
من الأعداء، عوملوا بما يناسب من العنف والشدة فالفائدة في الشدة في هذه المواطن أقوى تأثيرا في الزجر والمنع عن القبيح والشر، وقد يحتاج الأمر إلى الرفق واللطف. فالأمر بالعنف ليس مطردا، وإنما يعمل بما هو الأوفق ولو في أثناء المعركة.
٣- إن الله نصير المتقين في السلم والحرب، والواجب أن يكون الهدف من القتال تقوى الله، لا طلب المال والجاه.
موقف المنافقين من سور القرآن
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٢٤ الى ١٢٧]
وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٢٧)
الإعراب:
وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ جملة حالية.
البلاغة:
فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ أي كفرا مضموما إلى الكفر بغيرها. ولما ازداد المنافقون عند

نزول السورة عمى، أضيف ذلك إلى السورة على طريق الاستعارة.
أَوَلا يَرَوْنَ هذه ألف استفهام، دخلت على واو العطف، وهو خطاب على سبيل التنبيه.
المفردات اللغوية:
سُورَةٌ من القرآن فَمِنْهُمْ من المنافقين مَنْ يَقُولُ لأصحابه استهزاء إِيماناً تصديقا يَسْتَبْشِرُونَ يفرحون بها وبنزولها مَرَضٌ شك وضعف اعتقاد وكفر ونفاق رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ كفرا ونفاقا إلى كفرهم وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ واستحكم ذلك فيهم حتى ماتوا على الكفر.
أَوَلا يَرَوْنَ أي المنافقون يا أيها المؤمنون يُفْتَنُونَ يبتلون بأصناف البلاء، أو بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فيعاينون ما يظهر عليه من الآيات فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أي أنهم يتعرضون للعذاب في الدنيا في كل عام مرة أو مرتين، وقال مقاتل: يفضحون بإظهار نفاقهم كل سنة مرة أو مرتين ثُمَّ لا يَتُوبُونَ من نفاقهم وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ يتعظون. وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فيها ذكرهم وقرأها النبي صلى الله عليه وسلّم نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ تغامزوا بالعيون إنكارا لها وسخرية، أو غيظا، لما فيها من عيوبهم هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ أي أنهم يريدون الهرب، ويقولون: هل يراكم أحد إن قمتم من حضرة الرسول صلى الله عليه وسلّم، فإن لم يرهم أحد قاموا، وإن رآهم أحد أقاموا وتثبتوا ثُمَّ انْصَرَفُوا على كفرهم صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ عن الهدى والإيمان، وهو يحتمل الإخبار، والدعاء بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ الحق، لسوء فهمهم وعدم تدبرهم.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى أنواعا من مخازي المنافقين وأعمالهم القبيحة، كتخلفهم عن غزوة تبوك، وتعللهم بالإيمان الفاجرة، ذكر هنا أنواعا أخرى أخطر مما سبق، وهي استهزاؤهم بالقرآن وتهربهم حين سماعه لأنه كلما نزلت سورة مشتملة على تبيان فضائحهم وعيوبهم تأذوا من سماعها، وكذلك كلما سمعوا سورة وإن لم يذكر فيها شيء عنهم، استهزءوا بها وطعنوا فيها، وأخذوا في التغامز والتضاحك على سبيل الطعن والهزء.

التفسير والبيان:
إذا ما أنزلت سورة من سور القرآن وبلغت المنافقين، فمنهم من يقول لإخوانه أي يقول بعضهم لبعض: أيكم زادته هذه السورة إيمانا؟ أي تصديقا بأن القرآن من عند الله، وأن محمدا صادق في نبوته.
ومن المعروف أن الإيمان الصحيح: وهو التصديق الجازم المقترن بإذعان النفس، يزيد بنزول القرآن، ويتضاعف بسماعه سماع تدبر وإمعان، مما يدفع إلى العمل بما نزل فيه. وفي هذا دلالة واضحة على أن الإيمان يزيد وينقص، كما هو مذهب الأكثرين.
فأجابهم الله تعالى عن حقيقة أثر القرآن: فأما المؤمنون فيزيدهم نزول القرآن يقينا وتصديقا وقوة دافعة إلى العمل به، وهم أي وحالهم أنهم يفرحون بنزول السورة لأنها تزكي أنفسهم، وترشدهم إلى سعادتهم في الدنيا والآخرة. قال الزمخشري في فَزادَتْهُمْ إِيماناً: لأنها أزيد لليقين والثبات وأثلج للصدر، أو فزادتهم عملا، فإن زيادة العمل زيادة في الإيمان لأن الإيمان يقع على الاعتقاد والعمل.
والذين في نفوسهم شك وكفر ونفاق، فتزيدهم السورة كفرا ونفاقا مضموما إلى كفرهم ونفاقهم السابق، ويستحكم ذلك فيهم إلى أن يموتوا وهم كافرون بالقرآن وبالنبي صلى الله عليه وسلّم. وهذا مناقض للهدف من إنزال السورة، فهي في الحقيقة هدى ونور، وشفاء لما في الصدور، وجلاء لما في القلوب، كما قال تعالى:
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الإسراء ١٧/ ٨٢] وقال عز وجل: قُلْ: هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ، وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ، فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ، وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ [فصلت ٤١/ ٤٤] فهذا من جملة شقائهم أن ما يهدي القلوب يكون سببا لضلالهم ودمارهم، كما أن سيء المزاج لا يفيده الغذاء إلا تأخرا ونقصا.

