مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ، إِشَارَةٌ إِلَى مَنَازِلِ الْمُقَرَّبِينَ الشَّارِبِينَ مِنْ تَسْنِيمٍ، وَالَّذِينَ يُرَوْنَ كَمَا يُرَى النَّجْمُ الْغَائِرُ فِي الْأُفُقِ، وَجَمِيعُ مَنْ فِي الْجَنَّةِ رَاضٍ، وَالْمَنَازِلُ مُخْتَلِفَةٌ، وَفَضْلُ اللَّهِ تَعَالَى مُتَّسِعٌ انْتَهَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: رِضَاهُ تَعَالَى هُوَ سَبَبُ كُلِّ فَوْزٍ وَسَعَادَةٍ انْتَهَى. وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى جَمِيعِ مَا سَبَقَ، أَوْ إِلَى الرِّضْوَانِ قَوْلَانِ، وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٧٣ الى ٩٢]
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٧٤) وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٧٨) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٩) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٨٠) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (٨١) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢)
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (٨٣) وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (٨٤) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٨٥) وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (٨٦) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (٨٧)
لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨٨) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٨٩) وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٠) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩١) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (٩٢)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ: لَمَّا ذَكَرَ وَعِيدَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَكَانَتِ السُّورَةُ قَدْ نزلت في المنافقين بدأبهم فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ «١» وَلَمَّا ذُكِرَ أَمْرُ الْجِهَادِ، وَكَانَ الْكُفَّارُ غَيْرُ الْمُنَافِقِينَ أَشَدَّ شَكِيمَةً وَأَقْوَى أَسْبَابًا فِي الْقِتَالِ وَإِنْكَاءً بِتَصَدِّيهِمْ لِلْقِتَالِ، قَالَ: جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ فَبَدَأَ بِهِمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: جَاهِدِ الْكُفَّارَ بِالسَّيْفِ.
وَالْمُنَافِقِينَ بِاللِّسَانِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: وَالْمُنَافِقِينَ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ إِذَا تَعَاطَوْا أَسْبَابَهَا. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: جَاهِدْهُمْ بِالْيَدِ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَبِاللِّسَانِ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَبِالْقَلْبِ، وَالِاكْفِرَارِ فِي وُجُوهِهِمْ، وَأَغْلِظْ عَلَيْهِمْ فِي الْجِهَادَيْنِ. وَالْغِلَظُ ضِدُّ الرِّقَّةِ، وَالْمُرَادُ خُشُونَةُ الْكَلَامِ وَتَعْجِيلُ الِانْتِقَامِ عَلَى خِلَافِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ. وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَكُلُّ مَنْ وَقَفَ مِنْهُ عَلَى فَسَادٍ فِي الْعَقَائِدِ، فَهَذَا حُكْمُهُ يُجَاهَدُ بِالْحُجَّةِ، وَيُسْتَعْمَلُ مَعَهُ الْغِلَظُ مَا أَمْكَنَ.
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ: الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْمُنَافِقِينَ. فَقِيلَ: هُوَ حَلِفُ الْجُلَاسِ، وَتَقَدَّمَتْ قِصَّتُهُ مَعَ عَامِرِ بْنِ قَيْسٍ. وَقِيلَ:
حَلَّفَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ أَنَّهُ مَا قَالَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ «١» الْآيَةَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ:
حَلِفُهُمْ حِينَ نَقَلَ حُذَيْفَةُ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَّهُمْ أَصْحَابَهُ وَإِيَّاهُ فِي خَلْوَتِهِمْ، وَأَمَّا وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا فَنَزَلَتْ قِيلَ: فِي ابْنِ أُبَيٍّ فِي قَوْلِهِ: لَيُخْرِجَنَّ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ:
بِقَتْلِ الرَّسُولِ، وَالَّذِي هَمَّ بِهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: الْأَسْوَدُ مِنْ قُرَيْشٍ، رَوَاهُ مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ هَمُّوا بِقَتْلِهِ وَتَوَافَقُوا عَلَى أَنْ يَدْفَعُوهُ عَنْ راحلته إلى الوادي إذ تَسَنَّمَ الْعَقَبَةَ، فَأَخَذَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ بِخِطَامِ رَاحِلَتَهُ يَقُودُهَا، وَحُذَيْفَةُ خَلْفَهَا يَسُوقُهَا، فَبَيْنَمَا هُمَا كَذَلِكَ إِذْ سَمِعَ حُذَيْفَةُ بِوَقْعِ أَخْفَافِ الْإِبِلِ وَقَعْقَعَةِ السِّلَاحِ، فَالْتَفَتَ فَإِذَا قَوْمٌ مُتَلَثِّمُونَ فَقَالَ: إِلَيْكُمْ يَا أَعْدَاءَ اللَّهِ فَهَرَبُوا، وَكَانَ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، وَطُعَيْمَةُ بْنُ أُبَيْرِقٍ، وَالْجُلَاسُ بْنُ سُوَيْدٍ، وَأَبُو عَامِرِ بْنُ نُعْمَانَ، وَأَبُو الْأَحْوَصِ. وَقِيلَ: هَمُّهُمْ بِمَا لَمْ يَنَالُوا، هُوَ أَنْ يُتَوِّجُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ إِذَا رَجَعُوا مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ يُبَاهُونَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَنَالُوا مَا هَمُّوا بِهِ، فَنَزَلَتْ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ جَالِسًا فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ فَقَالَ: إِنَّهُ سَيَأْتِيكُمْ إِنْسَانٌ فَيَنْظُرُ إِلَيْكُمْ شَيْطَانٌ، فَإِذَا جَاءَ فَلَا تُكَلِّمُوهُ، فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ طَلَعَ رَجُلٌ أَزْرَقُ فَدَعَاهُ فَقَالَ: عَلَامَ تَشْتُمُنِي أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ؟
فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ فَجَاءَ بِأَصْحَابِهِ، فَحَلَفُوا بِاللَّهِ مَا قَالُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَكَلِمَةُ الْكُفْرِ
قَوْلُ ابْنِ أُبَيٍّ لَمَّا شَاوَرَ الْجَهْجَاهَ الْغِفَارِيَّ وَسِنَانَ بْنَ وَبَرَةَ الجهني، وقد
كَسَعَ أَحَدُهُمَا رِجْلَ الْآخَرِ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ، فَصَاحَ الْجَهْجَاهُ: يَا لَلْأَنْصَارِ، وَصَاحَ سِنَانٌ:
يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَثَارَ النَّاسُ، وَهَدَّأَهُمُ الرَّسُولُ فَقَالَ ابْنُ أُبَيٍّ: مَا أَرَى هَؤُلَاءِ إِلَّا قَدْ تَدَاعَوْا عَلَيْنَا مَا مَثَلُنَا وَمَثَلُهُمْ إِلَّا كَمَا قَالَ الْأَوَّلُ: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ
، أَوِ الِاسْتِهْزَاءُ، أَوْ قَوْلُ الْجُلَاسِ الْمُتَقَدِّمُ، أَوْ قَوْلُهُمْ: نَعْقِدُ التَّاجَ، أَوْ قَوْلُهُمْ: لَيْسَ بِنَبِيٍّ، أَوِ الْقَوْلُ: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ أَقْوَالٌ. وَكَفَرُوا: أَيْ أَظْهَرُوا الْكُفْرَ بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ، أَيْ إِظْهَارِ إِسْلَامِهِمْ. وَلَمْ يَأْتِ التَّرْكِيبُ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَتَجَاوَزْ أَلْسِنَتَهُمْ. وَالْهَمُّ دُونَ الْعَزْمِ، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي الْهَامِّ وَالْمَهْمُومِ بِهِ. وَقِيلَ: هُوَ هَمُّ الْمُنَافِقِينَ أَوِ الْجُلَاسِ بِقَتْلِ نَاقِلِ حَدِيثِ الْجُلَاسِ إِلَى الرَّسُولِ، وَفِي تَعْيِينِ اسْمِ النَّاقِلِ خِلَافٌ، فَقِيلَ: عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ. وَقِيلَ: حُذَيْفَةُ. وَقِيلَ:
ابْنُ امْرَأَةِ الْجُلَاسِ عُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ. وَقِيلَ: اسْمُهُ مُصْعَبٌ. وَقِيلَ: هَمُّوا بِالرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ أَشْيَاءَ لَمْ يَنَالُوهَا «وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ» هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا «١» وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا «٢» وَكَانَ حَقُّ الْغَنِيِّ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنْ يَشْكُرَ لا أين يَنْقِمَ، جَعَلُوا الْغِنَى سَبَبًا يَنْتَقِمُ بِهِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ:
وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ | بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ |
وَقِيلَ: بَلْ كَانَتْ لِلْجُلَاسِ.
وَكَانَتِ الْأَنْصَارُ حِينَ قَدِمَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ فِي ضَنْكٍ مِنَ الْعَيْشِ، لَا يركبون الخيل. ولا يجوزون الْغَنِيمَةَ، فَأُثِرُوا وَقَالَ الرَّسُولُ لِلْأَنْصَارِ:
«وَكُنْتُمْ عَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ بِي»
وَقِيلَ: كَانَ عَلَى الْجُلَاسِ دَيْنٌ كَثِيرٌ فَقَضَاهُ الرَّسُولُ، وَحَصَلَ لَهُ مِنَ الْغَنَائِمِ مَالٌ كَثِيرٌ.
وَقَوْلُهُ: وَمَا نَقَمُوا الْجُمْلَةُ كَلَامٌ أُجْرِيَ مَجْرَى التَّهَكُّمِ بِهِ، كَمَا تَقُولُ:
مَا لِي عِنْدَكَ ذَنْبٌ إِلَّا أَنِّي أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ، فَإِنَّ فِعْلَهُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا لِئَامًا. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
مَا نَقَمُوا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ إِلَّا | أَنَّهُم يَحْلُمُونَ إِنْ غَضِبُوا |
وَأَنَّهُمْ سَادَةُ الْمُلُوكِ وَلَا | يَصْلُحُ إِلَّا عَلَيْهِمُ الْعَرَبُ |
وَلَا عَيْبَ فِينَا غَيْرَ عِرْقٍ لِمَعْشَرٍ | كِرَامٍ وَأَنَّا لَا نَحُطُّ عَلَى النَّمْلِ |
(٢) سورة البروج: ٨٥/ ٨.
فَإِنْ يَتُوبُوا هَذَا إِحْسَانٌ مِنْهُ تَعَالَى وَرِفْقٌ وَلُطْفٌ بِهِمْ، حَيْثُ فَتَحَ لَهُمْ بَابَ التَّوْبَةِ بَعْدَ ارْتِكَابِ تِلْكَ الْجَرَائِمِ الْعَظِيمَةِ. وَكَانَ الْجُلَاسُ بَعْدَ حَلِفِهِ وَإِنْكَارِهِ أَنْ قَالَ مَا نُقِلَ عَنْهُ قَدِ اعْتَرَفَ، وَصَدَّقَ النَّاقِلَ عَنْهُ وَتَابَ وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهُ، وَلَمْ يَرِدْ أَنَّ أَحَدًا قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ مِنْهُمْ غَيْرَ الْجُلَاسِ. قِيلَ: وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى قَبُولِ توبة الزنديق المس الْكُفْرَ الْمُظْهِرِ لِلْإِيمَانِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تُقْبَلُ فَإِنْ جَاءَ تَائِبًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يُعْثَرَ عَلَيْهِ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ يَتَوَلَّوْا أَيْ: عَنِ التَّوْبَةِ، أَوِ الْإِيمَانِ، أَوِ الْإِخْلَاصِ، أَوِ الرَّسُولِ. وَالْمَعْنَى: وَإِنْ يُدِيمُوا التَّوَلِّي إِذْ هُمْ مُتَوَلُّونَ فِي الدُّنْيَا بِإِلْحَاقِهِمْ بِالْحَرْبِيِّينَ إِذْ أَظْهَرُوا الْكُفْرَ، فَيَحِلُّ قِتَالُهُمْ وَقَتْلُهُمْ، وَسَبْيُ أَوْلَادِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ، وَغَنْمُ أَمْوَالِهِمْ. وَقِيلَ: مَا يُصِيبُهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ وَمُعَايَنَةِ مَلَائِكَةِ الْعَذَابِ. وَقِيلَ: عَذَابُ الْقَبْرِ. وَقِيلَ: التَّعَبُ وَالْخَوْفُ وَالْهُجْنَةُ عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالنَّارِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ. فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ. فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ. أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ: قَالَ الضَّحَّاكُ: هم نبتل بن الحرث، وَجَدُّ بْنُ قَيْسٍ، وَمُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ، وَفِيهِمْ نَزَلَتِ الْآيَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: فِي مُعَتِّبٍ وَثَعْلَبَةَ خَرَجَا عَلَى ملأ قالا ذَلِكَ. وَقَالَ ابْنُ السَّائِبِ: فِي رَجُلٍ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ كَانَ لَهُ مَالٌ بِالشَّامِ فَأَبْطَأَ عَنْهُ، فَجَهِدَ لِذَلِكَ جَهْدًا شَدِيدًا، فَحَلَفَ بِاللَّهِ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ أَيْ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ لَأَصَّدَّقَنَّ مِنْهُ وَلَأَصِلَنَّ، فَآتَاهُ فَلَمْ يَفْعَلْ. وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ثَعْلَبَةَ،
وَذَكَرُوا لَهُ حَدِيثًا طَوِيلًا وَقَدْ لَخَّصْتُ مِنْهُ: أَنَّهُ سَأَلَ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَهُ مَالًا فَقِيلَ لَهُ: قَلِيلٌ تُؤَدِّي شُكْرَهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لَا تُطِيقُهُ، فَأَلَحَّ عَلَيْهِ، فَدَعَا اللَّهَ، فَاتَّخَذَ غَنَمًا كَثُرَتْ حَتَّى ضَاقَتْ عَنْهَا الْمَدِينَةُ، فَنَزَلَ وَادِيًا وَمَا زَالَتْ تَنْمُو، وَاشْتَغَلَ بِهَا حَتَّى تَرَكَ الصَّلَوَاتِ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ الْمُصَدِّقَ فَقَالَ: مَا هَذِهِ إِلَّا جِزْيَةٌ، مَا هَذِهِ إِلَّا أُخْتُ الْجِزْيَةِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
فَأَخْبَرَهُ قَرِيبٌ لَهُ بِهَا، فَجَاءَ بِصَدَقَتِهِ إِلَى الرَّسُولِ فَلَمْ يَقْبَلْهَا، فَلَمَّا قُبِضَ الرَّسُولُ أَتَى أَبَا بَكْرٍ فَلَمْ يَقْبَلْهَا، ثُمَّ عُمَرَ فَلَمْ يَقْبَلْهَا، ثُمَّ عُثْمَانَ فَلَمْ يَقْبَلْهَا، وَهَلَكَ فِي أَيَّامِ عُثْمَانَ.
وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ: لَنَصَّدَّقَنْ وَلَنَكُونَنْ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ فِيهِمَا، وَالظَّاهِرُ وَالْمُسْتَفِيضُ مِنْ أَسْبَابِ النُّزُولِ أَنَّهُمْ نَطَقُوا بِذَلِكَ وَلَفَظُوا بِهِ. وَقَالَ مَعْبَدُ بْنُ ثَابِتٍ وَفِرْقَةٌ: لَمْ يَتَلَفَّظُوا بِهِ، وَإِنَّمَا
هُوَ شَيْءٌ نَوَوْهُ فِي أَنْفُسِهِمْ وَلَمْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ، أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى قَوْلِهِ: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ «١» «مِنَ الصَّالِحِينَ» : أَيْ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ فِي أَمْوَالِهِمْ بِصِلَةِ الرَّحِمِ وَالْإِنْفَاقِ فِي الْخَيْرِ وَالْحَجِّ وَأَعْمَالِ الْبِرِّ. وَقِيلَ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي طَلَبِ الْآخِرَةِ. بَخِلُوا بِهِ أَيْ: بِإِخْرَاجِ حَقِّهِ مِنْهُ، وَكُلُّ بُخْلٍ أُعْقِبَ بِوَعِيدٍ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مَنْعِ الْحَقِّ الْوَاجِبِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي فَأَعْقَبَهُمْ هُوَ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ، عَاقَبَهُمْ عَلَى الذَّنْبِ بِمَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: خَذَلَهُمْ حِينَ نَافَقُوا، وَتَمَكَّنَ مِنْ قُلُوبِهِمْ نِفَاقُهُمْ فَلَا يَنْفَكُّ عَنْهَا إِلَى أَنْ يَمُوتُوا بِسَبَبِ إِخْلَافِهِمْ مَا وَعَدُوا اللَّهَ مِنَ التَّصَدُّقِ وَالصَّلَاحِ وَكَوْنِهِمْ كَاذِبِينَ، وَمِنْهُ خُلْفُ الْمَوْعِدِ ثُلُثُ النِّفَاقِ انْتَهَى.
وَقَوْلُهُ: خَذَلَهُمْ هُوَ لَفْظُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: الضَّمِيرُ فِي فَأَعْقَبَهُمْ لِلْبُخْلِ، أَيْ فَأَوْرَثَهُمُ الْبُخْلَ نِفَاقًا مُتَمَكِّنًا فِي قُلُوبِهِمْ. وَقَالَ أَبُو مُسْلِمٍ: فَأَعْقَبَهُمْ أَيِ الْبُخْلُ وَالتَّوَلِّي وَالْإِعْرَاضُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نِفَاقَ كُفْرٍ، وَيَكُونَ تَقْرِيرُ ثَعْلَبَةَ بَعْدَ هَذَا النَّصِّ وَالْإِبْقَاءِ عَلَيْهِ لِمَكَانِ إِظْهَارِهِ الْإِسْلَامَ، وَتَعَلُّقِهِ بِمَا فِيهِ احْتِمَالٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نِفَاقَ مَعْصِيَةٍ وَقِلَّةِ اسْتِقَامَةٍ، فَيَكُونَ تَقْرِيرُهُ صَحِيحًا، وَيَكُونُ تَرْكُ قَبُولِ الزَّكَاةِ مِنْهُ عِقَابًا لَهُ وَنَكَالًا.
وَهَذَا نَحْوُ مَا رُوِيَ أَنَّ عَامِلًا كَتَبَ إِلَى عمر بن عبد العزيز أَنَّ فُلَانًا يَمْنَعُ الزَّكَاةَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ:
أَنْ دَعْهُ، وَاجْعَلْ عُقُوبَتَهُ أَنْ لَا يُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، يُرِيدُ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْمَقْتِ فِي ذَلِكَ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي: يَلْقَوْنَهُ، عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: يَلْقَوْنَ الْجَزَاءَ. فَقِيلَ:
جَزَاءَ بُخْلِهِمْ. وَقِيلَ: جَزَاءَ أَفْعَالِهِمْ.
وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ: يُكَذِّبُونَ بِالتَّشْدِيدِ. وَلَفْظَةُ: فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا، لَا تَدُلُّ وَلَا تُشْعِرُ بِأَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا، ثُمَّ لما بخل بالمال وَلَمْ يَفِ بِالْعَهْدِ صَارَ مُنَافِقًا كَمَا قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ، لِأَنَّ الْمُعَقَّبَ نِفَاقٌ مُتَّصِلٌ إِلَى وَقْتِ الْمُوَافَاةِ، فَهُوَ نِفَاقٌ مُقَيَّدٌ بِغَايَةٍ، وَلَا يَدُلُّ الْمُقَيَّدُ عَلَى انْتِفَاءِ الْمُطْلَقِ قَبْلَهُ. وَإِذَا كَانَ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى اللَّهِ فَلَا يَكُونُ اللِّقَاءُ مُتَضَمِّنًا رُؤْيَةَ اللَّهِ لِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَرَوْنَ اللَّهَ، فَالِاسْتِدْلَالُ بِاللِّقَاءِ عَلَى الرُّؤْيَةِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ «٢» لَيْسَ بِظَاهِرٍ،
وَلِقَوْلِهِ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ ليقطع حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ»
وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُنَا لَقِيَ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعِقَابِ.
أَلَمْ يَعْلَمُوا هَذَا اسْتِفْهَامٌ تَضَمَّنَ التَّوْبِيخَ وَالتَّقْرِيعَ.
وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالْحَسَنُ: تَعْلَمُوا بِالتَّاءِ،
وَهُوَ خِطَابٌ للمؤمنين على سبيل
(٢) سورة الأحزاب: ٣٣/ ٤٤.
التَّقْرِيرِ. وَأَنَّهُ تَعَالَى فَاضِحُ الْمُنَافِقِينَ، وَمُعْلِمُ الْمُؤْمِنِينَ أَحْوَالَهُمُ الَّتِي يَكْتُمُونَهَا شَيْئًا فَشَيْئًا سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ. هَذَا التَّقْسِيمُ عِبَارَةٌ عَنْ إِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ بِهِمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ فِي جَمِيعِ الْمُنَافِقِينَ مَنْ عَاهَدَ وَأَخْلَفَ وَغَيْرِهِمْ، وَخَصَّتْهَا فِرْقَةٌ بِمَنْ عَاهَدَ وَأَخْلَفَ. فَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ:
مَا أَسَرُّوهُ مِنَ النِّفَاقِ وَالْعَزْمِ عَلَى إِخْلَافِ مَا وَعَدُوهُ، وَمَا يَتَنَاجَوْنَ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنَ الْمَطَاعِنِ فِي الدِّينِ، وَتَسْمِيَةِ الصَّدَقَةِ جِزْيَةً، وَتَدْبِيرِ مَنْعِهَا. وَقِيلَ: أَشَارَ بِسِرِّهِمْ إِلَى مَا يُخْفُونَهُ مِنَ النِّفَاقِ، وَبِنَجْوَاهُمْ إِلَى مَا يُفِيضُونَ بِهِ بَيْنَهُمْ من تنقيص الرسول صلى الله عليه وسلم، وَتَعْيِيبِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَقِيلَ: سِرُّهُمْ مَا يُسَارُّ بِهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَنَجْوَاهُمْ مَا تَحَدَّثُوا بِهِ جَهْرًا بَيْنَهُمْ، وَهَذِهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ مُتَّفِقَةٌ فِي الْمَعْنَى.
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ: نَزَلَتْ فِيمَنْ عَابَ الْمُتَصَدِّقِينَ.
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَثَّ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَتَصَدَّقَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ وَأَمْسَكَ مِثْلَهَا، فَبَارَكَ لَهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَمْسَكَ وَفِيمَا أَعْطَى.
وَتَصَدَّقَ عُمَرُ بِنِصْفِ مَالِهِ، وَعَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ بِمِائَةِ وَسْقٍ، وَعُثْمَانُ بِصَدَقَةٍ عَظِيمَةٍ، وَأَبُو عَقِيلٍ الْأَرْلَشِيُّ بِصَاعِ تَمْرٍ، وَتَرَكَ لِعِيَالِهِ صَاعًا، وَكَانَ آجَرَ نَفْسَهُ لِسَقْيِ نَخِيلٍ بِهِمَا،
وَرَجُلٌ بِنَاقَةٍ عَظِيمَةٍ قَالَ: هِيَ وَذُو بَطْنِهَا صَدَقَةٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَلْقَى إِلَى الرَّسُولِ خِطَامُهَا فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: مَا تَصَدَّقَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رِيَاءً وَسُمْعَةً، وَمَا تَصَدَّقَ أَبُو عَقِيلٍ إِلَّا لِيُذْكَرَ مَعَ الْأَكَابِرِ، أَوْ لِيُذَكِّرَ بِنَفْسِهِ فَيُعْطَى مِنَ الصَّدَقَاتِ، وَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ صَاعِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَصَدَّقَ بِالنَّاقَةِ وَهِيَ خَيْرٌ مِنْهُ. وَكَانَ الرَّجُلُ أَقْصَرَ النَّاسِ قَامَةً وَأَشَدَّهُمْ سَوَادًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ الرَّسُولُ صَلَّى الله عليه وسلم وقال: قُلْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ، وَمِنْهَا يَقُولُهَا ثَلَاثًا.
وَأَصْلُ الْمُطَّوِّعِينَ الْمُتَطَوِّعِينَ، فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الطَّاءِ، وَهُمُ الْمُتَبَرِّكُونَ كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَغَيْرِهِ. وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ هُمْ مُنْدَرِجُونَ فِي الْمُطَّوِّعِينَ، ذُكِرُوا تَشْرِيفًا لَهُمْ، حَيْثُ مَا فَاتَتْهُمُ الصَّدَقَةُ بَلْ تَصَدَّقُوا بِالشَّيْءِ، وَإِنْ كَانُوا أَشَدَّ النَّاسِ حَاجَةً إِلَيْهِ، وَأَتْعَبَهُمْ فِي تَحْصِيلِ مَا تَصَدَّقُوا بِهِ كَأَبِي عَقِيلٍ، وَأَبِي خَيْثَمَةَ، وَكَانَ قَدْ لُمِزَ فِي التَّصَدُّقِ بِالْقَلِيلِ وَنُظِرَ أَيُّهُمَا. وَكَانَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الْمَعْطُوفَ فِي هَذَا وَشَبَهِهِ لَمْ يَنْدَرِجْ فِيمَا عُطِفَ عَلَيْهِ قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يَسُوغُ عَطْفُ الشَّيْءِ عَلَى مِثْلِهِ. وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ فِي وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ، وَفِي قَوْلِهِ: فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ «١» وَإِلَى هَذَا كَانَ يَذْهَبُ تلميذه
ابْنُ جِنِّيٍّ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ عَلَى خِلَافِهِمَا. وَتَسْمِيَةُ بَعْضِهِمُ التَّجْرِيدَ، جُرِّدُوا بِالذِّكْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ
«١».
وَقَرَأَ ابْنُ هُرْمُزَ وَجَمَاعَةٌ: جَهْدَهُمْ بِالْفَتْحِ. فَقِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالَ الْقُتَبِيُّ بِالضَّمِّ الطَّاقَةُ، وَبِالْفَتْحِ الْمَشَقَّةُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: بِالضَّمِّ الْقُوتُ، وَبِالْفَتْحِ فِي الْعَمَلِ. وَقِيلَ: بِالضَّمِّ شَيْءٌ قَلِيلٌ يُعَاشُ بِهِ. وَالْأَحْسَنُ فِي الْإِعْرَابِ أَنْ يَكُونَ الذين يلمزون مبتدأ، وفي الصدقات متعلق بيلمزون، وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُطَّوِّعِينَ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يلمزون الأغنياء وغيرهم. وفيسخرون معطوف على يلمزون، وسخر اللَّهُ مِنْهُمْ وَمَا بَعْدَهُ خَبَرٌ عَنْ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ. وَذَكَرَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ، مَعْطُوفٌ عَلَى الَّذِينَ يَلْمِزُونَ، وَهَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ، لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الْمُبْتَدَأِ مُشَارِكٌ لَهُ فِي الْخَبَرِ، وَلَا يمكن مشاركة الذين لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ مَعَ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ إِلَّا إن كانوا مثلهم نافقين. قال: وقيل: وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا. قَالَ: وَخَبَرُ الْأَوَّلِ عَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا فَيَسْخَرُونَ. وَدَخَلَتِ الْفَاءُ لِمَا فِي الَّذِينَ مِنَ التَّشْبِيهِ بِالشَّرْطِ انْتَهَى هَذَا الْوَجْهُ. وَهَذَا بَعِيدٌ، لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ يَكُونُ الْخَبَرُ كَأَنَّهُ مَفْهُومٌ مِنَ الْمُبْتَدَأِ، لِأَنَّ مَنْ عَابَ وَغَمَزَ أَحَدًا هُوَ سَاخِرٌ مِنْهُ، فَقَرُبَ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ سَيِّدُ الْجَارِيَةِ مَالِكُهَا، وَهُوَ لَا يَجُوزُ. قَالَ:
وَالثَّانِي: أَنَّ الْخَبَرَ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ، قَالَ: وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ سَخِرَ، تَقْدِيرُهُ عَابَ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ. وَقِيلَ: الْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: مِنْهُمُ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ أَيْضًا: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي الْمُطَّوِّعِينَ، وفي الصدقات متعلق بيلمزون، ولا يتعلق بالمطوعين لِئَلَّا يُفْصَلَ بَيْنَهُمَا بِأَجْنَبِيٍّ انْتَهَى. وَلَيْسَ بِأَجْنَبِيٍّ لِأَنَّهُ حَالٌ كَمَا قُرِّرَ، وَإِذَا كَانَ حَالًا جَازَ الْفَصْلُ بِهَا بَيْنَ الْعَامِلِ فِيهَا، وَبَيْنَ الْمَعْمُولِ أُخِّرَ، لِذَلِكَ الْعَامِلُ نَحْوُ: جَاءَنِي الَّذِي يَمُرُّ رَاكِبًا بِزَيْدٍ. وَالسُّخْرِيَةُ:
الِاسْتِهْزَاءُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ خَبَرٌ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَيُرَجِّحُهُ عَطْفُ الْخَبَرِ عَلَيْهِ.
وَقِيلَ: صِيغَتُهُ خَبَرٌ، وَمَعْنَاهُ الدُّعَاءُ. وَلَمَّا قَالَ: فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ قَالَ: سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَابَلَةِ، وَمَعْنَاهُ: أَمْهَلَهُمْ حَتَّى ظَنُّوا أَنَّهُ أَهْمَلَهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ هَذَا فِي الْخُرُوجِ إِلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ. وَقِيلَ: مَعْنَى سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ جَازَاهُمْ عَلَى سُخْرِيَتِهِمْ، وَجَزَاءُ الشَّيْءِ قَدْ يُسَمَّى بَاسِمِ الشَّيْءِ كَقَوْلِهِ: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «٢» قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تَسْمِيَةٌ لِلْعُقُوبَةِ بِاسْمِ الذَّنْبِ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَمَّا حَلَّ بِهِمْ مِنَ الْمَقْتِ وَالذُّلِّ فِي نُفُوسِهِمْ انْتَهَى. وَهُوَ
(٢) سورة الشورى: ٤٢/ ٤٠.
قَرِيبٌ مِنَ الْقَوْلِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَقَالَ الْأَصَمُّ: أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْبَلَ مَعَاذِيرَهُمُ الْكَاذِبَةَ فِي الظَّاهِرِ، وَوَبَالُ فِعْلِهِمْ عَلَيْهِمْ كَمَا هُوَ، فَكَأَنَّهُ سَخِرَ مِنْهُمْ وَلِهَذَا قَالَ: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَهُوَ عَذَابُ الْآخِرَةِ الْمُقِيمُ انْتَهَى. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ لَمْزَ الْمُؤْمِنِ وَالسُّخْرِيَةَ مِنْهُ مِنَ الْكَبَائِرِ، لِمَا يَعْقُبُهُمَا مِنَ الْوَعِيدِ.
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ:
سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِأَبِيهِ فِي مَرَضِهِ فَفَعَلَ، فَنَزَلَتْ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ رُخِّصَ لِي فَأَزِيدُ عَلَى السَّبْعِينَ» فَنَزَلَتْ سَوَاءٌ عليهم أستغفرت لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ.
وَقِيلَ: لَمَّا نَزَلَ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، سَأَلُوا الرَّسُولَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُمْ فَنَزَلَتْ.
وَعَلَى هَذَا فَالضَّمَائِرُ عَائِدَةٌ عَلَى الَّذِينَ سَبَقَ ذِكْرَهُمْ، أَوْ عَلَى جَمِيعِ الْمُنَافِقِينَ قَوْلَانِ.
وَالْخِطَابُ بِالْأَمْرِ لِلرَّسُولِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْكَلَامِ التَّخْيِيرُ، وَهُوَ الَّذِي
رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ قَالَ لَهُ عُمَرُ: كيف تستغفروا لِعَدُوِّ اللَّهِ وَقَدْ نَهَاكَ اللَّهُ عَنِ الِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ؟
فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا نَهَانِي وَلَكِنَّهُ خَيَّرَنِي» فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنْ شِئْتَ فَاسْتَغْفِرْ، وَإِنْ شِئْتَ فَلَا تَسْتَغْفِرْ، ثُمَّ أَعْلَمَهُ أَنَّهُ لَا يُغْفَرُ لَهُمْ وَإِنِ اسْتَغْفَرَ سَبْعِينَ مَرَّةً.
وَقِيلَ: لَفْظُهُ أَمْرٌ وَمَعْنَاهُ الشَّرْطُ، بِمَعْنَى إِنِ اسْتَغْفَرْتَ أَوْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ، فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِ: قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ «١» وَبِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
أَسِيئِي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لَا مَلُومَةً | لَدَيْنَا وَلَا مَقْلِيَّةً إِنْ تَقَلَّتِ |
(٢) سورة التوبة: ٩/ ٥٣.
(٣) سورة التوبة: ٩/ ٥٣.
(٤) سورة مريم: ١٩/ ٧٥. [.....]
أسيئي بنا أو أحسبني لا ملومة أي: لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمُ اسْتَغْفَرْتَ لهم أو لا تستغفر لَهُمْ، وَلَا نَلُومُكَ أَحْسَنْتِ إِلَيْنَا أَوْ أَسَأْتِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَتَى يَجُوزُ نَحْوُ هَذَا؟ قُلْتُ: إِذَا دَلَّ الْكَلَامُ عَلَيْهِ كَمَا كَانَ فِي قَوْلِكَ: غَفَرَ اللَّهُ لِزَيْدٍ وَرَحِمَهُ (فَإِنْ قُلْتَ) : لِمَ فَعَلَ ذَلِكَ؟ (قُلْتُ) : لِنُكْتَةٍ وَهِيَ أَنَّ كَثِيرًا كَأَنَّهُ يَقُولُ لِعَزَّةَ: امْتَحِنِي لُطْفَ مَحَلِّكِ عِنْدِي، وَقُوَّةَ مَحَبَّتِي لَكِ، وَعَامِلِينِي بِالْإِسَاءَةِ وَالْإِحْسَانِ، وَانْظُرِي هَلْ تَتَفَاوَتُ حَالِي مَعَكِ مُسِيئَةً كُنْتِ أَوْ مُحْسِنَةً. وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُ الْقَائِلِ:
أُحَوِّلُ الَّذِي إِنْ قُمْتَ بِالسَّيْفِ عَامِدًا | لِتَضْرِبَهُ لَمْ يَسْتَغْشِكَ فِي الْوُدِّ |
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَغْفَرَ لِابْنِ سَلُولَ وَكَسَاهُ ثَوْبَهُ، وَصَلَّى عَلَيْهِ، أَسْلَمَ أَلْفٌ مِنَ الْخَزْرَجِ لَمَّا رَأَوْهُ يَطْلُبُ الِاسْتِشْفَاءَ بِثَوْبِ الرَّسُولِ، وَكَانَ رَأْسَ الْمُنَافِقِينَ وَسَيِّدَهُمْ.
وَقِيلَ: فَعَلَ ذَلِكَ تَطْيِيبًا لِقَلْبِ وَلَدِهِ وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ.
وَقِيلَ: كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَسْأَلُونَ الرَّسُولَ صَلَّى الله عليه وسلم أن يَسْتَغْفِرَ لِقَوْمِهِمُ الْمُنَافِقِينَ فِي حَيَاتِهِمْ رَجَاءَ أَنْ يُخْلِصُوا فِي إِيمَانِهِمْ، وَبَعْدَ مَمَاتِهِمْ رَجَاءَ الْغُفْرَانِ، فَنَهَاهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وَأَيْأَسَهُمْ مِنْهُ، وَقَدْ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الرَّسُولَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِأَبِيهِ رَجَاءَ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُ.
وَقِيلَ: إِنَّمَا اسْتَغْفَرَ لِقَوْمٍ مِنْهُمْ عَلَى ظَاهِرِ إِسْلَامِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحَقِّقَ خُرُوجَهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَرَدَّ هَذَا الْقَوْلَ بِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِكُفْرِهِمْ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: الْأَقْرَبُ فِي تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا مَا ذَكَرَهُ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَلْمِزُونَ هُمُ الَّذِينَ طَلَبُوا الِاسْتِغْفَارَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَغَلَ بِالِاسْتِغْفَارِ فَنَهَاهُ عَنْهُ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُنَافِقَ كَافِرٌ، وَقَدْ ظَهَرَ فِي شَرْعِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ لِلْكَافِرِ لَا يَجُوزُ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالِاقْتِدَاءِ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ إِلَّا فِي قَوْلِهِ:
لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَإِذَا كَانَ هَذَا مَشْهُورًا فِي الشَّرْعِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ؟ الثَّانِي: أَنَّ اسْتِغْفَارَ الْغَيْرِ لِلْغَيْرِ لَا يَنْفَعُهُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ مُصِرًّا عَلَى الْقَبِيحِ وَالْمَعْصِيَةِ. الثَّالِثُ: أَنَّ صفحة رقم 471
إقدامه على الاستغفار للمنافقين يَجْرِي مَجْرَى إِغْرَائِهِمْ بِالْإِقْدَامِ عَلَى الذَّنْبِ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ لَا يُجِيبُهُ بَقِيَ دُعَاءُ الرَّسُولِ مَرْدُودًا عِنْدَ اللَّهِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ نُقْصَانَ مَنْصِبِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْخَامِسُ: أَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ لَوْ كَانَ مَقْبُولًا مِنَ الرَّسُولِ لَكَانَ قَلِيلُهُ مِثْلَ كَثِيرِهِ فِي حُصُولِ الْإِجَابَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا طَلَبُوا منه أن يستغفر لهم مَنَعَهُ اللَّهُ مِنْهُ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْعَدَدِ تَحْدِيدَ الْمَنْعِ، بَلْ هُوَ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ: إِنْ سَأَلَهُ حَاجَةً لَوْ سَأَلْتَنِي سَبْعِينَ مَرَّةً لَمْ أَقْضِهَا لَكَ لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا زَادَ قَضَاهَا، فَكَذَا هَاهُنَا.
وَالَّذِي يُؤَكِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا. فَبَيَّنَ أَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي لِأَجْلِهَا لَا يَنْفَعُهُمُ اسْتِغْفَارُ الرَّسُولِ لَهُمْ، وَإِنْ بَلَغَ سَبْعِينَ مَرَّةً، هِيَ كُفْرُهُمْ وَفِسْقُهُمْ. وَهَذَا الْمَعْنَى قَائِمٌ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى السَّبْعِينَ، فَصَارَ هَذَا الْقَلِيلُ شَاهِدًا بِأَنَّ الْمُرَادَ إِزَالَةُ الطَّمَعِ أَنْ يَنْفَعَهُمُ اسْتِغْفَارُ الرَّسُولِ مَعَ إِصْرَارِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَيُؤَكِّدُ: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ فِسْقَهُمْ مَانِعٌ مِنَ الْهِدَايَةِ، فَثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: السَّبْعُونَ هُنَا جَمْعُ السَّبْعَةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ لِلْكَثْرَةِ، لَا السَّبْعَةِ الَّتِي فَوْقَ السِّتَّةِ انْتَهَى. وَالْعَرَبُ تَسْتَكْثِرُ فِي الْآحَادِ بِالسَّبْعَةِ، وَفِي الْعَشَرَاتِ بِالسَّبْعِينَ، وَفِي الْمِئِينَ بِسَبْعِمِائَةٍ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالسَّبْعُونَ جَارٍ مَجْرَى الْمَثَلِ فِي كَلَامِهِمْ لِلتَّكْثِيرِ.
قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ:
لَأُصَبِّحَنَّ الْعَاصِ وَابْنَ الْعَاصِي | سَبْعِينَ أَلْفًا عَاقِدِي النَّوَاصِي |
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ: إِنَّ التَّصْرِيفَ الَّذِي يَكُونُ مِنَ السِّينِ وَالْبَاءِ وَالْعَيْنِ شَدِيدُ الْأَمْرِ مِنْ ذَلِكَ السَّبْعَةِ، فَإِنَّهَا عَدَدٌ مُقْنِعٌ هي في السموات وَفِي الْأَرْضِ، وَفِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ، وَفِي بَدَنِهِ، وَفِي أَعْضَائِهِ الَّتِي بِهَا يُطِيعُ اللَّهَ، وَبِهَا يَعْصِيهِ، وَبِهَا تَرْتِيبُ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ فِيمَا ذَكَرَ بَعْضُ النَّاسِ، وَهِيَ: عَيْنَاهُ، وَأُذُنَاهُ، وَأَسْنَانُهُ، وَبَطْنُهُ، وَفَرْجُهُ، وَيَدَاهُ، وَرِجْلَاهُ. وَفِي سِهَامِ الْمَيْسِرِ، وَفِي الْأَقَالِيمِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ وَمِنْ ذَلِكَ السَّبْعِ الْعُبُوسُ، وَالْعَنْبَسُ، وَنَحْوَ هَذَا مِنَ الْقَوْلِ انْتَهَى وَاسْتَدَلَّ الْقَائِلُونَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ وَأَنَّ التَّخْصِيصَ بِالْعَدَدِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ بِخِلَافِهِ بِمَا
رَوِيَ أَنَّهُ قَالَ: «وَاللَّهِ لَأَزِيدَنَّ عَلَى السَّبْعِينَ»
وَلَمْ يَنْصَرِفْ حَتَّى نَزَلَ:
سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ «١» فَكَفَّ عَنْهُ. قِيلَ:
وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ بِالْعَكْسِ أَوْلَى، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ لَهُمُ أَلْبَتَّةَ ثَبَتَ أَنَّ الْحَالَ فِيمَا وَرَاءَ الْعَدَدِ مُسَاوٍ لِلْحَالِ فِي الْعَدَدِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْعَدَدِ لَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْحَكَمُ فِيمَا رَآهُ بِخِلَافِهِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : كَيْفَ خَفِيَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَفْصَحُ الْعَرَبِ وَأَخْبَرُهُمْ بِأَسَالِيبِ الْكَلَامِ وَتَمْثِيلَاتِهِ، وَالَّذِي يُفْهَمُ مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْعَدَدِ كَثْرَةُ الِاسْتِغْفَارِ كَيْفَ؟
وَقَدْ تَلَاهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا الْآيَةَ، فَبَيَّنَ الصَّارِفَ عَنِ الْمَغْفِرَةِ لَهُمْ حَتَّى
قَالَ: «رَخَّصَ لِي رَبِّي فَأَزِيدُ عَلَى السَّبْعِينَ» ؟
(قُلْتُ) : لَمْ يخف عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ خُيِّلَ بِمَا قَالَ إِظْهَارًا لِغَايَةِ رَحْمَتِهِ وَرَأْفَتِهِ عَلَى مَنْ بُعِثَ إِلَيْهِ كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «١» وَفِي إِظْهَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّأْفَةَ وَالرَّحْمَةَ لُطْفٌ لِأُمَّتِهِ، وَدُعَاءٌ لَهُمْ إِلَى تَرَحُّمِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ انْتَهَى. وَفِي هَذَا السُّؤَالِ وَالْجَوَابِ. غَضٌّ مِنْ مَنْصِبِ النُّبُوَّةِ، وَسُوءُ أَدَبٍ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَنِسْبَتُهُ إِلَيْهِمْ مَا لَا يَلِيقُ بِهِمْ. وَإِذَا
كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَمْ يَكُنْ لِنَبِيٍّ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ»
أَوْ كَمَا قَالَ: وَهِيَ الْإِشَارَةُ، فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ النُّطْقُ بِشَيْءٍ عَلَى سَبِيلِ التَّحْيِيلِ؟
حَاشَا مَنْصِبَ الْأَنْبِيَاءِ عَنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ هَذَا الرَّجُلَ مُسَرِّحُ الْأَلْفَاظِ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ بِمَا لَا يَلِيقُ بِحَالِهِمْ، وَلَقَدْ تَكَلَّمَ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ «٢» بِكَلَامٍ فِي حَقِّ الرَّسُولِ نَزَّهْتُ كِتَابِي هَذَا أَنْ أَنْقُلَهُ فِيهِ، وَاللَّهَ تَعَالَى يَعْصِمُنَا مِنَ الزَّلَلِ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى انْتِفَاءِ الْغُفْرَانِ وَتَبْيِينُ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِذَلِكَ، وَانْتِفَاءُ هِدَايَةِ اللَّهِ الْفَاسِقِينَ هُوَ لِلَّذِينَ حَتَمَ لَهُمْ بِذَلِكَ، فَهُوَ عَامٌّ مَخْصُوصٌ.
