آيات من القرآن الكريم

وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ
ﯔﯕﯖ ﯘﯙﯚ ﯜﯝﯞ ﯠﯡﯢﯣ ﯥﯦﯧﯨ ﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰ ﯲﯳﯴﯵ ﯷﯸﯹﯺ ﯼﯽﯾ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙ

بالقضاء ومن حصول بعض الكمالات والفضائل النفسية لقوله تعالى: قُلْ: بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ، فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس ١٠/ ٥٨].
قال ابن زيد: وصف الله أهل الجنة بالمخافة والحزن والبكاء والشفقة في الدنيا، فأعقبهم به النعيم والسرور في الآخرة، وقرأ قول الله تعالى: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا، وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ [الطور ٥٢/ ٢٦- ٢٧].
ثم قال: ووصف أهل النار بالسرور في الدنيا والضحك فيها والتفكه، فقال: إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً.
٤- قوله تعالى: بَلى أي ليبعثن: دليل على الجزم بوقوع البعث، وأنه دار العدل المطلق الذي ينال فيه كل إنسان جزاء عمله خيرا أو شرا.
تأكيد وقوع القيامة وما يتبعها من الأهوال
[سورة الانشقاق (٨٤) : الآيات ١٦ الى ٢٥]
فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠)
وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (٢١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٢٥)
الإعراب:
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ أي حالا بعد حال، وعَنْ تأتي بمعنى «بعد» ومنه قولهم: سادوا كابرا عن كابر، أي بعد كابر. وتركبن: أصله تركبونن، حذفت نون الرفع لتوالي الأمثال والواو لالتقاء الساكنين.

صفحة رقم 144

فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ لا يُؤْمِنُونَ في موضع نصب على الحال من الهاء والميم في لَهُمْ وعامله معنى الفعل الذي تعلقت به اللام في لَهُمْ.
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا إما استثناء متصل من الجنس، فيكون الَّذِينَ آمَنُوا في موضع نصب، لأنه استثناء من الهاء والميم في فَبَشِّرْهُمْ وإما استثناء منقطع الجنس، فيكون منصوبا لأن الاستثناء المنقطع منصوب.
البلاغة:
وَسَقَ واتَّسَقَ بينهما جناس ناقص.
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ كناية، كنّى به عن الشدة والأهوال التي يتعرض لها الإنسان.
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أسلوب تهكمي، استعمال البشارة في موضع الإنذار تهكم وسخرية بالكفار.
فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ، وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ، وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ، لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ سجع مرصّع: وهو توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات، كما تقدم.
المفردات اللغوية:
بِالشَّفَقِ الجمرة التي ترى في الأفق الغربي بعد غروب الشمس، وعن أبي حنيفة رضي الله عنه: إنه البياض الذي يليها، سمي به لرقته، مأخوذ من الشفقة. وَسَقَ ضمّ وجمع وستر جميع ما دخل عليه من الدواب وغيرها. اتَّسَقَ اجتمع وتم نوره وصار بدرا وذلك في منتصف الشهر القمري، وهو ما يعرف بظاهرة القمر الأزرق. ويرى الفلكيون أنه يمكن أن يكتمل القمر بدرا مرتين في شهر واحد في أوربا وآسيا لوجود القمر في نصف الكرة الغربي، على مدى ١٢ عاما بين كل ١٩ عاما، وآخر مرة اكتمل فيها القمر بدرا في الحادي والثلاثين من تموز (يوليو) عام ١٩٨٥ م، وسوف يكتمل القمر بدرا في المرة القادمة في الثاني من كانون الأول (ديسمبر) عام ١٩٩٠ م.
لَتَرْكَبُنَّ لتلاقنّ. طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ حالا بعد حال، متطابقين في الشدة، والطبق: الحال المطابقة لغيرها، والمراد: مرور الكفار بأحوال بعد أحوال هي طبقات في الشدة، بعضها أشد من بعض، وهي الموت وما بعده من الحياة من أحوال القيامة. فَما لَهُمْ أي الكفار لا يُؤْمِنُونَ أيّ مانع لهم عن الإيمان بيوم القيامة؟ لا يَسْجُدُونَ لا يخضعون، بأن يؤمنوا بالقرآن لإعجازه.
يُكَذِّبُونَ بالقرآن والبعث وغيرهما. يُوعُونَ يجمعون في صدورهم من الشرك أو الكفر والمعصية والتكذيب والإعراض وأعمال السوء من حسد وبغي وعداوة. فَبَشِّرْهُمْ البشارة:

صفحة رقم 145

الإخبار بما يسرّ، والمراد هنا الإخبار عن العذاب تهكما واستهزاء بهم. إِلَّا الَّذِينَ أي لكن فهو استثناء منقطع، ويصح كونه استثناء متصلا أي من تاب وآمن منه. غَيْرُ مَمْنُونٍ غير مقطوع ولا منقوص ولا يمن به عليهم، يقال: فلان منّ الحبل: إذا قطعه.
المناسبة:
بعد بيان أحوال الناس وانقسامهم فريقين يوم القيامة: سعداء وأشقياء، أكد الله تعالى وقوع يوم القيامة وما يتبعها من الأهوال بالقسم بآيات واضحة في الكون: وهي الشفق والليل والقمر على أن البعث كائن لا محالة، وأن الناس يتعرضون لشدائد الأهوال.
ثم حكى تعالى بعض عجائب الناس أنهم لا يؤمنون بالقرآن وبالبعث، ولا يخضعون لآي القرآن العظيم، عنادا منهم واستكبارا، فيجازون أشد العذاب، إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فله الثواب الدائم غير الممنون به عليه.
التفسير والبيان:
فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ، وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ، وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ أي يقسم الله تعالى بالشفق الذي هو الحمرة التي تكون بعد غروب الشمس إلى وقت العشاء، وبالليل الأسود البهيم وما جمع وضم، وستر كل ما كان منتشرا ظاهرا في النهار، وبالقمر إذا اجتمع وتكامل وصار بدرا في منتصف كل شهر قمري. والقسم بهذه الأشياء دليل على تعظيمها وتعظيم قدر مبدعها.
ولا أقسم: قسم، وأما حرف (لا) فهو نفي ورد لكلام سابق قبل القسم، وهنا رد الله تعالى على المشرك الذي ظن أن لن يحور، بأنه سيرجع ويبعث، وأبطل ظنه، ثم أقسم بعده بالشفق.
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ جواب القسم، أي لتصادفن أحوالا بعد أحوال، هي طبقات في الشدة، بعضها أشد من بعض، وهي الموت وما بعده من

صفحة رقم 146

مواطن القيامة وأهوالها، ثم يكون المصير الأخير: الخلود في الجنة أو في النار.
ونظير الآية قوله: بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ، ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ [التغابن ٦٤/ ٧]. وقوله: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً [المزمل ٧٣/ ١٧].
ثم أنكر الله تعالى على الكفار استبعادهم البعث، فقال:
فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي فأي شيء أو فماذا يمنعهم عن الإيمان بصحة البعث والقيامة، وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وبما جاء به القرآن، مع وجود موجبات الإيمان بذلك، من الأدلة الكونية القاطعة الدالة على قدرة الله على كل شيء، والمعجزات الظاهرة الدالة على صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم وصدق الوحي القرآني المنزل عليه.
وهذا استفهام إنكار، وقيل: تعجب، أي اعجبوا منهم في ترك الإيمان مع هذه الآيات.
وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ أي وأيّ مانع لهم من سجودهم وخضوعهم عند قراءة القرآن الذي دل إعجازه على كونه منزلا من عند الله تعالى؟! ويكون سجودهم إعظاما وإكراما واحتراما لآي القرآن، بعد أن علموا كونه معجزا، وهم أرباب الفصاحة والبلاغة.
قد احتج أبو حنيفة رحمه الله بالآية على وجوب السجود، فإنه ذم لمن سمعه، ولم يسجد.
ثم أبان الله تعالى سبب عدم إيمانهم بالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم واليوم الآخر، فقال: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ أي والواقع أن الكفار يكذبون بالكتاب المشتمل على إثبات التوحيد والبعث والثواب والعقاب، إما حسدا للرسول صلّى الله عليه وسلّم، وإما خوفا من ضياع المنافع والمراكز والمناصب

صفحة رقم 147

والرياسات، وإما عنادا وإمعانا في البقاء على تقليد الآباء والأجداد والأسلاف.
والله أعلم من جميع الخلائق بما يضمرونه أو يكتمونه في أنفسهم من التكذيب، وأعلم بأسباب الإصرار على الشرك أو الكفر، وجمع الأعمال الصالحة والسيئة.
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي فأخبرهم أيها النبي بأن الله عز وجل قد أعدّ لهم عذابا أليما. واستعمال البشارة التي هي في الأصل لما هو سار، في الإخبار عن العذاب تهكم واستهزاء بهم.
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ أي لكن الذين آمنوا بالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم واليوم الآخر، وخضعوا للقرآن الكريم، وعملوا بما جاء به، والتزموا صالح الأعمال بأعضائهم، لهم في الدار الآخرة ثواب غير مقطوع ولا منقوص، ولا يمنّ به عليهم، كما قال تعالى: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود ١١/ ١٠٨]. والاستثناء منقطع في رأي الزمخشري. وقال الأكثرون: معناه إلا من تاب منهم وعمل صالحا، فله الثواب العظيم.
وفي هذا ترغيب شديد بالإيمان والطاعة، وزجر عن الكفر والمعصية.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- أقسم الله عز وجل بالشفق (وهو حمرة السماء التي تكون عند مغيب الشمس حتى تأتي صلاة العشاء الآخرة) وبالليل وما جمع وضم ولفّ، وبالقمر إذا اجتمع وتم واستوى، على وقوع البعث والقيامة وما يتبعها من أهوال عظام وشدائد ضخام.

صفحة رقم 148

٢- ماذا يمنع الكفار عن الإيمان بالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم واليوم الآخر والقرآن بعد ما وضحت لهم الآيات وقامت الدلالات؟! وماذا يمنعهم عن الخضوع والسجود للقرآن عند سماعه، بعد ما عرفوا أنه معجز، وهم أرباب الفصاحة والبلاغة؟! وهذا توبيخ على أنهم لا ينظرون في الدلائل حتى يورثهم الإيمان والسجود عند تلاوة القرآن.
٣- جمهور العلماء على أن هذه الآية: وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ موضع سجدة تلاوة، بدليل ما تقدم
في الصحيح عن أبي هريرة أنه قرأ: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ فسجد فيها، فلما انصرف أخبرهم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سجد فيها.
وقال الإمام مالك: إنها ليست من عزائم السجود، لأن المعنى: لا يذعنون ولا يطيعون في العمل بواجباته. وعقب على ذلك ابن العربي ونقله عنه القرطبي قائلا: والصحيح أنها منه، أي من عزائم السجود، وهي رواية المدنيين عنه، أي عن مالك، وقد اعتضد فيها القرآن والسنة «١».
٤- الواقع أن الكفار يكذبون الدلائل الموجبة للإيمان وتوابعه، وإن كانت جلية ظاهرة، وتكذيبهم بها إما لتقليد الأسلاف، أو عنادا، أو حسدا، أو خوفا من أنهم لو أظهروا الإيمان، لفاتتهم مناصب الدنيا ومنافعها.
والله عالم بما يضمرونه في أنفسهم من التكذيب والشرك والعناد وسائر العقائد الفاسدة والنيات الخبيثة، فهو يجازيهم على ذلك.

(١) أحكام القرآن لابن العربي: ٤/ ١٨٩٩، تفسير القرطبي: ١٩/ ٢٨٠- ٢٨١

صفحة رقم 149

٥- صرح الله تعالى بوعيدهم قائلا لنبيه: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي موجع في جهنم على تكذيبهم، أي جعل ذلك بمنزلة البشارة تهكما واستهزاء بهم.
٦- استثنى الله تعالى من الوعيد السابق الذين صدقوا بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وعملوا الصالحات، أي أدّوا الفرائض المفروضة عليهم، فلهم ثواب غير منقوص ولا مقطوع، ولا يمنّ عليهم به.
والاستثناء منقطع عند الزمخشري كما بينا، ولا بأس بكونه متصلا، كأنه قال: إلا من آمن منهم، فله أجر غير مقطوع، أو هو من المنة.
وذكر ناس من أهل العلم أن قوله: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ليس استثناء، وإنما هو بمعنى الواو، كأنه قال: والذين آمنوا.

صفحة رقم 150

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة البروج
مكيّة، وهي اثنتان وعشرون آية.
تسميتها:
سميت سورة البروج، لافتتاحها بقسم الله بالسماء ذات البروج: وهي منازل الكواكب السيارة في أثناء سيرها، تنويها بها لاشتمالها على الظهور والغياب.
مناسبتها لما قبلها:
تتعلق السور بما قبلها من وجوه ثلاثة:
١- التشابه في الافتتاح بذكر السماء، ولهذا ورد في الحديث ذكر السماوات مرادا بها السور الأربع، كما قيل في المسبّحات. وتلك السور هي الانفطار والانشقاق، والبروج، والطارق.
٢- اشتمال السورتين على وعد المؤمنين، ووعيد الكافرين، والتنويه بعظمة القرآن.
٣- تضمنت السورة السابقة أن الله عليم بما يجمع المشركون في صدورهم للنبي صلى الله عليه وسلّم والمؤمنين معه من أنواع الأذى المادي، كالضرب والقتل والتعذيب في حر الشمس، والأذى المعنوي، من حقد وحسد، وعداوة، ومكر، وخوف على فوت المنافع، وذكر في هذه السورة أن هذا شأن من تقدمهم من الأمم الكافرة الفاجرة. وفي هذا عظة للمشركين وتثبيت للمؤمنين.

صفحة رقم 151

ما اشتملت عليه السورة:
أبرزت هذه السورة المكية جانبا مهما من جوانب العقيدة وهو التضحية في سبيل الإيمان والاعتقاد، ممثلا في قصة (أصحاب الأخدود).
افتتحت السورة الكريمة بالقسم بالسماء ذات منازل الكواكب، وبيوم القيامة، وبالأنبياء الذين يشهدون على أممهم، على إهلاك وتدمير وإبادة المجرمين، الذين أحرقوا جماعة من المؤمنين والمؤمنات في النار ليفتنوهم عن دينهم: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ... [الآيات: ١- ٩].
وأعقبت ذلك بوعيد هؤلاء العتاة الطغاة، وإنذارهم بعذاب جهنم، وبوعد المؤمنين بالجنان. إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ... [الآيتان: ١٠- ١١].
وختمت السورة بإظهار عظمة الله وجليل صفاته وقدرته على الانتقام من أعدائه، والاتعاظ بقصة الطاغية فرعون الجبار: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ...
[الآيات: ١٢- ٢٢].
فضلها:
أخرج الإمام أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ في العشاء الآخرة ب ذاتِ الْبُرُوجِ ووَ السَّماءِ وَالطَّارِقِ.
وأخرج أحمد عن أبي هريرة أيضا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر أن يقرأ بالسموات في العشاء.
سبب نزولها والحكمة منها:
المقصود من هذه السورة تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه عن إيذاء الكفار، ببيان أن سائر الأمم السابقة كانوا كأهل مكة، مثل أصحاب الأخدود في نجران اليمن،

صفحة رقم 152

ومثل فرعون وثمود، وكان كل الكفار سواء في التكذيب، فانتقم الله منهم لأنهم جميعا في قبضة القدرة الإلهية: وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ. وهذا شيء مثبت في اللوح المحفوظ ممتنع التغيير لقوله تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ.
وسبب نزول هذه السورة التي تدور على قصة أصحاب الأخدود: ما رواه مسلم في صحيحة وأحمد والنسائي، وموجزها: أن أحد ملوك الكفار وهو ذو نواس اليهودي واسمه زرعة بن تبّان أسعد الحميري، بلغه أن بعض رعيته آمن بدين النصرانية «١»، فسار إليهم بجنود من حمير، فلما أخذوهم خيّروهم بين اليهودية والإحراق بالنار، فاختاروا القتل، فشقوا لهم الأخدود، وأضرموا فيه النار، ثم قالوا للمؤمنين: من رجع منكم عن دينه تركناه، ومن لم يرجع ألقيناه في النار، فصبروا، فألقوهم في النار، فاحترقوا، والملك وأصحابه ينظرون.
قيل: قتل منهم عشرين ألفا، وقيل: اثني عشر ألفا، وقال الكلبي: كان أصحاب الأخدود سبعين ألفا.
والخلاصة: أن ذا نواس آخر ملوك حمير، وكان مشركا، قتل أصحاب الأخدود الذين كانوا نصارى، وكانوا قريبا من عشرين ألفا «٢».
تفصيل القصة- قصة الساحر والراهب والغلام:
المعتمد من قصص أصحاب الأخدود:
ما جاء في الصحاح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنه كان لبعض الملوك ساحر، فلما كبر ضمّ إليه غلاما ليعلّمه السّحر، وكان في طريق الغلام راهب يتكلّم بالمواعظ لأجل الناس، فمال قلب الغلام إلى حديثه،

(١) وقال الضحاك: هم قوم من النصارى كانوا باليمين قبل مبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأربعين سنة، أخذهم يوسف بن شراحيل بن تبع الحميري، وكانوا نيفا وثمانين رجلا، وحفر لهم أخدودا وأحرقهم فيه.
(٢) تفسير ابن كثير: ٤/ ٥٤٩

صفحة رقم 153

فرأى في طريقه ذات يوم دابة أو حية قد حبست الناس، فأخذ حجرا فقال:
اللهم إن كان الراهب أحبّ إليك من الساحر، فاقتلها بهذا الحجر، فقتلها.
وكان ذلك الغلام بعدئذ يتعلّم من الراهب إلى أن صار بحيث يبرئ الأكمه والأبرص، ويشفي من الداء. وعمي جليس للملك فأبرأه، فأبصره الملك فسأله:
من ردّ عليك بصرك؟ فقال: ربي، فغضب، فعذّبه.
فدل على الغلام، فعذّب الغلام حتى دل على الراهب، فلم يرجع الراهب عن دينه، فقدّ بالمنشار، وأتى الغلام، فذهب به إلى جبل ليطرح من ذروته، فدعا فرجف بالقوم فطاحوا ونجا، فذهبوا به إلى قرقور: وهي سفينة صغيرة، فلججوا به ليغرقوه، فدعا، فانكفأت بهم السفينة، فغرقوا ونجا، وقال للملك:
لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيد، وتصلبني على جذع، وتأخذ سهما من كنانتي وتقول: بسم الله ربّ الغلام، ثم ترميني به.
فرماه فوقع في صدغه، فوضع يده عليه ومات، فقال الناس: آمنا برب الغلام، فقيل للملك: نزل بك ما كنت تحذر، فأمر بأخاديد في أفواه السّكك وأوقدت فيها النيران، فمن لم يرجع منهم طرحه فيها، حتى جاءت امرأة معها صبي، فتقاعست أن تقع فيها، فقال الصبي: يا أمّاه، اصبري فإنك على الحق، وما هي إلا غميضة، فصبرت واقتحمت».

صفحة رقم 154
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية