
(فَلَمْ تُغْن عَنكُمْ شَيْئًا) أي فلم تغن عنكم شيئا من النصر، بل.
كانت الكثرة سببًا في الهزيمة، وإن لم تكن هي النهاية، وصور الله سبحانه وتعالى هذه الهزيمة المؤقتة بقوله تعالى: (وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ) أي أنه سدت عليكم المسالك إذ نزلوا بوادي حنين، ولم يستطيعوا، وتسلط مع ضيق المسالك الخوف، إذ كان فيهم من لم يمرسوا بقتال الإيمان، وربما كان منهم من أسلم ولما يدخل الإيمان قلبه، قال تعالى: (ثُمَّ وَلَيْتُم مُّدْبِرِينَ) والخطاب للمجموع فإن الذين فعلوا ذلك ليسوا هم المؤمنين من المهاجرين والأنصار، إنما أكثر من فعل ذلك من الطلقاء وأبناء الطلقاء، الذين بلغ عددهم في ذلك الجيش نحو ألفين، وفيهم من أسلم بعد الحديبية ولم يكن فيهم إيمان الأنصار والمهاجرة. والتعبير بـ (ثُمَّ) للإشارة إلى البعد المعنوي بين إرادة النصر والفرار، وقوله تعالى: (وَلَّيْتُم) إشارة إلى أنهم عند الصدمة الأولى أعرضوا عن القتال، وفروا مدبرين تاركين أقفيتهم للعدو، تعمل فيها سيوفهم.
هذه إشارات إلى يوم حنين، ولنذكره ببعض التفصيل ليعلم مَن الذين ولوا، ويتبين مَن الذين أجرى الله تعالى النصر على أيديهم.
" حنين " واد بين مكة والطائف، وأساس القصة أن النبي - ﷺ - وقد فتح الله عليه مكة، وأسلم الأكثرون وأطلق الطلقاء بلغه أن هوازن وثقيفا تعد العدة لقتاله؛ لأنهم توقعوا أنهم الأدنون الذين يجيء إليهم جيش الحق، وجمعوا جيشا كثيفا، عدته أربعة آلاف على أرجح الروايات، من هوازن وثقيف، وانضم إليهم بنو سعد ابن بكر، وأوزاع من بني (هلال)، وقد أقبلوا ومعهم النساء، والولدان، والأموال من النعم والشاة وجاءوا بقضهم وقضيضهم.
خرج إليهم رسول الله - ﷺ - بالجيش الذي كان معه لفتح مكة، وانضم إليهم من الطلقاء ألفان فكانت عدته اثنا عشر ألفا.

ولم يكونوا جميعا من المؤمنين أمثال الذين قاتلوا في بدر وأحد، والمغازي الإسلامية التي قاتل فيها المؤمنون، بل كان فيهم المؤلفة قلوبهم الذين دخلوا في الإسلام وهم حديثو عهد به.
جاءت هوازن مدفوعة بحمية الدفاع عن النفس، وجاء المسلمون ولم يكونوا على قلب رجل واحد، بل كان فيهم من توسوس له نفسه أن يغدر بمحمد - ﷺ -، وقد بادر أهل الطائف فرشقوا المسلمين ومن معهم بالنبال، وأصلتوا في الوادي الذي يسمى حنينا، وجاء النبي - ﷺ -، وكانت هوازن ومن معها قد كمنت في جنبتي الوادي وهجمت على المسلمين الذين دخلوا في بطن الوادي هجمة رجل واحد، واضطرب المسلمون، ولم يعرف أحد أحدا، وبذلك ضاقت عليهم الأرض بما رحبت إذ قد تهيات هوازن ومن معها في مضايق الوادي وأحنائه.
ورسول الله - ﷺ - في ناحية من الأرض قد ثبت، وثبت معه المؤمنون، من المهاجرين والأنصار، وأخذ ينادي المسلمين، ولكن انكفأ بعضهم على بعض، وكما قال الحافظ ابن كثير في تاريخه: " انحط بهم الوادي في عماية الصبح، وثأرت في وجوههم الخيل فشدت عليهم، وانكفأ الناس متهربين لَا يقبل أحد على أحد، وانحاز رسول الله - ﷺ - ذات اليمين يقول: " أيها الناس هلم إليَّ أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله "، فلا شيء، وركبت الإبل بعضها بعضا، فلما رأى رسول الله - ﷺ - ذلك قال: " يا عباس، اصرخ يا معشر الأنصار "، فأجابوه: لبيك لبيك ذَهب الأنصار في هذا المضطرب مجيبين رسول الله - ﷺ -.
كان رسول الله ومعه بعض أهله الأدنين، معه عمه العباس، وهو آخذ بلجام دابته، وابن عمه أبو سفيان بن الحارث، وابنه جعفر، وعلي بن أبي طالب، وأسامة بن زيد، وأيمن بن عبيد، وربيعة بن الحارث، والفضل بن عباس وقثم بن العباس، فهؤلاء عشرة من أقارب رسول الله الأدنين ومعهم وزيرا النبي - ﷺ -.
كان هؤلاء الثابتون وعلى رأسهم رسول الله - ﷺ - الذي كان إذا حمى الوطيس أحاطوا به واتقوا حر القتال بالإيواء إليه، والنبي ينادي المؤمنين، والعباس

جهير الصوت يصرخ في المؤمنين داعيا أهل البيعة التي كان بعدها الهجرة، فلما أحاط بالنبي - ﷺ - المهاجرون والأنصار من الأوس والخزرج تغير وجه القتال وتجرد أهل الإيمان للمشركين، بعد أن ماز الله الخبيث من الطيب، وانفصل الذين لا يزال في قلوبهم رجس، أو أسلموا، ولما يؤمنوا.
وهذا قوله تعالى: