
وقال الشافعي: لما حجب قوما بالسخط، دل على أن قوما يرونه بالرضا.
ثم قال: أما واللَّه، لو لم يوقن محمد بن إدريس أنه يرى ربه في المعاد، لما عبده في الدنيا.
ديوان الخير وقصة الأبرار
[سورة المطففين (٨٣) : الآيات ١٨ الى ٢٨]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢)
عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧)
عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨)
الإعراب:
عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ عَيْناً: تمييز، أو حال من تَسْنِيمٍ لأنها بمعنى جارية، على أن (تسنيما) اسم للماء الجاري من علو الجنة، فهو معرفة، تقديره: ومزاجه من الماء جاريا من علو، أو منصوب ب تَسْنِيمٍ وهو مصدر، مثل: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً أي ومزاجه من ماء تسنيم عينا، أو منصوب بتقدير (أعني عينا) أو منصوب على المدح ويَشْرَبُ: جملة فعلية في موضع نصب على الموضع لقوله: عَيْناً. وباء بِهَا إما زائدة، أي يشربها بمعنى: يشرب منها، أو بمعنى فيها.
البلاغة:
وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ تفخيم وتعظيم لمراتب الأبرار.
فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ جناس اشتقاق.
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ، عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ، تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ إطناب بذكر أوصاف المتقين ومقر نعيمهم.

خِتامُهُ مِسْكٌ تشبيه بليغ، أي كالمسك في الطيب والبهجة، فحذف منه أداة التشبيه ووجه الشبه.
المفردات اللغوية:
كَلَّا حقا، أو ردع وزجر عن الباطل. كِتابَ الْأَبْرارِ ما يكتب من أعمال المؤمنين الصادقين في إيمانهم. لَفِي عِلِّيِّينَ لمثبت في ديوان الخير، فهو إما أنه الكتاب الجامع لأعمال الخير من الملائكة ومؤمني الثقلين، بدليل تفسيره بعدئذ: وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ، كِتابٌ مَرْقُومٌ وإما أنه مكان عال في الجنة. وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ؟ ما أعلمك ما كتاب عليين. كِتابٌ مَرْقُومٌ مسطور بيّن الكتابة أو معلم بعلامة. يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ يحضرونه فيحفظونه، وهم الملائكة. لَفِي نَعِيمٍ جنة.
عَلَى الْأَرائِكِ السرر أو الأسرّة في الحجال، والحجال: جمع حجلة وهي كالقبة، ولا تطلق الأريكة على السرير إلا إذا كان في حجلة وهي الكلّة. يَنْظُرُونَ ما أعطوا من نعيم يسرّهم. نَضْرَةَ النَّعِيمِ بهجة التنعم وحسنه وبريقه. رَحِيقٍ شراب خالص لا غش فيه، وهو أجود الخمر غير المسكرة. مَخْتُومٍ ختم إناؤه بالمسك، لا يفكه إلا الأبرار تكريما لهم.
خِتامُهُ مِسْكٌ ختام إنائه المسك، مكان الطين أو غيره. فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ فليتسارع أو فليستبق المتسابقون بالمبادرة إلى طاعة الله تعالى، وليجاهدوا النفوس، ليلحقوا بالركب المتقدم من العالمين المخلصين. وأصل التنافس: التنازع في الشيء بغية أن ينفرد به أحد المتنازعين دون غيره، أي يضن به.
وَمِزاجُهُ ما يمزج به أو يخلط، فالمزاج والمزج: الشيء الذي يمزج بغيره، والمزج:
خلط أحد الشيئين بالآخر. تَسْنِيمٍ عين من ماء تجري من الأعلى إلى الأسفل، وهو أشرف شراب في الجنة. يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ يشرب منها، أو ضمن يشرب معنى يلتذ، والْمُقَرَّبُونَ هم الأبرار السابق ذكرهم.
المناسبة:
بعد بيان حال المطففين وحال الفجار المكذبين بيوم الدين، وتبيين درجتهم يوم القيامة، أتبعه ببيان حال الأبرار الذين آمنوا باللَّه ورسله واليوم الآخر، وعملوا صالحا في الدنيا، والتعريف بمنزلتهم عند اللَّه، وأن اللَّه رصد أعمالهم في كتاب مرقوم هو عِلِّيُّونَ وأن لهم الجزاء الحسن على إحسانهم في الدنيا، حتى

