أَدْبَرَ
«١» وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ وَلِأَنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ بِتَعَاقُبِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَاخْتِلَافِ مَقَادِيرِهِمَا عَلَى الْخَلْقِ عَظِيمَةٌ، فَصَحَّ أَنْ يُقْسِمَ بِهِ لِأَنَّ فِيهِ تنبيها على أن تعاقبهما بتدبيره مُدَبِّرٍ حَكِيمٍ عَالِمٍ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هي ليلة المزدلفة فقوله: إِذا يَسْرِ أَيْ إِذَا يُسَارُ فِيهِ كَمَا يُقَالُ: لَيْلٌ نَائِمٌ لِوُقُوعِ النَّوْمِ فِيهِ، وَلَيْلٌ سَاهِرٌ لِوُقُوعِ السَّهَرِ فِيهِ، وَهِيَ لَيْلَةٌ يَقَعُ السُّرَى فِي أَوَّلِهَا عِنْدَ الدَّفْعِ مِنْ عَرَفَاتٍ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، وَفِي آخِرِهَا كَمَا
رُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يُقَدِّمُ ضَعْفَةَ أَهْلِهِ فِي هَذِهِ الليل،
وَإِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: قرئ إِذا يَسْرِ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ، ثُمَّ قَالَ: وَحَذْفُهَا أَحَبُّ إِلَيَّ لِأَنَّهَا فَاصِلَةٌ وَالْفَوَاصِلُ تُحْذَفُ مِنْهَا الْيَاءَاتُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهَا الْكَسْرَاتُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَالْعَرَبُ قَدْ تَحْذِفُ الْيَاءَ وَتَكْتَفِي بِكَسْرَةِ مَا قَبْلَهَا، وَأَنْشَدَ:
كَفَّاكَ كَفٌّ مَا يُبْقِي دِرْهَمًا | جُودًا وَأُخْرَى تُعْطِ بِالسَّيْفِ الْدَّمَا |
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْحِجْرُ الْعَقْلُ سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ عَنِ الْوُقُوعِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي كَمَا سُمِّيَ عَقْلًا وَنُهْيَةً/ لِأَنَّهُ يَعْقِلُ وَيَمْنَعُ وَحَصَاةً مِنَ الْإِحْصَاءِ وَهُوَ الضَّبْطُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَالْعَرَبُ تَقُولُ إِنَّهُ لَذُو حِجْرٍ إِذَا كَانَ قَاهِرًا لِنَفْسِهِ ضَابِطًا لَهَا كَأَنَّهُ أَخَذَ مِنْ قَوْلِهِمْ حَجَرْتُ عَلَى الرَّجُلِ، وَعَلَى هَذَا سُمِّيَ الْعَقْلُ حِجْرًا لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنَ الْقَبِيحِ مِنَ الْحَجْرِ وَهُوَ الْمَنْعُ مِنَ الشَّيْءِ بِالتَّضْيِيقِ فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ اسْتِفْهَامٌ وَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّأْكِيدُ كَمَنْ ذَكَرَ حُجَّةً بَاهِرَةً، ثُمَّ قَالَ:
هَلْ فِيمَا ذَكَرْتُهُ حُجَّةٌ؟ وَالْمَعْنَى أَنَّ مَنْ كَانَ ذَا لُبٍّ عَلِمَ أَنَّ مَا أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِيهِ عَجَائِبُ وَدَلَائِلُ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالرُّبُوبِيَّةِ، فَهُوَ حَقِيقٌ بِأَنْ يُقْسِمَ بِهِ لِدَلَالَتِهِ عَلَى خَالِقِهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا: أَنَّ الْقَسَمَ وَاقِعٌ بِرَبِّ هَذِهِ الْأُمُورِ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ هَذَا مُبَالَغَةٌ فِي الْقَسَمِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي الْقَسَمِ لَا تَحْصُلُ إِلَّا فِي الْقَسَمِ بِاللَّهِ، وَلِأَنَّ النَّهْيَ قَدْ وَرَدَ بأن يحلف العاقل بهذه الأمور.
