
فَإِنْ قِيلَ: مَا السَّبَبُ فِي أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ تِلْكَ الصِّفَاتِ الثَّمَانِيَةَ عَلَى التَّفْصِيلِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى عَقِيبَهَا سَائِرَ أَقْسَامِ التَّكَالِيفِ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ فِي هَذِهِ الصِّفَةِ التَّاسِعَةِ؟
قُلْنَا: لِأَنَّ التَّوْبَةَ وَالْعِبَادَةَ وَالِاشْتِغَالَ بِتَحْمِيدِ اللَّهِ، وَالسِّيَاحَةَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ، وَالرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفَ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، أُمُورٌ لَا يَنْفَكُّ الْمُكَلَّفُ عَنْهَا فِي أَغْلَبِ أَوْقَاتِهِ، فَلِهَذَا ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، وَأَمَّا الْبَقِيَّةُ فَقَدْ يَنْفَكُّ الْمُكَلَّفُ عَنْهَا فِي أَكْثَرِ أَوْقَاتِهِ مِثْلُ أَحْكَامِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَمِثْلُ مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الْجِنَايَاتِ وَأَيْضًا فَتِلْكَ الْأُمُورُ الثَّمَانِيَةُ أَعْمَالُ الْقُلُوبِ وَإِنْ كَانَتْ أَعْمَالَ الْجَوَارِحِ، إِلَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا ظُهُورُ أَحْوَالِ الْقُلُوبِ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ رِعَايَةَ أَحْوَالِ الْقُلُوبِ أَهَمُّ مِنْ رِعَايَةِ أَحْوَالِ الظَّاهِرِ فَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرَ هَذَا الْقِسْمَ عَلَى سَبِيلِ التَّفْصِيلِ، وذكر هذا القسم/ على سبيل الإجمال.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ١١٣ الى ١١٤]
مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (١١٤)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا إلى قوله أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ وُجُوبَ إِظْهَارِ الْبَرَاءَةِ عَنِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ تَجِبُ الْبَرَاءَةُ عَنْ أَمْوَاتِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا فِي غَايَةِ الْقُرْبِ مِنَ الْإِنْسَانِ كَالْأَبِ وَالْأُمِّ، كَمَا أَوْجَبَتْ الْبَرَاءَةَ عَنْ أَحْيَائِهِمْ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ بَيَانُ وُجُوبِ مُقَاطَعَتِهِمْ عَلَى أَقْصَى الْغَايَاتِ وَالْمَنْعِ مِنْ مُوَاصَلَتِهِمْ بِسَبَبٍ مِنَ الْأَسْبَابِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وُجُوهًا. الْأَوَّلُ:
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ تَعَالَى مَكَّةَ سَأَلَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أَيُّ أَبَوَيْهِ أَحْدَثُ بِهِ عَهْدًا» قِيلَ أُمُّكَ، فَذَهَبَ إِلَى قَبْرِهَا وَوَقَفَ دُونَهُ، ثُمَّ قَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهَا وَبَكَى فَسَأَلَهُ عُمَرُ وَقَالَ: نَهَيْتَنَا عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ وَالْبُكَاءِ، ثُمَّ زُرْتَ وَبَكَيْتَ، فَقَالَ: قَدْ أُذِنَ لِي فِيهِ، فَلَمَّا عَلِمْتُ مَا هِيَ فِيهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَإِنِّي لَا أُغْنِي عَنْهَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا بَكَيْتُ رَحْمَةً لَهَا.
الثَّانِي:
رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ قَالَ لَهُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «يَا عَمِّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ» فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. فَقَالَ: أَنَا عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ» فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
قَوْلُهُ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَقَدِ اسْتَبْعَدَهُ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ لِأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا، وَوَفَاةُ أَبِي طَالِبٍ كَانْتْ بِمَكَّةَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ، وَأَقُولُ هَذَا الِاسْتِبْعَادُ عِنْدِي مُسْتَبْعَدٌ، فَأَيُّ بَأْسٍ أَنْ يُقَالَ إِنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَقِيَ يَسْتَغْفِرُ لِأَبِي طَالِبٍ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ إِلَى وَقْتِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّ/ التَّشْدِيدَ مَعَ الْكُفَّارِ إِنَّمَا ظَهَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَلَعَلَّ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِأَبَوَيْهِمْ مِنَ الْكَافِرِينَ، وَكَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَيْضًا يَفْعَلُ ذَلِكَ، ثُمَّ عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ مَنَعَهُمُ اللَّهُ مِنْهُ، فَهَذَا غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ فِي الْجُمْلَةِ.
الثَّالِثُ:
يُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَسْتَغْفِرُ لِأَبَوَيْهِ الْمُشْرِكَيْنِ قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ أَتَسْتَغْفِرُ لِأَبَوَيْكَ وَهُمَا مُشْرِكَانِ؟
فَقَالَ: أَلَيْسَ قَدِ اسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبَوَيْهِ وَهُمَا مُشْرِكَانِ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
الرَّابِعُ:

يُرْوَى أَنَّ رَجُلًا أَتَى الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَالَ: كَانَ أَبِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ، وَيُقْرِي الضَّيْفَ، وَيَمْنَحُ مِنْ مَالِهِ. وَأَيْنَ أَبِي؟ فَقَالَ: أَمَاتَ مُشْرِكًا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فِي ضِحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ، فَوَلَّى الرَّجُلُ يَبْكِي فَدَعَاهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَقَالَ: «إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ وَأَبَا إِبْرَاهِيمَ فِي النَّارِ، إِنَّ أَبَاكَ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مَا يَنْبَغِي لَهُمْ ذَلِكَ فَيَكُونُ كَالْوَصْفِ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى النَّهْيِ: فَالْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ أَنَّ النُّبُوَّةَ وَالْإِيمَانَ يَمْنَعُ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ. وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ لَا تستغفروا والأمران مقاربان. وَسَبَبُ هَذَا الْمَنْعِ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ وَأَيْضًا قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُ يُدْخِلُهُمُ النَّارَ. فَطَلَبُ الْغُفْرَانَ لَهُمْ جَارٍ مَجْرَى طَلَبِ أَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَأَيْضًا لَمَّا سَبَقَ قَضَاءُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ يُعَذِّبُهُمْ. فَلَوْ طَلَبُوا غُفْرَانَهُ لَصَارُوا مَرْدُودِينَ، وَذَلِكَ يُوجِبُ نُقْصَانَ دَرَجَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصلاة والسلام وحظ مَرْتَبَتِهِ، وَأَيْضًا أَنَّهُ قَالَ:
ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غَافِرٍ: ٦٠] وَقَالَ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ فَهَذَا الِاسْتِغْفَارُ يُوجِبُ الْخُلْفَ فِي أَحَدِ هَذَيْنِ النَّصَّيْنِ، وَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ وَقَدْ جَوَّزَ أَبُو هَاشِمٍ أَنْ يَسْأَلَ الْعَبْدُ رَبَّهُ شَيْئًا بَعْدَ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِ أَهْلِ النَّارِ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها [الْمُؤْمِنُونَ: ١٠٧] مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ أَهْلَ الْآخِرَةِ لَا يَجْهَلُونَ وَلَا يَكْذِبُونَ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ، بَلْ نَصُّ الْقُرْآنِ يُبْطِلُهُ. وَهُوَ قَوْلِهِ: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الْأَنْعَامِ:
٢٣] انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الْأَنْعَامِ: ٢٤] وَالثَّانِي: أَنَّ فِي حَقِّهِمْ يَحْسُنُ رَدُّهُمْ عَنْ ذَلِكَ السُّؤَالِ وَإِسْكَاتُهُمْ، أَمَّا فِي حَقِّ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَغَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّهُ يُوجِبُ نُقْصَانَ مَنْصِبِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ مِثْلَ هَذَا السُّؤَالِ الَّذِي يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَبَثًا أَوْ مَعْصِيَةً. وَكِلَاهُمَا جَائِزَانِ عَلَى أَهْلِ النَّارِ وَغَيْرُ جَائِزَيْنِ عَلَى أَكَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ الْعِلَّةَ الْمَانِعَةَ مِنْ هَذَا الِاسْتِغْفَارِ هُوَ تَبَيُّنُ كَوْنِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ لَا تَخْتَلِفُ بِأَنْ يَكُونُوا مِنَ الْأَقَارِبِ أَوْ مَنِ الْأَبَاعِدِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى وَكَوْنُ سَبَبِ النُّزُولِ مَا حَكَيْنَا، يُقَوِّي هَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَعَلُّقِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ أَنْ لَا يَتَوَهَّمَ إِنْسَانٌ أَنَّهُ تَعَالَى مَنَعَ مُحَمَّدًا مِنْ بَعْضِ مَا أَذِنَ لِإِبْرَاهِيمَ فِيهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يُقَالَ إِنَّا ذَكَرْنَا فِي سَبَبِ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا الْمُبَالَغَةَ فِي إِيجَابِ الِانْقِطَاعِ عَنِ الْكُفَّارِ أَحْيَائِهِمْ وَأَمْوَاتِهِمْ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِدِينِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، بَلِ الْمُبَالَغَةُ فِي تَقْرِيرِ وُجُوبِ الِانْقِطَاعِ كَانَتْ مَشْرُوعَةً أَيْضًا فِي دِينِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَتَكُونُ الْمُبَالَغَةُ فِي تَقْرِيرِ وُجُوبِ الْمُقَاطَعَةِ وَالْمُبَايَنَةِ مِنَ الْكُفَّارِ أَقْوَى. الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِكَوْنِهِ حَلِيمًا أَيْ قَلِيلَ الْغَضَبِ، وَبِكَوْنِهِ أَوَّاهًا أَيْ كَثِيرَ التَّوَجُّعِ وَالتَّفَجُّعِ عِنْدَ نُزُولِ الْمَضَارِّ بِالنَّاسِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ كَانَ مَيْلُ قَلْبِهِ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ لِأَبِيهِ شَدِيدًا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ

إِبْرَاهِيمَ مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِهِ وَمَعَ كَوْنِهِ مَوْصُوفًا بِالْأَوَّاهِيَّةِ وَالْحَلِيمِيَّةِ مَنَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الِاسْتِغْفَارِ لِأَبِيهِ الْكَافِرِ، فَلِأَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ مَمْنُوعًا مِنْ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ أَوْلَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْتَغْفَرَ لِأَبِيهِ. قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ [الشُّعَرَاءِ: ٨٦] وَأَيْضًا قَالَ عَنْهُ: رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ [إِبْرَاهِيمَ: ٤١] وَقَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ قَالَ: سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [مَرْيَمَ: ٤٧] وَقَالَ أَيْضًا: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [الْمُمْتَحَنَةِ: ٤] وَثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِغْفَارَ لِلْكَافِرِ لَا يَجُوزُ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صُدُورِ هَذَا الذَّنْبِ مِنْ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ بِقَوْلِهِ: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ [التوبة: ١١٤] وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْوَاعِدُ أَبَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَبَاهُ وَعَدَهُ أَنْ يُؤْمِنَ، فَكَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَسْتَغْفِرُ له لِأَجْلِ أَنْ يَحْصُلَ هَذَا الْمَعْنَى، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ وَأَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ، وَتَرَكَ ذَلِكَ الِاسْتِغْفَارَ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْوَاعِدُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ وَعَدَ أَبَاهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ رَجَاءَ إِسْلَامِهِ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَعَدَهَا أَبَاهُ بِالْبَاءِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ ذَكَرَ فِي الْجَوَابِ وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ.
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنَ اسْتِغْفَارِ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ دُعَاؤُهُ لَهُ إِلَى الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَكَانَ يَقُولُ لَهُ آمِنْ حَتَّى تَتَخَلَّصَ مِنَ الْعِقَابِ وَتَفُوزَ بِالْغُفْرَانِ، وَكَانَ يَتَضَرَّعُ إِلَى اللَّهِ فِي أَنْ يَرْزُقَهُ الْإِيمَانَ/ الَّذِي يُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ، فَهَذَا هُوَ الِاسْتِغْفَارُ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ يَمُوتُ مُصِرًّا عَلَى الْكُفْرِ تَرَكَ تِلْكَ الدَّعْوَةَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ حَمَلَ قَوْلَهُ: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة: ١١٣] عَلَى صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ فَلَا امْتِنَاعَ فِي الِاسْتِغْفَارِ لِلْكَافِرِ لِكَوْنِ الْفَائِدَةِ فِي ذَلِكَ الِاسْتِغْفَارِ تَخْفِيفُ الْعِقَابِ. قَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَكَرْنَاهُ، أَنَّهُ تَعَالَى مَنَعَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً [التَّوْبَةِ: ٨٤] وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ عَمَّ هَذَا الْحُكْمَ، وَمَنَعَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، سَوَاءٌ كَانَ مُنَافِقًا أَوْ كَانَ مُظْهِرًا لِذَلِكَ الشِّرْكِ وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي بِهِ تَبَيَّنَ لِإِبْرَاهِيمَ أَنَّ أَبَاهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: بِالْإِصْرَارِ وَالْمَوْتِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بِالْإِصْرَارِ وَحْدَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَبْعُدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَرَّفَهُ ذَلِكَ بِالْوَحْيِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَبَرَّأَ مِنْهُ. فَكَانَ تَعَالَى يَقُولُ: لَمَّا تَبَيَّنَ لِإِبْرَاهِيمَ أَنَّ أَبَاهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ، فَكُونُوا كَذَلِكَ، لأني أمرتكم بمتابعة إبراهيم في قوله: وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ [النساء: ١٢٥].
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حَالَ إِبْرَاهِيمَ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ. قَالَ: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة: ١١٤] وَاعْلَمْ أَنَّ اشْتِقَاقَ الْأَوَّاهِ مِنْ قَوْلِ الرَّجُلِ عِنْدَ شِدَّةِ حُزْنِهِ أَوَّهْ، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّ عِنْدَ الْحُزْنِ يَخْتَنِقُ الرُّوحُ الْقَلْبِيُّ فِي دَاخِلِ الْقَلْبِ وَيَشْتَدُّ حَرْقُهُ، فَالْإِنْسَانُ يُخْرِجُ ذَلِكَ النَّفَسَ الْمُحْتَرِقَ مِنَ الْقَلْبِ لِيُخَفِّفَ بَعْضَ مَا بِهِ هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي اشْتِقَاقِ هَذَا اللَّفْظِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِيهِ عِبَارَاتٌ،
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْأَوَّاهُ: الْخَاشِعُ الْمُتَضَرِّعُ»
وَعَنْ عُمَرَ: أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْأَوَّاهِ، فَقَالَ: «الدَّعَّاءُ»
وَيُرْوَى أَنَّ زَيْنَبَ تَكَلَّمَتْ عِنْدَ الرَّسُولِ عليه الصلاة