
٤- القصد من إيراد هذه الأشياء: ضرب المثل من الله تعالى، لبعث الموتى من قبورهم، والامتنان من الله على عباده بما أنعم به عليهم.
والخلاصة: أن المقصود من هذه الأشياء أمور ثلاثة:
أولها- إيراد الدلائل الدالة على التوحيد.
وثانيها- إيراد الدلائل الدالة على القدرة على المعاد.
وثالثها- الترغيب بالإيمان والطاعة فإنه لا يليق بالعاقل أن يتمرد عن طاعة الإله الذي أحسن إلى عباده بهذه الأنواع العظيمة من الإحسان.
أهوال القيامة
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ٣٣ الى ٤٢]
فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢)
الإعراب:
فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ جواب إذا: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ أي استقر لكل امرئ منهم.
البلاغة:
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ، ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ، تَرْهَقُها قَتَرَةٌ بينهما مقابلة، قابل فيها بين وجوه السعداء ووجوه الأشقياء.

المفردات اللغوية:
الصَّاخَّةُ هي القارعة أو الطامة الكبرى أو القيامة، وهي النفخة الثانية التي يكون معها البعث، والمراد بها الصيحة التي تصم الآذان لشدتها، وصفت بها مجازا لأن الناس يصخون لها، والصخ: الضرب بالحديد على الحديد أو بالعصا على شيء، فيسمع صوت شديد.
يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لاشتغاله بشأنه، وعلمه بأنهم لا ينفعونه. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ شغل أو حال يكفيه في الاهتمام به، ويشغله عن شأن غيره، أي اشتغل كل واحد بنفسه، مما يدل على الرهبة والخوف الشديد، ويُغْنِيهِ يصرفه عن غيره.
مُسْفِرَةٌ مضيئة متهللة مشرقة من البشر، يقال: أسفر الصبح: إذا أضاء.
مُسْتَبْشِرَةٌ فرحة بما ترى من النعيم، وهم المؤمنون. غَبَرَةٌ غبار وكدورة، وهم الكافرون.
تَرْهَقُها تغشاها. قَتَرَةٌ سواد وظلمة كالدخان. أُولئِكَ أصحاب هذه الحالة. هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ الجامعون بين أنواع الكفر: (إنكار وجود الله أو إنكار وحدانيته) والفجور:
العصيان والخروج عن حدود الله.
المناسبة:
بعد بيان نعم الله تعالى في نفس الإنسان وفي الآفاق، وإقامة الأدلة والبراهين بها على كمال قدرة الله عز وجل على البعث وكل شيء، أبان الله تعالى بعض أهوال القيامة وأحوالها التي تملأ النفس خوفا ورهبة، ليكون ذلك مدعاة إلى التأمل في الدلائل والإيمان بها والإعراض عن الكفر، وإلى ترك التكبر على الناس، وإلى إظهار التواضع إلى كل أحد.
والناس في ذلك الموقف فريقان: سعداء وأشقياء، والفريق الأول ضاحك مستبشر: وهو من امن بالله ورسله وأطاع ما أمر الله به. والفريق الثاني عابس متكدر، تعلو وجهه الغبرة وترهقه القترة: وهو الذي أنكر وجود الله وتوحيده، وأعرض عن قبول ما جاءت به رسل الله.
قال القرطبي: لما ذكر أمر المعاش، ذكر أمر المعاد، ليتزودوا له بالأعمال الصالحة، وبالإنفاق مما امتنّ به عليهم.

التفسير والبيان:
فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ أي إذا جاءت القيامة أو صيحة يوم القيامة التي تصخ الأذن، أي تصمها فلا تسمع. والصاخّة: اسم من أسماء القيامة، عظّمه الله وحذّر عباده. قال البغوي: الصاخة: يعني صيحة يوم القيامة، سميت بذلك لأنها تصخّ الأسماع وتصمّ الآذان لشدتها، أي تبالغ في إسماعها حتى تكاد تصمّها.
وقال ابن جرير: لعله اسم للنفخة في الصور.
يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ أي إذا جاءت الصاخة حين يرى المرء أعز أقاربه وأخصهم لديه، وأولاهم بالحنو والرأفة والعطف، من أخ وأم وأب وزوجة وولد، ويفر منهم ويبتعد عنهم لأن الهول عظيم والخطب جليل، ولكل امرئ منهم يومئذ حال أو شغل يشغله عن الأقرباء ويصرفه منهم، ويفرّ عنهم، حذرا من مطالبتهم إياه بشيء يهمهم، ولئلا يروا ما هو فيه من الشدة، وهو كقوله تعالى: يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً، وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ
[الدخان ٤٤/ ٤١] وقوله سبحانه: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً [المعارج ٧٠/ ١٠].
والمراد: أن الذين كان المرء في دار الدنيا يفر إليهم ويستجير بهم، فإنه يفر منهم في دار الآخرة. وفائدة الترتيب واضحة، وهي الفرار من الأبعد وهو الأخ، ثم من الأبوين، ثم من الزوجة والولد، من قبيل الترقي إلى الأحب عادة والأقرب، قال الزمخشري: بدأ بالأخ، ثم بالأبوين لأنهما أقرب منه، ثم الصاحبة والبنين لأنهم أقرب وأحب، كأنه قال: يفر من أخيه، بل من أبويه، بل من صاحبته وبنيه. وأيده الرازي في هذا.
وعقب النظام النيسابوري في غرائب القرآن على ذلك فقال: هذا القول يستلزم أن تكون الصاحبة أقرب وأحب من الأبوين، ولعله خلاف العقل

والشرع. والأصوب أن يقال: أراد أن يذكر بعض من هو مطيف بالمرء في الدنيا من أقاربه في طرفي الصعود والنزول فبدأ بطرف الصعود لأن تقديم الأصل أولى من تقديم الفرع، وذكر أولا في كل من الطرفين من هو معه في درجة واحدة وهو الأخ في الأول والصاحبة في الثاني. على أن وجود البنين موقوف على وجود الصاحبة، فكانت بالتقديم أولى «١».
والأظهر أن الفرار المعنى: هو قلة الاهتمام بشأن هؤلاء، بدليل قوله:
لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ أي يصرفه ويصدّه عن قرابته «٢».
روى ابن أبي حاتم والنسائي والترمذي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تحشرون حفاة عراة مشاة غرلا، أي غير مختونين، قال:
فقالت زوجته: يا رسول الله، ننظر أو يرى بعضنا عورة بعض؟ قال: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» أو قال: «ما أشغله عن النظر!!».
ثم ذكر الله تعالى أحوال الناس حينئذ وانقسامهم في ذلك اليوم إلى سعداء وأشقياء، فقال واصفا السعداء أولا:
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ، ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ أي يكون الناس هنالك فريقين: وجوه متهللة مشرقة مضيئة، وهي وجوه المؤمنين أهل الجنة لأنهم قد علموا إذ ذاك ما لهم من النعيم والكرامة.
ثم وصف الأشقياء بقوله:
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ، تَرْهَقُها قَتَرَةٌ، أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ أي ووجوه أخرى في القيامة عليها غبار وكدورة، لما تراه مما أعدّه الله لها من
(٢) غرائب القرآن، المكان السابق.

العذاب، يغشاها سواد وكسوف، وذلّة وشدة، وأصحاب تلك الوجوه المغبّرة هم الذين كفروا بالله فلم يؤمنوا به، ولا بما جاء به أنبياؤه ورسله، واقترفوا السيئات، فهم الفاسقون الكاذبون الذين جمعوا بين الكفر والفجور، كما قال تعالى: وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً [نوح ٧١/ ٢٧]. ولا نسلم أن صاحب الكبيرة فاجر، بدليل هذه الآية: الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ فالكفار هم الفجار لا غيرهم.
ووجود هذين الفريقين في هذه الآية ونحوها لا يقتضي نفي وجود فريق ثالث وهم المؤمنون العصاة أو الفساق، كما قال الرازي «١».
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- إذا جاءت صيحة القيامة وهي النفخة الثانية أو الأخيرة، والتي يهرب في يومها الأخ من أخيه، والولد من والديه، والزوج من زوجته وأولاده، لاشتغاله بنفسه، يكون لكل إنسان يومئذ حال أو شغل يشغله عن غيره.
جاء في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا» قلت:
يا رسول الله! الرجال والنساء جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال:
«يا عائشة، الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض».
ولفظ
رواية الترمذي عن ابن عباس: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يحشرون حفاة عراة غرلا، فقالت امرأة: أينظر بعضنا، أو يرى بعضنا عورة بعض؟

قال: يا فلانة لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ»
قال: حديث حسن صحيح.
٢- يكون الناس يوم القيامة فريقين: فريق وجوههم مشرقة مضيئة، مسرورة فرحة مستبشرة بما آتاها الله من الكرامة، قد علمت ما لها من الفوز والنعيم، وهي وجوه المؤمنين. وفريق وجوههم يعلوها غبار ودخان تغشاها ظلمة وسواد، وهي وجوه الكافرين بالله وبرسله، العاصين الكاذبين المفترين على الله تعالى.

بسم الله الرحمن الرحيم
سورة التكويرمكيّة، وهي تسع وعشرون آية.
تسميتها:
سميت سورة التكوير، لافتتاحها بقوله تعالى: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ أي جمع بعضها إلى بعض، ثم لفّت، فرمى بها، ومحى ضوؤها.
مناسبتها لما قبلها:
توضح كل من السورتين أهوال القيامة وشدائدها، ففي سورة عبس قال تعالى: فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ.. [٣٣- ٤٢] وفي هذه السورة قال سبحانه: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ.. إلخ، فلما ذكر سبحانه الطامة والصاخة في خاتمتي السورتين المتقدمتين، أردفهما بذكر سورتين مشتملتين على أمارات القيامة وعلامات يوم الجزاء.
ما اشتملت عليه السورة:
هذه السورة كغيرها من السور المكية تتعلق بالعقيدة، فهي تقرر ما يوجد في يوم القيامة من أحوال، وتثبت أن القرآن الكريم منزل من عند الله تعالى.
وقد ابتدأت ببيان أهوال القيامة، وما يصحبها من تغيرات كونية غريبة، تشمل كل ما يشاهده الإنسان في الدنيا من السماء وكواكبها، والأرض وجبالها وبحارها ووحوشها، والنفوس البشرية ومظالمها، وتبرز بعدئذ الجحيم ونيرانها، والجنة ونعيمها: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ.. [الآيات: ١- ١٤]. صفحة رقم 79