
[سورة الغاشية (٨٨) : آية ١٣]
فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣)أَيْ عَالِيَةٌ فِي الْهَوَاءِ وَذَلِكَ لِأَجْلِ أَنْ يَرَى الْمُؤْمِنَ إِذَا جَلَسَ عَلَيْهَا جَمِيعَ مَا أَعْطَاهُ رَبُّهُ فِي الْجَنَّةِ مِنَ النَّعِيمِ وَالْمُلْكِ، وَقَالَ خَارِجَةُ بْنُ مُصْعَبٍ: بَلَغَنَا أَنَّهَا بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ فَيَرْتَفِعُ مَا شَاءَ اللَّهُ فَإِذَا جَاءَ وَلِيُّ اللَّهِ لِيَجْلِسَ عَلَيْهَا تَطَامَنَتْ لَهُ فَإِذَا اسْتَوَى عَلَيْهَا ارْتَفَعَتْ إِلَى حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي أَيْضًا غَيْرَ مُمْتَنِعٍ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَا كَانَ أَعْظَمَ فِي سُرُورِ الْمُكَلَّفِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ سُرُرٌ أَلْوَاحُهَا مِنْ ذَهَبٍ مُكَلَّلَةٌ بِالزَّبَرْجَدِ وَالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ مُرْتَفِعَةٌ فِي السَّمَاءِ. الصفة الخامسة: قوله تعالى:
[سورة الغاشية (٨٨) : آية ١٤]
وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤)
الْأَكْوَابُ الْكِيزَانُ الَّتِي لَا عُرَى لَهَا قَالَ قَتَادَةُ: فَهِيَ دُونُ الْأَبَارِيقِ. وَفِي قَوْلِهِ: مَوْضُوعَةٌ وُجُوهٌ أَحَدُهَا:
أَنَّهَا مُعَدَّةٌ لِأَهْلِهَا كَالرَّجُلِ يَلْتَمِسُ مِنَ الرَّجُلِ شَيْئًا فَيَقُولُ هُوَ هاهنا مَوْضُوعٌ بِمَعْنَى مُعَدٍّ وَثَانِيهَا: مَوْضُوعَةٌ عَلَى حَافَّاتِ الْعُيُونِ الْجَارِيَةِ كُلَّمَا أَرَادُوا الشُّرْبَ وَجَدُوهَا مَمْلُوءَةً من الشرب وَثَالِثُهَا: مَوْضُوعَةٌ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ لِاسْتِحْسَانِهِمْ إِيَّاهَا بِسَبَبِ كَوْنِهَا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ مِنْ جَوْهَرٍ، وَتَلَذُّذِهِمْ بِالشَّرَابِ مِنْهَا وَرَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَوْضُوعَةً عَنْ حَدِّ الْكِبَرِ أَيْ هِيَ أَوْسَاطٌ بَيْنَ الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ كَقَوْلِهِ: قَدَّرُوها تَقْدِيراً. [الإنسان: ١٦]. الصفة السادسة:
قوله تعالى:
[سورة الغاشية (٨٨) : آية ١٥]
وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥)
النَّمَارِقُ هِيَ الْوَسَائِدُ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ وَاحِدُهَا نُمْرُقَةٌ بِضَمِّ النُّونِ، وَزَادَ الْفَرَّاءُ سَمَاعًا عَنِ الْعَرَبِ نِمْرِقَةً بِكَسْرِ النُّونِ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَسَائِدُ مَصْفُوفَةٌ بَعْضُهَا إِلَى جَانِبِ بَعْضٍ أَيْنَمَا أَرَادَ أَنْ يَجْلِسَ جَلَسَ عَلَى وَاحِدَةٍ وَاسْتَنَدَ إِلَى أُخْرَى. الصِّفَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى:
[سورة الغاشية (٨٨) : آية ١٦]
وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦)
يَعْنِي الْبُسُطَ وَالطَّنَافِسَ وَاحِدُهَا زِرْبِيَّةٌ وَزِرْبِيٌّ بِكَسْرِ الزَّايِ فِي قَوْلِ جَمِيعِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَتَفْسِيرُ مَبْثُوثَةٌ مَبْسُوطَةٌ مَنْشُورَةٌ أَوْ مُفَرَّقَةٌ في المجالس.
[سورة الغاشية (٨٨) : آية ١٧]
أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَمَ بِمَجِيءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَقَسَّمَ أَهْلَ الْقِيَامَةِ إِلَى قِسْمَيْنِ الْأَشْقِيَاءِ وَالسُّعَدَاءِ وَوَصَفَ أَحْوَالَ الْفَرِيقَيْنِ وَعُلِمَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إِلَى إِثْبَاتِ ذَلِكَ إِلَّا بِوَاسِطَةِ إِثْبَاتِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ، لَا جَرَمَ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ هَذِهِ الدَّلَالَةِ فَقَالَ: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ الْمَعَادِ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ، وَمَتَى ثَبَتَ ذَلِكَ فَقَدْ ثَبَتَ الْقَوْلُ بِصِحَّةِ الْمَعَادِ. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَسَاوِيَةٌ فِي الْجِسْمِيَّةِ فَاخْتِصَاصُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِالْوَصْفِ الَّذِي لِأَجْلِهِ امْتَازَ عَلَى الْآخَرِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ وَإِيجَادِ قَادِرٍ، وَلَمَّا رَأَيْنَا هَذِهِ الْأَجْسَامَ مَخْلُوقَةً عَلَى وَجْهِ الْإِتْقَانِ وَالْإِحْكَامِ عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ الصَّانِعَ عَالِمٌ، وَلَمَّا عَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ الصَّانِعَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِخَلْقِهِ فِي نَعْتِ الْحَاجَةِ وَالْحُدُوثِ وَالْإِمْكَانِ عَلِمْنَا أَنَّهُ غَنِيٌّ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صفحة رقم 143

أَنَّ لِلْعَالَمِ صَانِعًا قَادِرًا عَالِمًا غَنِيًّا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي غَايَةِ الْحِكْمَةِ، ثُمَّ إِنَّا نَرَى النَّاسَ بَعْضَهُمْ مُحْتَاجًا إِلَى الْبَعْضِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ الْوَاحِدَ لَا يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ بِمُهِمَّاتِ نَفْسِهِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ بَلْدَةٍ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِهَا مَشْغُولًا بِمُهِمٍّ آخَرَ «١» حَتَّى يتنظم مِنْ مَجْمُوعِهِمْ مَصْلَحَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ الِانْتِظَامُ لَا يَحْسُنُ إِلَّا مَعَ التَّكْلِيفِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ وَخَلْقِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَثَبَتَ أَنَّ إِقَامَةَ الدَّلَالَةِ عَلَى الصَّانِعِ الْحَكِيمِ تُوجِبُ الْقَوْلَ بِصِحَّةِ الْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ فَلِهَذَا السَّبَبِ ذَكَرَ اللَّهُ دَلَالَةَ التَّوْحِيدِ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَإِنْ قِيلَ: فَأَيُّ مُجَانَسَةٍ بَيْنَ الْإِبِلِ وَالسَّمَاءِ وَالْجِبَالِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ لِمَ بَدَأَ بِذِكْرِ الْإِبِلِ؟ قُلْنَا فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ مُتَسَاوِيَةٌ فِي هَذِهِ الدَّلَالَةِ وَذِكْرَ جَمِيعِهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ لِكَثْرَتِهَا وَأَيُّ وَاحِدٍ مِنْهَا ذُكِرَ دُونَ غَيْرِهِ كَانَ هَذَا السُّؤَالُ عَائِدًا، فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِسُقُوطِ هَذَا السُّؤَالِ عَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ، وَأَيْضًا فَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي ذِكْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مُتَنَاسِبَةٍ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي الْكُلِّ عَلَى مَا قَالَ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الْإِسْرَاءِ: ٤٤] وَلَوْ ذَكَرَ غَيْرَهَا لَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَا جَرَمَ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أُمُورًا غَيْرَ مُتَنَاسِبَةٍ بَلْ مُتَبَاعِدَةً جِدًّا، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْأَجْسَامِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا حَسَنِهَا وَقَبِيحِهَا مُتَسَاوِيَةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الصَّانِعِ الْحَكِيمِ، فَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ مَعْقُولٌ وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ الْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ نُبَيِّنَ مَا فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْخَوَاصِّ الدَّالَّةِ عَلَى الْحَاجَةِ إِلَى الصَّانِعِ الْمُدَبِّرِ، ثُمَّ نُبَيِّنَ أَنَّهُ كَيْفَ يُجَانِسُ بَعْضُهَا بَعْضًا.
أَمَّا الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فَنَقُولُ الْإِبِلُ لَهُ خَوَاصٌّ مِنْهَا أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْحَيَوَانَ الَّذِي يُقْتَنَى أَصْنَافًا شَتَّى فَتَارَةً يُقْتَنَى لِيُؤْكَلَ لَحْمُهُ وَتَارَةً لِيُشْرَبَ لَبَنُهُ وَتَارَةً لِيَحْمِلَ الْإِنْسَانَ فِي الْأَسْفَارِ وَتَارَةً/ لِيَنْقُلَ أَمْتِعَةَ الْإِنْسَانِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ وَتَارَةً لِيَكُونَ لَهُ بِهِ زِينَةٌ وَجَمَالٌ وَهَذِهِ الْمَنَافِعُ بِأَسْرِهَا حَاصِلَةٌ فِي الْإِبِلِ، وَقَدْ أَبَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ [يس: ٧١، ٧٢]، قال: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ، وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ [النَّحْلِ: ٥- ٧] وَإِنَّ شَيْئًا مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ لَا يَجْتَمِعُ فِيهِ هَذِهِ الْخِصَالُ فَكَانَ اجْتِمَاعُ هَذِهِ الْخِصَالِ فِيهِ مِنَ الْعَجَائِبِ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ أَفْضَلُ مِنَ الْحَيَوَانِ الَّذِي لَا يُوجَدُ فِيهِ إِلَّا تِلْكَ الْخَصْلَةُ لِأَنَّهَا إِنْ جُعِلَتْ حَلُوبَةً سَقَتْ فَأَرْوَتِ الْكَثِيرَ، وَإِنْ جُعِلَتْ أَكُولَةً أَطْعَمَتْ وَأَشْبَعَتِ الْكَثِيرَ، وَإِنْ جُعِلَتْ رَكُوبَةً أَمْكَنَ أَنْ يُقْطَعَ بِهَا مِنَ الْمَسَافَاتِ الْمَدِيدَةِ مَا لَا يُمْكِنُ قَطْعُهُ بِحَيَوَانٍ آخَرَ، وَذَلِكَ لِمَا رُكِّبَ فِيهَا مِنْ قُوَّةِ احْتِمَالِ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى السَّيْرِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْعَطَشِ وَالِاجْتِزَاءِ مِنَ الْعُلُوفَاتِ بِمَا لَا يَجْتَزِئُ حَيَوَانٌ آخَرُ، وَإِنْ جُعِلَتْ حَمَلَةً اسْتُغِلَّتْ بِحَمْلِ الْأَحْمَالِ الثَّقِيلَةِ الَّتِي لَا يَسْتَقِلُّ بِهَا سِوَاهَا، وَمِنْهَا أَنَّ هَذَا الْحَيَوَانَ كَانَ أَعْظَمَ الْحَيَوَانَاتِ وَقْعًا فِي قَلْبِ الْعَرَبِ وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُمْ جَعَلُوا دِيَةَ قَتْلِ الْإِنْسَانِ إِبِلًا، وَكَانَ الْوَاحِدُ مِنْ مُلُوكِهِمْ إِذَا أَرَادَ الْمُبَالَغَةَ فِي إِعْطَاءِ الشَّاعِرِ الَّذِي جَاءَهُ مِنَ الْمَكَانِ الْبَعِيدِ أَعْطَاهُ مِائَةَ بَعِيرٍ، لِأَنَّ امْتِلَاءَ الْعَيْنِ مِنْهُ أَشَدُّ مِنِ امْتِلَاءِ الْعَيْنِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ
[النَّحْلِ: ٦] وَمِنْهَا أَنِّي كُنْتُ مَعَ جَمَاعَةٍ فِي مَفَازَةٍ فَضَلَلْنَا الطَّرِيقَ فقدموا جملا وتبعوه فكان