[سورة الفجر (٨٩) : الآيات ٦ الى ١٤]
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠)
الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤)
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي جَوَابِ الْقَسَمِ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ جَوَابَ الْقَسَمِ هُوَ قَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ وَمَا بَيْنَ الْمَوْضِعَيْنِ مُعْتَرِضٌ بَيْنَهُمَا الثَّانِي: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ وَهُوَ لَنُعَذِّبَنَّ الْكَافِرِينَ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى قَوْلِهِ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ وَهَذَا أَوْلَى مِنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَعَيَّنِ الْمُقْسَمُ عَلَيْهِ ذَهَبَ الْوَهْمُ إِلَى كُلِّ مَذْهَبٍ، فَكَانَ أَدْخَلَ فِي التَّخْوِيفِ، فَلَمَّا جَاءَ بَعْدَهُ بَيَانُ عَذَابِ الْكَافِرِينَ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ أَوَّلًا هُوَ ذَلِكَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَلَمْ تَرَ، أَلَمْ تَعْلَمْ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَصِحُّ أَنْ يَرَاهُ الرَّسُولُ وإنما أطلق لفظ الرؤية هاهنا عَلَى الْعِلْمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَخْبَارَ عَادٍ وَثَمُودَ وَفِرْعَوْنَ كَانَتْ مَنْقُولَةً بِالتَّوَاتُرِ! أَمَّا عَادٌ وَثَمُودُ فَقَدْ كَانَا فِي بِلَادِ الْعَرَبِ وَأَمَّا فِرْعَوْنُ فَقَدْ كَانُوا يَسْمَعُونَهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَبِلَادُ فِرْعَوْنَ أَيْضًا/ مُتَّصِلَةٌ بِأَرْضِ الْعَرَبِ وَخَبَرُ التَّوَاتُرِ يُفِيدُ الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ، وَالْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ جَارٍ مَجْرَى الرُّؤْيَةِ فِي الْقُوَّةِ وَالْجَلَاءِ وَالْبُعْدِ عَنِ الشُّبْهَةِ، فَلِذَلِكَ قَالَ: أَلَمْ تَرَ بِمَعْنَى أَلَمْ تَعْلَمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ خِطَابًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّهُ عَامٌّ لِكُلِّ مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى حِكَايَتَهُمْ أَنْ يَكُونَ زَجْرًا لِلْكُفَّارِ عَنِ الْإِقَامَةِ عَلَى مِثْلِ مَا أَدَّى إِلَى هَلَاكِ عَادٍ وَثَمُودَ وَفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، وَلِيَكُونَ بَعْثًا لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى الثَّبَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ فَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هاهنا قِصَّةَ ثَلَاثِ فِرَقٍ مِنَ الْكُفَّارِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَهِيَ عَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ فِرْعَوْنَ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ حَيْثُ قَالَ: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ الْعَذَابِ، وَذَكَرَ فِي سُورَةِ الْحَاقَّةِ بَيَانَ مَا أُبْهِمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَقَالَ: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ، وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ إِلَى قَوْلِهِ وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ [الْحَاقَّةِ: ٥- ٩] الْآيَةَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: عَادٌ هُوَ عَادُ بْنُ عَوْصُ بْنُ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، ثُمَّ إِنَّهُمْ جَعَلُوا لَفْظَةَ عَادٍ اسْمًا لِلْقَبِيلَةِ كَمَا يُقَالُ لِبَنِي هَاشِمٍ هَاشِمٌ وَلِبَنِي تَمِيمٍ تَمِيمٌ، ثُمَّ قَالُوا لِلْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ هَذِهِ الْقَبِيلَةِ عَادٌ الْأُولَى قَالَ تَعَالَى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولى [النَّجْمِ: ٥٠] وَلِلْمُتَأَخِّرِينَ عَادٌ الْأَخِيرَةُ، وَأَمَّا إِرَمُ فَهُوَ اسْمٌ لِجَدِّ عَادٍ، وَفِي الْمُرَادِ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ قَبِيلَةِ عَادٍ كَانُوا يُسَمَّوْنَ بِعَادٍ الْأَوْلَى فَلِذَلِكَ يُسَمَّوْنَ بِإِرَمَ تَسْمِيَةً لَهُمْ بِاسْمِ جَدِّهِمْ وَالثَّانِي: أَنَّ إِرَمَ اسْمٌ لِبَلْدَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا فِيهَا ثم قبل تِلْكَ الْمَدِينَةُ هِيَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةُ وَقِيلَ دِمَشْقُ وَالثَّالِثُ: أن إرم
أَعْلَامُ قَوْمِ عَادٍ كَانُوا يَبْنُونَهَا عَلَى هَيْئَةِ الْمَنَارَةِ وَعَلَى هَيْئَةِ الْقُبُورِ، قَالَ أَبُو الدُّقَيْشِ: الْأُرُومُ قُبُورُ عَادٍ، وَأَنْشَدَ:
بِهَا أُرُومُ كَهَوَادِي الْبُخْتِ
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ طَعَنَ فِي قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ إِرَمَ هِيَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةُ أَوْ دِمَشْقُ، قَالَ: لِأَنَّ مَنَازِلَ عَادٍ كَانَتْ بَيْنَ عمان إلى حضر موت وَهِيَ بِلَادُ الرِّمَالِ وَالْأَحْقَافِ، كَمَا قَالَ: وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ [الأحقاق: ٢١] وَأَمَّا الْإِسْكَنْدَرِيَّةُ وَدِمَشْقُ فَلَيْسَتَا مِنْ بِلَادِ الرِّمَالِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِرَمُ لَا تَنْصَرِفُ قَبِيلَةً كَانَتْ أَوْ أَرْضًا لِلتَّعْرِيفِ وَالتَّأْنِيثِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي قَوْلِهِ: إِرَمَ وَجْهَانِ وَذَلِكَ لِأَنَّا إِنْ جَعَلْنَاهُ اسْمَ الْقَبِيلَةِ كَانَ قَوْلُهُ: إِرَمَ عَطْفَ بَيَانٍ لِعَادٍ وَإِيذَانًا بِأَنَّهُمْ عَادٌ الْأُولَى الْقَدِيمَةُ وَإِنْ جَعَلْنَاهُ اسْمَ الْبَلْدَةِ أَوِ الْأَعْلَامِ كَانَ التَّقْدِيرُ بِعَادٍ أَهْلِ إِرَمَ ثُمَّ حُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، كما في قوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُفَ: ٨٢] وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ ابْنِ الزُّبَيْرِ بِعَادِ إِرَمَ عَلَى الْإِضَافَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَرَأَ الْحَسَنُ: بِعادٍ إِرَمَ مَفْتُوحَيْنِ وَقُرِئَ: بِعادٍ إِرَمَ بِسُكُونِ الرَّاءِ عَلَى/ التَّخْفِيفِ كَمَا قُرِئَ: بِوَرِقِكُمْ [الكهف: ١٩] وَقُرِئَ: بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ بِإِضَافَةِ إِرَمَ إِلَى ذاتِ الْعِمادِ وَقُرِئَ: بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ بَدَلًا مِنْ فَعَلَ رَبُّكَ، وَالتَّقْدِيرُ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ جَعَلَ ذَاتَ الْعِمَادِ رَمِيمًا، أَمَّا قَوْلُهُ: ذاتِ الْعِمادِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي إِعْرَابِهِ وَجْهَانِ وَذَلِكَ لِأَنَّا إِنْ جَعَلْنَا: إِرَمَ اسْمَ الْقَبِيلَةِ فَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا بَدَوِيِّينَ يَسْكُنُونَ الْأَخْبِيَةَ وَالْخِيَامَ وَالْخِبَاءَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنَ الْعِمَادِ، وَالْعِمَادُ بِمَعْنَى الْعَمُودِ. وَقَدْ يَكُونُ جَمْعَ الْعَمَدِ أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِذَاتِ الْعِمَادِ أَنَّهُمْ طُوَالُ الْأَجْسَامِ عَلَى تَشْبِيهِ قُدُودِهِمْ بِالْأَعْمِدَةِ وَقِيلَ: ذَاتُ الْبَنَّاءِ الرَّفِيعِ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ اسْمَ الْبَلَدِ فَالْمَعْنَى أَنَّهَا ذَاتُ أَسَاطِينَ أَيْ ذَاتُ أَبْنِيَةٍ مَرْفُوعَةٍ عَلَى الْعُمُدِ وَكَانُوا يُعَالِجُونَ الْأَعْمِدَةَ فَيَنْصِبُونَهَا وَيَبْنُونَ فَوْقَهَا الْقُصُورَ، قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِهِمْ: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ [الشُّعَرَاءِ: ١٢٨] أَيْ عَلَامَةً وَبِنَاءً رَفِيعًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ لِعَادٍ ابْنَانِ شَدَّادٌ وَشَدِيدٌ فَمَلَكَا وَقَهَرَا ثُمَّ مَاتَ شَدِيدٌ وَخَلَصَ الْأَمْرُ لِشَدَّادٍ فَمَلَكَ الدُّنْيَا وَدَانَتْ لَهُ مُلُوكُهَا. فَسَمِعَ بِذِكْرِ الْجَنَّةِ فَقَالَ: أَبْنِي مِثْلَهَا، فَبَنَى إِرَمَ فِي بَعْضِ صَحَارِي عَدَنَ فِي ثلاثمائة سَنَةٍ وَكَانَ عُمْرُهُ تِسْعَمِائَةِ سَنَةٍ وَهِيَ مَدِينَةٌ عَظِيمَةٌ قُصُورُهَا مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَأَسَاطِينُهَا مِنَ الزَّبَرْجَدِ وَالْيَاقُوتِ وَفِيهَا أَصْنَافُ الْأَشْجَارِ وَالْأَنْهَارِ، فَلَمَّا تَمَّ بِنَاؤُهَا سَارَ إِلَيْهَا بِأَهْلِ مَمْلَكَتِهِ، فَلَمَّا كَانَ مِنْهَا عَلَى مَسِيرَةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ صَيْحَةً مِنَ السَّمَاءِ فَهَلَكُوا، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قِلَابَةَ أَنَّهُ خَرَجَ فِي طَلَبِ إِبِلٍ لَهُ فَوَصَلَ إِلَى جَنَّةِ شَدَّادٍ فَحَمَلَ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِمَّا كَانَ هُنَاكَ وَبَلَغَ خَبَرُهُ مُعَاوِيَةَ فَاسْتَحْضَرَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ، فَبَعَثَ إِلَى كَعْبٍ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: هِيَ إِرَمُ ذَاتُ الْعِمَادِ، وَسَيَدْخُلُهَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي زَمَانِكَ أَحْمَرُ أَشْقَرُ قَصِيرٌ عَلَى حَاجِبِهِ خَالٍ وَعَلَى عُنُقِهِ خَالٍ، يَخْرُجُ فِي طَلَبِ إِبِلٍ لَهُ، ثُمَّ الْتَفَتَ فَأَبْصَرَ ابْنَ [أَبِي] قِلَابَةَ فَقَالَ: هَذَا وَاللَّهِ هُوَ ذَلِكَ الرَّجُلُ.
أَمَّا قَوْلُهُ: الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ فَالضَّمِيرُ فِي (مِثْلِهَا) إِلَى مَاذَا يَعُودُ؟ فِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها أَيْ مِثْلُ عَادٍ فِي الْبِلَادِ فِي عِظَمِ الْجُثَّةِ وَشِدَّةِ الْقُوَّةِ، كَانَ طُولُ الرَّجُلِ مِنْهُمْ أَرْبَعَمِائَةِ ذِرَاعٍ وَكَانَ يَحْمِلُ الصَّخْرَةَ الْعَظِيمَةَ فَيُلْقِيهَا عَلَى الْجَمْعِ فَيَهْلَكُوا الثَّانِي: لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُ مَدِينَةِ شَدَّادٍ فِي جَمِيعِ بِلَادِ الدُّنْيَا، وَقَرَأَ
ابْنُ الزُّبَيْرِ لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها أَيْ لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ مِثْلَهَا الثَّالِثُ: أَنَّ الْكِنَايَةَ عَائِدَةٌ إلى العماد أي لم يحلق مِثْلُ تِلْكَ الْأَسَاطِينِ فِي الْبِلَادِ، وَعَلَى هَذَا فَالْعِمَادُ جَمْعُ عَمَدٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْحِكَايَةِ زجر الكفار فإنه تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ أَهْلَكَهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَكَذَّبُوا الرُّسُلَ، مَعَ الَّذِي اخْتَصُّوا بِهِ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ، فَلَأَنْ تَكُونُوا خَائِفِينَ مِنْ مَثَلِ ذَلِكَ أَيُّهَا الْكُفَّارُ إِذَا أَقَمْتُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ مَعَ ضَعْفِكُمْ كَانَ أَوْلَى. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ فقال الليث: الجواب قَطْعُكَ الشَّيْءَ كَمَا يُجَابُ الْجَيْبُ يُقَالُ جَابَ يَجُوبُ جَوْبًا. وَزَادَ الْفَرَّاءُ يُجِيبُ جَيْبًا وَيُقَالُ: جُبْتُ الْبِلَادَ جَوْبًا أَيْ جُلْتُ فِيهَا وَقَطَعْتُهَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانُوا يَجُوبُونَ الْبِلَادَ فَيَجْعَلُونَ مِنْهَا بُيُوتًا وَأَحْوَاضًا وَمَا أَرَادُوا مِنَ الْأَبْنِيَةِ، كما قال: وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً [الأعراف: ٧٤] قِيلَ: أَوَّلُ مَنْ نَحَتَ الْجِبَالَ وَالصُّخُورَ وَالرُّخَامَ/ ثَمُودُ، وَبَنَوْا أَلْفًا وَسَبْعَمِائَةِ مَدِينَةٍ كُلُّهَا مِنَ الحجارة، وقوله: بِالْوادِ قَالَ مُقَاتِلٌ: بِوَادِي الْقُرَى.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ فَالِاسْتِقْصَاءُ فِيهِ مَذْكُورٌ فِي سُورَةِ ص، وَنَقُولُ: الْآنَ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ سُمِّيَ ذَا الْأَوْتَادِ لِكَثْرَةِ جُنُودِهِ وَمَضَارِبِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَضْرِبُونَهَا إِذَا نَزَلُوا وَثَانِيهَا: أَنَّهُ كَانَ يُعَذِّبُ النَّاسَ وَيَشُدُّهُمْ بِهَا إِلَى أَنْ يَمُوتُوا،
رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ فِرْعَوْنَ وَتَّدَ لِامْرَأَتِهِ أَرْبَعَةَ أَوْتَادٍ وَجَعَلَ عَلَى صَدْرِهَا رَحَا وَاسْتَقْبَلَ بِهَا عَيْنَ الشَّمْسِ فَرَفَعَتْ رَأْسَهَا إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، فَفَرَّجَ اللَّهُ عَنْ بَيْتِهَا فِي الْجَنَّةِ فَرَأَتْهُ
وَثَالِثُهَا: ذِي الْأَوْتَادِ، أَيْ ذِي الْمُلْكِ وَالرِّجَالِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
فِي ظِلِّ مَلِكٍ رَاسِخِ الْأَوْتَادِ وَرَابِعُهَا: رَوَى قَتَادَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ تِلْكَ الْأَوْتَادَ كَانَتْ مُلَاعِبَ يَلْعَبُونَ تَحْتَهَا لِأَجْلِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ مُحْتَمِلٌ لِكُلِّ ذَلِكَ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِمَّا تَعْظُمُ بِهِ الشِّدَّةُ وَالْقَوْلُ وَالْكَثْرَةُ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ وُرُودِ هَلَاكٍ عَظِيمٍ بِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ يَرْجِعُ الضَّمِيرُ إِلَى فِرْعَوْنَ خَاصَّةً لِأَنَّهُ يَلِيهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى جَمِيعِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَحْسَنُ الْوُجُوهِ فِي إِعْرَابِهِ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الذَّمِّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا عَلَى [الْإِخْبَارِ، أَيْ] هُمُ الَّذِينَ طَغَوْا أَوْ مَجْرُورًا عَلَى وَصْفِ الْمَذْكُورِينَ عَادٍ وَثَمُودَ وَفِرْعَوْنَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: طَغَوْا فِي الْبِلادِ أَيْ عَمِلُوا الْمَعَاصِيَ وَتَجَبَّرُوا عَلَى أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَالْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ فَسَّرَ طُغْيَانَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ ضِدَّ الصَّلَاحِ فَكَمَا أَنَّ الصَّلَاحَ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَقْسَامِ الْبِرِّ، فَالْفَسَادُ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَقْسَامِ الْإِثْمِ، فَمَنْ عَمِلِ بِغَيْرِ أَمْرِ اللَّهِ وَحَكَمَ فِي عِبَادِهِ بِالظُّلْمِ فَهُوَ مُفْسِدٌ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُقَالُ: صَبَّ عَلَيْهِ السَّوْطَ وَغَشَّاهُ وَقَنَّعَهُ، وَذِكْرُ السَّوْطِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مَا أَحَلَّهُ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْعَذَابِ الْعَظِيمِ بِالْقِيَاسِ إِلَى مَا أَعَدَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، كَالسَّوْطِ إِذَا قِيسَ إِلَى سَائِرِ مَا يُعَذَّبُ بِهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَشَبَّهَهُ بِصَبِّ السَّوْطِ الَّذِي يَتَوَاتَرُ عَلَى الْمَضْرُوبِ فَيُهْلِكُهُ، وَكَانَ الْحَسَنُ إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ: إِنَّ عِنْدَ اللَّهِ أَسْوَاطًا كَثِيرَةً فَأَخَذَهُمْ بِسَوْطٍ مِنْهَا، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ أَنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا «١» مَا تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فَاطِرٍ: ٤٥] يَقْتَضِي تَأْخِيرَ الْعَذَابِ إِلَى الْآخِرَةِ فَكَيْفَ الْجَمْعُ بين هاتين الآيتين؟ قلنا: