
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سُورَةُ الطَّارِقِسَبْعَ عَشْرَةَ آيَةً مَكِّيَّةً وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى التَّرْغِيبِ فِي مَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ
[سورة الطارق (٨٦) : الآيات ١ الى ٥]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤)فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥)
[قوله تعالى وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ إلى قوله النَّجْمُ الثَّاقِبُ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَكْثَرَ فِي كِتَابِهِ ذِكْرَ السَّمَاءِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لِأَنَّ أَحْوَالَهَا فِي أَشْكَالِهَا وَسَيْرِهَا وَمَطَالِعِهَا وَمَغَارِبِهَا عَجِيبَةٌ، وَأَمَّا الطَّارِقُ فَهُوَ كُلُّ مَا أَتَاكَ لَيْلًا سَوَاءً كَانَ كَوْكَبًا أَوْ غَيْرَهُ فَلَا يَكُونُ الطَّارِقُ نَهَارًا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُ الْمُسْلِمِينَ فِي دُعَائِهِمْ: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ طَوَارِقِ اللَّيْلِ
وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «نَهَى عَنْ أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ طُرُوقًا»
وَالْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ الطُّرُوقُ فِي صِفَةِ الْخَيَالِ لِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ فِي الْأَكْثَرِ فِي اللَّيْلِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: وَالطَّارِقِ كَانَ هَذَا مِمَّا لَا يَسْتَغْنِي سَامِعُهُ عَنْ مَعْرِفَةِ الْمُرَادِ مِنْهُ، فَقَالَ: وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ مَا أَدْرَاكَ فَقَدْ أَخْبَرَ الرَّسُولُ بِهِ وَكُلُّ شَيْءٍ فِيهِ مَا يُدْرِيكَ لَمْ يُخْبِرْ بِهِ كَقَوْلِهِ: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [الشُّورَى: ١٧] ثُمَّ قَالَ: النَّجْمُ الثَّاقِبُ أَيْ هُوَ طَارِقٌ عَظِيمُ الشَّأْنِ، رَفِيعُ الْقَدْرِ وَهُوَ النَّجْمُ الَّذِي يُهْتَدَى بِهِ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَيُوقَفُ بِهِ عَلَى أَوْقَاتِ الْأَمْطَارِ، وَهَاهُنَا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِنَّمَا وُصِفَ النَّجْمُ بِكَوْنِهِ ثَاقِبًا لِوُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَثْقُبُ الظَّلَامَ بِضَوْئِهِ فينفذ فيه كما قيل:
دريء لِأَنَّهُ يَدْرَؤُهُ أَيْ يَدْفَعُهُ وَثَانِيهَا: أَنَّهُ يَطْلُعُ مِنَ الْمَشْرِقِ نَافِذًا فِي الْهَوَاءِ كَالشَّيْءِ الَّذِي يَثْقُبُ الشَّيْءَ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ الَّذِي يُرَى بِهِ الشَّيْطَانُ فَيَثْقُبُهُ أَيْ يَنْفُذُ فِيهِ وَيَحْرِقُهُ وَرَابِعُهَا: قَالَ الْفَرَّاءُ: النَّجْمُ الثَّاقِبُ هُوَ النَّجْمُ الْمُرْتَفِعُ عَلَى النُّجُومِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلطَّائِرِ إِذَا لَحِقَ بِبَطْنِ السَّمَاءِ ارْتِفَاعًا: قَدْ ثَقَبَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّمَا وُصِفَ النَّجْمُ بِكَوْنِهِ طَارِقًا، لِأَنَّهُ يَبْدُو بِاللَّيْلِ، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ ذَلِكَ يُسَمَّى طَارِقًا، أو لأنه يطرق الجني، أي صكه.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: النَّجْمُ الثَّاقِبُ قَالَ بَعْضُهُمْ: أُشِيرَ بِهِ إِلَى جَمَاعَةِ النَّحْوِ/ فَقِيلَ الطَّارِقُ، كَمَا قِيلَ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ [الْعَصْرِ: ٢] وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ نَجْمٌ بِعَيْنِهِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِنَّهُ صفحة رقم 117

الثُّرَيَّا، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهُ زُحَلُ، لِأَنَّهُ يَثْقُبُ بنوره سمك سبع سموات، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ الشُّهُبُ الَّتِي يُرْجَمُ بِهَا الشَّيَاطِينُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ [الصَّافَّاتِ: ١٠].
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ:
رُوِيَ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتْحَفَهُ بِخُبْزٍ وَلَبَنٍ، فَبَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ يَأْكُلُ إِذِ انْحَطَّ نَجْمٌ فَامْتَلَأَ مَاءً ثُمَّ نَارًا، فَفَزِعَ أَبُو طَالِبٍ، وَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا نَجْمٌ رُمِيَ بِهِ، وَهُوَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ الله، فعجب أبو طالب، ونزلت السورة.
