
المنافقين نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أي المنقلبات التي جعل الله عالي القرى سافلها أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي المعجزات فكذبوهم فعجّل الله هلاكهم. والله أهلك قوم نوح بالغرق وعادا- قوم هود- بإرسال الريح العقيم، وثمود- قوم صالح- بإرسال الصيحة والصاعقة، وقوم إبراهيم بالهدم وسلب النعمة عنهم، وبتسليط البعوضة على دماغ نمروذ، وقوم شعيب بالظلة أو بالرجفة، وقوم لوط بالخسف وبجعل عالي أرضهم سافلها وبإمطار الحجارة، وإنما ذكر الله تعالى هذه الطوائف الستة لأن آثارهم باقية وبلادهم قريبة من بلاد العرب وهي: الشام، والعراق، واليمن فكانوا يمرون عليها ويعرفون
أخبار أهلها فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ بإيصال العذاب إليهم لأنهم استحقوه بسبب أفعالهم القبيحة وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٧٠) بالكفر وتكذيب الأنبياء
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ بسبب المشاركة في الاستدلال والتوفيق والهداية يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ أي بالإيمان بالله ورسوله واتباع أمره وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ أي الشرك والمعاصي وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ أي المفروضة بإتمام الأركان والشروط وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ الواجبة عليهم وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في كل أمر ونهي في السر والعلانية أُولئِكَ الموصوفون بهذه الصفات سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ أي يفيض عليهم آثار رحمته، والسين للتوكيد والمبالغة إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أي لا يمنع من مراده في عباده من رحمة أو عقوبة حَكِيمٌ (٧١) أي مدبر أمر عباده على ما يقتضيه العدل والصواب وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي تجري من تحت شجرها ومساكنها أنهار الخمر والماء والعسل واللبن خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً وهي قصور من اللؤلؤ والزبرجد والياقوت الأحمر فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وهي أبهى أماكن الجنات وأسناها.
وقال عبد الله بن عمر إن في الجنة قصرا يقال له: عدن، حوله البروج والمروج، وله خمسة آلاف باب، على كل باب خمسة آلاف حوراء لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد، وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ مما هم فيه إذ عليه يدور فوز كل خير وسعادة.
وروي أنه تعالى يقول لأهل الجنة: «هل رضيتم» فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك! فيقول: «أنا أعطيكم أفضل من ذلك». قالوا: وأي شيء أفضل من ذلك؟ قال: «أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا».
وقرأ شعبة «رضوان» بضم الراء. والباقون بالكسر ذلِكَ أي المذكور من الأمور الثلاثة هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢) لا ما يطلبه المنافقون والكفار من التنعم بطيبات الدنيا يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ أي المجاهرين بالسيف وَالْمُنافِقِينَ أي الساترين كفرهم بظهور الإسلام بإظهار الحجة لا

بالسيف لنطقهم بكلمتي الشهادة وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ أي اشدد على كلا الفريقين بالفعل والقول وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٣) هي وهذه الجملة مستأنفة لبيان عاقبة أمرهم يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ بتوافقهم على فتك النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وطعنهم على نبوته وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ أي أظهروا الكفر وجاهروا بالحرب بعد أن أظهروا الإسلام وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا.
روي أن المنافقين هموا بقتله صلّى الله عليه وسلّم عند رجوعه من تبوك: وهم خمسة عشر رجلا قد اتفقوا على أن يدفعوه صلّى الله عليه وسلّم عن راحلته ليقع في الوادي فيموت، فأخبره الله بما دبروه، فلما وصل إلى العقبة التي بين تبوك والمدينة نادى مناديه بأمره: إن رسول الله يريد أن يسلك العقبة فلا يسلكها أحد غيره، واسلكوا يا معشر الجن بطن الوادي فإنه أسهل لكم وأوسع فسلك الناس بطن الوادي، وسلك النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم العقبة وكان ذلك في ليلة مظلمة فجاء المنافقون وتلثموا وسلكوا العقبة، وكان النبي قد أمر عمار بن ياسر أن يأخذ بزمام ناقته ويقودها، وأمر حذيفة أن يسوقها من خلفها.
فبينما النبي يسير في العقبة إذ زحمه المنافقون فنفرت ناقته حتى سقط بعض متاعه، فصرخ بهم، فولوا مدبرين وعلموا أنه اطلع على مكرهم، فانحطوا من العقبة مسرعين إلى بطن الوادي، واختلطوا بالناس، فصار حذيفة يضرب الناقة فقال له النبيّ: «هل عرفت أحدا منهم». قال: لا، فإنهم كانوا متلثمين والليلة مظلمة. قال: «هل علمت مرادهم؟» قال: لا، قال النبي: «إنهم مكروا وأرادوا أن يسيروا معي في العقبة فيزحمونني عنها وإن الله أخبرني بهم وبمكرهم» «١» فلما أصبح جمعهم وأخبرهم بما مكروا به فحلفوا بالله ما قالوا بتكذيب النبي ونسبه إلى التصنع في ادعاء الرسالة، ولا أرادوا فتكه، فأنزل الله تعالى هذه الآية:
وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ أي وما أنكروا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شيئا من الأشياء إلا أغناه الله تعالى إياهم من فضله فإن هؤلاء المنافقين كانوا قبل قدوم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم المدينة في ضنك من العيش لا يركبون الخيل ولا يحرزون الغنيمة، وبعد قدومه أخذوا الغنائم وفازوا بالأموال ووجدوا الدولة وقتل للجلاس مولى فأمر له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بديته اثني عشر ألفا فاستغنى، وذلك يوجب عليهم أن يكونوا محبين له صلّى الله عليه وسلّم مجتهدين في بذل النفس والمال لأجله فعملوا بضد الواجب، فوضعوا موضع شكره صلّى الله عليه وسلّم إن كرهوه وعابوه فَإِنْ يَتُوبُوا من النفاق كما وقع للجلاس بن سويد فإنه تاب وحسنت توبته يَكُ أي التوب خَيْراً لَهُمْ في الدارين وَإِنْ يَتَوَلَّوْا أي يعرضوا عن التوبة يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا بقتلهم وسبي أولادهم وأزواجهم، واغتنام أموالهم لأنه لما ظهر كفرهم بين الناس صاروا مثل أهل الحرب فيحل قتالهم وَالْآخِرَةِ بالنار وغيرها من أفانين العقاب وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مع سعتها مِنْ وَلِيٍّ أي حافظ وَلا نَصِيرٍ (٧٤) ينقذهم من العذاب

وَمِنْهُمْ أي المنافقين مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا بإجرامهم على العهد وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦) بقلوبهم عن أوامر الله تعالى فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ أي فأورثهم البخل نفاقا متمكنا في قلوبهم أي فارتدوا عن الإسلام وصاروا منافقين إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ أي إلى يوم موتهم الذين يلقون فيه جزاء عملهم وهو يوم القيامة بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ أي بسبب إخلافهم الله الوعد من التصدق والصلاح وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧) أي وبسبب كونهم مستمرين على الكذب في وعدهم.
روي أن ثعلبة بن حاطب كان صحيح الإسلام في ابتداء أمره وصار منافقا في آخر أمره وكان ملازما لمسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى لقب بحمامة المسجد، ثم رآه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يسرع الخروج من المسجد عقب الصلاة فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما لك تفعل فعل المنافقين؟» فقال: إني افتقرت ولي ولامرأتي ثوب أجيء به للصلاة، ثم أذهب فأنزعه لتلبسه وتصلي به فجاء ثعلبة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا فقال صلّى الله عليه وسلّم: «يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه» ثم أتاه بعد ذلك فقال: يا رسول الله ادع الله أم يرزقني مالا فقال له رسول الله: «أما لك في أسوة حسنة، والذي نفسي بيده لو أردت أن تسير الجبال معي ذهبا وفضة لسارت» ثم أتاه بعد ذلك وقال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا، والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالا لأعطين كل ذي حق حقه، فدعا له فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود، حتى ضاقت بها المدينة، فنزل واديا من أوديتها فجعل يصلي الظهر والعصر مع رسول الله، ويصلي في غنمه باقي الصلوات، ثم نمت وكثرت فتباعد من المدينة حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، ثم نمت وكثرت حتى تباعد وترك الجمعة فإذا كان يوم الجمعة يتلقى الناس يسألهم عن الأخبار ثم سأل رسول الله فأخبر بخبره فقال: «يا ويح ثعلبة ثلاثا» فنزل قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة: ١٠٣] فبعث صلّى الله عليه وسلّم رجلين من بني سليم ومن بني جهينة، وكتب لهما أسنان الصدقة وقال لهما: «مرّا على ثعلبة بن حاطب فخذا صدقاته» فأتياه وأقرآه كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال لهما: ما هذه إلا الجزية أو أخت الجزية فلم يدفع الصدقة، فأنزل الله تعالى هذه الآية فقيل له: قد أنزل فيك كذا وكذا فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسأله أن يقبل صدقته فقال: «إن الله منعني من قبول ذلك» فجعل يحثوا التراب على رأسه فقال صلّى الله عليه وسلّم: «قد قلت لك فما أطعتني»
«١» فرجع إلى منزله وقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم أتى أبا بكر بصدقته، فلم يقبلها اقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم جاء بهما إلى عمر أيام