ورفع بناءه حين كانوا في الأحقاف، وهو قوله: ﴿أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ﴾ [الشعراء: ١٢٨] الآية.
وقوله: ﴿التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد﴾ أي: مثل تلك الأعماد. وقيل: إنما وصفوا [بذلك] لشدة أبدانهم وقوتهم. والهاء في ﴿مِثْلُهَا﴾ تعود على عاد، لأنها قبيلة أو على إرم لأنها مدينة.
قال قتادة: ذكر/ أنهم كانوا اثني عشر ذراعاً، وهو قوله: ﴿وَزَادَكُمْ فِي الخلق بَصْطَةً﴾.
قوله تعالى: ﴿وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد﴾ إلى آخر السورة.
أي: وألم تر - يا محمد - كيف فعل ربك بثمود - وهم قوم صالح - الذين نقبوا الصخر وخرقوه واتخذوه بيوتا؟! وهو قوله: ﴿وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً آمِنِينَ﴾ [الحجر: ٨٢].
والعرب تقول: " جاب فلارن [الفلاة] يجوبها جوْباً " إذا دخلها
وقطعها.
قال ابن عباس: ﴿جَابُواْ الصخر بالواد﴾، أي: خرقوها، يعني: قوم صالح كانوا ينحتون من الجبال (بيوتا).
قال مجاهد: " جابوا الجبال فجعلوها بيوتاً ".
ثم قال تعالى: ﴿وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد﴾ أي: أو لم تر، يا محمد، فعل ربك بفرعون ذي الأوتاد؟!
قال ابن عبس: الأوتد هنا " الجنود الذين يشدون له أمره ".
وقيل: معناه ذي الجنود الكثيرة الذين يحتاجون [لضرب] الأوتاد في أسفارهم.
وقال مجاهد: وصف بذلك، لأنه كان [يتد أوتاد] الحديد في أيدي الناس
وأرجلهم يقتلهم بها.
وقال قتادة: وصف بذلك، لأنه كانت [له مظال] وملاعب يلعب له تحتها من أوتاد [وحبال].
وروى ثابت البناني عن أبي رافع أن فرعون " وتد لامرأته (أربعة) أوتاد، ثم جعل على ظهرا رحى عظيمة حتى ماتت ".
وقال ابن جبير: وصف بذلك: لأنه كان يعذب الناس بالأوتاد، قال: [فكان] يجعل رجلاً هاهنا ورجلاً هاهنا، ويداً هاهنا [ويدا] هاهنا بالأوتاد، وقاله مجاهد أيضاً.
وعن ابن جبير أيضاً أنه إنما وصف بذلك، لأنه كان له بنيان يعذب الناس
عليه، قال: كان له منارات يعذب الناس عليها.
وقوله: ﴿الذين طَغَوْاْ فِي البلاد﴾ أي: تجاوزوا حدود الله عتوا على ربهم في البلاد التي كانوا بها فأكثوا في تلك البلاد الفساد بركوبهم المعاصي.
ثم قال تعالى: ﴿فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ﴾ أي: فأنزل بهم ربك (يا محمد) عذابه نقمة منه لهم لكفرهم، يعني جميع من تقدم ذكره من الكفرة. والعرب تقول لكل عذاب شديد عذب به المعذب: سوط خزي.
فقوله: ﴿سَوْطَ عَذَابٍ﴾، واقع على أنواع (من العذاب عذب الله بها هذه الأمم) المذكورة في الدنيا فأهلكهم بها. [وكذا حكى الماوردي: ﴿سَوْطَ عَذَابٍ﴾ اي: خلط عذاب لأنه أنواع].
قال مجاهد: ﴿سَوْطَ عَذَابٍ﴾ " ما عذبوا به ". وهوقول ابن زيد (وغيره).
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد﴾ أي: إن ربك يا محمد لهؤلاء الذين قصصت عليك قصصهم ولغيرهم من أمثالهم لبالمرصاد يرصدهم على قناطر جهنم فيكردسهم فيها إذا وردوها يوم القيامة. وقيل: معناه: لا يفوته هارب.
وقال ابن عباس: ﴿لبالمرصاد﴾ أي: " يسمع ويروى ". وقال الضحاك: إذا كان يوم [القيامة] يأمر الله تعالى بكرسيه فيوضع على النر فيستوي عليه ويقول: " وعزتي لا يجاوزني اليوم (ذو) مظلمة ".
فذلك قوله جل ثناؤه: ﴿لبالمرصاد﴾.
وقال سفيان: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد﴾ يعني: جهنم عليها ثلاث [قناطر]:
قنطرة فيها الرحم، وقنطرة فيها لأمانة، وقنطرة فيها الرب جل ثناؤه. قال [عمرو] بن قيس: بلغني أن على جهنم ثلاث [قناطر] فقنطرة عليها الأمانة إذا مروا بها تقول: (يا رب)، هذا (أمين، يا رب هذا خائن. وقنطرة عليها الرحم إذا مروا بها تقول: هذا) واصل، هذا قاطع. وقنطرة عليها الرب تعالى ذكره ﴿إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد﴾.
وقال الحسن: ﴿لبالمرصاد﴾ أي: " مرصاد عمل بني آدم ". قال ابن مسعود: والفجر إن ربك لبالمرصاد.
يعني أنه جواب القسم.
ويروى أن على جسر جهنم (سبع) [قناطر] محابس، بين كل قنطرتين
سبعون عاما، وعرض [الجسر] كحد السيف مدحضة مزلقة، في الرقة مثل الشعرة، فيسأل الناس [عند أول] قنطرة من الإيمان، فإن جاء به تاماً جاز إلى القنطرة الثانية، ثم يسأل عن [الصلوات] الخمس، فإن جاء بها [تامة] جاز إلى (القنطرة) الثالثة، ثم يسأل عن الزكاة، فإن جاء بها تامة جاز إلى الرابعة، ثم يسأل عن صيام رمضان فإن جاء به تاما جاز إلى الخامسة، ثم (يسأل) عن الحج، ثم (يسأل) عن صلة الرحم.
قال نافع (و) الرؤاسي: ﴿إِرَمَ﴾ وقف جيد. وهو بعيد لأن ﴿ذَاتِ العماد﴾ نعت لما قبلها أو بدل منه. والوقف عند الأخفش وغيره ﴿أَهَانَنِ﴾. والاختيار
الوقف على " كلا " وهو قول نصير وأحمد بن موسى/. والمعنى: كلا، [لم أهنه بتقديري] عليه رزقه.
وقال الفراء: معناه: كلا، لم يكن ينبغي للإنسان أن يقول هذا، ولكن يجب عليه أن يحمد الله على الأمرين جميعاً، على الغنى والفقر.
وقوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ﴾.
أي: فأ/االإنسان إذا امتحنه ربه بالنعم والسعة فرح بذلك، وقال: ربي أكرمني بهذه الكرامة.
وأما إذا ما امتحنه فضيق عليه رزقه وقَتَّره عليه غَمَّه [وقال]: ربي أهانني وأذلني بالفقر، فلم يشكر الله على ما وهب له من سلامة جوارحه.
قال قتادة: ﴿فَيَقُولُ ربي أَهَانَنِ﴾ " ما أسرع ما كفر ابن آدم ".
وقوله: ﴿كَلاَّ﴾.
هو إنكار من الله أن يكون سبب كرامته من أكرم [كثرة] المال، وسبب
إهانته من أهان قلة المال.
قال قتادة معناه: لا أكرم من أكرمت بكثرة المال ولا أهين من أهنت بقلته، ولكن إنما أكرم من أكرمت بتوقيته إلى [طاعتي]، وأهين من أهنت بخلاذنه وارتكابه لمعصيتي.
(ودل على ذلك قوله: ﴿بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم * وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين﴾ إلى ﴿جَمّاً﴾ أي: فبهذا أهين من أهنت، لأنه مرتكب لمعصيتي) مخذول ممنوع عن طاعتي.
وقيل: معناه: لم يكن الإنسان أن يحمد الله على النعم دون الفقر، ولكن ينبغي له أن يحمده على الأمرين جميعاً، على الغنى والفقر.
والوقف على ﴿أَهَانَنِ﴾ حسن، وتكون " كلا " في الابتداء بمعنى " حقاً "، أو بمعنى " ألا ". وهو قول الأخفش وأحمد بن موسى.
وأجاز أبو حاتم الوقف على (أهنن) وعلى (كلا).
والوقف عند نصير والفراء على " كلا " معناه: ليس يهان أحد بفقر ولا غنى. وقاله قتادة.
وقوله: ﴿بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم﴾ أي: بل إنما أهنت، لأنه لا يكرم اليتيم ولا يحض الناس ولا نفسه على طعام المسكين.
ثم قال تعالى: ﴿وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً﴾ أي: وأهنتكم لأنكم تأكلون الميراث أكلاً شديداً.
﴿وَتُحِبُّونَ المال حُبّاً جَمّاً﴾ أي: كثيراً.
قال ابن عباس: ﴿أَكْلاً لَّمّاً﴾، أي: سفاً، وجماً: شديداً.
وقال الحسن: معنى ﴿لَّمّاً﴾، أي: يخلطون الحلال بالحرام.
وقال ابن زيد: ﴿وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً﴾، أي: تأكلون كل شيء تجدونه من الميراث وغيره، لا تسألون عنه، يأكل الذي له والذي لصاحبه.
[قال]: كانوا [يورثون] النساء ولا [يورثون] الصغار، وقرأ ﴿وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب فِي يتامى النسآء﴾.. إلى قوله ﴿عَلِيماً﴾ [النساء: ١٢٧].
فقوله: ﴿والمستضعفين مِنَ الولدان﴾ [النساء: ١٢٧]، يعني: يستضعفوهم [فلا يؤتنهم].
قال: وقوله: ﴿وَتُحِبُّونَ المال حُبّاً جَمّاً﴾
أي: وتحبون جمع المال واقتناءه حبا كثيرا.
والعرب تقول: " جم الماء في الحوض ": إذا اجتمع وكثر.
ثم قال تعالى: ﴿كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأرض دَكّاً دَكّاً﴾.
الوقف على " كلا " حسن، ومعناه: ليس هكذا ينبغي أن يكون الأمر أن تأكلوا الميراث أكلا شديدا، وتحبوا جمع المال حباً كثيراً. ولا تكرمون اليتيم بالصدقة، ولا تحضون على طعام المسكين.
وقيل: المعنى: لا يغني عنكم جمع المال شيئاً.
وقوله تعالى: ﴿إِذَا دُكَّتِ الأرض دَكّاً﴾، أي: رجت ولزلزت مرة بعد مرة.
قال ابن عباس: هو " تحريكها ".
ثم قال تعالى: ﴿وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً﴾ أي: والملائكة صفاً بعد صف.
وروى شهر بن حوشب عن ابن عباس أنه قال: إذا كان يوم القيامة، مدت الأرض مد الأديم، وزيد في سعتها كذا وكذا، وجمع الخلائق بصعيد واحد، جِهنَّم وإنسهم، فإذا كان [ذلك] اليوم قيضت السماء الدنيا عن أهلها على وجه الأرض، ولأهل هذه السماء وحدهم أكثر من أهل الأرض، جهنم وإنسهم بضعف، [فإذا مروا] على جه الأرض فزعوا منهم، فيقولون: (أفيكم ربنا؟ فيفزعون من قولههم، فيقولون) سبحان ربنا، ليس فينا وهو آتٍ ثم تقاض السماء الثانية، فأهل السماء الثانية وحدهم أكثر من أهل سماء الدنيا ومن جمعي أهل الأرض بضعف جنهم وإنسهم، فإذا مروا على وجه الأرض فزع إليهم أهل الأرض فيقولون: أفيكم ربنا؟ فيفزعون من كلامهم ويقولون: سبحان الله، ليس فينا، وهو آت ثم
تقاض السماوات سماءً (سماءً)، كلما قيضت سماء عن أهلها كانت/ أكثر من أهل السماوات التي تحتها ومن جميع أهل الأرض بضعف، فإذا مروا على وجه الأرض فزع إليهم أهل الأرض فيقولون، لهم مثل ذلك، ويرجعون إليهم مثل ذلك، حتى [تقاض السماء] السابعة، فلأهل السماء السابعة أكثر من أهل ست سماوات ومن جميع الأرض بضعف، فيجيء الله تعالى فيهم وجميع الأمم جثيٌّ [صفوف]، وينادي مناد: ستعملون اليوم من أصحاب الكرم، ليقم الحمادون لله على كل حال.
قال: فيقومون فيسرحون إلى الجنة، ثم ينادي الثانية: ستعلمون اليوم من أصحا الكرم، أين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون؟ فيسرحون إلى الجنة، ثم ينادي الثالثة: ستعلمون اليوم من أصحاب الكرم، أين الذين كانوا لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام
الصلاة وإتياء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار؟ فيسرحون إلى الجنة، قال: فإذا أخذ من هؤلاء ثلاثة، عنق من النار فأشرف على الخلائق له عينان تبصران ولسان فصيح فيقول: إني كلت منكم بثلاثة: بكل جبار عنيد، [فيلتقطهم] من الصفوف لقط الطير حسب السمسم فيخنس بهم في جهنم، [ثم] [يخرج] ثانية [فيقول]: إني وكلت منكم بمن آذى الله ورسوله، [فيلتقطهم] [من الصفوف] لقط الطير حسب السمسم [فيخنس] بهم في جهنم. قال شهر ابن حوشب: وأحسب أنه ذكر في الثالثة أهل التصاوير [فيلتقطهم] كذلك.
صفحة رقم 8258
قل: فإذا أخذ من هؤلاء ثلاثة، ومن هؤلاء ثلاثة، نشرت الصحف ووضعت الموازين ودعي الخلائق للحساب.
وقال الضحاك: إذا كان يوم القيامة، أمر الله جل ذكره السماء الدنيا بأهلها، فنزل من فيها من الملائكة فأحاطوا بالأرض ومن عليها، ثم الثانية، ثم الثالثة، كذلك إلى السابعة، فصفوا صفادون صفن ثم ينزل الملك الأعلى، على مجنبته اليسرى جهنم، فإذا رآها أهل الأرض نادوا، فلا يأتون قطراً من أقطار الأرض إلا وجدوا سبعة صفوف من الملائكة، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه ذلك قوله تعالى: ﴿ إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التناد * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ﴾ [غافر: ٣٢ - ٣٣].
وقرئ بتشديد الدال من ند البعير: إذا فر.
قال: ذلك قوله: ﴿وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً * وجياء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ﴾.. وقوله:
﴿يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ﴾ [الرحمن: ٣٣] الآية.
وهو قوله: ﴿وانشقت السمآء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * والملك على أَرْجَآئِهَآ﴾ [الحاقة: ١٦ - ١٧].
روى أبو هريرة أن النبي ﷺ ( قال): " توقفون موقفاً واحداً يوم القيامة مقدار سبعين عاما لا ينظر إليكم ولا يقضى بينكم، فتبكون حتى ينقطع الدمع، ثم تدمعون دما وتبكون حتى يبلغ ذلك منكم [الأذقان] ويلجمكم وتضجون ثم تقولون: [من] يشفع لنا إلى ربنا فيقضي بيننا؟ فيقولون: من أحق بذلك من أبيكم آدم، قبل الله توبته وخلقه بيده ونفخ فيه من روحه وكلمه [قبلاً]، فيؤتى
آدم، فيطلب ذلك إليه فيأبى، ثم الأنبياء - نبياً - نبياً - كلما جاؤوا نبياً أبى.
قال رسو الله ﷺ: حتى يأتونني فإذا جاءوني خرجت حتى أتى الفحص.
قال ابو هريرة: رضي الله عنهـ: يا رسول الله، وما الفحص؟ قال قدام العرش، قال: فأخر ساجداً، قال: فلا أزال ساجداً حتى يبعث الله إلي ملكاً فيأخذ بعضدي فيرفعني، فيقول الله جل وعز [لي]: يا محمد، فأقول: نعم، وهو أعلم، فيقول: ما شأنك؟ فأقول: يا رب، وعدتني الشفاعة، فشفعني في خلقك واقض بينهم، فيقول تعالى: قد شفعتك، أنا آتيهم وأقضي بينهم.
قال رسول الله ﷺ: فأنصرف حتى أقف مع الناس، فبينما نحن وقوف، سمعنا حسناً من السماء شديداً، فهالنا، فنزل أهل سماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الإنس والجن، حتى إذا دنو من الأرض، أشرقت الأرض لنورهم، وأخذوا [مصافهم] [فقلنا] (لهم): أفيكم ربنا؟ [فقالوا]: لا، وهو آت. ثم نزل
أهل السماء الثانية بمثلي من نزل من الملائكة وبمثل من فيها من الجن والإنس، حتى إذا دنوا من الأرَ، أشرقت الأرض لنورهم وأخذوا مصافهم، فقلنا لهم: أفيكم ربنا؟ فقالوا: لا، وهو آت، ثم ينزل أهل السماوات على قدر ذلك من التضعيف، حتى نزل الجبار في ظلل من الغمام والملائكة لهم زجل من تسبيحهم/ يقولون: سبحان الملك ذي الملكوت، سبحان رب العرش ذي الجبروت، سبحان الحي الذي لا يموت، سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت، سبوح قدوس رب الملائكة والروح، قدوس قدوس سبحان ربنا الأعلى سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والسلطان والعظمة، سبحانه أبداً أبداً، فينزل تعالى جل ذكره يحمل عرشه يومئذ ثمانية، وهم اليوم أربعة أقدامهم على تخوم الأرض السفلى والسماوات إلى حجزهم والعرشُ إلى مناكبهم. قال: فيضع الله جل ذكره كرسيه حيث شاء من الأرض، ثم ينادي بنداء يسمع الخلائق فيقول: يا [معشر الجن] والإنس [إني] قد أنصت من يوم خلقتكم إلى يومكم هذا، أسمع كلامكم وأبصر أعمالكم، فأنصتوا إليَّ، فإنما
صفحة رقم 8262
هي صحفكم وأعمالكم تقرأ عليكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا [يلم] إلا نفسه.
قال: ثم يأمر الله جل وعز جهنم فيخرج منها عنق ساطع [مظلم] يقول: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يابنيءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعبدوني هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ إلى قوله: ﴿المجرمون﴾ فيتميز الناس ويجثون، [وهي] التي يقول الله تعالى جل ذكره: ﴿وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تدعى إلى كِتَابِهَا﴾ إلى ﴿تَعْمَلُونَ﴾.
قال: فيقضي الله جل ثناؤه بين خلقه الجن والإنس والبهائم، فإنه [ليقيدُ] يومئذ للجماء من ذات القرن، حتى إذا لم تبق تبعة عند واحدة لأخرى، قال
الله تعالى: كوني تراباً. فعند ذلك يقول الكافر: يا ليتني كنت تراباً! [قال]: ثم يقضي الله جل ذكره بين الجن والإنس ".
ووقع [التكرير] في (دكاً دكاً) و (صفاً صفاً) على معنى: دكاً (بعد دكاً) [وصفاً] بعد صف.
ثم قال تعالى: ﴿وجياء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ﴾.
قال ابن مسعود: " جيء بها تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يقودنها وقاله ابن وائل.
ثم قال تعالى: ﴿وجياء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان وأنى لَهُ الذكرى﴾.
أي: يتذكر تفريطه في الدنيا في طاعة الله، ومن أي وجه له الذكرى في ذلك اليوم وقد حيل بينه وبين العمل.
ثم قال تعالى: ﴿يَقُولُ ياليتني قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾.
أي: يتلهف ويتندم فيقول: يا ليتني قدمت في الدنيا عملاً صالحاً لحياتي هذه التي لا موت بعدها فينجيني ذلك العمل من عذاب الله تعالى وسخطه ويقربني من رضوانه وجنته.
فالمعنى: قدمت لآخرتي (التي) هي الحياة الدائمة، دليله قوله: ﴿وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان﴾ [العنكبوت: ٦٤] أي: لهي الحياة.
