
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
بما كان ويكون، أي: عن علم بما كان منهم خلقهم، لا عن جهل؛ إذ خلقه إياهم ليس لمنافع نفسه وحاجته، إنما خلقهم لحاجتهم ومنافعهم (حَكِيمٌ) وضع كل شيء موضعه.
ويحتمل: (عَلِيمٌ): بما كان من هَؤُلَاءِ من التكذيب لرسول اللَّه والكفر بآياته، (حَكِيمٌ) أي: فيما جعل عليهم من القتل والتعذيب والخزي كأنه وضع الشيء موضعه.
* * *
قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٦) مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (١٧) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨)
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ).
وأيضًا قوله: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)، وقوله أيضًا: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) الآية، وقوله: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُترَكوا...) الآية هذه الآيات كلها في المنافقين الذين أظهروا الإيمان باللسان، وأروا المؤمنين الذين حققوا الإيمان وأخلصوا الإسلام الموافقة لهم، فقال: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا) على ما أظهرتم من الإيمان باللسان فلا تبتلون بالقتال؛ جعل لله - تعالى - القتال مع الكفرة - واللَّه أعلم - وأمر به لمعنيين:
أحدهما: تطهيرًا للأرض من الكفر؛ كقوله - تعالى -: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ).
والثاني: امتحانًا للمنافقين؛ ليبين نفاق من أظهر الإيمان باللسان مراءاة، وصدق من أظهره حقيقة؛ ليعرف المحق المخلص من المنافق المرائي؛ لأن القتال هو أرفع أعلام يظهر بها نفاق المنافق؛ لأنهم إنما كانوا يظهرون الموافقة لهم؛ طمعًا في الدنيا؛ لتسلم

لهم المنافع التي كانوا ينتفعون بها، وفي الأمر بالقتال خوف الهلاك، فإذا خافوا الهلاك على أنفسهم امتنعوا عنه؛ كقوله: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا) خوفًا وإشفاقًا على أنفسهم؛ لما ذكرنا أنهم إنما كانوا يظهرون الإيمان باللسان؛ ليسلم لهم ما طمعوا من المنافع؛ كقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ) الآية، هذا وصف المنافق.
وأما المؤمن المحق للإيمان، المخلص للإسلام: فإنه يسلم نفسه لله في جميع أحواله، وإن كان فيه تلف نفسه؛ لما لم تكن عبادته لله على حرف ووجه كالمنافق، ولكن على الوجوه كلها، والأحوال جميعًا، عبادته تكون لله، لا يمنعه خوف الهلاك عن القتال؛ بل نفسه تخضع لذلك وترضى، ولا كذلك المنافق.
وقد ذكرنا أن حرف الاستفهام من اللَّه يكون على الإيجاب والإلزام.
ثم قوله: (أَمْ حَسِبْتُمْ) يحتمل وجهين:
أحدهما: أي: قد حسبتم أن تتركوا على ما أظهرتم من الموافقة والخلاف في السر، ولا تبتلون وتمتحنون بما يظهر منكم ما أضمرتم، فلا تحسبوا ذلك.
والثاني: (أَمْ حَسِبْتُمْ) أي: لا تحسبوا أن تتركوا على ذلك، ولا تمتحنوا بالجهاد والقتال.
أحد التأويلين يخرج على النهي، والثاني على الإخبار عما حسبوا، وعما عندهم.
ثم قوله: (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ).
أي: ليعلم من قد علم أنه يجاهد مجاهدًا، ويعلم ما قد علم أنه يكون كائنًا، لا على حدوث علمه بذلك؛ إذ هو موصوف بالعلم بكل ما يكون في وقت ما يكون على ما يكون؛ فيكون قوله: ليعلم المجاهدين من كذا، وليعلم الصابرين من كذا؛ أي: ليعلم من قد علم أنه يجاهد مجاهدًا، وليعلم ما قد علم أنه يكون كائنًا؛ لأنه لا يجوز أن يوصف اللَّه بالعلم بما ليس يكون أنه يعلمه كائنا، كما لا يجوز أن يوصف أنه يعلم من الجالس القيام في حال جلوسه، ومن المتحرك السكون في حال حركته، ومن المتكلم السكوت في حال كلامه، إنما يوصف بالعلم على الحال الذي عليه الخلق، لا يوصف بالعلم في حال غير الحال الذي هو عليه، واللَّه الموفق.
ويحتمل هذا وجهًا آخر: أن فيما أضاف العلم إلى نفسه كان المراد منه أولياؤه؛

كقوله: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ)، أي: إن تنصروا أولياءه ينصركم، أو إن تنصروا دينه ينصركم، أو إن تنصروا رسوله ينصركم؛ فعلى ذلك قوله: (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ)، أي: ليعلم أولياءه المنافق المرائي، والمؤمن المحقق المخلص، وليبين لهم، كقوله: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ)، أي: يخادعون أولياءه إذ اللَّه لا يخادع ولا ينصر؛ إذ هو ناصر كل أحد، ولا يخفى عليه شيء، عالم بما يكون في وقت ما يكون.
أو أن يكون المراد من العلم الذي ذكر المعلوم، وذلك جائز في اللغة جار، وفي القرآن كثير.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً).
أي: لم يجدوا ملجأ يلجئون إليه من دون ما ذكر، ولو وجدوا ذلك لاتخذوا ذلك، ولكن لما لم يجدوا لم يتخذوا؛ كقوله: (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً) الآية.
أخبر أنهم لو وجدوا ملجأ يلجئون إليه لولوا، ولا يظهرون ذلك.
وقوله: (وَلِيجَةً) قال بعض أهل الأدب: الوليجة: البطانة من غير المسلمين، وأصلها من الولوج، وهو أن يتخذ الرجل من المسلمين دخيلاً من المشركين وخليطًا ودودًا، وجمعه: الولائج.
وقال البعض: الوليجة أصلها من الدخول؛ كقوله: (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) يقال أيضًا: فلان وليجة فلان، أي: خاصته.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الوليجة: الخيانة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الوليجة: ما يلجأ إليه.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة؛ وبعضه قريب من