
فإن قلت: المنافق كافر، فكيف يحذر نزول الوحي على الرسول؟ أجيب: بأن القوم، وإن كانوا كافرين بدين الرسول، إلا أنهم شاهدوا أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يخبرهم بما يكتمونه، فلهذه التجربة وقع الحذر والخوف في قلوبهم.
وقال الأصمّ: إنهم كانوا يعرفون كونه رسولا صادقا من عند الله، إلا أنهم كفروا به حسدا وعنادا. وتعقبه القاضي بأن يبعد، في العالم بالله وبرسوله وصحة دينه، أن يكون محادّا لهما. لكن قال الرازي: هو غير بعيد، لأن الحسد إذا قوي في القلب، صار بحيث ينازع في المحسوسات. انتهى.
وقال أبو مسلم: هذا حذر أظهره المنافقون على وجه الاستهزاء حين رأوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم يذكر كل شيء، ويدعي أنه عن الوحي، وكان المنافقون يكذبون بذلك فيما بينهم، فأخبر الله رسوله بذلك، وأمره أن يعلمهم أنه يظهر سرهم الذي حذروا ظهوره. ولذلك قال تعالى: قُلِ اسْتَهْزِؤُا أي بالله وآياته ورسوله، أو افعلوا الاستهزاء، وهو أمر تهديد إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ أي مظهر بالوحي ما تحذرون خروجه من إنزال السورة، ومن مثالبكم ومخازيكم المستكنة في قلوبكم الفاضحة لكم، كقوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ... إلى قوله: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ.... الآية [محمد: ٢٩]- ولهذا قال قتادة: كانت تسمى هذه السورة (الفاضحة) فاضحة المنافقين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٦٥]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي عن إتيانهم بتلك القبائح المتضمنة للاستهزاء بما ذكر لَيَقُولُنَّ أي في الاعتذار إنه لم يكن عن القلب حتى يكون نفاقا وكفرا بل إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ أي ندخل هذا الكلام لترويح النفس وَنَلْعَبُ أي نمزح قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ أي في ترويحكم ومزاحكم، ولم تجدوا لهما كلاما آخر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التوبة (٩) : آية ٦٦]
لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦)
لا تَعْتَذِرُوا أي لا تشتغلوا باعتذاراتكم الكاذبة، فالنهي عن الاشتغال به

وإدامته إذ أصله وقع قَدْ كَفَرْتُمْ أي أظهرتم الكفر بإيذاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم والطعن فيه وباستهزائكم بمقالكم بَعْدَ إِيمانِكُمْ أي بعد إظهاركم الإيمان.
تنبيه:
قال في (الإكليل) : قال الكيا: فيه دلالة على أن اللاعب والجادّ في إظهار كلمة الكفر سواء، وأن الاستهزاء بآيات الله كفر- انتهى-.
قال الرازي: لأن الاستهزاء يدل على الاستخفاف. والعمدة الكبرى في الإيمان تعظيم الله تعالى بأقصى الإمكان، والجمع بينهما محال.
وقال الإمام ابن حزم في (الملل) : كل ما فيه كفر بالبارئ تعالى، واستخفاف به، أو بنبيّ من أنبيائه، أو بملك من ملائكته، أو بآية من آياته عزّ وجلّ، فلا يحلّ سماعه، ولا النطق به، ولا يحلّ الجلوس حيث يلفظ به. ثم ساق الآية.
وقوله تعالى: إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ أي لتوبتهم وإخلاصهم. أو تجنبهم عن الإيذاء والاستهزاء نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ أي مصرّين على النفاق، أو مقدمين على الإيذاء والاستهزاء.
تنبيه:
روي في صفة استهزاء المنافقين روايات عدة:
قال ابن إسحاق: كان رهط من المنافقين منهم وديعة بن ثابت، أخو بني عمرو ابن عوف، ومنهم رجل من أشجع حليف لبني سلمة يقال له مخشّن بن حميّر، (ويقال مخشيّ) يشيرون إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو منطلق إلى تبوك، فقال بعضهم لبعض: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا. والله! لكأنا بكم غدا مقرنين في الحبال، إرجافا وترهيبا للمؤمنين، فقال مخشن بن حمير. والله! لوددت أن أقاضى على أن يضرب كل منا مائة جلدة، وأنا ننقلب أن ينزل فينا قرآن، لمقالتكم هذه.
وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما بلغني- لعمار بن ياسر: أدرك القوم، فإنهم قد احترقوا، فسلهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل: بلى! قلتم: كذا وكذا. فانطلق إليهم عمار، فقال ذلك لهم، فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعتذرون إليه، فقال وديعة بن ثابت- ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم واقف على ناقته-: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونلعب، فأنزل الله عزّ وجلّ فيهم وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ
وقال مخشن بن حمير: يا رسول الله! قعد بي اسمي واسم أبي. وكان الذي عفي عنه في هذه الآية