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا ظَهَرَ مِنَ النِّفَاقِ وَالْهُزْءِ مِنَ الَّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ إِلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، ذَكَرَ حَالَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ لَمْ يَخْرُجُوا مَعَهُ وَتَخَلَّفُوا عَنِ الْجِهَادِ، وَاعْتَذَرُوا بِأَعْذَارٍ وَعِلَلٍ كَاذِبَةٍ، حَتَّى أَذِنَ لَهُمْ، فَكَشَفَ اللَّهُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَحْوَالِهِمْ وَأَعْلَمَهُ بِسُوءِ فِعَالِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ الْآيَةَ: أَيْ: عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ. وَكَانَ الرَّسُولُ قَدْ خَلَّفَهُمْ بِالْمَدِينَةِ لَمَّا اعْتَذَرُوا، فَأَذِنَ لَهُمْ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي التَّوْبِيخَ وَالْوَعِيدَ. وَلَفْظَةُ الْمُخَلَّفُونَ تَقْتَضِي الذم والتحقير، ولذلك
(٢) سورة التوبة: ٩/ ٤٣.
جَاءَ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ، وَهِيَ أَمْكَنُ مِنْ لَفْظَةِ الْمُتَخَلِّفِينَ، إِذْ هُمْ مَفْعُولٌ بِهِمْ ذَلِكَ، وَلَمْ يَفْرَحْ إِلَّا مُنَافِقٌ فَخَرَجَ مِنْ ذَلِكَ الثَّلَاثَةُ وَأَصْحَابُ الْعُذْرِ. وَلَفْظُ الْمُقْعَدِ يَكُونُ لِلزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَالْمَصْدَرِ وَهُوَ هُنَا لِلْمَصْدَرِ أَيْ: بِقُعُودِهِمْ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِقَامَةِ بِالْمَدِينَةِ. وَانْتَصَبَ خِلَافَ عَلَى الظَّرْفِ، أَيْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَالُ: فُلَانٌ أَقَامَ خِلَافَ الْحَيِّ، أَيْ بَعْدَهُمْ. إِذَا ظَعَنُوا وَلَمْ يَظْعَنْ مَعَهُمْ. قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ، وَالْأَخْفَشُ، وَعِيسَى بْنُ عَمْرٍو. قَالَ الشَّاعِرُ:
عَقَبَ الربيع خلافهم فكأنما | بسط السواطب بَيْنَهُنَّ حَصِيرًا |
فَقُلْ لِلَّذِي يَبْغِي خِلَافَ الَّذِي مَضَى | تَأَهَّبْ لِأُخْرَى مِثْلِهَا وَكَأَنْ قَدِ |
وَكَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ فِي وَقْتِ شِدَّةِ الْحَرِّ وَطِيبِ الثِّمَارِ وَالظِّلَالِ، فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا، أَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُ قِيلَ لَهُمْ: إِذَا كُنْتُمْ تَجْزَعُونَ مِنْ حَرِّ الْقَيْظِ، فَنَارُ جَهَنَّمَ الَّتِي هِيَ أَشَدُّ أَحْرَى أَنْ تَجْزَعُوا مِنْهَا لَوْ فَقِهْتُمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا اسْتِجْهَالٌ لَهُمْ، لِأَنَّ مَنْ تَصَوَّنَ مِنْ مَشَقَّةِ سَاعَةٍ فَوَقَعَ بِذَلِكَ التَّصَوُّنِ فِي مَشَقَّةِ الْأَبَدِ كَانَ أَجْهَلَ مِنْ كُلِّ جَاهِلٍ. وَلِبَعْضِهِمْ:
مَسَرَّةُ أَحْقَادٍ تَلَقَّيْتُ بَعْدَهَا | مَسَاءَةَ يوم إربها شِبْهَ الصَّابِ |
فَكَيْفَ بِأَنْ تَلْقَى مَسَرَّةَ سَاعَةٍ | وَرَاءَ تَقَضِّيهَا مَسَاءَةَ أَحْقَابِ |
رُوِيَ أَنَّ أَهْلَ النِّفَاقِ يَكُونُونَ فِي النَّارِ عُمْرَ الدُّنْيَا، لَا يَرْقَأُ لَهُمْ دَمْعٌ، وَلَا يَكْتَحِلُونَ بِنَوْمٍ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا إِشَارَةٌ إِلَى مُدَّةِ الْعُمُرِ فِي الدُّنْيَا، وَلْيَبْكُوا كثيرا إشارة إلى تأييد الْخُلُودِ، فَجَاءَ بِلَفْظِ الْأَمْرِ وَمَعْنَاهُ الْخَبَرُ عَنْ حَالِهِمْ. قال ابن عطية: ويحتمل أَنْ تَكُونَ صِفَةَ حَالِهِمْ أَيْ: هُمْ لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الحظر مَعَ اللَّهِ وَسُوءِ الْحَالِ، بِحَيْثُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ ضَحِكُهُمْ قَلِيلًا وَبُكَاؤُهُمْ كَثِيرًا مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ وَقْتَ الضَّحِكِ وَالْبُكَاءِ فِي الدُّنْيَا نَحْوُ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لأمته: «لو يعلمون مَا أَعْلَمُ لَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَلَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا»
وَانْتَصَبَ قَلِيلًا وكثيرا عَلَى الْمَصْدَرِ، لِأَنَّهُمَا نَعْتٌ لِلْمَصْدَرِ أَيْ: ضَحِكًا قَلِيلًا وَبُكَاءً كَثِيرًا. وَهَذَا مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُحْذَفُ فِيهَا الْمَنْعُوتُ، وَيَقُومُ نَعْتُهُ مَقَامَهُ، وَذَلِكَ لِدَلَالَةِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا نَعْتًا لِظَرْفٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: زَمَانًا قَلِيلًا، وَزَمَانًا كَثِيرًا انْتَهَى. وَالْأَوَّلُ أَجْوَدُ، لِأَنَّ دَلَالَةَ الْفِعْلِ عَلَى الْمَصْدَرِ بِحُرُوفِهِ وَدَلَالَتُهُ عَلَى الزَّمَانِ بِهَيْئَتِهِ، فَدَلَالَتُهُ عَلَى الْمَصْدَرِ أَقْوَى. وَانْتَصَبَ جَزَاءً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا.
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ: الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ وَالْمَعْنَى: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ مِنْ سَفَرِكَ هَذَا وَهُوَ غَزْوَةُ تَبُوكَ. قِيلَ: وَدُخُولُ إِنْ هُنَا وَهِيَ لِلْمُمْكِنِ وُقُوعُهُ غَالِبًا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَعْلَمُ بِمُسْتَقْبَلَاتِ أَمْرِهِ مِنْ أَجَلٍ وَغَيْرِهِ، إِلَّا أَنْ يُعْلِمَهُ اللَّهُ، صفحة رقم 475
وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ولَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ «١» قَالَ نَحْوَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ، إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ مَاتَ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَابَ وَنَدِمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَخَلَّفَ لِعُذْرٍ صَحِيحٍ. فَالطَّائِفَةُ هُنَا الَّذِينَ خَلَصُوا فِي النِّفَاقِ وَثَبَتُوا عَلَيْهِ هَكَذَا قِيلَ. وَإِذَا كَانَ الضَّمِيرُ فِي مِنْهُمْ عَائِدًا عَلَى الْمُخَلَّفِينَ الَّذِينَ خَرَجُوا وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا، فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ ذِكْرَ الطَّائِفَةِ هُوَ لِأَجْلِ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ مَاتَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الطَّائِفَةُ قَدْ حُتِّمَ عَلَيْهَا بِالْمُوَافَاةِ عَلَى النِّفَاقِ، وَعُيِّنُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِلَّا فَكَيْفَ يَتَرَتَّبُ عَلَى أن يُصَلِّيَ عَلَى مَوْتَاهُمْ إِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُمْ. وَقَوْلُهُ: وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ، نَصٌّ فِي مُوَافَاتِهِمْ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَيَّنَهُمْ لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، وَكَانَتِ الصَّحَابَةُ إِذَا رَأَوْا حُذَيْفَةَ تَأَخَّرَ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى جِنَازَةِ رَجُلٍ تَأَخَّرُوا هُمْ عَنْهَا. وَرُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا: بَقِيَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَذَا وَكَذَا. وَقَالَ له عمرو بْنُ الْخَطَّابِ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ أَنَا مِنْهُمْ؟ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ، لَا أَمَّنْتُ مِنْهَا أَحَدًا بَعْدَكَ. وَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ هُوَ عُقُوبَةٌ لَهُمْ وَإِظْهَارٌ لِدَنَاءَةِ مَنْزِلَتِهِمْ وَسُوءِ حَالِهِمْ، وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ فِي قِصَّةِ ثَعْلَبَةَ بْنِ حَاطِبٍ الَّتِي تَقَدَّمَتْ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ أَخْذِ صَدَقَتِهِ، وَلَا خِزْيَ أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يَكُونَ إِنْسَانٌ قَدْ رَفَضَهُ الشَّرْعُ وَرَدَّهُ كَالْجَمَلِ الْأَجْرَبِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ يَعْنِي إِلَى غَزْوَةٍ بَعْدَ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَكَانَ إِسْقَاطُهُمْ مِنْ دِيوَانِ الْغُزَاةِ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى تَخَلُّفِهِمُ الَّذِي عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يَدْعُهُمْ إِلَيْهِ إِلَّا النِّفَاقُ، بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ مِنَ الْمُخَلَّفِينَ انْتَهَى. وَانْتَقَلَ بِالنَّفْيِ مِنَ الشَّاقِّ عَلَيْهِمْ وَهُوَ الْخُرُوجُ إِلَى الْغَزَاةِ، إِلَى الْأَشَقِّ وَهُوَ قِتَالُ الْعَدُوِّ، لِأَنَّهُ عِظَمُ الْجِهَادِ وَثَمَرَةُ الْخُرُوجِ وَمَوْضِعُ بَارِقَةِ السُّيُوفِ الَّتِي تَحْتَهَا الْجَنَّةُ، ثُمَّ عَلَّلَ انْتِفَاءَ الْخُرُوجِ وَالْقِتَالِ بِكَوْنِهِمْ رَضُوا بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، ورضاهم ناشىء عَنْ نِفَاقِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وَخِدَاعِهِمْ وَعِصْيَانِهِمْ أَمْرَ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا «٢» وَقَالُوا هُمْ: لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ، فَعَلَّلَ بِالْمُسَبَّبِ وَهُوَ الرِّضَا النَّاشِئُ عَنِ السبب وهو النفاق.
وأول مَرَّةٍ هِيَ الْخَرْجَةُ إِلَى غزوة تبوك، ومرة مصدر كأنه قيل: أو خَرْجَةٍ دُعِيتُمْ إِلَيْهَا، لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ أَوَّلَ خَرْجَةٍ خَرَجَهَا الرَّسُولُ لِلْغَزَاةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِهَا، إِذِ الْأَوَّلِيَّةُ تَقْتَضِي السَّبْقَ.
وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ أَوَّلَ خَرْجَةٍ خَرَجَهَا الرَّسُولُ لِغَزْوَةِ الرُّومِ بِنَفْسِهِ. وَقِيلَ: أَوَّلَ مَرَّةٍ قَبْلَ الِاسْتِئْذَانِ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: أَوَّلَ مَرَّةٍ ظَرْفٌ، وَنَعْنِي ظَرْفَ زَمَانٍ، وَهُوَ بَعِيدٌ.
(٢) سُورَةِ التَّوْبَةِ: ٩/ ٤١.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : مَرَّةٍ نَكِرَةٌ وُضِعَتْ مَوْضِعَ الْمَرَّاتِ لِلتَّفْضِيلِ، فَلِمَ ذُكِرَ اسْمُ التَّفْضِيلِ الْمُضَافُ إِلَيْهَا وَهُوَ دَالٌّ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَرَّاتِ؟ (قُلْتُ) : أَكْثَرُ اللُّغَتَيْنِ هِنْدُ.
أَكْبَرُ النِّسَاءِ، وَهِيَ أَكْبَرُهُنَّ. ثُمَّ إِنَّ قَوْلَكَ هِيَ كُبْرَى امْرَأَةٍ لَا تَكَادُ تَعْثُرُ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ هِيَ أَكْبَرُ امْرَأَةٍ، وَأَوَّلُ مَرَّةٍ، وَآخِرُ مَرَّةٍ انْتَهَى. فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ أَيْ: أَقِيمُوا، وَلَيْسَ أَمْرًا بِالْقُعُودِ الَّذِي هُوَ نَظِيرَ الْجُلُوسِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مَنْعُهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ مَعَهُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْخَالِفُ الَّذِي خَلَفَ بَعْدَ خَارِجٍ فَقَعَدَ فِي رَحْلِهِ، وَهُوَ الَّذِي يَتَخَلَّفُ عَنِ الْقَوْمِ. وَقِيلَ: الْخَالِفِينَ الْمُخَالِفِينَ مِنْ قَوْلِهِمْ: عَبْدٌ خَالِفٌ أَيْ: مُخَالِفٌ لِمَوْلَاهُ. وَقِيلَ: الْأَخِسَّاءُ الْأَدْنِيَاءُ مِنْ قَوْلِهِمْ:
فُلَانٌ خَالِفَةُ قَوْمِهِ لِأَخَسِّهِمْ وَأَرْذَلِهِمْ. وَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى تَوَقِّي صُحْبَةِ مَنْ يَظْهَرُ مِنْهُ مَكْرٌ وَخِدَاعٌ وَكَيْدٌ، وَقَطْعِ الْعَلَقَةِ بَيْنَهُمَا، وَالِاحْتِرَازِ مِنْهُ. وَعَنْ قَتَادَةَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُمْ كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْخَالِفُونَ جَمِيعُ مَنْ تَخَلَّفَ مِنْ نِسَاءٍ وَصِبْيَانٍ وَأَهْلِ عُذْرٍ. غُلِّبَ الْمُذَكَّرُ، فَجُمِعَ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ، وَإِنْ كَانَ ثَمَّ نِسَاءٌ وَهُوَ جَمْعُ خَالِفٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْخَالِفُونَ النِّسَاءُ، وَهَذَا مَرْدُودٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الرِّجَالُ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ فِي الْحَالَتَيْنِ أَنْ يُرِيدَ الْفَاسِدِينَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مَأْخُوذًا مِنْ خَلَفَ الشَّيْءُ إِذَا فَسَدَ، وَمِنْهُ خُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ. وَقَرَأَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ وعكرمة: مع الخلفين، وَهُوَ مَقْصُورٌ مِنْ الْخَالِفِينَ كَمَا قَالَ:
عِدَدًا وَبِدَدًا يُرِيدُ عَادِدًا وَبَادِدًا، وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ:
مِثْلُ النَّقَى لَبَّدَهُ ضَرْبُ الظُّلَلْ يُرِيدُ الظِّلَالَ.
وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ: النَّهْيُ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ إِذَا مَاتُوا عُقُوبَةٌ ثَانِيَةٌ وَخِزْيٌ مُتَأَبَّدٌ عَلَيْهِمْ. وَكَانَ فِيمَا
رُوِيَ يُصَلِّي عَلَى الْمُنَافِقِينَ إِذَا مَاتُوا، وَيَقُومُ عَلَى قُبُورِهِمْ بِسَبَبِ مَا يُظْهِرُونَهُ مِنَ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَلَفَّظُونَ بِكَلِمَتِيِ الشَّهَادَةِ، وَيُصَلُّونَ، وَيَصُومُونَ، فَبَنَى الْأَمْرَ عَلَى مَا ظَهَرَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى وَقَعَتْ وَاقِعَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ.
وَطَوَّلَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ فِي قِصَّتِهِ،
فَتَظَافَرَتِ الرِّوَايَاتُ أَنَّهُ صَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَرَوَى أَنَسٌ أَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ جَاءَهُ جِبْرِيلُ فَجَذَبَهُ بِثَوْبِهِ وَتَلَا عَلَيْهِ: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا، فَانْصَرَفَ وَلَمْ يُصَلِّ.
وَذَكَرُوا مُحَاوَرَةَ عُمَرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَاءَ ليصلي عليه. ومات صفة لا حد،
فَقُدِّمَ الْوَصْفُ بِالْمَجْرُورِ ثُمَّ بِالْجُمْلَةِ، وَهُوَ مَاضٍ بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَلِ، لِأَنَّ الْمَوْتَ غَيْرُ مَوْجُودٍ لَا مَحَالَةَ. نَهَاهُ اللَّهُ عَنِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَالْقِيَامِ عَلَى قَبْرِهِ وَهُوَ الْوُقُوفُ عِنْدَ قَبْرِهِ حَتَّى يُفْرَغَ مِنْ دَفْنِهِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَلَا تَتَوَلَّوْا دَفْنَهُ وَقَبْرَهُ، فَالْقَبْرُ مَصْدَرٌ.
كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دُفِنَ الْمَيِّتُ وَقَفَ عَلَى قَبْرِهِ وَدَعَا لَهُ، فَنُهِيَ عَنْ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُنَافِقِينَ، فَلَمْ يُصَلِّ بَعْدُ عَلَى مُنَافِقٍ، وَلَا قَامَ عَلَى قَبْرِهِ.
إِنَّهُمْ كَفَرُوا تَعْلِيلٌ لِلْمَنْعِ مِنَ الصَّلَاةِ وَالْقِيَامِ بِمَا يَقْتَضِي الِامْتِنَاعَ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ الْكُفْرُ وَالْمُوَافَاةُ عَلَيْهِ.
وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ: تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ وَأُعِيدَ ذَلِكَ لِأَنَّ تَجَدُّدَ النُّزُولِ لَهُ شَأْنٌ فِي تَقْرِيرِ مَا نَزَلَ لَهُ وَتَأْكِيدِهِ، وَإِرَادَةِ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَالٍ مِنَ الْمُخَاطَبِ لَا يَنْسَاهُ وَلَا يَسْهُو عَنْهُ، وَأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الْعَمَلَ بِهِ مُهِمٌّ يَفْتَقِرُ إِلَى فَضْلِ عِنَايَةٍ بِهِ، لَا سِيَّمَا إِذَا تَرَاخَى مَا بَيْنَ النُّزُولَيْنِ. فَأَشْبَهَ الشَّيْءَ الَّذِي أَهَمَّ صَاحِبَهُ، فَهُوَ يَرْجِعُ إِلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ حَدِيثِهِ، وَيَتَخَلَّصُ إِلَيْهِ. وَإِنَّمَا أُعِيدَ هَذَا الْمَعْنَى لِقُوَّتِهِ فِيمَا يَجِبُ أَنْ يُحْذَرَ مِنْهُ قَالَهُ: الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَوَجْهُ تَكْرِيرِهَا تَوْكِيدُ هَذَا الْمَعْنَى. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: ظَاهِرُهُ أَنَّهُ تَكْرِيرٌ وَلَيْسَ بِتَكْرِيرٍ، لِأَنَّ الْآيَتَيْنِ فِي فَرِيقَيْنِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَلَوْ كَانَ تَكْرِيرًا لَكَانَ مَعَ تَبَاعُدِ الْآيَتَيْنِ لِفَائِدَةِ التَّأْكِيدِ وَالتَّذْكِيرِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْأُولَى لَا تُعَظِّمُهُمْ فِي حَالِ حَيَاتِهِمْ بِسَبَبِ كَثْرَةِ الْمَالِ وَالْوَلَدِ، وَبِالثَّانِيَةِ لَا تُعَظِّمُهُمْ بَعْدَ وَفَاتِهِمْ لِمَانِعِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ. وَقَدْ تَغَايَرَتِ الْآيَتَانِ فِي أَلْفَاظٍ هُنَا، وَلَا، وَهُنَاكَ، فَلَا وَمُنَاسَبَةُ الْفَاءِ أَنَّهُ عَقِبَ قَوْلِهِ: وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ أَيْ: لِلْإِنْفَاقِ، فَهُمْ مُعْجَبُونَ بِكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، فَنَهَاهُ عَنِ الْإِعْجَابِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ. وَمُنَاسَبَةُ الْوَاوِ أَنَّهُ نَهْيٌ عُطِفَ عَلَى نَهْيٍ قَبْلَهُ.
وَلَا تُصَلِّ، وَلَا تَقُمْ، وَلَا تُعْجِبْكَ، فَنَاسَبَتِ الْوَاوُ وَهُنَا وَأَوْلَادُهُمْ وَهُنَاكَ، وَلَا أَوْلَادُهُمْ، فَذِكْرُ لَا مُشْعِرٌ بِالنَّهْيِ عَنِ الْإِعْجَابِ بِكُلٍّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ على انفراد. وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ النَّهْيَ عَنِ الْمَجْمُوعِ، وَهُنَا سَقَطَتْ، فَكَانَ نَهْيًا عَنْ إِعْجَابِ الْمَجْمُوعِ. وَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ النَّهْيَ عَنِ الْإِعْجَابِ بِكُلٍّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ. فَدَلَّتِ الْآيَتَانِ بِمَنْطُوقِهِمَا وَمَفْهُومِهِمَا عَلَى النَّهْيِ عَنِ الْإِعْجَابِ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ مُجْتَمِعَيْنِ وَمُنْفَرِدَيْنِ. وَهُنَا أَنْ يُعَذِّبَهُمْ، وَهُنَاكَ لِيُعَذِّبَهُمْ، فَأَتَى بِاللَّامِ مُشْعِرَةً بِالتَّعْلِيلِ. وَمَفْعُولُ يُرِيدُ مَحْذُوفٌ أَيْ: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ ابْتِلَاءَهُمْ بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ لِتَعْذِيبِهِمْ.
وأتى بأن لِأَنَّ مَصَبَّ الْإِرَادَةِ هُوَ التَّعْذِيبُ أَيْ: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ تَعْذِيبَهُمْ. فَقَدِ اخْتَلَفَ مُتَعَلَّقُ الْفِعْلِ فِي الْآيَتَيْنِ هَذَا الظَّاهِرُ، وَإِنْ كَانَ يُحْتَمَلُ زِيَادَةُ اللَّامِ. وَالتَّعْلِيلُ بأنّ وَهُنَاكَ الدُّنْيَا، وَهُنَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَأُثْبِتَ فِي الْحَيَاةِ عَلَى الْأَصْلِ، وَحُذِفَتْ هُنَا تَنْبِيهًا عَلَى خِسَّةِ الدُّنْيَا،
وَأَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ أَنْ تُسَمَّى حَيَاةً، وَلَا سِيَّمَا حِينَ تَقَدَّمَهَا ذِكْرُ مَوْتِ الْمُنَافِقِينَ، فَنَاسَبَ أَنْ لَا تُسَمَّى حَيَاةً.
وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ. رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ السُّورَةَ هُنَا كُلُّ سُورَةٍ كَانَ فِيهَا الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ. وَقِيلَ:
بَرَاءَةٌ لِأَنَّ فِيهَا الْأَمْرَ بِهِمَا. وَقِيلَ: بَعْضُ سُورَةٍ، فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ سُورَةٌ، كَمَا يُطْلَقُ عَلَى بَعْضِ الْقُرْآنِ قُرْآنٌ وَكِتَابٌ. وَهَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ كَانُوا اسْتَأْذَنُوا الرَّسُولَ فِي الْقُعُودِ، فِيهَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مَتَى تَنْزِلُ سُورَةً فِيهَا الْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ اسْتَأْذَنُوا، وَلَيْسَتْ هُنَا إِذَا تُفِيدُ التَّعْلِيقَ فَقَطْ، بَلِ انْجَرَّ مَعَهَا مَعْنَى التَّكْرَارِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِيهَا بِحُكْمِ الْوَضْعِ أَنَّهُ بِحُكْمٍ غَالِبِ الِاسْتِعْمَالِ، لَا الْوَضْعِ. وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ فِي النَّحْوِ، وَمِمَّا وُجِدَ مَعَهَا التَّكْرَارُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِذَا وَجَدْتُ أُوَارَ النَّارِ فِي كَبِدِي | أَقْبَلْتُ نَحْوَ سِقَاءِ الْقَوْمِ أَبْتَرِدُ |
وَقَالُوا: ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ الزَّمْنَى وَأَهْلِ الْعُذْرِ، وَمَنْ تُرِكَ لِحِرَاسَةِ الْمَدِينَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ عُذْرٌ. وَفِي قَوْلِهِ: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ، تَهْجِينٌ لَهُمْ، وَمُبَالَغَةٌ فِي الذَّمِّ.
وَالْخَوَالِفُ: النِّسَاءُ قَالَهُ: الْجُمْهُورُ كَابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ، وَشَمِرِ بْنِ عَطِيَّةَ، وَابْنِ زَيْدٍ، وَالْفَرَّاءِ، وَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الذَّمِّ كَمَا قَالَ:
وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْرِي | أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ |
فَإِنْ تَكُنِ النِّسَاءُ مُخَبَّآتٍ | فَحُقَّ لِكُلِّ مُحْصَنَةٍ هِدَاءُ |
كُتِبَ الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ عَلَيْنَا | وَعَلَى الْغَانِيَاتِ جَرُّ الذُّيُولِ |
لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ: لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ اخْتَارُوا الدَّعَةَ وَكَرِهُوا الْجِهَادَ، وَفَرُّوا مِنَ الْقِتَالِ، وَذَكَرَ مَا أَثَّرَ ذَلِكَ فِيهِمْ مِنَ الطَّبْعِ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ذَكَرَ حَالَ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الْمُثَابَرَةِ عَلَى الْجِهَادِ، وَذَلِكَ مَا لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ. وَلَكِنَّ وَضْعَهَا أَنْ تَقَعَ بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ. وَلَمَّا تَضَمَّنَ قَوْلُ الْمُنَافِقِينَ ذَرْنَا، وَاسْتِئْذَانُهُمْ فِي الْقُعُودِ، كَانَ ذَلِكَ تَصْرِيحًا بِانْتِفَاءِ الْجِهَادِ. فَكَأَنَّهُ قِيلَ:
رَضُوا بِكَذَا وَلَمْ يُجَاهِدُوا، وَلَكِنَّ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا. وَالْمَعْنَى: إِنْ تَخَلَّفَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ فَقَدْ تَوَجَّهَ إِلَى الْجِهَادِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُمْ وَأَخْلَصُ نِيَّةً. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ «١» فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ «٢» وَالْخَيْرَاتُ: جَمْعُ خَيْرَةٍ وَهُوَ الْمُسْتَحْسَنُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَيَتَنَاوَلُ مَحَاسِنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِعُمُومِ اللَّفْظِ، وَكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ فِي النِّسَاءِ وَمِنْهُ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَقَدْ طَعَنْتُ مَجَامِعَ الرَّبَلَاتِ | رَبَلَاتِ هِنْدٍ خيرة الملكات |
(٢) سورة فصلت: ٤١/ ٣٨.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْخَيْرَاتِ هُنَا الْحُورُ الْعِينُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا الْغَنَائِمُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالذَّرَارِيِّ. وَقِيلَ: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ، تَفْسِيرٌ لِلْخَيْرَاتِ إِذْ هُوَ لَفْظٌ مُبْهَمٌ.
وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ: وَلَمَّا ذَكَرَ أَحْوَالَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ بِالْمَدِينَةِ شَرَحَ أَحْوَالَ الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: الْمُعَذِّرُونَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الذَّالِ، فَاحْتَمَلَ وَزْنَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ فَعَّلَ بِتَضْعِيفِ الْعَيْنِ وَمَعْنَاهُ: تَكَلَّفَ الْعُذْرَ وَلَا عُذْرَ لَهُ، وَيُقَالُ عَذَّرَ فِي الْأَمْرِ قَصَّرَ فِيهِ وَتَوَانَى، وَحَقِيقَتُهُ أَنْ يُوهِمَ أَنَّ لَهُ عُذْرًا فِيمَا يَفْعَلُ وَلَا عُذْرَ لَهُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ وَزْنُهُ افْتَعَلَ، وَأَصْلُهُ اعْتَذَرَ كَاخْتَصَمَ، فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الذَّالِ. وَنُقِلَتْ حَرَكَتُهَا إِلَى الْعَيْنِ، فَذَهَبَتْ أَلِفُ الْوَصْلِ. وَيُؤَيِّدُهُ قِرَاءَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: الْمُعْتَذِرُونَ بِالتَّاءِ مِنِ اعْتَذَرَ. وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ وَزْنَهُ افْتَعَلَ. الْأَخْفَشُ، وَالْفَرَّاءُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو حَاتِمٍ، وَالزَّجَّاجُ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ. وَقَرَأَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَزَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ، وَالضَّحَّاكُ، وَالْأَعْرَجُ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَعِيسَى بْنُ هِلَالٍ، وَيَعْقُوبُ، وَالْكِسَائِيُّ، فِي رِوَايَةٍ الْمُعَذِّرُونَ مِنْ أَعْذَرَ. وَقَرَأَ مَسْلَمَةُ: الْمُعَّذِّرُونَ بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ وَالذَّالِ، مِنْ تَعَذَّرَ بِمَعْنَى اعْتَذَرَ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: أَرَادَ الْمُتَعَذِّرِينَ، وَالتَّاءُ لَا تُدْغَمُ فِي الْعَيْنِ لِبُعْدِ الْمَخَارِجِ، وَهِيَ غَلَطٌ مِنْهُ أَوْ عَلَيْهِ. وَاخْتُلِفَ فِي هَؤُلَاءِ الْمُعَذِّرِينَ أَهُمُ مُؤْمِنُونَ أَمْ كَافِرُونَ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وجماعة: هو مُؤْمِنُونَ، وَأَعْذَارُهُمْ صَادِقَةٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَفِرْقَةٌ: هُمْ كَافِرُونَ وَأَعْذَارُهُمْ كَذِبٌ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ:
رَحِمَ اللَّهُ الْمُعْذِرِينَ وَلَعَنَ الْمُعَذِّرِينَ. قِيلَ: هُمْ أَسَدٌ وَغَطَفَانُ قَالُوا. إِنَّ لَنَا عِيَالًا وَإِنَّ بِنَا جَهْدًا، فَأَذِنَ لَهُمْ فِي التَّخَلُّفِ.
وَقِيلَ: هُمْ رَهْطُ عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ قَالُوا: إِنْ غَزَوْنَا مَعَكَ غَارَتْ أَعْرَابُ طَيٍّ عَلَى أَهَالِينَا وَمَوَاشِينَا، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَيُغْنِي اللَّهُ عَنْكُمْ»
وَعَنْ مُجَاهِدٍ: نَفَرٌ مِنْ غِفَارٍ اعْتَذَرُوا فَلَمْ يَعْذُرْهُمُ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: نَفَرٌ مِنْ غِفَارٍ مِنْهُمْ خُفَافُ بْنُ إِيمَاءَ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْجَائِينَ كَانُوا مُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، لِأَنَّ التَّقْسِيمَ يَقْتَضِي ذَلِكَ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ «١» فَلَوْ كَانَ الْجَمِيعُ كُفَّارًا لَمْ يَكُنْ لِوَصْفِ الَّذِينَ قَعَدُوا بِالْكَذِبِ اخْتِصَاصٌ، وَكَانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ سَيُصِيبُهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا كُفَّارًا كَمَا قَالَ قَتَادَةُ، فَانْقَسَمُوا إِلَى جَاءَ مُعْتَذِرٌ وَإِلَى قَاعِدٍ، وَاسْتُؤْنِفَ إِخْبَارٌ بِمَا يصيب
الْكَافِرِينَ. وَيَكُونُ الضَّمِيرُ فِي مِنْهُمْ عَائِدًا عَلَى الْأَعْرَابِ، أَوْ يَكُونُ الْمَعْنَى: سَيُصِيبُ الَّذِينَ يُوَافُونَ عَلَى الْكُفْرِ مِنْ هَؤُلَاءِ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالنَّارِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: كَذَبُوا بِالتَّخْفِيفِ أَيْ: فِي إِيمَانِهِمْ فَأَظْهَرُوا ضِدَّ مَا أَخْفَوْهُ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَالْحَسَنُ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ: وَنُوحٌ وَإِسْمَاعِيلُ كَذَّبُوا بِالتَّشْدِيدِ أَيْ لَمْ يُصَدِّقُوهُ تَعَالَى وَلَا رَسُولَهُ، وَرَدُّوا عَلَيْهِ أَمْرَهُ وَالتَّشْدِيدُ أَبْلَغُ فِي الذَّمِّ.
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ: لَمَّا ذَكَرَ حَالَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنِ الْجِهَادِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، ذَكَرَ حَالَ مَنْ لَهُ عُذْرٌ فِي تَرْكِهِ. وَالضُّعَفَاءُ جَمْعُ ضَعِيفٍ وَهُوَ الْهَرِمُ، وَمَنْ خُلِقَ فِي أَصْلِ البنية شديد المخافة والضؤولة، بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ الْجِهَادُ. وَالْمَرِيضُ مَنْ عَرَضَ لَهُ الْمَرَضُ، أَوْ كَانَ زَمِنًا وَيَدْخُلُ فِيهِ الْعَمَى وَالْعَرَجُ. والذين لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ هُمُ الْفُقَرَاءُ. قِيلَ: هُمْ مُزَيْنَةُ وَجُهَيْنَةُ وَبَنُو عُذْرَةَ، وَنَفَى الْحَرَجَ عَنْهُمْ فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْغَزْوِ، وَنَفْيُ الْحَرَجِ لَا يَتَضَمَّنُ الْمَنْعَ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْغَزْوِ، فَلَوْ خَرَجَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ لِيُعِينَ الْمُجَاهِدِينَ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ حِفْظِ مَتَاعِهِمْ أَوْ تَكْثِيرِ سَوَادِهِمْ وَلَا يَكُونُ كَلًّا عَلَيْهِمْ، كَانَ لَهُ فِي ذَلِكَ ثَوَابٌ جَزِيلٌ.
فَقَدْ كَانَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ أَعْرَجَ وَهُوَ مِنْ أَتْقِيَاءِ الْأَنْصَارِ، وَهُوَ فِي أَوَّلِ الْجَيْشِ، وَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أن اللَّهَ قَدْ عَذَرَكَ» فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَحْفِرَنَّ بِعَرْجَتِي هَذِهِ فِي الْجَنَّةِ.
وَكَانَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ أَعْمَى، فَخَرَجَ إِلَى أُحُدٍ وَطَلَبَ أَنْ يُعْطَى اللِّوَاءَ فَأَخَذَهُ، فَأُصِيبَتْ يَدُهُ الَّتِي فِيهَا اللِّوَاءُ فَأَمْسَكَهُ بِالْيَدِ الْأُخْرَى، فَضُرِبَتْ فَأَمْسَكَهُ بِصَدْرِهِ. وَقَرَأَ: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ «١» وَشَرَطَ فِي انْتِفَاءِ الْحَرَجِ النُّصْحَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ نِيَّاتُهُمْ وَأَقْوَالُهُمْ سِرًّا وَجَهْرًا خَالِصَةً لِلَّهِ مِنَ الْغِشِّ، سَاعِيَةً فِي إِيصَالِ الْخَيْرِ لِلْمُؤْمِنِينَ، دَاعِيَةً لَهُمْ بِالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ.
فَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ «لَقَدْ تَرَكْتُمْ بَعْدَكُمْ قَوْمًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا هُمْ مَعَكُمْ فِيهِ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَكُونُونَ مَعَنَا وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: «حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ».
وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ: إِذَا نَصَحُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ بِنَصْبِ الْجَلَالَةِ، وَالْمَعْطُوفِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ أَيْ: مِنْ لَائِمَةٍ تُنَاطُ بِهِمْ أَوْ عُقُوبَةٍ. وَلَفْظُ الْمُحْسِنِينَ عَامٌّ يَنْدَرِجُ فِيهِ
هَؤُلَاءِ الْمَعْذُورُونَ النَّاصِحُونَ غَيْرَهُمْ، وَقِيلَ: الْمُحْسِنِينَ هُنَا الْمَعْذُورُونَ النَّاصِحُونَ، وَيَبْعُدُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى نَفْيِ الْقِيَاسِ. وَأَنَّ الْمُحْسِنَ هُوَ الْمُسْلِمُ، لِانْتِفَاءِ جَمِيعِ السَّبِيلِ، فَلَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ التَّكَالِيفِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، فَيَكُونُ يَخُصُّ هَذَا الْعَامَّ الدَّالَّ عَلَى بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: الْمُحْسِنِينَ هُمُ الَّذِينَ أَطَاعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ في أقوالهم وأفعالهم، ثُمَّ أَكَّدَ الرَّجَاءُ فَقَالَ: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وَقِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَاللَّهُ لِأَهْلِ الْإِسَاءَةِ غَفُورٌ رَحِيمٌ عَلَى سَبِيلِ التَّفْسِيرِ، لَا عَلَى أَنَّهُ قُرْآنٌ لِمُخَالَفَتِهِ سَوَادَ الْمُصْحَفِ. قِيلَ: وَقَوْلُهُ: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ، فِيهِ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدِيعِ يُسَمَّى: التَّمْلِيحَ، وَهُوَ أَنْ يُشَارَ فِي فَحْوَى الْكَلَامِ إِلَى مَثَلٍ سَائِرٍ، أَوْ شِعْرٍ نَادِرٍ، أَوْ قِصَّةٍ مَشْهُورَةٍ، أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَى الْمَثَلِ.
وَمِنْهُ قَوْلُ يَسَارِ بْنِ عَدِيٍّ حِينَ بَلَغَهُ قَتْلُ أَخِيهِ، وَهُوَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ:
الْيَوْمَ خَمْرٌ وَيَبْدُو فِي غَدٍ خَبَرُ | وَالدَّهْرُ مِنْ بَيْنِ إِنْعَامٍ وَإِيئَاسِ |
لِتَحْمِلَهُمْ بِالزَّادِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ: بِالْبِغَالِ.
وَرَوِيَ أَنَّ سَبْعَةً مِنْ قَبَائِلَ شَتَّى قَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ نَدَبْتَنَا إِلَى الْخُرُوجِ مَعَكَ، فَاحْمِلْنَا عَلَى الْخِفَافِ الْمَرْقُوعَةِ وَالنِّعَالِ الْمَخْصُوفَةِ نَغْزُ مَعَكَ فَقَالَ: لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ فَتَوَلَّوْا وَهُمْ يَبْكُونَ.
وَقَرَأَ مَعْقِلُ بْنُ هَارُونَ: لِنَحْمِلَهُمْ بنون الجماعة، وإذا تَقْتَضِي جَوَابًا. وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَا يَقْرُبُ مِنْهَا وهو قلب، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: تَوَلَّوْا جَوَابًا لِسُؤَالٍ مُقَدَّرٍ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَمَا كَانَ حَالُهُمْ إِذْ أَجَابَهُمُ الرَّسُولُ؟ قِيلَ: تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ. وَقِيلَ: جَوَابُ إذا تولوا، وقلب جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْكَافِ، أَيْ: إِذَا مَا أَتَوْكَ قَائِلًا لَا أَجِدُ، وَقَدْ قَبْلَهُ مُقَدَّرٌ كَمَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ: حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. أَوْ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ العطف أَيْ: وَقُلْتَ، قَالَهُ الْجُرْجَانِيُّ وَقَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةِ وَقَدَّرَهُ: فَقُلْتَ بِالْفَاءِ وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) : فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: قُلْتَ لَا أَجِدُ اسْتِئْنَافًا مِثْلَهُ يَعْنِي: مِثْلَ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ؟ كَأَنَّهُ قِيلَ: إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ تَوَلَّوْا، فَقِيلَ: مَا لَهُمْ تَوَلَّوْا بَاكِينَ؟ قُلْتُ: لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنَّهُ وَسَطٌ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ كَالِاعْتِرَاضِ (قُلْتُ) : نَعَمْ، وَيَحْسُنُ انْتَهَى. وَلَا يَجُوزُ وَلَا يَحْسُنُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَكَيْفَ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَهُوَ فَهْمٌ أَعْجَمِيٌّ؟ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَحْوِ وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ فِي أَوَائِلِ حِزْبِ لَتَجِدَنَّ «١» مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُنَا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ كَقَوْلِكَ:
تَفِيضُ دَمْعًا، وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ يَفِيضُ دَمْعُهَا، لِأَنَّ الْعَيْنَ جُعِلَتْ كَأَنَّ كلها دمع فائض. ومن لِلْبَيَانِ كَقَوْلِكَ: أَفْدِيكَ مِنْ رَجُلٍ، وَمَحَلُّ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ النَّصْبُ عَلَى التَّمْيِيزِ انْتَهَى.
وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَنَّ التَّمْيِيزَ الَّذِي أَصْلُهُ فَاعِلٌ لا يجوز جره بمن، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ مَعْرِفَةٌ، وَلَا يَجُوزُ إِلَّا عَلَى رَأْيِ الْكُوفِيِّينَ الَّذِينَ يُجِيزُونَ مَجِيءَ التَّمْيِيزِ مَعْرِفَةً. وَانْتَصَبَ حَزَنًا عَلَى الْمَفْعُولِ لَهُ، وَالْعَامِلُ فِيهِ تَفِيضُ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: أَوْ مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وأن لا يَجِدُوا مَفْعُولٌ لَهُ أَيْضًا، وَالنَّاصِبُ لَهُ حَزَنًا، قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَيَجُوزُ أَنْ يتعلق بتفيض انْتَهَى. وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى إِعْرَابِهِ حَزَنًا مَفْعُولًا لَهُ وَالْعَامِلُ فِيهِ تَفِيضُ، لِأَنَّ الْعَامِلَ لَا يَقْضِ اثْنَيْنِ مِنَ الْمَفْعُولِ لَهُ إِلَّا بِالْعَطْفِ أَوِ الْبَدَلِ. وقوله: أن لا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ مُنْدَرِجُونَ تَحْتَ قَوْلِهِ:
وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا ينفقون حرج.