
[سورة التوبة (٩) : آية ١٢٢]
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢)قوله تعالى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً، روي عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً، يعني: «ما كان للمؤمنين لينفروا جميعا ويتركوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وحده بالمدينة». فَلَوْلا نَفَرَ، يقول: فهلا خرج مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ، يعني: عصبة وجماعة، ويقيم طائفة مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، يعني: ليتعلموا العلم وشرائع الدين. فإذا رجعت السرايا وقد نزل بعدهم قرآن تعلمه القاعدون عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فيعلمونهم ويقولون: إن الله تعالى قد أنزل على نبيكم بعدكم كذا وكذا، وهذا قوله: وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ، يعني: يتعظون بما أمروا ونهوا عنه.
ولها وجه آخر، وهو ما روي أيضاً عن معاوية بن صالح، عن علي بن طلحة، عن ابن عباس: «أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، لما دعا على مضر بالسنين، أجدبت بلادهم. وكانت القبيلة تقبل بأسرها، حتى يلحقوا بالمدينة ويعلنوا بالإسلام وهم كاذبون، فضيقوا على أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأجهدوهم، فأنزل الله تعالى يخبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنهم ليسوا بمؤمنين، فردهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى عشائرهم وحذَّر قومهم أن يفعلوا فعلهم بعد ذلك، وهو قوله: وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ.
وروى أسباط بن السدي قال: أقبلت أعراب هذيل وأصابتهم مجاعة، واستعانوا بتمر المدينة وأظهروا الإسلام، وكانوا يفتخرون على المؤمنين، فيقولون: نحن أسلمنا طائعين يعني:
بغير قتال وأنتم قوتلتم، فنحن خير منكم، فآذوا المؤمنين، فأنزل الله تعالى فيهم يخبرهم بأمرهم قال: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً أي جميعاً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ يعني: من كل بطن طائفة. فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسمعوا كلامه، ثم رجعوا إلى قومهم فأخبروهم لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ يعني: يتعظون فيعملون به ولا يعملون بخلافه. وفي هذه الآية دليل أن أخبار الآحاد مقبولة ويجب العمل بها لأن الله تعالى أخبر أن الفرقة من الطائفة إذا تفقهت في الدين وأنذرت قومهم، صحّ ذلك. ولفظ الطائفة يتناول الواحد والأكثر، لأن أقل الفرقة اثنان، والطائفة من الاثنين واحد.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١٢٣ الى ١٢٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣) وَإِذا مآ أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥) صفحة رقم 98

قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، يعني: ما حولكم وبقربكم من عدوكم، وهم بنو قريظة والنضير وفدك وخيبر، فأمر الله تعالى كل قوم بأن يقاتلوا الذين يلونهم من الكفار. قال أبو جعفر الطحاوي: منع الله تعالى نبيه عن قتال الكفار بقوله:
وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ثم أباح قتال من يليه بقوله: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ، ثم أباح قتال جميع الكفار بقوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: ٥]. ثمّ قال: وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً يعني: شدّة عليهم وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ، ينصرهم على عدوهم.
قوله تعالى: وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ يعني: القرآن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فَمِنْهُمْ يعني: من المنافقين مَنْ يَقُولُ بعضهم لبعض: أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ السورة إِيماناً، يعني:
تصديقا استهزاء بها.
قال الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا يعني: أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم، فَزادَتْهُمْ إِيماناً:
يعني: تصديقاً بهذه السورة مع تصديقهم بالله تعالى وثباتاً على الإيمان. وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ، يقول: يفرحون بما أنزل الله من القرآن.
قال الفقيه: حدثنا محمد بن الفضل، وأبو القاسم الشنابازي قالا: حدثنا فارس بن مردويه قال: حدثنا محمد بن الفضل العابد قال: حدثنا يحيى بن عيسى قال: حدّثنا أبو مطيع، عن حماد بن سلمة، عن أبي المهزم، عن أبي هريرة أنه قال: جاء وفد ثقيف إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: يا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الإيمان يزيد وينقص؟ قال: «لا، الإيمانُ مُكَمَّلٌ فِي القَلْبِ. زِيَادَتُهُ وَنُقْصَانُهُ كُفْرٌ».
قال الفقيه: حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المستلم قال: حدثنا أبو عمران المؤدب الدستجردي قال: حدثنا صخر بن نوح قال: حدثنا مسلم بن سالم، عن أبي الحويرث، عن عون بن عبد الله قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يقول في خطبته: «لو كان الأمر على ما يقول الشكاك الضلال، إن الذنوب تنقص الإيمان، لأمسى أحدنا حين ينقلب إلى أهله وهو لا يدري ما ذهب من إيمانه أكثر أو ما بقي».
قوله تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، يعني: شكا ونفاقا، فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ، قال الكلبي: أي شكاً إلى شكهم، وقال مقاتل: إثماً على إثمهم، وقال القتبي:
أصل الرجس النتن، ثم قال: الكفر والنفاق رجس لأنهما نتنان. وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ، يعني:
ماتوا على الكفر، لأنهم كانوا كفاراً في السر، ولم يكونوا مؤمنين في الحقيقة.