وقيل: المعنى قدمت لأحيا، ، لأن أهل النار ليسوا بأحياء ولا أموات، بدلالة قوله: ﴿لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى﴾ [طه: ٧٤].
قال قتادة: " هناكم والله الحياة الطويلة ".
وقال مجاهد: " لحياتي ": " للآخرة ".
وقيل: الكلام بمعنى في والتقدير: يا ليتني قدمت (في حياتي، أي قدمت
العمل الصالح) في حياتي في الدنيا، مثل: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١]، أي: في عدتهن.
ثم قال تعالى: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ﴾.
من كسر الذال والثاء من ﴿يُعَذِّبُ﴾ و ﴿يُوثِقُ﴾ فمعناه: فلا يعذب - ذلك اليوم - أحد مثل عذاب الله لهم ولا يوثق حد مثل وثاق الله لهم.
وقيل: (معناه: لا يعذب أحد في الدنيا كعذاب الله يومئذ ولا يوثق أحد في الدنيا كوثاقه يومئذ.
ومن فتح ذلك)، فمعناه: فلا يعذب أحد مثلما يعذب الكافر ولا يوثق مثلما يوثق.
وقال الحسن: قد علم الله أن في الدنيا عذاباً (و) وثاقاً، فقال: فيومئذ
لا يعذبه عذابه أحد (في الدنيا) ولا يوثق وثاقه في الدنيا.
ثم قال تعالى: ﴿يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً﴾ ﴿وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ﴾.
هذا خبر من الله - جل ذكره - عن قول الملائكة يوم القيامة لأولياء الله، والمعنى: تقول الملائكة لأولياء الله يوم القيامة، يا أيتها النفس التي اطمأنت إلى وعد الله [و] وعيده، فصدقت بذلك في الدنيا.
قال ابن عباس: المطمئنة: " المصدقة " (وقال قتادة: " هوالمؤمن، اطمأنت نفسه إلى ما وعد الله "، وعنه:): المصدقة بما وعد الله.
وقال مجاهد: المطمئنة: الموقنة إن الله ربها، وعنه أيضاً.
المطمئنة التي أيقنت بلقاء ربها.
وفي قراءة أبي: " يا أيتها النفس الآمنة ".
[قال الحسن: المطمئنة إذا أراد الله تعالى قبضها اطمأنت إلى الله سبحانه واطمأن
الله سبحانه إليها ورضيت من الله تعالى ورضي عنها فأمر بقبضها وإدخالها الجنة وجعله من عباده الصالحين]، وروي أن ذلك قول [الملائكة] للعبد المؤمن عند خروج نفسه [تبشره] برضاء ربه عنه وإعداد ما أعد له من الكرامة عنده.
قال أبو صالح: ﴿ارجعي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً﴾ هذا عند الموت ﴿فادخلي فِي عِبَادِي﴾ هذا يوم القيامة.
وقيل: إنه كله يوم القيامة. وإن [معنى] ﴿ارجعي إلى رَبِّكِ﴾، أي: إلى صاحبك/. وهو قول ابن عباس.
وقال الضحاك: " يأمر الله الأرواح يوم القيامة أن ترجع إلى الأجساد فياتون الله كما خلقهم أول مرة " فهو على قوله أيضاً كله يوم القيامة، وهو اختيار الطبري.
قال عكرمة: ﴿إلى رَبِّكِ﴾ إلى جسد صاحبك. [وقاله] ابن جبير.
فيكون أيضاً كله يوم القيامة وتكون المخاطبة للنفس ودل على ذلك قوله: ﴿وادخلي جَنَّتِي﴾ ودخول الجنة لا يكون إلا في القيامة.
وقال الضحاك إن معنى [فادخلي في عبادي]، [أي: طاعتي]، ﴿وادخلي جَنَّتِي﴾ أي: رحمتي فالمخاطبة - على هذا - للإنسان، لا للنفس في المعنى. وإليه يذهب الفراء، ومعناه عنده أن الملائكة تقول لهم إذا أعطوا كتبهم بإيمانهم هذا، (أي): ارجعي إلى ثواب ربك.