
العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورّثوا دينارا ولا درهما، إنما ورّثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر».
٤- خبر الواحد حجة لأن الطائفة مأمورة بالإنذار أو الإخبار، وهو يقتضي فعل المأمور به، ولأنه سبحانه أمر القوم بالحذر عند الإنذار، والمراد: ليحذروا.
السياسة الحربية في قتال الكفار
[سورة التوبة (٩) : آية ١٢٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣)
المفردات اللغوية:
يَلُونَكُمْ يجاورونكم الأقرب فالأقرب غِلْظَةً شدة وخشونة، أي اغلظوا عليهم مَعَ الْمُتَّقِينَ بالعون والنصر.
المناسبة:
لما أمر الله سبحانه المؤمنين بقتال المشركين كافة، كما يقاتلونهم كافة، أرشدهم في هذه الآية إلى الطريق الأصوب الأصلح، وهو أن يبتدءوا من الأقرب فالأقرب، ثم ينتقلوا إلى الأبعد فالأبعد. وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلّم وصحابته بهذه الخطة، فقد قاتل قومه في مكة، ثم قاتل سائر العرب، ثم انتقل إلى قتال الروم في الشام، ثم دخل صحابته العراق.
وهكذا سار خط الدعوة الإسلامية على هذا الترتيب، فقال تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء ٢٦/ ٢١٤] ثم اتسع نطاقها إلى الجزيرة العربية، فقال

تعالى: وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها [الأنعام ٦/ ٩٢] وقال عزّ وجلّ:
سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ، تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ [الفتح ٤٨/ ١٦] ثم انتشرت خارج الجزيرة بين أهل الكتاب فقال سبحانه: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [التوبة ٩/ ٢٩] وقال تعالى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام ٦/ ١٩] أي لأنذر العرب ومن يبلغه القرآن في كل زمان ومكان.
فالسياسة الإسلامية تسير على منهج دعوة الأقرب فالأقرب سلما، وقتال الأقرب فالأقرب إذا توافرت دواعي القتال.
التفسير والبيان:
يأيها المؤمنون قاتلوا الأقرب منهم فالأقرب إلى ديار الإسلام، فإن الأقرب أحق بالشفقة والإصلاح، ولأن تكوين الأتباع المؤمنين من الجوار بالدعوة الإسلامية أفيد وأحصن وأجدى، وفيه حماية الديار والوطن، ولأن هذا الترتيب يحقق قلة النفقات، والاقتصاد في نقل الآلات وانتقال المجاهدين بأمان، حتى لا يطعنوا من الخلف.
وهذا بالطبع يشمل أولا اليهود حوالي المدينة كقريظة والنضير وخيبر، ثم المشركين في جزيرة العرب، ثم أهل الكتاب وهم الروم في الشام شمال المدينة.
وسياسة القتال أن يجدوا في المؤمنين المقاتلين غلظة أي شدة وخشونة، وقوة وحميّة، وصبرا على القتال، وجرأة على خوض المعارك والفتك والأسر ونحو ذلك، وهذه طبيعة الحرب ومصلحة القتال، ونظير الآية قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ، وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة ٩/ ٧٣].
وأعلموا أن الله مع المتقين أي بالنصر والحراسة والإعانة، والمتقون: هم

المتبعون أوامر الله، المجتنبون نواهيه. فهذه المعية ملازمة للتقوى، فالله معكم إذا التزمتم أحكام شرعه ومن أهمها إقامة الفرائض والسنن، والثبات والصبر والطاعة والنظام، وابتعدتم عن اختراق حدوده والتقصير في إعداد العدة المناسبة لكل عصر وزمان ومكان، كما قال تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ [الأنفال ٨/ ٦٠].
وإذا أريد بالمتقين المخاطبون، ففيه إظهار بدل الإضمار للدلالة على أن الإيمان والقتال من باب التقوى، والشهادة بكونهم من زمرة المتقين. وإذا أريد بالمتقين الجنس دخل المخاطبون دخولا أولياء، والكلام تعليل وتوكيد لما قبله، أي قاتلوهم واغلظوا عليهم ولا تخافوهم لأن الله معكم أو لأنكم متقون.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآية إلى ما يلي:
١- التعريف بكيفية الجهاد، وكون الابتداء به بالأقرب فالأقرب من العدو، ولهذا بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالعرب، ثم قصد الروم بالشام. وروي عن الحسن البصري أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة ٩/ ٥]. والأصح أنها غير منسوخة لأنها للإرشاد ورسم خطة الحرب في قتال الكفار. قال قتادة: الآية على العموم في قتال الأقرب فالأقرب، والأدنى فالأدنى «١».
٢- أمر المؤمنين بالاتصاف بالغلظة على الكفار، حتى يجدهم الكفار متصفين بذلك. وهذا لا شك في أثناء القتال، أما قبل بدء المعركة فشأن المسلمين هو الرفق واللين والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، فإن وجدوا تنمرا وتجهما