يتبين أن كتاب الأبرار ضد كتاب الفجار بجميع معانيه، فيقبل العاقل على مقوّمات الأولين، ويبتعد عن محاكاة الآخرين.
التفسير والبيان:
كَلَّا، إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ أي حقا، إن كتاب الأبرار وهم المؤمنون المخلصون العاملون المطيعون مرصود في كتاب بيّن مسطور، أو في أعالي الجنة، ومصيرهم إلى الجنة، وهم بخلاف الفجار، وهو بخلاف سجين.
وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ؟ كِتابٌ مَرْقُومٌ، يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ أي وما أعلمك يا محمد أي شيء هو عليون؟ ويراد بذلك تفخيم أمره وتعظيم شأنه، إنه كتاب مسطور، سطرت فيه أسماؤهم وأعمالهم، وهو السجل الكبير، الذي تحضره الملائكة وتحفظه ويرونه كما يحفظ اللوح المحفوظ، أو يشهدون بما فيه يوم القيامة.
ثم أبان اللَّه تعالى حالهم فقال:
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ، عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ أي إن أهل الطاعة لفي تنعم عظيم يوم القيامة، وفي جنات الخلود، على الأسرّة التي في الحجال (ذات القبب الساترة) ينظرون إلى ما أعده اللَّه لهم من أنواع النعيم في الجنة، وإلى ما لهم من الكرامات المادية والمعنوية، أما الماديات فهي مختلف أنواع الأطعمة الشهية والأشربة الهنية والحور العين والمراكب الفارهة والمساكن الفخمة، وأما المعنويات فأنساهم باللَّه ورؤيتهم له ورضاه عنهم وشعورهم بالأمن والطمأنينة والسعادة الأبدية.
تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ أي إذا رأيتهم عرفت آثار النعمة والترف والسرور والدعة في وجوههم، التي تتلألأ بالنور والحسن والبياض،

والبهجة والرونق لأن اللَّه تعالى زاد في جمالهم وفي ألوانهم ما لا يصفه واصف، كما قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ، ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ [عبس ٨٠/ ٣٨- ٣٩].
يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ، خِتامُهُ مِسْكٌ، وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ أي يسقون من الخمر التي لا غش فيها ولا يشوبها شيء يفسدها، وقد ختم إناؤها بالمسك فلا يفكه إلا الأبرار، ويكون آخر طعمه ريح المسك، وفي ذلك فليرغب الراغبون، وليتسابق المتسابقون بالمبادرة إلى طاعة اللَّه باتباع أوامره، واجتناب نواهيه. وهذا يعني أن التسابق أو التنافس يكون فيما يؤدي إلى النعيم، لا إلى الجحيم، كما قال تعالى: لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ [الصافات ٣٧/ ٦١].
أخرج الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري مرفوعا إلى النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: «أيما مؤمن سقى مؤمنا شربة ماء على ظمأ، سقاه اللَّه تعالى يوم القيامة من الرحيق المختوم، وأيما مؤمن أطعم مؤمنا على جوع، أطعمه اللَّه من ثمار الجنة، وأيما مؤمن كسا مؤمنا ثوبا على عري، كساه اللَّه من خضر الجنة».
وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ، عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ أي ومزاج ذلك الرحيق وهو ما يخلط به من تسنيم، وهو شراب ينصب عليهم من علوّ، وهو أشرف شراب الجنة. ويسقون الرحيق أو التسنيم من عين جارية من الأعلى إلى الأسفل يمزجون بها كؤوسهم، وهي التي يشرب منها الأبرار المقربون صرفا، وتمزج لأصحاب اليمين مزجا.
سئل ابن عباس عن قوله تعالى: وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ فقال: هذا مما قال اللَّه: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة ٣٢/ ١٧].

فقه الحياة أو الأحكام:
يتبين من الآيات ما يأتي:
١- إن صحف أعمال الأبرار مدونة في السجل الكبير وهو الكتاب المسطر البيّن الكتابة، الذي يتميز بعلامته الخاصة، ويشهد عمل الأبرار مقربو كل سماء من الملائكة. وهذه أضداد كتاب الفجار.
وبالمقارنة بينهما يتبين أن العلو والفسحة والضياء والطهارة من علامات السعادة، والسفل والضيق والظلمة من علامات الشقاوة. والمقصود من وضع كتاب الفجار في أسفل السافلين وفي أضيق المواضع: إذلال الفجار وتحقير شأنهم.
والمقصود من وضع كتاب الأبرار في أعلى عليين وشهادة الملائكة لهم بذلك:
إجلالهم وتعظيم شأنهم «١».
٢- بعد أن عظم اللَّه تعالى كتاب الأبرار عظم منزلتهم، فأبان أنهم في نعيم الجنة. ووصف كيفية ذلك النعيم بأمور ثلاثة:
أولها- على الأرائك ينظرون، أي على الأسرة في الحجال ينظرون إلى ما أنعم اللَّه به عليهم، من الكرامات ومن أنواع النعم في الجنة من الحور العين والولدان، وأنواع الأطعمة والأشربة والملابس والمراكب وغيرها،
قال صلّى اللَّه عليه وسلّم: «يلحظ المؤمن، فيحيط بكل ما آتاه اللَّه، وإن أدناهم يتراءى له مثل سعة الدنيا».
ثانيها- تعرف في وجوههم نضرة النعيم، أي بهجته وغضارته ونوره، والنظر المقرون بالنضرة هو رؤية اللَّه عز وجل، على ما قال: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة ٧٥/ ٢٢- ٢٣].

ثالثها- يسقون من رحيق مختوم، أي يسقون من شراب لا غشّ فيه، والرحيق: صفوة الخمر، وخمر الجنة غير مسكرة، كما قال تعالى: لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ [الصافات ٣٧/ ٤٧]. وقال عز وجل: لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ [الواقعة ٥٦/ ١٩].
وهذا النوع من الخمر يختلف عن النوع الآخر الذي يجري في الأنهار، المشار إليه في قوله تعالى: وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [محمد ٤٧/ ١٥] لكن هذا المختوم أشرف وأفضل من الجاري.
وللرحيق صفات أربع هي:
الأولى- أنه شراب مختوم قد ختم عليه تكريما له بالصيانة على ما جرت به العادة من ختم ما يكرم ويصان.
الثانية- ختامه مسك، أي عاقبته المسك، بمعنى أن يختم له آخره بريح المسك. قال الفراء: الختام آخر كل شيء.
الثالثة- أنه محل التنافس والتنازع لرفعته وطيبه، والمراد: فليرغب الراغبون به إلى المبادرة إلى طاعة اللَّه عز وجل.
الرابعة- ومزاجه من تسنيم، أي مزاج ذلك الرحيق الذي يخلط به من تسنيم، وهو شراب ينصب عليهم من علوّ، وهو أشرف شراب في الجنة. وأصل التسنيم في اللغة: الارتفاع، فهي عين ماء تجري من علو إلى أسفل، ومنه سنام البعير لعلوّه من بدنه، وكذلك تسنيم القبور.
قال عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه: تسنيم: عين في الجنة يشرب بها المقرّبون صرفا، ويمزج منها كأس أصحاب اليمين، فتطيب.
وقال ابن عباس كما تقدم في قوله عز وجل: وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ: هذا