
في الجنة. وقيل: نهر جناته على حافاته وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ وشيء من رضوان الله أكبر من ذلك كله، لأنّ رضاه هو سبب كل فوز وسعادة، ولأنهم ينالون برضاه عنهم تعظيمه وكرامته، والكرامة أكبر أصناف الثواب، ولأن العبد إذا علم أن مولاه راض عنه فهو أكبر في نفسه مما وراءه من النعم، وإنما تتهنأ له برضاه، كما إذا علم بسخطته تنغصت عليه ولم يجد لها لذة وإن عظمت. وسمعت بعض أولى الهمة البعيدة والنفس المرّة «١» من مشايخنا يقول: لا تطمح عينى ولا تنازع نفسي إلى شيء مما وعد الله في دار الكرامة، كما تطمح وتنازع إلى رضاه عنى، وأن أحشر في زمرة المهديين المرضيين عنده ذلِكَ إشارة إلى ما وعد الله، أو إلى الرضوان:
أى هو الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وحده دون ما يعدّه الناس فوزاً. وروى «أن الله عز وجلّ يقول لأهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك، فيقول:
أنا أعطيكم أفضل من ذلك؟ قالوا: وأى شيء أفضل من ذلك؟ قال: أُدخل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا» «٢»
[سورة التوبة (٩) : آية ٧٣]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣)
جاهِدِ الْكُفَّارَ بالسيف وَالْمُنافِقِينَ بالحجة «٣» وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ في الجهادين جميعاً، ولا تحابهم وكل من وقف منه على فساد في العقيدة فهذا الحكم ثابت فيه، يجاهد بالحجة، وتستعمل معه الغلظة ما أمكن منها. عن ابن مسعود: إن لم يستطع بيده فبلسانه، فإن لم يستطع فليكفهرّ في وجهه «٤» فإن لم يستطع فبقلبه «٥». يريد الكراهة والبغضاء والتبرأ منه. وقد حمل الحسن جهاد المنافقين على إقامة الحدود عليهم إذا تعاطوا أسبابها.
[سورة التوبة (٩) : آية ٧٤]
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٧٤)
(٢). متفق عليه من حديث أبى سعيد.
(٣). قال محمود: «معناه جاهد الكفار بالسيف والمنافقين بالحجة... الخ» قال أحمد: والحمد لله الذي أنطقه بالحجة لنا في إغلاظنا عليه أحيانا، والله الموفق.
(٤). قوله «فليكفهر في وجهه» في الصحاح «اكفهر الرجل» إذا عبس. (ع)
(٥). أخرجه الطبري وابن مردويه من رواية عمرو بن أبى جندب عنه. [.....]

أقام رسول الله ﷺ في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن، ويعيب المنافقين المتخلفين فيسمع من معه منهم، منهم الجلاس بن سويد. فقال الجلاس: والله لئن كان ما يقول محمد حقاً لإخواننا الذين خلفناهم وهم ساداتنا وأشرافنا، فنحن شر من الحمير. فقال عامر بن قيس الأنصارى للجلاس: أجل، والله إنّ محمداً لصادق وأنت شرّ من الحمار. وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستحضر فحلف بالله ما قال: فرفع عامر يده فقال: اللهم أنزل على عبدك ونبيك تصديق الكاذب وتكذيب الصادق «١» فنزلت يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا فقال الجلاس:
يا رسول الله، لقد عرض الله علىّ التوبة. والله لقد قلته وصدق عامر، فتاب الجلاس وحسنت «٢» توبته وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وأظهروا كفرهم بعد إظهارهم الإسلام وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وهو الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك عند مرجعه من تبوك: تواثق خمسة عشر منهم على أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذا تسنم العقبة بالليل، فأخذ عمار بن ياسر بخطام راحلته يقودها وحذيفة خلفها يسوقها، فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وبقعقعة السلاح، فالتفت فإذا قوم متلثمون، فقال: إليكم إليكم يا أعداء الله «٣»، فهربوا. وقيل:
(٢). أخرجه الثعلبي عن الكلبي بغير سند لكن سنده إليه أول الكتاب. وروى ابن سعد وعبد الرزاق والطبري من رواية هشام بن عروة عن أبيه قال: كانت أم عمير بنت سعيد عند الجلاس بن سويد. فقال الجلاس بن سويد في غزوة تبوك إن كان ما يقول محمد حقا فنحن شر من الحمير. فقال له عامر بن قيس الأنصارى، وهو ابن عمه- فذكره. وكذا ذكره موسى بن عقبة في المغازي ليس فيه كانت أم عمير إلى آخره، بل أوله في قصة تبوك إلى أن قال:
وقال الجلاس حين سمع ما أنزل الله في المنافقين.
(٣). أخرجه أحمد من حديث أبى الطفيل قال «لما قفل رسول الله ﷺ من غزوة تبوك أمر مناديا ينادى لا يأخذن العقبة أحد، فان رسول الله ﷺ يسير وحده، فكان النبي ﷺ يسير وحذيفة رضى الله عنه يقود به، وعمار رضى الله عنه يسوق به. فأقبل رهط متلثمين على الرواحل حتى غشوا النبي صلى الله عليه وسلم، فرجع عمار فضرب وجوه الرواحل. فقال النبي ﷺ لحذيفة: قد قد- فلحقه عمار فقال: سق سق حتى أناخ. فقال لعمار: هل تعرف القوم فقال: لا، كانوا متلثمين. وقد عرفت علمة الرواحل. فقال: أتدري ما أرادوا برسول الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم. فقال: أرادوا أن يمكروا برسول الله فطرحوه من العقبة. فلما كان بعد ذلك وقع بين عمار رضى الله عنه وبين رجل منهم شيء مما يكون بين الناس.
فقال: أنشدكم الله، كم أصحاب العقبة الذين أرادوا أن يمكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: ترى أنهم أربعة عشر، فان كنت فيهم فهم خمسة عشر» ومن هذا الوجه رواه الطبراني والبزار وقال روى من طريق عن حذيفة وهذا أحسنها وأصلحها إسنادا. ورواه ابن إسحاق في المغازي ومن طريقه البيهقي في الدلائل عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبى البختري عن حذيفة بن اليمان. قال: كنت آخذا بخطام ناقة رسول الله ﷺ أقود به. وعمار رضى الله عنه يسوق الناقة حتى إذا كنا بالعقبة وإذا اثنى عشر راكبا قد اعترضوه فيها قال:
فانتهت إلى رسول الله ﷺ فصرخ بهم فولوا مدبرين.