
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة عبسوهي مكية بإجماع المفسرين، قصص هذه السورة التي لا تتفهم السورة إلا به أن رسول الله ﷺ كان شديد الحرص على إسلام قريش وأشرافهم، وكان يتحفى بدعائهم إلى الله تعالى، فبينما هو يوما مع رجل من عظمائهم قيل الوليد بن المغيرة المخزومي، وقيل عتيبة بن ربيعة، وقيل شيبة وقيل العباس، وقيل أمية بن خلف، وقال ابن عباس: كان في جمع منهم فيهم عتبة والعباس وأبو جهل إذ أقبل عبد الله بن أم مكتوم القرشي الفهري من بني عامر بن لؤي وهو رجل أعمى يقوده رجل آخر فأومأ رسول الله ﷺ إلى قائده أن يؤخر عنه ففعل فدفعه عبد الله نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: استدنني يا محمد، علمني مما علمك الله، وكان في ذلك كله قطع لحديث رسول الله ﷺ مع الرجل المذكور من قريش، وكان رسول الله ﷺ قد قرأ عليه القرآن، ثم قال له: أترى بما أقول بأسا، فكان ذلك الرجل يقول: لا والدمى يعني الأصنام، ويروى: لا والدماء، يعني الذبائح للأصنام، فلما شغب عليه أمر عبد الله بن أم مكتوم عبس وأعرض عنه، وذهب ذلك الرجل فروي أن النبي ﷺ انصرف إلى بيته فلوى رأسه وشخص بصره، وأنزلت عليه هذه السورة. قال سفيان الثوري: فكان بعد ذلك إذا رأى ابن أم مكتوم بسط له رداءه، وقال له أنس بن مالك: رأيته يوم القادسية وعليه درع ومعه راية سوداء، واستخلفه النبي ﷺ على المدينة مرتين.
قوله عز وجل:
[سورة عبس (٨٠) : الآيات ١ الى ١٧]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤)أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩)
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤)
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧)
«العبوس» : تقطب الوجه واربداده عند كراهية أمر، وفي مخاطبته بلفظ ذكر الغائب مبالغة في العتب لأن في ذلك بعض الإعراض، وقال كثير من العلماء وابن زيد وعائشة وغيرها من الصحابة: لو كان رسول الله ﷺ كاتما شيئا من الوحي، لكتم هذه الآيات، وآيات قصة زيد وزينب بنت جحش، صفحة رقم 436

و «التولي» : هنا الإعراض، وأَنْ: مفعول من أجله، وقرأ الحسن أَنْ جاءَهُ بمدة تقرير وتوقيف والوقف مع هذه القراءة على تَوَلَّى وهي قراءة عيسى. وذكر الله تعالى ابن مكتوم بصفة العمى ليظهر المعنى الذي شأن البشر احتقاره، وبين أمره بذكر ضده من غنى ذلك الكافر، وفي ذلك دليل على أن ذكر هذه العاهات متى كانت المنفعة أو لأن شهرتها تعرف السامع صاحبها دون لبس جائز، ومنه قول المحدثين سلمان الأعمش وعبد الرحمن الأعرج وسالم الأفطس ونحو هذا.
ومتى ذكرت هذه الأشياء على جهة التنقيص فتلك الغيبة، وقد سمع رسول الله ﷺ عائشة تذكر امرأة، فقالت: إنها القصيرة. فقال لها: لقد قلت كلمة لو مزجت بالبحر لمزجته ثم خاطب تعالى نبيه فقال: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى أي وما يطلعك على أمره وعقبى حاله، ثم ابتدأ القول: لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أي تنمو بركته وتطهره لله وينفعه إيمانه، وأصل يَزَّكَّى: يتزكى، فأدغم التاء في الزاي وكذلك يَذَّكَّرُ، وقرأ الأعرج. «يذكر» بسكون الذال وضم الكاف، ورويت عن عاصم، وقرأ جمهور السبعة: «فتنفعه» بضم العين على العطف، وقرأ عاصم وحده والأعرج: «فتنفعه» بالنصب في جواب التمني، لأن قوله أَوْ يَذَّكَّرُ في حكم قوله: لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، ثم أكد تعالى عتب نبيه عليه السلام بقوله: أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى أي بماله، و: تَصَدَّى معناه: تتعرض بنفسك، وقرأ ابن كثير ونافع: «تصدى» بشد الصاد على إدغام التاء، وقرأ الباقون والأعرج والحسن وأبو رجاء وقتادة وعيسى والأعمش: «تصدى»، بتخفيف الصاد على حذف التاء وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: «تصدى»، بضم التاء وتخفيف الصاد على بناء الفعل للمجهول، أي تصديك حرصك على هؤلاء الكفار أن يسلموا، تقول: تصدى الرجل وصديته، كما تقول: تكسب وكسبته، ثم قال تعالى محتقرا لشأن الكفار: وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وما يضرك ألا يفلح، فهذا حض على الإعراض عن أمرهم، وترك الاكتراث بهم، ثم قال مبالغا في العتب: وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى أي يمشي، وقيل المعنى: يَسْعى في شؤونه وأمر دينه وتقربه منك، وَهُوَ يَخْشى الله تعالى، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى، أي تشتغل، تقول لهيت عن الشيء ألهى إذا اشتغلت وليس من اللهو الذي هو من ذوات الواو، وإما أن المعنى يتداخل، وقرأ الجمهور من القراء: «تلهى» بفتح التاء على حذف التاء الواحدة، وقرأ ابن كثير فيما روي عنه، «تلهى» بالإدغام، وقرأ طلحة بن مصرف: «تتلهى» بتاءين، وروي عنه «تلهى» بفتح التاء وسكون اللام وتخفيف الهاء المفتوحة، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: «تلهى» بضم التاء وسكون اللام أي يلهيك حرصك على أولئك الكفار، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «وما استأثر الله به فاله عنه»، وقوله تعالى في هاتين: وَأَمَّا مَنْ فالسبب ما ذكر من كفار قريش وعبد الله بن أم مكتوم، ثم هي بعد تتناول من شركهم في هذه الأوصاف، فحمله الشرع والعلم مخاطبون في تقريب الضعيف من أهل الخير وتقديمه على الشريف العاري من الخير، بمثل ما خوطب به النبي ﷺ في هذه السورة، ثم قال: كَلَّا يا محمد أي ليس الأمر في حقه كما فعلت إن هذه السورة والقراءة التي كنت فيها مع ذلك الكافر تَذْكِرَةٌ لجميع العالم لا يؤثر فيها أحد دون أحد، وقيل المعنى أن هذه المعتبة تذكرة لك يا محمد ففي هذا التأويل إجلال لمحمد ﷺ وتأنيس له، وقوله تعالى: فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ يتضمن وعدا ووعيدا على نحو قوله تعالى: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