
مما قال اللَّه تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ.
لذا قال تعالى بعدئذ: عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ أي يشرب منها أهل جنة عدن، وهم أفاضل أهل الجنة، صرفا وهي لغيرهم مزاج.
ويلاحظ أنه تعالى لما قسم المكلفين في سورة الواقعة إلى ثلاثة أقسام:
المقربون، وأصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، وذكر كرامة المذكورين في هذه السورة بأنه يمزج شرابهم من عين يشرب بها المقربون، علمنا أن المذكورين هنا هم أصحاب اليمين. وهذا يدل على أن الأنهار متفاوتة في الفضيلة، فتسنيم أفضل أنهار الجنة، والمقربون أفضل أهل الجنة «١».
سوء معاملة الكفار للمؤمنين في الدنيا ومقابلتهم بالمثل في الآخرة
[سورة المطففين (٨٣) : الآيات ٢٩ الى ٣٦]
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣)
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦)
الإعراب:
عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ، هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ في موضع نصب ب يَنْظُرُونَ. وقيل: لا موضع لها من الإعراب لأنها مستأنفة. وقرئ: «هل ثوّب» : بإدغام اللام في هَلْ في الثاء، وبإظهارها، من أدغم، فلما بينهما من المناسبة لأنهما من حروف اللسان والثنايا العليا.

البلاغة:
يَكْسِبُونَ يَضْحَكُونَ يَتَغامَزُونَ
يَنْظُرُونَ يَفْعَلُونَ سجع مرصع، وهو توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات.
المفردات اللغوية:
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا هم رؤساء قريش ومشركو مكة: أبو جهل والوليد بن المغيرة وأمثالهما. كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ أي يضحكون استهزاء من عمّار وصهيب وبلال وغيرهم من فقراء المؤمنين. وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ
مروا بالمؤمنين. يَتَغامَزُونَ
يغمز بعضهم بعضا ويشيرون بأعينهم بالجفن والحاجب استهزاء. والغمز: إرخاء الجفن والحاجب استهزاء وسخرية، أو لغرض آخر يعبر به عن شيء بين الناس، إما خير أو شر، وأكثر ذلك إنما يكون على سبيل الخبث.
انْقَلَبُوا رجعوا. فَكِهِينَ معجّبين بذكرهم المؤمنين أي ينسبونهم إلى الضلال، وقرئ: فاكهين، أي ملتذين بالسخرية منهم، والمعنى في القرائتين واحد. وَإِذا رَأَوْهُمْ أي رأوا المؤمنين. لَضالُّونَ ينسبونهم إلى الضلال، لإيمانهم بمحمد صلّى اللَّه عليه وسلّم. وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ وما أرسل الكفار على المؤمنين. حافِظِينَ لهم أو لأعمالهم، أي رقباء يهيمنون على أعمالهم، شاهدين عليها، يشهدون برشدهم وضلالهم.
فَالْيَوْمَ أي يوم القيامة. الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ يهزؤون بهم حين يرونهم أذلّاء مغلولين في النار، عَلَى الْأَرائِكِ على الأسرة في الحجال في الجنة. يَنْظُرُونَ من منازلهم إلى الكفار، وهم يعذبون، فيضحكون منهم، كما ضحك الكفار منهم في الدنيا. هَلْ ثُوِّبَ جوزي، من التثويب والإثابة: المجازاة، أي هل أثيبوا؟ ما كانُوا يَفْعَلُونَ نعم.
سبب النزول: نزول الآية (٢٩) :
ذكر العلماء في سبب النزول وجهين:
الأول- أن المراد من قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا أكابر المشركين كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل السّهمي، كانوا يضحكون من عمار وصهيب وبلال وغيرهم من فقراء المسلمين ويستهزئون بهم.

الثاني- جاء علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه في نفر من المسلمين، فسخر منهم المنافقون، وضحكوا، وتغامزوا، ثم رجعوا إلى أصحابهم، فقالوا: رأينا اليوم الأصلع، فضحكوا منه، فنزلت هذه الآية قبل أن يصل عليّ إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم «١».
المناسبة:
بعد بيان قصة الفجار وقصة الأبرار وما أعد لكل فئة في الآخرة، حكى اللَّه تعالى بعض قبائح أفعال الكافرين في الدنيا بالاستهزاء بالمؤمنين، ومعاملتهم بالمثل في الآخرة، جزاء ما فعلوا في الدنيا. والمقصود منه تسلية المؤمنين وتقوية قلوبهم.
التفسير والبيان:
حكى اللَّه تعالى عن رؤساء الشرك وأمثالهم أربعة أشياء من المعلومات القبيحة، فقال:
١- إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ أي إن كفار قريش ومن وافقهم على الكفر كانوا في الدنيا يستهزئون بالمؤمنين، ويسخرون منهم. وهكذا شأن الأقوياء والأغنياء في كل عصر يسخرون من المؤمنين المصلّين أو الفقراء المتأدبين بآداب الإسلام والقرآن، ويهزؤون من المتدينين ومن دينهم، اعتمادا منهم على قوتهم، أو سلطتهم ونفوذهم، أو ثروتهم وغناهم. قال ابن عباس في تفسير إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا... : هو الوليد بن المغيرة، وعقبة بن أبي معيط، والعاص بن وائل، والأسود بن عبد يغوث، والعاص بن هشام، وأبو جهل، والنضر بن الحارث. وأولئك الذين آمنوا من أصحاب محمد صلّى اللَّه عليه وسلّم مثل عمار، وخبّاب، وصهيب، وبلال.

٢- وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ
أي وإذا مر الكفار بالمؤمنين يتغامزون عليهم محتقرين لهم، يعيرونهم بالإسلام، ويعيبونهم به. والتغامز: صيغة تفاعل تقتضي المشاركة، من الغمز: وهو الإشارة بالجفن والحاجب استهزاء، ويكون الغمز أيضا بمعنى العيب، يقال: غمزة: إذا عابه، وما في فلان غميزة، أي ما يعاب به، والمعنى: أنهم يشيرون إليهم بالأعين استهزاء، ويعيبونهم، ويقولون: انظروا إلى هؤلاء يتعبون أنفسهم، ويحرمونها لذاتها، ويخاطرون بأنفسهم في طلب ثواب لا يتيقنونه.
٣- وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ أي وإذا رجع الكفار إلى أهلهم في منازلهم من مجالسهم في السوق، رجعوا معجبين بما هم فيه، متلذذين به، يتفكهون بما فعلوا بالمؤمنين، وبما قاموا به من استهزاء وطعن فيهم، واستهزاء بهم، ووصفهم بالسخف والطيش وضعف الرأي وقلة العقل.
٤- وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا: إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ أي وإذا رأى المشركون المؤمنين، ووصفوهم بالضلال لكونهم على غير دينهم وعقائدهم الموروثة، ولاتباعهم محمّدا، وتمسكهم بما جاء به، وتركهم التنعم الحاضر بسبب طلب ثواب لا يدرى: هل له وجود أم لا.
فرد اللَّه تعالى عليهم ما قالوه بقوله:
وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ أي وما بعث هؤلاء المجرمون من قبل اللَّه رقباء على المؤمنين، يحفظون عليهم أحوالهم وأعمالهم وأقوالهم، ولا كلّفوا بهم؟
وإنما كلفوا بالنظر في شؤون أنفسهم.
ثم قرر اللَّه تعالى مبدأ المعاملة بالمثل في الآخرة، تسلية للمؤمنين وتقوية قلوبهم، فقال:

فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ أي ففي اليوم الآخر يوم القيامة، يضحك المؤمنون ويهزؤون من الكفار حين يرونهم أذلّاء مغلوبين، قد نزل بهم ما نزل من العذاب، كما ضحك الكفار منهم في الدنيا، معاملة بالمثل، وتبيانا أن الكفار الجاحدين هم في الواقع سفهاء العقول والأحلام، خسروا الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين. وكلمة فَالْيَوْمَ دليل على أن التكلم واقع في يوم القيامة.
عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ أي ينظر المؤمنون إلى أعداء اللَّه، وهم يعذبون في النار، والمؤمنون متنعمون على الأرائك. وهذا دائم خالد لا يعادل بشيء من المؤقت الفاني.
هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ أي هل أثيب وجوزي الكفار على ما كانوا يقابلون به المؤمنين من الاستهزاء والطعن والتنقيص، أم لا؟ نعم، قد جوزي الكفار أتم الجزاء بما كان يقع منهم في الدنيا من الضحك من المؤمنين والاستهزاء بهم. والثواب: من ثاب يثوب: إذا رجع، فالثواب: ما يرجع على العبد في مقابلة عمله، ويستعمل في الخير والشر. والاستفهام بمعنى التقرير للمؤمنين، أي هل جوزوا بها؟.
فقه الحياة أو الأحكام:
استدل العلماء بالآيات على ما يأتي:
١- الكفار دائما في عداوة وحقد وتغاير مع المؤمنين، فلا يلتقي الإيمان مع الكفر، ولا الدين الصحيح مع الضلال، ولا الأخلاق العالية مع الأخلاق المرذولة. فقد كان يصدر من المشركين ألوان متعددة من أذى المؤمنين، منها ما ذكرته هذه الآيات: وهو الاستهزاء والسخرية من المؤمنين، وتعييبهم والطعن بهم وتعييرهم بالإسلام، والتفكه بذكر المسلمين بالسوء أمام أهاليهم،

والعجب بما هم فيه من الشرك والمعصية والتنعم بالدنيا، وقولهم بأن المؤمنين في ضلال لتركهم دين الآباء والأجداد واتباعهم محمدا صلّى اللَّه عليه وسلّم، وتركهم التنعم الحاضر بسبب طلب ثواب غير مؤكد الحصول.
٢- قوبل الكفار في الآخرة بمثل فعلهم وقولهم، تسلية للمؤمنين، وتثبيتا لهم على الإسلام، وتصبرا على متاعب التكاليف، وأذية الأعداء، في أيام معدودة، لنيل ثواب لا نهاية له ولا غاية، ففي الآخرة يهزأ المؤمنون من الكفار ويضحكون منهم، كما ضحك الكفار منهم في الدنيا، بسبب الضر والبؤس، فضحك المؤمنون منهم بسبب ما هم فيه من أنواع العذاب والبلاء.
قال قتادة في قوله تعالى: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ:
ذكر لنا أن كعبا كان يقول: إن بين الجنة والنار كوىّ، فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدوّ كان له في الدنيا، اطلع من بعض الكوى قال اللَّه تعالى في آية أخرى: فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ [الصافات ٣٧/ ٥٥] قال: ذكر لنا أنه اطلع فرأى جماجم القوم تغلي.
ويدخل المؤمنون الجنة، وأجلسوا على الأرائك ينظرون إلى الكفار، كيف يعذبون في النار، وكيف يصطرخون فيها، ويدعون بالويل والثبور، ويلعن بعضهم بعضا.
ويقال على سبيل التهكم: هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ كقوله تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان ٤٤/ ٤٩] والمعنى: كأنه تعالى يقول للمؤمنين: هل جازينا الكفار على عملهم الذي كان من جملته ضحكهم بكم واستهزاؤهم بطريقتكم، كما جازيناكم على أعمالكم الصالحة؟ فيكون هذا القول زائدا في سرورهم لأنه يقتضي زيادة في تعظيمهم والاستخفاف بأعدائهم.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الانشقاقمكيّة، وهي خمس وعشرون آية.
تسميتها:
سميت سورة الانشقاق لقوله تعالى: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ أي تشققت وتصدعت مؤذنة بخراب العالم، ومنذرة بهول يوم القيامة.
مناسبتها لما قبلها:
السور الأربعة: الانشقاق وما قبلها وهي سور المطففين والانفطار والتكوير كلها في صفة حال يوم القيامة، ذكرت على ترتيب ما يقع فيه، فغالب ما وقع في التكوير، وجميع ما وقع في الانفطار يقع في صدر يوم القيامة، وأغلب ما ذكر في المطففين في أحوال الأشقياء الفجار والمتقين الأبرار في الآخرة، وعنيت سورة الانشقاق بالجمع بين ما يحدث من مقدمات ومشاهد الآخرة الرهيبة وبين ما يعقب ذلك من الحساب اليسير لأهل اليمين والحساب العسير لأهل الشمال.
وفي السورة المتقدمة ذكر مقر كتب الحفظة، وفي هذه ذكر كيفية عرضها يوم القيامة.
ما اشتملت عليه السورة:
محور السورة كالسور المكية الأخرى: شؤون العقيدة، وتصوير أهوال صفحة رقم 136

القيامة. وقد بدئت ببيان بعض التبدلات الكونية الخطيرة عند قيام الساعة:
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ.. [الآيات: ١- ٥].
وأردفت ذلك حال الإنسان في موقف العرض والحساب يوم القيامة، وانقسام الناس فريقين: أهل اليمين وأهل الشمال: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ، إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ... [الآيات: ٦- ١٥].
ثم أقسم اللَّه بالشفق والليل والقمر على ملاقاة المشركين في القيامة أهوالا شديدة، وأحوالا عصيبة: فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ... [الآيات: ١٦- ١٩].
وختمت السورة بتوبيخ المشركين والكفار والملاحدة والوجوديين وأمثالهم على عدم إيمانهم باللَّه تعالى، وبإنذارهم بالعذاب الأليم، والتنبيه على نجاة المؤمنين الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح، ومنحهم الثواب الدائم المستمر الذي لا ينقطع ولا ينقص: فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ... [الآيات: ٢٠- ٢٥].
والخلاصة: أن السورة اشتملت على مقصدين: بيان ما يلاقيه الإنسان من نتائج أعماله يوم القيامة، وانحصار المصير إما في جنات النعيم وإما في نيران الجحيم.
فضلها:
أخرج مسلم والنسائي: أن أبا هريرة قرأ بهم: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ فسجد فيها، فلما انصرف أخبرهم أن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم سجد فيها.
وأخرج البخاري ومسلّم وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه عن أبي رافع قال: صليت مع أبي هريرة العتمة (العشاء) فقرأ: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ فسجد، فقلت له، فقال: سجدت خلف أبي القاسم صلّى اللَّه عليه وسلّم، فلا أزال أسجد بها، حتى ألقاه.