
٧٩ - قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ﴾ الآية، مضى الكلام في اللمز عند قوله: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ﴾ [التوبة: ٥٨].
والمطوعون: المتطوعون (١)، والتطوع التنفل، وهو الطاعة لله عز وجل فيما ليس بواجب، ومضى الكلام في إدغام التاء في الطاء عند قوله: ﴿وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا﴾ [البقرة: ١٥٨] (٢)، وقوله: ﴿حَتَّى يَطْهُرْنَ﴾ [البقرة: ٢٢٢] (٣)، قال المفسرون: حث النبي -صلى الله عليه وسلم- على الصدقة فجاء عمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف، بصدقة عظيمة، وجاء رجل يقال له: أبو عقيل الأنصاري (٤) بصاع من تمر وكان قد أجر نفسه ليلة إلى الصبح يسقي نخل رجل، فأخذ أجرته فجعل نصفها صدقة لوجه الله تعالى ونصفها
وانظر: "مجموع فتاوى شيخ الإسلام" ١١/ ١٤٠، ٢٨/ ٤٣٥، و"فتح الباري" ١/ ٩٠.
(١) في (م): (والمطوعين المتطوعين).
(٢) انظر: "النسخة الأزهرية" ١/ ١٠٠ أوقد قال هنا: (الوجه الثاني من القراءة (يطوع) بالياء وجزم العين، وتقديره يتطوع، إلا أن التاء أدغم في الطاء لتقاربهما).
(٣) انظر: "النسخة الأزهرية" ١/ ١٣٥ ب وقد قال في هذا الموضع: (حتى يطهرن) أي: يتطهرن، ومعناه يغتسلن بالماء بعد النقاء من الدم، فأدغمت الثاني بالطاء، هذه قراءة أهل الكوفة).
(٤) أبو عقيل الأنصاري، صحابي أنصاري معروف بكنيته، واختلف في اسمه اختلافًا كثيراً، فقيل: الحبحاب، وقيل: الحثحاث، وقيل: هذا لقب له واسمه سهل بن رافع، وقيل: هو عبد الرحمن بن بيحان، وقيل: هو أبو عقيل بن عبد الله بن ثعلبة البلوي شهد بدراً، واستشهد باليمامة، وقيل غير ذلك.
انظر: "فتح الباري" ٨/ ٣٣١، و"الأصابة" ٤/ ١٣٦ (٧٧٦).

لعياله، فلمزهم المنافقون وقالوا: ما أخرج هؤلاء صدقاتهم إلا رياء، وأما أبو عقيل فإنما جاء بصاعه ليذكر نفسه، وإن كان الله ورسوله لغنيين عن صاعه، فأنزل الله هذه الآية (١).
وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ﴾ يعني أبا عقيل، وقال عطاء عن ابن عباس: هو سهل بن نافع (٢).
قال الليث: الجهد شيء قليل يعيش به المقل (٣).
وقال الزجاج: (إلا جهدهم) و (جهدهم) بالفتح والضم (٤).
(٢) هكذا في النسخ التي بين يدي، ولم يذكر ابن حجر في "الإصابة" أحدًا من الصحابة بهذا الاسم، فلعل في اسمه تصحيف والصواب سهل بن رافع، أحد بني النجار الأنصاري الخزرجي، فقد قال الحافظ ابن حجر في ترجمته في "الإصابة" ٢/ ٨٧: (يقال: إنه صاحب الصاع قال ابن منده: شهد أحدًا، ومات في خلافة عمر، وروى عيسى بن يونس عن سعيد بن عثمان البلوي عن جدته بنت عدي عن أمها عميرة بنت سهل بن رافع صاحب الصاع الذي لمزه المنافقون، خرج بزكاته صاع تمر وبابنته عميرة إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ادع الله لي ولها بالبركة فما لي غيرها فوضع يده عليها فدعا له). وقد رجح الحافظ في "فتح الباري" ٨/ ٣٣١ تعدد من جاء بالصاع فلمزه المنافقون.
(٣) "تهذيب اللغة" (جهد) ١/ ٦٧٥ والنص في كتاب: "العين" للخليل بن أحمد (جهد) ٣/ ٣٨٦.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٦٢، والقراة بالفتح شاذة قرأ بها الأعرج وعطاء ومجاهد.
انظر: "مختصر في شواذ القرآن" من كتاب "البديع" لابن خالويه ص ٥٤.

قال الفراء: الضم لغة أهل الحجاز والفتح لغيرهم (١)، وحكى (٢) ابن السكيت عنه الفرق بينهما فقال: الجُهد: الطاقة، تقول: هذا جهدي أي طاقتي، والجهد: المشقة، تقول: اجهد جهدك (٣). وقال الشعبي: الجهد في العمل، والجهل في القوت (٤).
وقوله تعالى: ﴿فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ﴾ الكناية تعود إلى الذين لا يجدون إلا جهدهم، وقوله تعالى: ﴿سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ﴾ خبر الابتداء الذي هو قوله: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ﴾ ومعناه: جازاهم جزاء سخريتهم، ومضى الكلام في هذا (٥)، قال ابن عباس: (يريد حيث صاروا إلى النار) (٦).
وقال صاحب "النظم": قوله: ﴿الَّذِينَ يَلْمِزُونَ﴾ صفة للمكني المتصل بقوله في الآية التي قبل هذه: ﴿سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ﴾ [التوبة: ٧٨] ولا يحتمل أن يكون قوله: (الَّذِينَ (٧) يَلْمِزُونَ) مبتدأ؛ لأنه لم يجيء له جواب، وقوله تعالى: ﴿سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ﴾ لا يحتمل أن يكون جوابًا لأنه فعل ماض (٨)، وهذه السخرية لا تكون إلا في الآخرة، فكان هذا القول دعاء،
(٢) في (م): (وقال).
(٣) "تهذيب إصلاح المنطق" (جهد) ص ٢٢٧، و"المشوف المعلم في ترتيب الإصلاح على حروف المعجم" (جهد) ١/ ١٧١ بنحوه.
(٤) رواه ابن جرير ١٠/ ١٩٨، وبمعناه ابن أبي حاتم ٦/ ١٨٥٣.
(٥) انظر: "البسيط" البقرة: ٢١٢.
(٦) ذكره القرطبي في "تفسيره" ٨/ ٢١٥.
(٧) ساقط من (ى).
(٨) ذهب النحاس في "إعراب القرآن" ٢/ ٢٠٦، والقرطبي في "تفسيره" ٨/ ٢١٥ إلى أن (الذين يلمزون) مبتدأ و (سخر الله منهم) خبره، وذكر أبو البقاء العكيري عدة وجوه في الخبر: =