، الخارجين عن الطاعة، الذين فقدوا الاستعداد للإيمان والتوبة. فاليأس من المغفرة وعدم قبول الاستغفار لهم ليس لبخل من الله، ولا قصور في النبي، بل لعدم قابليتهم بسبب الكفر الصارف عن المغفرة.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- إن المنافقين قوم حيارى مرضى القلوب لا يدركون حقيقة الأمور، فتراهم يعيبون غيرهم من المؤمنين، تسترا على النفاق، وحماية لأنفسهم من افتضاح أمرهم، وحبا في النقد والطعن، فافتضح القرآن أسرارهم، وأبان سوء تصرفاتهم.
٢- لقد كان جزاء لمزهم وعيبهم المؤمنين المتطوعين بالإنفاق في سبيل الله هو النار والعذاب الأليم فيها لأن الجزاء من جنس العمل كما تبين.