
وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ، إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان ٣١/ ١٧].
وأخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر».
ولقد امتحن كثير من أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم بالقتل والصّلب والتعذيب الشديد، فصبروا ولم يلتفتوا إلى شيء من ذلك، مثل قصة عاصم وخبيب وأصحابهما، وما لقوا من الحروب والمحن والقتل والأسر والحرق وغير ذلك.
٤- ما أنكر الملك وأصحابه من الذين حرّقوهم إلا إيمانهم باللَّه العزيز الغالب المنيع، الحميد المحمود على كل حال، مالك السموات والأرض الذي لا شريك له فيهما ولا نديد، وهو عالم بأعمال خلقه، لا تخفى عليه خافية.
عقاب الكفار وثواب المؤمنين
[سورة البروج (٨٥) : الآيات ١٠ الى ١١]
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١)
البلاغة:
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ.. وإِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي.. بينهما مقابلة.
المفردات اللغوية:
فَتَنُوا ابتلوا واختبروا، والمراد هنا ابتلوهم بالأذى والإحراق. فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ بكفرهم وإحراقهم المؤمنين. عَذابُ الْحَرِيقِ هو عذاب جهنم، وهو بيان وتفسير لما سبق.
الْفَوْزُ الْكَبِيرُ النجاح الأكبر الذي تصغر الدنيا وما فيها دونه.

المناسبة:
بعد بيان قصة أصحاب الأخدود وما فعلوه بالمؤمنين من الإحراق بالنار، أتبع اللَّه تعالى ذلك بأحكام الثواب والعقاب، وأوضح ما أعد للكفار من عذاب جهنم، وما أعد للمؤمنين من الثواب الجليل والتنعم بجنان الخلد.
التفسير والبيان:
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ، ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ، وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ أي إن الذين أحرقوا بالنار المؤمنين والمؤمنات باللَّه ورسله، ولم يتركوهم أحرارا في دينهم، وأجبروهم إما على الإحراق أو الرجوع عن دينهم، ثم لم يتوبوا من قبيح صنعهم ويرجعوا عن كفرهم، فلهم في الآخرة بسبب كفرهم عذاب جهنم، ولهم عذاب الاحتراق بالنار لأن الجزاء من جنس العمل.
وعذاب الحريق تأكيد لعذاب جهنم، وقيل: إنهما مختلفان في الطبقة، الأول- لكفرهم، والثاني لأنهم فتنوا أهل الإيمان وأحرقوهم بالنار، وهذا عذاب آخر زائد على عذاب كفرهم، وهي نار أخرى عظيمة تتسع كما يتسع الحريق. أو لهم عذاب جهنم في الآخرة، ولهم عذاب الحريق في الدنيا، لما روي أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم.
وقوله: ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا إشارة إلى أنهم لو تابوا إلى اللَّه، وندموا على ما فعلوا، غفر اللَّه لهم. ولكن لم ينقل أن أحدا منهم تاب، بل الظاهر أنهم لم يلعنوا إلا وهم قد ماتوا على الكفر. قال الحسن البصري رحمه اللَّه: انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءه، وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة.
ثم رغّب اللَّه تعالى وأرشد إلى ما أعدّ للمؤمنين من الثواب العظيم، فقال:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ أي إن الذين آمنوا وصدقوا باللَّه ربّا واحدا لا شريك له،

وبالرسل واليوم الآخر والملائكة والكتب الإلهية، وعملوا صالح الأعمال باتباع أوامره واجتناب نواهيه، ومنهم الذين صبروا على نار الأخدود، وثبتوا على دينهم ولم يرتدوا، لهم بسبب الجمع بين الإيمان والعمل الصالح جنات (بساتين) تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار، وذلك الثواب والنعيم المذكور هو الفوز أو الظفر الكبير الذي لا يعدله فوز، ولا يقاربه ولا يدانيه، جزاء إيمانهم وطاعة ربهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
تدل الآيتان في الجملة على حكمين:
الأول- أن الذين حرّقوا المؤمنين بالنار، من أصحاب الأخدود وغيرهم «١»، ثم ماتوا على الكفر، ولم يتوبوا من قبيح صنيعهم، فلهم في الآخرة عذاب جهنم المخزي لكفرهم، ولهم العذاب المحرق لإحراقهم المؤمنين بالنار. وعذاب جهنم وعذاب الحريق إما متلازمان، والغرض من الثاني التأكيد، وإما مختلفان في الدركة: الأول لكفرهم، والثاني لأنهم فتنوا أهل الإيمان. وقيل: الأول في الآخرة، والثاني في الدنيا، أو أن الأول عذاب ببرد جهنم وزمهريرها، والثاني عذاب بحرّها.
وفي هذا تصريح بأن التوبة تسقط أثر الذنب وترفع العقوبة، واللَّه يرغب دائما بها.
الثاني- أن الذين آمنوا أي صدقوا باللَّه وبرسله، وعملوا الصالحات المأمور بها وتركوا المنهي عنها، لهم جنات (أي بساتين) تجري من تحت قصورها وأشجارها الأنهار من ماء غير آسن، ومن لبن لم يتغير طعمه، ومن خمر لذّة