
وقوله تعالى: ﴿وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا﴾ هو [قال أبو إسحاق: (نصب ﴿وَعْدًا﴾ للمعني؛ لأن معنى قوله: ﴿بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾ وعدهم الجنة) (١)، وقوله: ﴿حَقًّا﴾]، (٢)، قال ابن عباس: [لآن مالهم من الله لا خلف فيه (٣)) (٤).
وقوله تعالى: ﴿فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ﴾، قال الزجاج: (هذا يدل على أن كل أهل ملة أمروا بالقتال ووعدوا عليه الجنة) (٥).
وقال ابن عباس: (يريد شهدت لهم بهذه الشهادة وهذا الثواب في التوراة والإنجيل والقرآن الذي أنزل على محمد - ﷺ -) (٦)، والمعنى أن الله تعالى بين في الكتابين أنه اشترى من أمة محمد - ﷺ - أنفسهم وأموالهم بالجنة، كما بين في القرآن، والقول هذا (٧)، لا ما قاله أبو إسحاق.
وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ﴾ قال ابن عباس: (يريد بوعده) (٨)، وهذا استفهام معناه الإنكار، أي: لا أحد أوفى بما وعد من الله تعالى.
١١٢ - قوله تعالى: ﴿التَّائِبُونَ﴾، قال الفراء: (استؤنفت بالرفع لتمام الآية قبلها وانقطاع الكلام، فحسن الاستئناف) (٩)، وقال صاحب النظم:
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ى).
(٣) في (ى): (له).
(٤) " تنوير المقباس" ص ٢٠٤ بمعناه.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٧١.
(٦) لم أقف عليه.
(٧) وهو ما ذهب إليه أيضًا ابن جرير ١١/ ٣٥ والبغوي ٤/ ٩٨.
(٨) "تنوير المقباس" ص ٢٠٤ بمعناه.
(٩) "معاني القرآن" ١/ ٤٥٣.

(زعم بعضهم أن قوله: ﴿التَّائِبُونَ﴾ منظوم بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ على النعت للمؤمنين، وإنما رفع كما رفع قوله: ﴿جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (٣٦) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [النبأ: ٣٦، ٣٧] (١)، وقوله تعالى: ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾ [المزمل: ٨، ٩] (٢)، وذكر أبو إسحاق في رفع قوله: ﴿التَّائِبُونَ﴾ وجوهًا: أحدها: المدح كأنه قال: هؤلاء التائبون، أو هم التائبون.
والثاني: أن يكون على البدل، المعنى يقاتل التائبون، قال: وهذا مذهب أهل اللغة (٣)، والذي عندي أن قوله ﴿التَّائِبُونَ﴾ رفع بالابتداء وخبره مضمر، المعنى: ﴿التَّائِبُونَ﴾ إلى آخر الآية: لهم الجنة أيضًا، أي: من لم يجاهد غير معاند ولا قاصد لترك الجهاد فله الجنة أيضًا) (٤)، وهذا الذي اختاره أبو إسحاق وجه حسن لأنه وعدٌ لجميع المؤمنين بالجنة، وإذا جعل
(٢) وقد قرأ ابن عامر وحمزة الكسائي ويعقوب وخلف وأبو بكر عن عاصم (رب السموات) بالخفض، وقرأ الباقون بالرفع. انظر: "كتاب السبعة" ص ٦٥٨، و"تحبير التيسير" ص ١٩٤، و"الإتحاف" ص ٤٢٦.
(٣) لم أجد من اعتمد هذا المذهب دون غيره، بل قال النحاس في "إعراب القرآن" ٢/ ٤٣: (التائبون) رفع على إضمار مبتدأ عند أكثر النحويين، أي: (هم التائبون)، وهذا ما اعتمده أبو البقاء العكبري في "التبيان" ص ٤٣١، وابن جني في "المحتسب" ١/ ٣٠٥، والزمخشري في "الكشاف" ٢/ ٢١٦، وقد ذكر المذهب المذكور بصيغة التمريض (قيل) الزمخشري في الموضع السابق، وأبو حيان في "البحر المحيط" ٥/ ١٠٣.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٧١.

قوله: ﴿التَّائِبُونَ﴾ تابعًا لأول الكلام كان الوعد بالجنة خاصًا للمجاهدين الموصوفين بهذه الصفات (١).
وأما التفسير فقال ابن عباس في قوله: ﴿التَّائِبُونَ﴾ يريد: (الراجعون عن الشرك) (٢)، وقال قتادة: (التائبون من الشرك ثم لم ينافقوا في الإسلام) (٣)، وقال الزجاج: (الذين تابوا من الكفر) (٤).
وقال أهل المعاني: (كل من أخلص هذه الصفات مما يحبطها استحق إطلاق هذه الأوصاف عليه) (٥).
وقوله تعالى: ﴿الْعَابِدُونَ﴾، قال ابن عباس: (الذين يرون عبادة الله واجبة عليهم) (٦).
وقال الزجاج: (الذين عبدوا الله وحده) (٧)، وهو معنى قول الكلبي:
(٢) ذكره الرازي في "تفسيره" ١٦/ ٢٠٢، وأبو حيان في "البحر المحيط" ٥/ ١٠٤، والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٢٧.
(٣) رواه ابن جرير ١١/ ٣٦، وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٠٣.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٧٢.
(٥) لم أقف عليه.
(٦) ذكره عنه الرازي في "تفسيره" ١٦/ ٢٠٣، وبمعناه ابن الجوزي في "زاد الميسر" ٣/ ٥٠٥.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٧٢.

(الذين أخلصوا لله العبادة) (١)، وقال الحسن: (هم الذين عبدوا الله باتباع أمره) (٢).
وقوله تعالى: ﴿الْحَامِدُونَ﴾، قال ابن عباس: (يريد: الله (٣) على كل حال) (٤)، ﴿السَّائِحُونَ﴾، قال عامة المفسرين: (الصائمون) (٥)، قال الوالبي عن ابن عباس: (كل ما ذكر في القرآن من السياحة فهو الصيام) (٦)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "سياحة أمتي الصيام" (٧). وروى معمر (٨) عن الحسن قال:
(٢) رواه بنحوه ابن جرير ١١/ ٣٧، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٨٨، وابن المنذر وابن أبي شيبة وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٠٣.
(٣) في (م) و (ى): (لله)، وما أثبته موافق لما في "الوسيط"، والمراد: الحامدون الله.
(٤) انظر: "الوسيط" ٢/ ٥٢٧ دون نسبة.
(٥) انظر: " تفسير ابن جرير" ١١/ ٣٧ - ٣٩، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٨٩ - ١٨٩٠، و"الدر المنثور" ٣/ ٥٠٣ - ٥٠٤.
(٦) رواه ابن جرير ١١/ ٣٨، وابن المنذر كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٠٣، وبنحوه ابن أبي حاتم ٦/ ١٨٩٠، والبغوي ٤/ ٩٩.
(٧) أجده بهذا اللفظ عند أئمة الرواية، وقد ذكره الرازي في "تفسيره" ١٦/ ٢٠٣ والمؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٢٧، والقرطبي في "تفسيره" ٨/ ٢٧٠، ورواه ابن جرير في "تفسيره" ٣٩/ ١١ موقوفاً على عائشة، وفي سنده إبراهيم بن يزيد الخوزي، وهو متروك الحديث كما في "تقريب التهذيب" ص ٩٥ (٢٧٢).
وقد روى أبو داود (٢٤٨٦)، كتاب: الجهاد، الحديث بلفظ: (إن سياحة أمتي الجهاد) وهو صحيح كما في "صحيح الجامع الصغير" رقم (٢٠٩٣).
(٨) هو: معمر بن راشد الأزدي مولاهم أبو عروة البصري، نزيك اليمن، الإمام الحافظ، كان ثقة فاضلًا من أوعية العلم، مع الصدق والورع، وتوفي سنة ١٥٤هـ. انظر: "التاريخ الكبير" ٧/ ٣٧٨، و"تذكرة الحفاظ" ١/ ١٩٠، و"وسير أعلام النبلاء" ٧/ ٥، و"تقريب التهذيب" ص ٥٤١ (٦٨٠٩).

(هذا صوم القرض) (١)، وقيل (٢): هم الذين يديمون الصيام) (٣)، وقال الزجاج: (وقول الحسن أبين) (٤).
وقال الأزهري: (وقيل للصائم سائح لأن الذي يسيح في الأرض متعبدًا لا زاد معه فحين يجد الزاد يطعم، والصائم لا يطعم أيضًا فلشبهه به سمى سائحًا) (٥)، وهذا معنى قول سفيان بن عيينة: (إنما قيل للصائم سائح لأنه تارك اللذات كلها من المطعم والمشرب والنكاح) (٦)، يريد أنه كالمسافر في تركه هذه الأشياء.
وقال أهل المعاني: (أجل السياحة: الاستمرار بالذهاب في الأرض كما يسيح الماء، فالصائم مستمر على الطاعة في ترك المنهي من المأكل والمشرب والمنكح) (٧)، وهذا اشتقاق، وقد روى لي الأستاذ أبو إسحاق (٨) -رحمه الله- بإسناده عن عكرمة أنه قال هم: طلبة العلم) (٩)،
(٢) في (ى): (وقال).
(٣) هذا القول لأبي عمرو العبدي. انظر: "تفسير ابن جرير" ١٤/ ٥٠٤، وابن أبي حاتم ٤/ ١٠١ أ، و"الدر المنثور" ٣/ ٥٠٤.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٧٢.
(٥) "تهذيب اللغة" (ساح) ٢/ ١٥٨٦.
(٦) رواه الثعلبي ٦/ ١٥١ ب، وابن المنذر كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٠٤، وذكره بنحوه ابن جرير ١١/ ٣٩ بغير سند.
(٧) انظر: "معاني القرآن الكريم" للنحاس ٣/ ٢٥٨.
(٨) يعني الثعلبي.
(٩) "تفسير الثعلبي" ٦/ ١٥٢ أ، ورواه أيضًا ابن أبي حاتم ٦/ ١٨٩٠، والبغوي ٤/ ٩٩.

يريد: الذين يسافرون لأجل طلب العلم والحديث، والقول هو الأول.
وقوله تعالى: ﴿الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ﴾، قال ابن عباس: (يريد الذين يصلون لله بنية صادقة (١)) (٢).
وقال الزجاج: (الذين أدوا (٣) ما افترض عليهم من الركوع والسجود) (٤)، وهو قول الحسن، قال: (هذا صلاة الفرض) (٥).
قوله تعالى: ﴿الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾، قال عامة المفسرين: (بالإسلام والإيمان بالله) (٦)، وقال عطاء: (يريد بفرائض الله وحدوده وتوحيده).
وقوله تعالى: ﴿وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾، قال: (يريد عن ترك فرائض الله وحدوده والشرك به) (٧).
وقال الكلبي: (عن اتباع الجبت والطاغوت) (٨)؛ والأولى أن هذا عام في كل معروف ومنكر.
وأما دخول الواو في قوله: ﴿وَالنَّاهُونَ﴾ فإن العرب قد تنسق بالواو
(٢) ذكره المؤلف في "الوسيط" ٢/ ٥٢٧.
(٣) في (ى): (يؤدون)، وما أثبته موافق للمصدر التالي.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٧٢.
(٥) رواه بنحوه ابن جرير ٣٩/ ١١، وابن أبي حاتم ٦/ ١٨٩١، وابن أبي شيبة وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٠٣.
(٦) رواه ابن جرير ١١/ ٣٩ بنحوه عن أبي العالية، وهو قول الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ٤٧٢، والبغوي في "تفسيره" ٤/ ٩٩، وانظر: "النكت والعيون" ٢/ ٤٠٨، و"المحرر الوجيز" ٧/ ٥٦.
(٧) "تنوير المقباس" ص ٢٠٥ بمعناه.
(٨) لم أقف عليه.

وغير الواو، منه قوله (١) -عز وجل-: ﴿حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ﴾ [غافر: ١ - ٣]، وجاء بعض بالواو وبعض بغير الواو، ومنه قول الخرنق:
لا يبعدنْ قومي الذين هم... سم العداة وآفة الحزر
النازلين بكل معترك... والطيبون معاقد الأزر (٢)
وإنما يفعل ذلك لالتباس الكلام بعضه ببعض.
وقال صاحب النظم: قوله: ﴿التَّائِبُونَ﴾ إلى قوله: ﴿السَّاجِدُونَ﴾ مبتدأ يقتضي جوابًا، وجاء بهذا (٣) النظم منسوقًا بعضه على بعض بلا واو العطف، ثم أجاب هذا المبتدأ بقوله: ﴿الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ فلما كان الفصل الأول مبتدأ جعل له نظمًا غير نظم الجواب، ونظم الجواب نسق بواو العطف فرقًا بينهما، ولولا هذا الفرق لما امتاز
(٢) انظر: "ديوان الخرنق" ص ٢٩، و"أوضح المسالك" ١/ ١٠، و"كتاب سيبويه" ١/ ٢٠٢.
لا يبعدن: أي لا يهلكن. سم العداة: أي هم كالسم لعدوهم.
آفة الجزر: أي هم آفة للإبل التي تجزر لكثرة ما ينحرون منها. والمعترك: موضع ازدحام الناس في المعركة.
ومعقد الإزار: موضع عقده، والإزار: ما يستر النصف الأسفل من البدن، وطيبها كناية عن العفة والبعد عن الفاحشة.
قال ابن هشام بعد ذكر البيتين: يجوز فيه رفع (النازلين) و (الطيبين) على الإتباع لـ (قومي) أو على القطع بإضمار (هم)، ونصبها بإضمار (أمدح) و (أذكر) ورفع الأول ونصب الثاني على ما ذكرنا، وعكسه على القطع فيهما. أوضح المسالك ٣/ ١٢.
(٣) في (ى): (هذا).