
مِنْكُمْ
[الأحزاب ٣٣/ ٥٣] ومثل رفع الصوت في ندائه وتسميته باسمه، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ، وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات ٤٩/ ٢].
بيان أحوال المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك الإقدام على اليمين الكاذبة، وتخوفهم من نزول القرآن فاضحا لهم، واستهزاؤهم بآيات الله
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٦٢ الى ٦٦]
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (٦٢) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (٦٣) يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (٦٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (٦٥) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٦٦)
الإعراب:
وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أحق: خبر رَسُولُهُ وحذف خبر الأول لدلالة خبر الثاني عليه، في مذهب سيبويه، وتقديره: والله أحق أن يرضوه، ورسوله أحق أن يرضوه. وفي مذهب المبرد:
لا حذف في الكلام، ولكن فيه تقديم وتأخير، وتقديره: والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك.
وإنما وحّد الضمير لأنه لا تفاوت بين رضا الله ورضا رسوله، فكانا في حكم مرضيّ واحد.

فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ فيه أربعة أوجه: إما خبر مبتدأ محذوف، تقديره: فالواجب أن له نار جهنم، أو بتقدير محذوف بين الفاء وأن، أي فله أن له نار، أو بدل من فَأَنَّ الأولى المنصوبة بيعلموا، أو مؤكّدة للأولى في موضع نصب، والفاء زائدة.
أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ... أن وصلتها في موضع نصب بتقدير حذف حرف الجر، وتقديره: من أن تنزل، ويجوز أن تكون في موضع جر على إرادة حرف الجر لأن حرف الجر يكثر حذفه معها دون غيرها.
وَلَئِنْ اللام لام القسم.
البلاغة:
ذلِكَ الْخِزْيُ الإشارة بالبعيد عن القريب للإشعار ببعد درجته في الهول والشناعة.
المفردات اللغوية:
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ الخطاب للمؤمنين، أي لترضوا عنهم وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ أحق بالإرضاء بالطاعة والوفاق، وتوحيد الضمير لتلازم الإرضاءين إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ حقا أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ أي الشأن مَنْ يُحادِدِ يشاقق، والمحادّة مفاعلة من الحد، كالمشاقة من الشّق، والحد: طرف الشيء، والشق: الجانب، أي يصبح كلّ في ناحية وشق بالنسبة لخصمه وعدوه، وهما بمعنى المعاداة من العدوة: وهي جانب الوادي.
يَحْذَرُ يخاف في المستقبل أو يتحرّز أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ أي على المؤمنين سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ من النفاق، وهم مع ذلك يستهزئون اسْتَهْزِؤُا أمر تهديد إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مظهر الشيء الخفي المستتر، ويشمل إظهار مكنون الصدور، وإخراج الحب من الأرض، والنفي من الوطن ما تَحْذَرُونَ إخراجه من نفاقكم.
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ عن استهزائهم بك والقرآن، وهم سائرون معك إلى تبوك لَيَقُولُنَّ معتذرين إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ في الحديث، لنقطع به الطريق، ولم نقصد ذلك. والخوض في الأصل: الدخول في الماء أو في الوحل، كثر استعماله في الباطل، لما فيه من التعرض للأخطار، والمراد: الإكثار من العمل الذي لا ينفع لا تعتذروا عنه، والاعتذار: الإدلاء بالعذر: أي لمحو أثر الذنب قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ أي ظهر كفركم بعد إظهار الإيمان إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ بإخلاصها وتوبتها كمخشّ بن حمير نُعَذِّبْ طائِفَةً الطائفة: الجماعة من الناس، والقطعة من الشيء بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ مصرّين على النفاق والاستهزاء.

سبب النزول:
نزول الآية (٦٢) :
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ:
روى ابن المنذر عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجلا من المنافقين قال في شأن المتخلّفين في غزوة تبوك الذين نزل فيهم ما نزل: والله، إن هؤلاء لخيارنا وأشرافنا، وإن كان ما يقول محمد حقا، لهم «١» شر من الحمير، فسمعها رجل من المسلمين فقال: والله، إن ما يقول محمد لحق، ولأنت شر من الحمار، وسعى بها الرجل إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلم فأخبره، فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال:
ما الذي حملك على الذي قلت؟ فجعل يتلعن (يلعن نفسه) ويحلف بالله ما قال ذلك، وجعل الرجل المسلم يقول: اللهم صدّق الصادق، وكذّب الكاذب، فأنزل الله: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ الآية. وروي ذلك أيضا عن السدّي.
نزول الآية (٦٥) :
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر قال: قال رجل من المنافقين في غزوة تبوك في مجلس يوما: ما رأينا مثل قرآن هؤلاء، ولا أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنة، ولا أجبن عند اللقاء! فقال له رجل: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، ونزل القرآن.
وسمي الرجل في رواية أخرى: عبد الله بن أبي، والأصح أنه وديعة بن ثابت لأن عبد الله لم يشهد تبوك.
وأخرج ابن أبي حاتم أيضا عن كعب بن مالك: قال مخشّ بن حمير:
لوددت أني أقاضى على أن يضرب كل رجل منكم مائة، على أن ننجو من أن ينزل فينا قرآن، فبلغ النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، فجاءوا يعتذرون، فأنزل الله: لا تَعْتَذِرُوا

الآية، فكان الذي عفا الله عنه مخشّ بن حمير، فسمي عبد الرحمن، وسأل الله أن يقتل شهيدا لا يعلم بمقتله، فقتل يوم اليمامة، لا يعلم مقتله إلا من قتله.
وقال السّدّيّ: قال بعض المنافقين: والله وددت لو أني قدّمت، فجلدت مائة، ولا ينزل فينا شيء يفضحنا فنزلت الآية.
وأخرج ابن جرير الطبري وابن المنذر وأبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن قتادة أن ناسا من المنافقين قالوا: في غزوة تبوك: يرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشام وحصونها، هيهات له ذلك، فأطلع الله نبيه على ذلك، فأتاهم فقال: قلتم كذا وكذا، قالوا: إنما كنا نخوض ونلعب، فنزلت.
المناسبة:
هذا نوع آخر من قبائح المنافقين وهو إقدامهم على اليمين الكاذبة، ومشاقة (معاداة) الله ورسوله، وتحرزهم من نزول القرآن فاضحا لهم، واستهزاؤهم بآيات الله (القرآن) وهي آيات في الجملة لشرح أحوال المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك.
أخرج أبو الشيخ ابن حيان عن قتادة قال: كانت هذه السورة تسمى الفاضحة فاضحة المنافقين، وكان يقال لها المنبئة لأنها أنبأت بمثالبهم وعوراتهم.
التفسير والبيان:
يخاطب الله المؤمنين مبينا لهم أن المنافقين يقدمون على حلف الأيمان الكاذبة لترضوا عنهم والله يعلم إنهم لكاذبون، وذلك يدل على أنهم شعروا بموقفهم الحرج، وظهور نفاقهم، وافتضاح أمرهم.
يحلفون لكم معتذرين عما صدر منهم من قول أو فعل ليرضوكم، والحال أن

الله ورسوله أحق بالإرضاء من المؤمنين، وذلك يكون بالطاعة والوفاق والإيمان الصادق والعمل الصالح.
والتعبير بإفراد ضمير يُرْضُوهُ للإعلام بأن إرضاء الرسول إرضاء لله، كما قال تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء ٤/ ٨٠] لأن مصدر الرسالة واحد، والأوامر والنواهي واحدة.
هذا إذا كانوا مؤمنين حقا كما يدّعون ويحلفون، فمن كان مؤمنا فليرض الله ورسوله، وإلا كان كاذبا.
ثم وبخهم الله تعالى مبينا خطورة الأمر والشأن الذي أقدموا عليه وفي ذلك مزيد تعظيم وتهويل، فقال: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ أي ألم يعلم هؤلاء المنافقون ويتحققوا أن من يعاد الله ورسوله ويخالفه، بتجاوز حدوده، أو يلمز رسوله في أعماله كقسمة الصدقات، أو في أخلاقه كقولهم: هو أذن يسمع كل ما يقال له، وكان في حد، والله ورسوله في حد، فجزاؤه جهنم خالدا فيها أبدا، أي مهانا معذبا، وذلك العذاب هو الخزي العظيم أي هو الذل العظيم، والشقاء الكبير.
والحقيقة أن المنافقين يعرفون حقيقة أمرهم، فهم غير مؤمنين بالله والرسول، وهم شاكّون مرتابون في الوحي، قلقون مضطربون، والشك والقلق يدعوهم إلى الحذر والخوف، لذا وصفهم تعالى بقوله: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أي يخاف المنافقون ويتحرزون أن تنزل على المؤمنين سورة تكشف أحوالهم، وتفضح أسرارهم، وتبين نفاقهم، كهذه السورة التي سميت: الكاشفة والفاضحة والمنبئة، التي تنبئ المؤمنين بما في قلوب المنافقين، وتخبرهم بحقيقة وضعهم، فيفتضح أمرهم، وتنكشف أسرارهم.
وقوله: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ خبر وليس بأمر بدليل ما بعده: إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ لأنهم كفروا عنادا. وقوله: مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ أي أن

الله مظهر ما كنتم تحذرونه من إظهار نفاقكم.
وهم مع ذلك كانوا دائما يستهزئون بالقرآن وبالنبي والمؤمنين: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [البقرة ٢/ ١٤]، فهددهم الله وأوعدهم بقوله: قُلِ: اسْتَهْزِؤُا...
أي قل لهم يا محمد: استهزءوا بآيات الله كما تشاؤون، وهو أمر يقصد به التهديد والوعيد، إن الله مظهر ما تخافون حصوله، وسينزل على رسوله ما يفضحكم به، ويبين له أمركم، مثل قوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ- إلى قوله- ولَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد ٤٧/ ٢٩- ٣٠].
ثم يقسم الله بأنه إن سألتهم أيها الرسول عن أقوالهم هذه وهزئهم، لاعتذروا عنها بأنهم لم يكونوا جادّين فيها، بل هازلين لاعبين خائضين في اللغو بقصد التسلي واللهو، فوبخهم الله وأنكر عليهم بقوله: أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ أي إن هذا ليس مجال استهزاء، ألم تجدوا ما تستهزئون به غير ذلك؟ فإن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر محض، وشر مستطير. والمراد بالاستهزاء بالله: الاستهزاء بذكر الله وصفاته، وتكاليف الله تعالى. والمراد بآيات الله: القرآن وسائر أحكام الدين، والاستهزاء بالرسول معلوم كالطعن برسالته وتطلعاته وأخلاقه وأعماله.
فليس قولكم عذرا مقبولا، ولا تعتذروا أبدا بهذا أو بغيره، للتخلص من هذا الجرم العظيم، فإنكم قد كفرتم وظهر كفركم، كما أظهرتم إيمانكم، وتبين أمركم للناس قاطبة. وقوله: لا تَعْتَذِرُوا على جهة التوبيخ، كأنه يقول:
لا تفعلوا ما لا ينفع.
فإن نعف عن بعضكم لتوبتهم الخالصة كمخشّ بن حميّر، نعذّب طائفة أي جماعة أخرى لبقائهم على النفاق، وارتكابهم الآثام، وإجرامهم في حق أنفسهم وغيرهم، فتعذيبكم بسبب إجرامكم.

فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- تعداد قبائح المنافقين وهي الإقدام على الأيمان الكاذبة، ومعاداة الله ورسوله، والاستهزاء بالقرآن والنبي والمؤمنين، والتخوف من نزول سورة في القرآن تفضح شأنهم، واعتذارهم بأنهم هازلون لاعبون، وهو إقرار بالذنب، بل هو عذر أقبح من الذنب.
٢- لا يقبل الهزل في الدين وأحكامه، ويعتبر الخوض في كتاب الله ورسله وصفاته كفرا، ولا خلاف بين الأمة في أن الهزل بالكفر كفر، لأن الهزل أخو الباطل والجهل، كما قال ابن العربي.
٣- دل قوله تعالى: قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ على أربعة أحكام هي:
أولا- الاستهزاء بالدين كفر بالله تعالى، لمنافاته مقتضى الإيمان وهو تعظيم الله تعالى.
ثانيا- لا يقتصر الكفر على القلب، وإنما يشمل الأقوال والأفعال المكفرة.
ثالثا- قولهم الذي صدر منهم كفر حقيقي، وإن كانوا منافقين من قبل، وأن الكفر يتجدد.
رابعا- حدث الكفر بعد أن كانوا مؤمنين في الظاهر.
والخلاصة: إنه تعالى حكم عليهم بالكفر وعدم قبول الاعتذار من الذنب، ما لم يتوبوا من النفاق.
٤- التوبة عن النفاق أو الكفر مقبولة، فمن تاب عفي عنه، ومن أصر على الكفر أو النفاق عوقب في جهنم.