وبعد أن بيّن الله تعالى أن المنافقين يموتون كفارا، أوضح أنهم يتعرضون أيضا لعذاب الدنيا كل عام مرة أو مرتين، فقال: أو لا يرى هؤلاء المنافقون أنهم يختبرون كل عام مرة أو مرتين بأنواع الاختبار العديدة من جهاد وقحط ومرض وهي التي تذكّر الإنسان بالله، وتجعله ميالا إلى الإيمان وترك الكفر والتمييز بين الحق والباطل.
ثم إنهم مع توالي الاختبارات لا يتوبون من ذنوبهم السابقة، ولا يتعظون فيما يستقبل من أحوالهم، مما يجعلهم غير مستعدين لقبول الإيمان.
وإذا أنزلت سورة قرآنية على النبي صلى الله عليه وسلّم، وهم جلوس عنده، تلفتوا وتغامزوا بالعيون وتهكموا لفساد قلوبهم، وعزموا على الهروب، قائلين: هل يراكم الرسول صلى الله عليه وسلّم أو المؤمنون إذا خرجتم؟
ثم انصرفوا جميعا عن مجلس النبي صلى الله عليه وسلّم أي تولوا عن الحق، فهذا حالهم في الدنيا لا يثبتون عند الحق ولا يقبلونه ولا يفهمونه، كقوله تعالى: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ. كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ. فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر ٧٤/ ٤٩- ٥١] وقوله: فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ. عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ [المعارج ٧٠/ ٣٦- ٣٧] أي ما لهؤلاء القوم يخرجون مسرعين، هروبا من الحق، وذهابا إلى الباطل.
صرف الله قلوبهم عن الحق والإيمان وعن الخير والنور. وهذا إما دعاء عليهم به أو إخبار عن أحوالهم.
ذلك الصرف بسبب أنهم قوم لا يفهمون الآيات التي يسمعونها، ولا يريدون فهمها، ولا يتدبرون فيها حتى يفقهوا، بل هم في شغل عن الفهم ونفور منه، كقوله تعالى: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف ٦١/ ٥].

فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يلي:
١- الإيمان يزيد وينقص، وهو مذهب أكثر السلف والخلف، فالمؤمنون يزدادون إيمانا بما يتجدد نزوله من القرآن، ويفرحون به، لتزكية نفوسهم، وتحقيق سعادتهم.
٢- الكفر يتراكم بعضه فوق بعض، وينضم بعضه إلى بعض لأنهم كلما جددوا بتجديد الله الوحي كفرا ونفاقا، ازداد كفرهم واستحكم، وتضاعف عقابهم.
٣- المنافقون المستهزئون بالقرآن يموتون على كفرهم إن لم يتوبوا، مما يدل على مداومة الكفر.
٤- وسائل تذكير المنافقين بالإيمان والحق كثيرة متكررة، فتتوالى عليهم اختبارات عديدة كالأمراض والأوجاع، والشّدة والقحط، والجهاد مع النبي صلى الله عليه وسلّم كل عام مرة أو مرتين، ويرون ما وعد الله من النصر والتأييد.
٥- ومن الوسائل الداعية لإيمان المنافقين أيضا ما ينزل به القرآن كاشفا أسرارهم، معلما بمغيبات أمورهم، ومع ذلك ينصرفون عن تلك الحال التي هي مظنّة النظر الصحيح والاهتداء، ولا يسمعون القرآن سماع تدبر وتعقل ونظر في آياته: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [الأنفال ٨/ ٢٢].
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ، أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد ٤٧/ ٢٤].
وقوله: أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً قول صادر على سبيل الاستهزاء، وقوله نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ اكتفاء بنظر بعضهم إلى بعض على سبيل الهزء، وطلب الفرار.