
الدنيا وفظائعها. وما أَكْفَرَهُ تعجب «١» من إفراطه في كفران نعمة الله، ولا ترى أسلوبا أغلظ منه. ولا أخشن مسا، ولا أدل على سخط، ولا أبعد شوطا في المذمة، مع تقارب طرفيه، ولا أجمع للأئمة على قصر متنه ثم أخذ في وصف حاله من ابتداء حدوثه، إلى أن انتهى وما هو مغمور فيه من أصول النعم وفروعها، وما هو غارز فيه رأسه من الكفران والغمط «٢» وقلة الالتفات إلى ما يتقلب فيه وإلى ما يجب عليه من القيام بالشكر مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ من أى شيء حقير «٣» مهين خلقه، ثم بين ذلك الشيء بقوله مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ فهيأه لما يصلح له ويختص به. ونحوه وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً. نصب السبيل بإضمار «يسر» وفسره بيسر والمعنى: ثم سهل سبيله وهو مخرجه من بطن أمّه. أو السبيل الذي يختار سلوكه من طريقى الخير والشر بإقداره وتمكينه، كقوله إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ وعن ابن عباس رضى الله عنهما: بين له سبيل الخير والشر فَأَقْبَرَهُ فجعله ذا قبر يوارى فيه تكرمة له، ولم يجعله مطروحا على وجه الأرض جزرا للسباع والطير كسائر الحيوان.
يقال: قبر الميت إذا دفنه. وأقبره الميت. إذا أمره أن يقبره ومكنه منه. ومنه قول من قال للحجاج: أقبرنا صالحا أَنْشَرَهُ أنشأه النشأة الأخرى. وقرئ: نشره كَلَّا ردع للإنسان عما هو عليه لَمَّا يَقْضِ لم يقض بعد، مع تطاول الزمان وامتداده من لدن آدم إلى هذه الغاية ما أَمَرَهُ الله حتى يخرج عن جميع أوامره، يعنى: أنّ إنسانا لم يخل من تقصير قط.
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ٢٤ الى ٣٢]
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨)
وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢)
(٢). قوله «من الكفران والغمط» بطر النعمة وتحقيرها. أفاده الصحاح. (ع)
(٣). قوله «من أى شيء خلقه من أى شيء حقير» لعله: أى من شيء... الخ». (ع)

ولما عدد النعم في نفسه: أتبعه ذكر النعم فيما يحتاج إليه، فقال فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ إلى مطعمه الذي يعيش به كيف دبرنا أمره أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ يعنى الغيث. قرئ بالكسر على الاستئناف، وبالفتح على البدل من الطعام. وقرأ الحسين بن على رضى الله عنهما. أنى صببنا، بالإمالة على معنى: فلينظر الإنسان كيف صببنا الماء. وشققنا: من شق الأرض بالنبات ويجوز أن يكون من شقها بالكراب على «١» البقر، وأسند الشك إلى نفسه إسناد الفعل إلى السبب. والحب: كل ما حصد من نحو الحنطة والشعير وغيرهما. والقضب: الرطبة «٢».
والمقضاب: أرضه، سمى بمصدر قضبه إذا قطعه، لأنه يقضب مرّة بعد مرّة وَحَدائِقَ غُلْباً يحتمل أن يجعل كل حديقة غلباء، فيريد تكاثفها وكثرة أشجارها وعظمها، كما تقول: حديقة ضخمة، وأن يجعل شجرها غلبا، أى: عظاما غلاظا. والأصل في الوصف بالغلب: الرقاب، فاستعير. قال عمرو بن معد يكرب:
يمشى بها غلب الرّقاب كأنّهم | بزل كسين من الكحيل جلالا «٣» |
جذمنا قيس ونجد دارنا | ولنا الأبّ به والمكرع «٤» |
(٢). قوله «والقضب الرطبة» في الصحاح «القضبة، والقضب» الرطبة. وفيه أيضا «الرطبة» بالفتح:
القضب اه وفيه دور. وقال بعض الفضلاء «القضب» : هو المسمى في مصر بالبرسيم الحجازي. (ع)
(٣). لعمرو بن معديكرب. ويقال: أسد أغلب، أى: غليظ العنق، والغلب: جمعه، ثم استعير لكل غليظ والبزل: جمع بازل للمذكر والمؤنث من الإبل إذا انفطر نأيه، وذلك في السنة التاسعة: والكحيل: القطران.
والجلال: جمع جل: يصف مفازة تمشى فيها أسود غلاظ الأعناق، كأنها فتيات من الإبل دهنت بالقطران حتى صار عليها كالجلال، فكسين: استعارة مصرحة، والجلال: ترشيح. ويروى: كأنهم، باستعارة ضمير العقلاء لغيرهم.
(٤). الجذم- بالكسر وقد يفتح: الأصل الذي يقتطع منه غيره. والأب والأم- بالفتح والتشديد- بمعنى المرعى، لأنه يؤب ويؤم، أى: يقصد. والمكرع: المنهل. يقول: نحن من قبيلة قيس ونجد هي ديارنا، ولنا به أى في نجد المرعى والمروي. وفيه تمدح بالشرف والشجاعة على غيره.
(٥). أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن. حدثنا محمد بن يزيد عن العوام بن حوشب عن إبراهيم التيمي أن أبا بكر رضى الله عنه سئل عنه فذكره ورواه ابن أبى شيبة وعبد بن حميد من هذا الوجه. وهذا منقطع.
ورواه يحيى الحماني وابن عبد البر في العلم من طريقه من رواية إبراهيم النخعي عن أبى معمر عن أبى بكر فذكره.