[في قوله تَعَالَى إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ] وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْمُقْسَمَ بِهِ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي قَوْلِهِ: لَمَّا قِرَاءَتَانِ إِحْدَاهُمَا: قِرَاءَةُ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عَمْرٍو وَنَافِعٍ وَالْكِسَائِيِّ، وَهِيَ بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ وَالثَّانِيَةُ: قِرَاءَةُ عَاصِمٍ وَحَمْزَةَ وَالنَّخَعِيِّ بِتَشْدِيدِ الميم. قال أبو علي الفاسي: مَنْ خَفَّفَ كَانَتْ إِنْ عِنْدَهُ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاللَّامُ فِي لَمَّا هِيَ الَّتِي تَدْخُلُ مَعَ هَذِهِ الْمُخَفَّفَةِ لِتُخَلِّصَهَا مِنْ إِنِ النَّافِيَةِ، وَمَا صِلَةٌ كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ [آل عمران: ١٥٩] وعَمَّا قَلِيلٍ [المؤمنون: ٤٠] وَتَكُونُ إِنْ مُتَلَقِّيَةً لِلْقَسَمِ، كَمَا تَتَلَقَّاهُ مُثَقَّلَةً. وَأَمَّا مَنْ ثَقَّلَ فَتَكُونُ إِنْ عِنْدَهُ النَّافِيَةَ، كَالَّتِي فِي قَوْلِهِ: فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ [الْأَحْقَافِ: ٢٦] ولَمَّا فِي مَعْنَى أَلَّا، قَالَ: وَتُسْتَعْمَلُ لَمَّا بِمَعْنَى أَلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا: هَذَا وَالْآخَرُ:
فِي بَابِ الْقَسَمِ، تَقُولُ: سَأَلْتُكَ بِاللَّهِ لَمَّا فَعَلْتَ، بِمَعْنَى أَلَّا فَعَلْتَ. وَرُوِيَ عَنِ الْأَخْفَشِ وَالْكِسَائِيِّ وَأَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَمْ تُوجَدْ لَمَّا بِمَعْنَى أَلَّا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: قَرَأْتُ عِنْدَ ابْنِ سِيرِينَ لَمَّا بِالتَّشْدِيدِ، فَأَنْكَرَهُ وَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ، وَزَعَمَ الْعُتْبِيُّ أَنَّ لَمَّا بِمَعْنَى أَلَّا، مَعَ أَنَّ الْخَفِيفَةَ الَّتِي تَكُونُ بِمَعْنَى مَا مَوْجُودَةٌ فِي لُغَةِ هُذَيْلٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَيْسَ فِي الْآيَةِ بَيَانُ أَنَّ هَذَا الْحَافِظَ مَنْ هُوَ، وَلَيْسَ فِيهَا أَيْضًا بَيَانُ أَنَّ الْحَافِظَ يَحْفَظُ النَّفْسَ عما ذا. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَوْلُ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ ذَلِكَ الْحَافِظَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. أَمَّا فِي التَّحْقِيقِ فَلِأَنَّ كُلَّ وُجُودٍ سِوَى اللَّهِ مُمْكِنٌ، وَكُلُّ مُمْكِنٌ فَإِنَّهُ لَا يَتَرَجَّحُ وَجُودُهُ عَلَى عَدَمِهِ إِلَّا لِمُرَجِّحٍ وَيَنْتَهِي ذَلِكَ إِلَى الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ، فَهُوَ سُبْحَانُهُ الْقَيُّومُ الَّذِي بِحِفْظِهِ وَإِبْقَائِهِ تَبْقَى الْمَوْجُودَاتُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بين هذا المعنى في السموات وَالْأَرْضِ عَلَى الْعُمُومِ فِي قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا [فَاطِرٍ: ٤١] وَبَيَّنَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي حَقِّ الْإِنْسَانِ عَلَى الْخُصُوصِ وَحَقِيقَةُ الْكَلَامِ تَرْجِعُ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ، فَإِنَّهُ مُمْكِنُ الْوُجُودِ مُحْدَثٌ مُحْتَاجٌ مَخْلُوقٌ مَرْبُوبٌ هَذَا إِذَا حَمَلْنَا النَّفْسَ عَلَى مُطْلَقِ الذَّاتِ، أَمَّا إِذَا حَمَلْنَاهَا عَلَى النَّفْسِ الْمُتَنَفِّسَةِ وَهِيَ النَّفْسُ الْحَيَوَانِيَّةُ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهِ تَعَالَى حَافِظًا لَهَا كَوْنَهُ تَعَالَى عَالِمًا بِأَحْوَالِهَا وَمُوَصِّلًا إليها جميع مناقعها وَدَافِعًا عَنْهَا جَمِيعَ مَضَارِّهَا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ الْحَافِظَ هُمُ الْمَلَائِكَةُ كَمَا قَالَ: وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً [الْأَنْعَامِ: ٦١] وَقَالَ:
عَنِ/ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: ١٧، ١٨] وَقَالَ: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ [الِانْفِطَارِ: ١٠، ١١] وَقَالَ: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرَّعْدِ: ١١].