آيات من القرآن الكريم

لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ۙ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ
ﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕ

وأهليكم وتتركون الهجرة فأقيموا غير مثابين حتى يفتح الله مكة فيسقط فرض الهجرة، ولا يكون الأمر بالتربص أمر إباحة (١) بل هو أمر تهديد، وقال الحسن: ﴿حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ﴾ أي: من عقوبة عاجلة أو آجلة" (٢)، وهذا أقرب؛ لأنه أليق بالوعيد.
وقوله (٣): ﴿وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ أي: الخارجين عن طاعته إلى معصيته، وهذا أيضًا تهديد لهؤلاء بحرمان الهداية.
٢٥ - قوله تعالى: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ﴾ الآية، النصر: المعونة على العدو خاصة، والمواطن، وهو كل مقام أقام به الإنسان لأمر، ومثله الوطن (٤)، والأوطان: كالمواطن، وأوطن فلان أرض كذا: أي: اتخذها محلا ومسكنًا يقيم فيها (٥)، قال الزجاج: "في مواطن: أي في أمكنة" (٦)، وقال الفراء: "مواطن لا تنصرف؛ لأنه مثال لم يأت عليه شيء من الأسماء المفردة (٧)، وأنه غاية للجمع إذا انتهى الجمع إليه فينبغي

= (ومن فسر أمر الله بفتح مكة فقد ذهل؛ لأن هذه السورة نزلت بعد الفتح). وانظر ما يؤكد قوله في: "تفسير ابن جرير" ١٠/ ٩٨.
(١) في (ى): (أمرًا بإباحة)، والصواب ما أثبته.
(٢) ذكره الماوردي في "النكت والعيون" ٢/ ٣٤٩، والزمخشري في "الكشاف" ٢/ ١٨١، وبمعناه ابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٤١٣.
(٣) من (م).
(٤) في (ى): (الموطن).
(٥) انظر: كتاب "العين" (وطن) ٧/ ٤٥٤، و"تهذيب اللغة" (وطن) ٤/ ٣٩١١.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٣٩.
(٧) يعني الأسماء التي تدل على الواحد، قال الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٤٠: "ومعنى ليس على مثال الواحد: أي ليس في ألفاظ الواحد ما جاء على لفظه، وأنه ألا يجمع كما يجمع الواحد جمع تكسير". =

صفحة رقم 343

أن لا يجمع، ألا ترى أنك لا تقول: دراهمات ولا دنانيرات ولا مساجدات، وربما اضطر إليه الشاعر فجمعه وليس يوجد [في الكلام] (١) ما يجوز في الشعر، قال الشاعر (٢):
فهن يجمعن حدائداتها
فهذا من المرفوض (٣) إلا في الشعر" (٤). انتهى كلامه.
ومعنى هذا أن الجمع من العلل المانعة للصرف، وهذا النوع من [الجمع غاية] (٥) المجموع، فكأن الجمع قد تكرر فيه فصارت هذه العلة تقوم مقام علتين فأوجبت ترك الصرف.
وقوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ﴾، قال الزجاج (٦): "أي: وفي يوم حنين، أي: ونصركم في يوم حنين" (٧)، ونحو ذلك قال ابن عباس:

(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٢) هو: الأحمر كما في "لسان العرب" (حدد) ٢/ ٨٠٠، وانظر البيت بلا نسبة في: "معاني القرآن" للزجاج ٢/ ٤٣٩، و"الخصائص" ٣/ ٢٣٦، وكتاب "الحلل" (ص ٤٠٥)، و"المذكر والمؤنث" لابن الأنباري ٢/ ٣٠٥، و"خزانة الأدب" ١/ ٢٠٨. ورواية البيت في جميع هذه المصادر: فهن يعلكن... إلخ.
والبيت ضمن أبيات في وصف الخيل منها:
أصبحن في قرح وفي داراتها سبع ليال غير معلوفاتها
فهن يعلكن... إلخ.
(٣) في (ى): (الفروض)، وهو تصحيف.
(٤) "معاني القرآن" ١/ ٤٢٨ بتصرف يسير.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٦) ساقط من (ى).
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٣٩.

صفحة رقم 344

"ونصركم يوم حنين" (١)، قال قتادة: "حنين: واد بين مكة والطائف قاتل عليه نبي الله - ﷺ - هوازن وثقيفًا" (٢).
وجرى (٣) (حنين) لأنه اسم مذكر [سمي به مذكر] (٤) نحو: بدر وأحد وحراء وثبير (٥)، وربما جعلت العرب حنين (٦) وبدرًا اسمًا للبلدة والبقعة فلا يُجْرونه (٧) نحو قول الشاعر (٨):

ألسنا أكثر الثقلين رحلًا وأعظمهم ببطن حراء نارًا
وقال آخر (٩):
نصروا نبيهم وشدوا أزره بحنين حين تواكل الأبطال
(١) "تنوير المقباس" ص١٩٠بمعناه.
(٢) رواه ابن أبي حاتم ٦/ ١٧٧٢.
(٣) إجراء الاسم عند الكوفيين: صرفه وتنوينه، وعدم إجرائه: منع صرفه.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ي)، وليس موجودا في "معاني القرآن" للفراء.
(٥) ثبير: جبل معروف عند مكة المكرمة انظر: "النهاية في غريب الحديث والأثر" (ثبر) ١/ ٢٠٧.
(٦) هكذا في جميع النسخ، والأولى: حنينًا؛ لأنه صرف بدرًا بعده.
(٧) بضم الياء وإسكان الجيم.
(٨) هو: جرير كما في "كتاب سيبويه" ٢/ ٢٤، و"لسان العرب" (حرى) ٢/ ٨٥٣، وليس في ديوانه، وانظر البيت بلا نسبة في: "الصحاح" (حرا) ٦/ ٢٣١٢، و"المقتضب" ٣/ ٣٥٩، و"الدر المصون" ٦/ ٣٧، وصدر البيت عند سيبويه والمبرد هكذا:
ستعلم أينا خيرٌ قديمًا
قال ابن بري: هكذا أنشده سيبويه، وهو لجرير، وأنشده الجوهري: ألسنا أكرم الثقلين طرًّا.. " اهـ "لسان العرب"، الموضع السابق.
(٩) هو: حسان بن ثابت -رضي الله عنه- والبيت في "ديوانه" ص ١٩٤، و"لسان العرب" (حنن) ٢/ ١٠٣٢، وبلا نسبة في "الصحاح" (حنن) ٥/ ٢١٠٥، ورواية الديوان والفراء وغيرهما هكذا: يوم تواكل الأبطال.

صفحة رقم 345

هذا قول الفراء وكلامه (١).
قال المفسرون: "لما افتتح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة وقد بقيت عليه أيام من شهر رمضان، خرج متوجهًا إلى حنين لقتال هوازن وثقيف" (٢).
وقوله تعالى: ﴿إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ﴾، قال قتادة: "كانوا اثنى عشر ألفاً" (٣). وقال مقاتل: "كانوا أحد (٤) عشر ألفًا وخمسمائة" (٥). وقال الكلبي: "كانوا عشرة آلاف، وكانوا يومئذ أكثر ما كانوا قط" (٦).
وقال عطاء عن ابن عباس: "خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى حنين في ستة عشر ألفًا، وكان معه رجل من الأنصار يقال له: سلمة بن سلامة بن وقش (٧) فعجب لكثرة الناس، فقال: لن نغلب اليوم من قلة، فساء رسول الله - ﷺ - كلامه، ووكلوا إلى كلمة الرجل، فذلك قوله تعالى: ﴿إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ﴾ " (٨).

(١) يعني من قوله: وجرى (حنين)، انظر: "معاني القرآن" ١/ ٤٢٩.
(٢) انظر: "تفسير ابن أبي حاتم" ٦/ ١٧٧٢ - ١٧٧٣، والثعلبي ٦/ ٨٨ أ، والبغوي ٤/ ٢٥، وانظر الآثار الواردة في غزوة حنين في "الدر المنثور" ٣/ ٤٠٤ - ٤٠٨.
(٣) رواه ابن جرير ١٠/ ١٠٠، والثعلبي ٦/ ٨٨ أ، والبغوي ٤/ ٢٦.
(٤) في (ى): (إحدى)، والصواب ما أثبته، وهو موافق لما في "تفسير مقاتل".
(٥) "تفسير مقاتل" ص١٢٧ ب.
(٦) "تفسير الثعلبي" ٦/ ٨٨ أ، والبغوي ٤/ ٢٦، والرازي ١٥/ ٢١.
(٧) هو: سلمة بن سلامة بن وقش بن زغبة الأشهلي الأنصاري شهد العقبتين وبدرًا وأحدًا والمشاهد، توفي سنة ٣٤ هـ، وقيل سنة ٤٥ هـ.
انظر: "التاريخ"الكبير" ٤/ ٦٨ (١٩٨٦)، و"سير أعلام النبلاء" ٢/ ٣٥٥، و"الإصابة" ٢/ ٩٥ (٣٣٨١).
(٨) ذكره المصنف في "الوسيط" ٢/ ٤٨٧، وذكر بعضه الزمخشري في الكشاف ٢/ ١٨٢، وابن الجوزي في "زاد المسير" ٣/ ٤١٣.

صفحة رقم 346

وقوله تعالى: ﴿فَلَمْ (١) تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا﴾ معنى الإغناء: إعطاء ما يدفع الحاجة.
وقوله: ﴿فَلَمْ (١) تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا﴾ أي لم تعطكم شيئًا يدفع حاجتكم، قال الزجاج: "أعلمهم الله أنهم ليس بكثرتهم يغلبون، وأنهم إنما يغلبون بنصر الله إياهم" (٢)، فوكلوا ذلك اليوم إلى كثرتهم؛ فانهزموا ثم تداركهم الله بنصره حتى ظفروا.
وقوله تعالى: ﴿وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ﴾ يقال: رحب يرحب رحبًا ورحابة، قال ابن شميل: "ضاقت عليه بما رحبت (٣): أي: على رحبها وسعتها" (٤)، فمعنى قوله: ﴿بِمَا رَحُبَتْ﴾ أي برحبها، ومعناه: مع رحبها، و"ما" ههنا مع الفعل بمنزلة المصدر كقوله: ﴿لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي﴾ [يس: ٢٦، ٢٧] أي بمغفرته لي، ومعنى الآية: إنكم لشدة ما لحقكم من الخوف ضاقت عليكم الأرض فلم تجدوا فيها موضعًا يصلح لكم لفراركم عن عدوكم.
قال ابن عباس: "يقول: هي واسعة، ولكم فيها رحاب ومتسع، فضاقت عليكم لموضع العجب" (٥).
قال الزجاج: "جعل الله عقوبتهم على إعجابهم بالكثرة أن رَعَبهم (٦)

(١) في (ي): (فلن)، وهو خطأ محض.
(٢) اهـ كلام الزجاج، انظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٤٠.
(٣) هكذا، وفي "تهذيب اللغة": "ضاقت عليهم الأرض بما رحبت"... إلخ.
(٤) "تهذيب اللغة" (رحب) ٢/ ١٣٨٧.
(٥) "تنوير المقباس" ص١٩٠ بمعناه مختصرًا.
(٦) بفتح العين غير المشددة، أي: أفزعهم وأخافهم، و"لسان العرب" (رعب) ٣/ ١٦٦٧.

صفحة رقم 347

حتى ولّوا مدبرين" (١).
قال البراء بن عازب: كانت هوازن رماة، وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا وأكببنا (٢) على الغنائم فاستقبلونا (٣) بالسهام فانكشف المسلمون عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم يبق معه إلا العباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن الحارث" (٤)، قال البراء: "والذي لا إله إلا هو ما ولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دبره قط، لقد رأيته، وأبو سفيان آخذ بالركاب (٥)، والعباس آخذ بلجام الدابة، وهو يقول:
"أنا النبي لا كذب... أنا ابن عبد المطلب"
وطفق يركض بغلته نحو الكفار لا يألو، وكانت بغلة شهباء، ثم قال للعباس: " [ناد: يا معشر الأنصار، يا معشر المهاجرين، وكان العباس رجلاً صيتًا، فجعل ينادي: يا عباد الله] (٦)، يا أصحاب (٧) الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة، فجاء المسلمون حين سمعوا صوته عنقًا واحداً (٨)، وأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده كفًا من الحصباء فرماهم بها، وقال:

(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٤٠.
(٢) في (ى): (وانحنينا)، وفي "الصحيحين": فأكببنا.
(٣) في (ى): (فاستقبلوا).
(٤) رواه مختصرًا البخاري في "صحيحه" (٤٣١٥)، كتاب: المغازي، باب قول الله تعالى: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ...﴾، ومسلم في "صحيحه" (١٧٧٦)، كتاب الجهاد والسير.
(٥) الركاب: موضع في سرج الدابة، وهو كالغرز للرجل. انظر "القاموس المحيط"، فصل الراء، باب الباء ٩١٥٥، و"لسان العرب" (ركب) ٣/ ١٧١٣.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ح).
(٧) في (ح): يا معشر أصحاب الشجرة.
(٨) العنق: الجماعة الكثيرة من الناس، وجاء القوم عنقًا عنقًا: أي طوائف. انظر: "لسان العرب" (عنق) ١٠/ ٢٧٣.

صفحة رقم 348
التفسير البسيط
عرض الكتاب
المؤلف
أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي، النيسابوري، الشافعي
الناشر
عمادة البحث العلمي - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
سنة النشر
1430
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية