
القسم بأشياء عظام على لعنة أصحاب الأخدود
[سورة البروج (٨٥) : الآيات ١ الى ٩]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (٤)النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩)
الإعراب:
وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ وَالسَّماءِ: قسم، وجوابه إما مقدر محذوف: وهو لتبعثن، أو قوله تعالى: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ. واختار أبو حيان أن يكون الجواب هو قوله تعالى:
قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ وحذفت اللام أي لقتل، وحسن حذفها كما حسن في قوله: وَالشَّمْسِ وَضُحاها ثم قال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها أي لقد أفلح من زكاها، ويكون الجواب دليلا على لعنة الله على من فعل ذلك وطرده من رحمة الله، وتنبيها لكفار قريش الذين يؤذون المؤمنين ليفتنوهم عن دينهم على أنهم ملعونون بجامع ما اشتركا فيه من تعذيب المؤمنين. وإذا كان قُتِلَ جوابا للقسم، فهي جملة خبرية، وقيل: دعاء، فيكون الجواب غيرها (البحر المحيط: ٨/ ٤٥٠).
وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ أي الموعود به، وحذف للعلم به، وإنما وجب هذا التقدير، لأن الْمَوْعُودِ صفة لليوم، ولا بد من أن يعود من الوصف إلى الموصوف ذكر.
قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ، النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ النَّارِ: مجرور على البدل من الْأُخْدُودِ بدل الاشتمال.
البلاغة:
وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ بينهما جناس اشتقاق.
وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ تأكيد المدح بما يشبه الذم، كأنه يقول: لا جرم لهم إلا إيمانهم بالله، وهذه مفخرة عظمي.
الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ صيغة مبالغة. صفحة رقم 155

الْمَوْعُودِ، وَمَشْهُودٍ، الْأُخْدُودِ، الْوَقُودِ سجع مرصع: وهو توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات.
المفردات اللغوية:
الْبُرُوجِ منازل الكواكب الاثني عشر، وقيل: الْبُرُوجِ: النجوم العظام، جمع برج: وهو الحصن، أو القصر العالي، أو منزل الكوكب، سميت بروجا لظهورها. والبروج على المعنى الأول اثنا عشر برجا للكواكب السيارة، تسير الشمس مثلا في كل واحد منها شهرا، ويسير القمر في كل واحد منها يومين وثلث يوم، فذلك ثمانية وعشرون منزلة، ويستتر ليلتين، أي يخفى.
ستة من بروج الشمس شمال خط الاستواء، وستة في جنوبه، أما التي في شماله: فهي الحمل والثور والجوزاء والسّرطان والأسد والسّنبلة. وأما التي في جنوبه: فهي الميزان والعقرب والقوس والجدي والدّلو والحوت. وتقطع الشمس الثلاثة الأولى الشمالية في ثلاثة أشهر هي فصل الربيع، أولها ٢١ آذار (مارس) وتقطع الثلاثة الثانية في ثلاثة أشهر أخرى هي فصل الصيف، أولها ٢١ حزيران (يونيو) وتقطع الثلاثة الأولى الجنوبية في ثلاثة أشهر هي فصل الخريف، أولها ٢١ أيلول (سبتمبر) وتقطع الثلاثة الثانية الجنوبية في ثلاثة أشهر أيضا هي فصل الشتاء، أولها ٢٢ من شهر كانون الأول (ديسمبر) «١».
وإذا كان القصد بالبروج الكواكب العظيمة فهي التي لا يحصى عددها، والتي هي ذات أبعاد هائلة عن الأرض، فبعضها لا يصل ضوؤه إلى الأرض إلا بعد مليون ونصف سنة ضوئية، علما بأن الضوء يسير بسرعة ثلاث مائة ألف كيلومتر في الثانية الواحدة، ويصل إلى القمر في ثانية وثلث، ويجري حول الكرة الأرضية في ثانية واحدة نحو ثمان مرات. والمريخ يبعد عن الأرض ٢٥٦ مليون ميل، وقد أطلقت روسيا مكوكا إلى المريخ في ١٣/ ٧/ ١٩٨٨ يصل إليه في منتصف عام ١٩٩٠، وأقسم اللَّه بهذه الكواكب حيث نيط بها تغييرات في الأرض بحلول الكواكب فيها.
الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ يوم القيامة. وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ الشاهد في ذلك اليوم على غيره من الخلائق، والمشهود عليه: ما يشهد به الشهود على المجرمين من الجرائم التي فعلوها بالشهود أنفسهم كأصحاب الأخدود أو بغيرهم، وهذا هو الأصح، أو الأنبياء الشاهدين على أممهم، أو مخلوقات اللَّه الظاهرة التي هي عامل الشهادة، الدالة على تمام القدرة الإلهية وعظم الحكمة، وهي مشهودة أيضا لكل ناظر إليها. وقال الأكثرون: الشاهد: يوم الجمعة فإنه يشهد بالعمل فيه، والمشهود: يوم عرفة

الذي تشهده الناس والملائكة. قُتِلَ لعن وهو جواب القسم بتقدير: لقد. أَصْحابُ الْأُخْدُودِ الشق المستطيل المحفور في الأرض، وجمعه أخاديد، وأصحاب الأخدود: قوم جبارون أحرقوا جماعة من المؤمنين في أخدود في نجران اليمن، بعد أن أوقدوا فيه نارا عظيمة، ثم ألقوهم فيها. النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ أي الأخدود المشتمل على النار ذات الوقود أي ما توقد به، وهو وصف لها بالعظمة وكثرة ما يرتفع به لهبها.
إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ قاعدون على حافة النار. وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ أي وهم حضور على تعذيب المؤمنين باللَّه، بالإلقاء في النار، إن لم يرجعوا عن إيمانهم، ويشهدون على ما يفعلون يوم القيامة حين تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم. وَما نَقَمُوا أنكروا وعابوا.
الْعَزِيزِ الغالب الذي يخشى عقابه ولا يغلب. الْحَمِيدِ المحمود على نعمه وعلى كل حال، والذي يرجى ثوابه. الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ شاهد عالم، وهو للإشعار بما يستحق أن يؤمن به ويعبد.
التفسير والبيان:
وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ أي أقسم بالسماء وبروجها وهي النجوم العظام، وأشهر الأقوال أنها منازل الكواكب، وهي اثنا عشر برجا لاثني عشر كوكبا.
وهي التي تقطعها الشمس في سنة، والقمر في ثمانية وعشرين يوما. أقسم اللَّه بها تنويها بها وتعظيما وتشريفا لها، حيث نيط بها تغيرات في الأرض بحلول الكواكب فيها، فينشأ عنها الفصول الأربعة، وما فيها من حرارة وبرودة، وينشأ عنها عدد السنين والحساب.
وجاء ذكر البروج في آيتين أخريين هما: وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ [الحجر ١٥/ ١٦]، وقال تعالى: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً، وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً [الفرقان ٢٥/ ٦١].
وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ، وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ أي وأقسم بيوم القيامة الموعود به، وبمن يشهد في ذلك اليوم، ومن يشهد عليه. وهذا إن كان ذلك مأخوذا من الشهادة. فإن كان مأخوذا من الحضور بمعنى أن الشاهد هو الحاضر، كقوله:

عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ [الزمر ٣٩/ ٤٦]، فالشاهد: الخلائق الحاضرون للحساب، والمشهود عليه: اليوم، كما قال تعالى: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هود ١١/ ١٠٣] فاللَّه يقسم بالخلائق والعوالم الشاهد منها والمشهود، لما في التأمل بها من تقدير عظمة تدل على الموجد.
والخلاصة: أن الشاهد والمشهود إما من الشهود: الحضور، وإما من الشهادة، والصلة محذوفة، أي مشهود عليه أو به.
قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ. النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ هذا جواب القسم، وهو إخبار أو دعاء على هؤلاء الكفار بالإبعاد من رحمة اللَّه تعالى، أي لعن أصحاب الأخدود المشتمل على النار ذات الحطب الذي توقد به. وهم قوم من الكفار في نجران اليمن طلبوا من المؤمنين باللَّه عزّ وجلّ أن يرجعوا عن دينهم، فأبوا عليهم، فحفروا لهم في الأرض أخدودا (شقا مستطيلا) وأجّجوا فيه نارا، وأعدّوا لها وقودا يسعرونها به، ثم أرادوهم أن يرجعوا عن دينهم، فلم يقبلوا منهم، فقذفوهم فيها. وقد أشار سبحانه إلى عظم النار إشارة مجملة بقوله:
ذاتِ الْوَقُودِ أي لها ما يرتفع به لهبها من الحطب الكثير وأبدان الناس.
إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ، وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ أي لعنوا حين أحدقوا بالنار، قاعدين على الكراسي عند الأخدود، وهؤلاء الذين حفروا الأخدود، وهم الملك وأصحابه، مشاهدون لما يفعل بأولئك المؤمنين، من عرضهم على النار ليرجعوا إلى دينهم، ويشهدون بما فعلوا يوم القيامة، حيث تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم.
وهذا أي حضورهم الإحراق دليل على أنهم قوم غلاظ الأكباد قساة القلوب، تمكّن الكفر والباطل منهم، وتجرّدوا عن الإنسانية، وفقدوا الرحمة، ودليل أيضا

على أن المؤمنين كانوا أشد صلابة من الجبال في دينهم والإصرار على إيمانهم وحقهم في حرية الاعتقاد.
ثم ذكر اللَّه تعالى سبب هذا التعذيب والإحراق بالنار، فقال:
وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أي إن هؤلاء الكفار الجبابرة ما أنكروا عليهم ذنبا إلا إيمانهم، ولا عابوا على المؤمنين إلا أنهم صدقوا باللَّه الغالب الذي لا يغلب، المحمود في كل حال، وهو مالك السموات والأرض، وإليه الأمر كله، ومن كان بهذه الصفات، فهو حقيق بأن يؤمن به ويوحّد، واللَّه شاهد عالم بما فعلوا بالمؤمنين، لا تخفى عليه خافية، ومجازيهم بأفعالهم. وأشار بقوله:
الْعَزِيزِ إلى أنه لو شاء لمنع أولئك الجبابرة من تعذيب أولئك المؤمنين، ولأطفأ نيرانهم وأماتهم، وأشار بقوله: الْحَمِيدِ إلى أن المعتبر عنده سبحانه من الأفعال عواقبها، فهو وإن كان قد أمهل لكنه ما أهمل، فإنه سيثيب المؤمنين، ويعاقب أولئك الكفرة.
وقوله: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ وعيد شديد لأصحاب الأخدود، ووعد بالخير لمن عذّب من المؤمنين على دينه، فصبر ولم يتراجع في موقف الشدة.
ونظير الآية قوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ [المائدة ٥/ ٥٩].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- أقسم اللَّه عزّ وجلّ بالسماء وبروجها وهي نجومها العظام أو منازل الكواكب لإناطة تغييرات في الأرض كالفصول الأربعة وبيوم القيامة الذي

وعدنا به لأنه يوم الفصل والجزاء، وتفرد اللَّه بالحكم والقضاء، وبالشاهد والمشهود، أي الخلائق والعوالم الشاهد منها والمشهود لما في التأمل بها من إدراك عظمة خالقها، أقسم بها على أن أصحاب الأخدود ملعونون مطرودون من رحمة اللَّه.
قال الزمخشري: أنه قيل: أقسم بهذه الأشياء، إنهم ملعونون يعني كفار قريش، كما لعن أصحاب الأخدود، وذلك أن السورة وردت في تثبيت المؤمنين وتصبيرهم على أذى أهل مكة، وتذكيرهم بما جرى على من تقدمهم من التعذيب على الإيمان، وإلحاق أنواع الأذى وصبرهم وثباتهم حتى يأنسوا بهم، ويصبروا على ما كانوا يلقون من قومهم، ويعلموا أن كفارهم أحقاء بأن يقال فيهم: قتلت قريش، أي لعنوا، كما قتل أصحاب الأخدود «١».
٢- أسباب اللعنة على أصحاب الأخدود: أنهم حفروا أخدودا أي شقا مستطيلا في الأرض وأوقدوا فيه نارا عظيمة، ثم ألقوا فيه جماعة المؤمنين، بنجران اليمن في الفترة بين محمد وعيسى عليهما الصلاة والسلام، وهم يتلذذون ويستمتعون بما تفعل النيران الملتهبة بأجساد هؤلاء المعذّبين، ويحضرون ذلك المنظر الرهيب إلى تمام الإحراق والالتهاب، فهم قوم قساة، مجدّون في التعذيب.
٣- القصة درس وعظة وتذكير للمؤمنين بالصبر على ما يلاقونه من الأذى والآلام، والمشقات التي يتعرضون لها في كل زمان ومكان ليتأسوا بصبر المؤمنين وتصلبهم في الحق وتمسكهم به، وبذلهم أنفسهم من أجل إظهار دعوة اللَّه.
وليس هذا بمنسوخ، فإن الصبر على الأذى لمن قويت نفسه، وصلب دينه أولى «٢». قال اللَّه تعالى مخبرا عن لقمان: يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ، وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ،
(٢) تفسير القرطبي: ١٩/ ٢٩٣