ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: يُقَالُ أَمْكَنَنِي الْأَمْرُ يُمْكِنُنِي فَهُوَ مُمْكِنٌ وَمَفْعُولُ الْإِمْكَانِ مَحْذُوفٌ، وَالْمَعْنَى: فَأَمْكَنَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ خَانُوا اللَّه بِمَا أَقْدَمُوا عَلَيْهِ مِنْ مُحَارَبَةِ الرَّسُولِ يَوْمَ بَدْرٍ فَأَمْكَنَ اللَّه مِنْهُمْ قَتْلًا وَأَسْرًا، وَذَلِكَ نِهَايَةُ الْإِمْكَانِ وَالظَّفَرِ. فَنَبَّهَ اللَّه بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ ذَاقُوا وَبَالَ مَا فَعَلُوهُ ثَمَّ، فَإِنْ عَادُوا كَانَ التَّمْكِينُ مِنْهُمْ ثَابِتًا حَاصِلًا، وَفِيهِ بِشَارَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ كُلِّ مَنْ يَخُونُهُ وَيَنْقُضُ عَهْدَهُ.
ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ أَيْ بِبَوَاطِنِهِمْ وَضَمَائِرِهِمْ حَكِيمٌ يُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٧٢ الى ٧٥]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَسَّمَ الْمُؤْمِنِينَ فِي زَمَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ، وَذَكَرَ حُكْمَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَتَقْرِيرُ هَذِهِ الْقِسْمَةِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ظَهَرَتْ نُبُوَّتُهُ بِمَكَّةَ وَدَعَا النَّاسَ هُنَاكَ إِلَى الدِّينِ، ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَحِينَ هَاجَرَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ صَارَ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْهُمْ مَنْ وَافَقَهُ فِي تِلْكَ الْهِجْرَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُوَافِقْهُ فِيهَا بَلْ بَقِيَ هُنَاكَ.
أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَهُمُ الْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ، وَقَدْ وَصَفَهُمْ بقول: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُمُ الْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ:
وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ظَهَرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ مَوْصُوفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْأَرْبَعَةِ: أَوَّلُهَا: أَنَّهُمْ آمَنُوا باللَّه وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَقَبِلُوا جَمِيعَ التَّكَالِيفِ الَّتِي بَلَّغَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَتَمَرَّدُوا، فَقَوْلُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يُفِيدُ هَذَا الْمَعْنَى.
وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَهاجَرُوا يَعْنِي: فَارَقُوا الْأَوْطَانَ، وَتَرَكُوا الْأَقَارِبَ وَالْجِيرَانَ فِي طَلَبِ مَرْضَاةِ اللَّه، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ حَالَةٌ شَدِيدَةٌ، قَالَ تَعَالَى: أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ [النِّسَاءِ: ٦٦] جَعَلَ مُفَارَقَةَ الْأَوْطَانِ مُعَادِلَةً لِقَتْلِ النَّفْسِ، فَهَؤُلَاءِ فِي الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى تَرَكُوا الْأَدْيَانَ الْقَدِيمَةَ لِطَلَبِ مَرْضَاةِ اللَّه تَعَالَى، وَفِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ تَرَكُوا الْأَقَارِبَ وَالْخِلَّانَ وَالْأَوْطَانَ وَالْجِيرَانَ لِمَرْضَاةِ اللَّه تَعَالَى.
وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمَّا الْمُجَاهَدَةُ بِالْمَالِ فَلِأَنَّهُمْ لَمَّا فَارَقُوا الْأَوْطَانَ فَقَدْ ضَاعَتْ دُورُهُمْ وَمَسَاكِنُهُمْ وَضِيَاعُهُمْ وَمَزَارِعُهُمْ، وَبَقِيَتْ فِي أَيْدِي الْأَعْدَاءِ، وَأَيْضًا فَقَدِ احْتَاجُوا إِلَى الْإِنْفَاقِ الْكَثِيرِ بِسَبَبِ تِلْكَ الْعَزِيمَةِ، وَأَيْضًا كَانُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ عَلَى تِلْكَ الْغَزَوَاتِ، وَأَمَّا الْمُجَاهَدَةُ بِالنَّفْسِ
فَلِأَنَّهُمْ كَانُوا أَقْدَمُوا عَلَى مُحَارَبَةِ بَدْرٍ مِنْ غَيْرِ آلَةٍ وَلَا أُهْبَةٍ وَلَا عُدَّةٍ مَعَ الْأَعْدَاءِ الْمَوْصُوفِينَ بِالْكَثْرَةِ وَالشِّدَّةِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ أَزَالُوا أَطْمَاعَهُمْ عَنِ الْحَيَاةِ وَبَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّه.
وَأَمَّا الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: فَهِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَوَّلَ النَّاسِ إِقْدَامًا عَلَى هَذِهِ الأفعال والتزاماً لهذه الأحوال، ولهذه السابقة أَثَرٌ عَظِيمٌ فِي تَقْوِيَةِ الدِّينِ. قَالَ تَعَالَى: لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى [الْحَدِيدِ: ١٠] وَقَالَ: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التَّوْبَةِ: ١٠٠] وَإِنَّمَا كَانَ السَّبْقُ مُوجِبًا لِلْفَضِيلَةِ، لِأَنَّ إِقْدَامَهُمْ عَلَى هَذِهِ الْأَفْعَالِ يُوجِبُ اقْتِدَاءَ غَيْرِهِمْ بِهِمْ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلْقُوَّةِ أَوِ الْكَمَالِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً [الْمَائِدَةِ: ٣٢] وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» وَمِنْ عَادَةِ النَّاسِ أَنَّ دَوَاعِيَهُمْ تَقْوَى بِمَا يَرَوْنَ مِنْ أَمْثَالِهِمْ فِي أَحْوَالِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، كَمَا أَنَّ الْمِحَنَ تَخِفُّ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِالْمُشَارَكَةِ فِيهَا، فَثَبَتَ أَنَّ حُصُولَ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْأَرْبَعَةِ لِلْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ الْفَضِيلَةِ وَنِهَايَةِ الْمَنْقَبَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ الِاعْتِرَافَ بِكَوْنِهِمْ رُؤَسَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَسَادَةً لَهُمْ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمَوْجُودِينَ فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُمُ الْأَنْصَارُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا هَاجَرَ إِلَيْهِمْ مَعَ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَوْلَا أَنَّهُمْ آوَوْا وَنَصَرُوا وَبَذَلُوا النَّفْسَ وَالْمَالَ فِي خِدْمَةِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِصْلَاحِ مُهِمَّاتِ أَصْحَابِهِ لَمَا تَمَّ الْمَقْصُودُ الْبَتَّةَ، / وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَالُ الْمُهَاجِرِينَ أَعْلَى فِي الْفَضِيلَةِ مِنْ حَالِ الْأَنْصَارِ لِوُجُوهٍ: أَوَّلُهَا: أَنَّهُمْ هُمُ السَّابِقُونَ فِي الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ رَئِيسُ الْفَضَائِلِ وَعُنْوَانُ الْمَنَاقِبِ: وَثَانِيهَا: أَنَّهُمْ تَحَمَّلُوا الْعَنَاءَ وَالْمَشَقَّةَ دَهْرًا دَهِيرًا، وَزَمَانًا مَدِيدًا مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَصَبَرُوا عَلَيْهِ، وَهَذِهِ الْحَالُ مَا حَصَلَتْ لِلْأَنْصَارِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُمْ تَحَمَّلُوا الْمَضَارَّ النَّاشِئَةَ مِنْ مُفَارَقَةِ الْأَوْطَانِ وَالْأَهْلِ وَالْجِيرَانِ، وَلَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ لِلْأَنْصَارِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّ فَتْحَ الْبَابِ فِي قَبُولِ الدِّينِ وَالشَّرِيعَةِ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا حَصَلَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَالْأَنْصَارُ اقْتَدَوْا بِهِمْ وَتَشَبَّهُوا بِهِمْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا
أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»
فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُقْتَدِي أَقَلَّ مَرْتَبَةً مِنَ الْمُقْتَدَى بِهِ، فَجُمْلَةُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ تُوجِبُ تَقْدِيمَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ عَلَى الْأَنْصَارِ فِي الْفَضْلِ وَالدَّرَجَةِ وَالْمَنْقَبَةِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ أَيْنَمَا ذَكَرَ اللَّه هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ قَدَّمَ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى الْأَنْصَارِ وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ وَرَدَ ذِكْرُهُمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذَيْنِ الْقِسْمَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْوِلَايَةِ، فَنَقَلَ الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْمُفَسِّرِينَ كُلِّهِمْ، أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْوِلَايَةُ فِي الْمِيرَاثِ. وَقَالُوا جَعَلَ اللَّه تَعَالَى سَبَبَ الْإِرْثِ الْهِجْرَةَ وَالنُّصْرَةَ دُونَ الْقَرَابَةِ. وَكَانَ الْقَرِيبُ الَّذِي آمَنَ وَلَمْ يُهَاجِرْ لَمْ يَرِثْ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَمْ يُهَاجِرْ وَلَمْ يَنْصُرْ، وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الْوِلَايَةِ غَيْرُ مُشْعِرٍ بِهَذَا الْمَعْنَى، لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مُشْعِرٌ بِالْقُرْبِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ. وَيُقَالُ: «السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ» وَلَا يُفِيدُ الْإِرْثَ وَقَالَ تَعَالَى: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يُونُسَ: ٦٢] وَلَا يُفِيدُ الْإِرْثَ بَلِ الْوِلَايَةُ تُفِيدُ الْقُرْبَ فَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى غَيْرِ الْإِرْثِ، وَهُوَ كَوْنُ بَعْضِهِمْ مُعَظِّمًا لِلْبَعْضِ مُهْتَمًّا بِشَأْنِهِ مَخْصُوصًا بِمُعَاوَنَتِهِ وَمُنَاصَرَتِهِ، وَالْمَقْصُودُ أَنْ يَكُونُوا يَدًا وَاحِدَةً عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَأَنْ يَكُونَ حُبُّ كُلِّ وَاحِدٍ لِغَيْرِهِ جَارِيًا مَجْرَى حَبْسِهِ لِنَفْسِهِ، وَإِذَا كَانَ اللَّفْظُ
مُحْتَمِلًا لِهَذَا الْمَعْنَى كَانَ حَمْلُهُ عَلَى الْإِرْثِ بَعِيدًا عَنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ، لَا سِيَّمَا وَهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ صَارَ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ تعالى في آخر الآية: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ وَأَيُّ حَاجَةٍ تَحْمِلُنَا عَلَى حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى مَعْنَى لَا إِشْعَارَ لِذَلِكَ اللَّفْظِ بِهِ، ثُمَّ الْحُكْمُ بِأَنَّهُ صَارَ مَنْسُوخًا بِآيَةٍ أُخْرَى مَذْكُورَةٍ مَعَهُ، هَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، اللَّهُمَّ إِلَّا إِذَا حَصَلَ إِجْمَاعُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ ذَلِكَ، فَحِينَئِذٍ يَجِبُ المصير إليه إلا أن دعوى الإجماع بعيد.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مِنْ أَقْسَامِ مُؤْمِنِي زَمَانِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ مَا وَافَقُوا الرَّسُولَ فِي الْهِجْرَةِ وَبَقُوا فِي مَكَّةَ وَهُمُ المعنيون بقول: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا فَبَيَّنَ تَعَالَى حُكْمَهُمْ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْوَلَايَةَ الْمَنْفِيَّةَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، هِيَ الْوَلَايَةُ الْمُثْبَتَةُ فِي الْقِسْمِ الَّذِي تَقَدَّمَ، فَمَنْ حَمَلَ تِلْكَ الْوَلَايَةَ عَلَى الإرث، زعم أن الولاية المنفية هاهنا هِيَ الْإِرْثُ، وَمَنْ حَمَلَ تِلْكَ الْوَلَايَةَ عَلَى سائر الاعتبارات المذكورة، فكذا هاهنا. وَاحْتَجَّ الذَّاهِبُونَ، إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذِهِ الْوَلَايَةِ الْإِرْثُ، بِأَنْ قَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا الْوَلَايَةَ بِمَعْنَى النُّصْرَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُوَالَاةِ فِي الدِّينِ وَالْمَعْطُوفُ مُغَايِرٌ لِلْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْوَلَايَةِ الْمَذْكُورَةِ أَمْرًا مُغَايِرًا لِمَعْنَى النُّصْرَةِ وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّا حَمَلْنَا تِلْكَ الْوَلَايَةَ عَلَى التَّعْظِيمِ وَالْإِكْرَامِ وَهُوَ أَمْرٌ مُغَايِرٌ لِلنُّصْرَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَنْصُرُ بَعْضَ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي بَعْضِ الْمُهِمَّاتِ وَقَدْ يَنْصُرُ عَبْدَهُ وَأَمَتَهُ بِمَعْنَى الْإِعَانَةِ مَعَ أَنَّهُ لَا يو اليه بِمَعْنَى التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ فَسَقَطَ هَذَا الدَّلِيلُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى يُهاجِرُوا.
وَاعْلَمْ أَنَّ قوله تعالى: ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ يُوهِمُ أَنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يُهَاجِرُوا مَعَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَقَطَتْ وِلَايَتُهُمْ مُطْلَقًا، فَأَزَالَ اللَّه تَعَالَى هَذَا الْوَهْمَ بِقَوْلِهِ: مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا يَعْنِي أَنَّهُمْ لَوْ هَاجَرُوا لَعَادَتْ تِلْكَ الْوَلَايَةُ وَحَصَلَتْ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الْحَمْلُ عَلَى الْمُهَاجَرَةِ وَالتَّرْغِيبُ فِيهَا، لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَتَى سَمِعَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى يَقُولُ: إِنْ قَطَعَ الْمُهَاجَرَةَ انْقَطَعَتِ الْوِلَايَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ هَاجَرَ حَصَلَتْ تِلْكَ الْوِلَايَةُ وَعَادَتْ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا يَصِيرُ مُرَغِّبًا لَهُ فِي الْهِجْرَةِ، وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْمُهَاجَرَةِ كَثْرَةُ الْمُسْلِمِينَ واجتماعهم وإعانة بعضهم لبعض، وحصول الألفة الشوكة وَعَدَمُ التَّفْرِقَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ مِنْ وَلايَتِهِمْ بِكَسْرِ الْوَاوِ، وَالْبَاقُونَ بِالْفَتْحِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَنْ فَتَحَ جَعَلَهَا مِنَ النُّصْرَةِ وَالنَّسَبِ. وَقَالَ: وَالْوِلَايَةُ الَّتِي بِمَنْزِلَةِ الْإِمَارَةِ مَكْسُورَةٌ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ وَقَدْ يَجُوزُ كَسْرُ الْوَلَايَةِ لِأَنَّ فِي تَوَلِّي بَعْضِ الْقَوْمِ بَعْضًا جِنْسًا مِنَ الصِّنَاعَةِ كَالْقِصَارَةِ وَالْخِيَاطَةِ فَهِيَ مَكْسُورَةٌ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الفارسي: الفتح أجود، لأن الولاية هاهنا مِنَ الدِّينِ وَالْكَسْرُ فِي السُّلْطَانِ.
وَالْحُكْمُ الثَّانِي: مِنْ أَحْكَامِ هَذَا الْقِسْمِ الثَّالِثِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ الْحُكْمَ فِي قَطْعِ الْوَلَايَةِ بَيْنَ تِلْكَ الطَّائِفَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، بَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمُقَاطَعَةَ التَّامَّةَ كَمَا فِي حَقِّ الْكُفَّارِ بَلْ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا لَوِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فَانْصُرُوهُمْ/ وَلَا
تَخْذُلُوهُمْ. رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا قَامَ الزُّبَيْرُ وَقَالَ: فَهَلْ نُعِينُهُمْ عَلَى أَمْرٍ إِنِ اسْتَعَانُوا بِنَا؟ فَنَزَلَ وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَكُمْ نَصْرُهُمْ عَلَيْهِمْ إِذِ الْمِيثَاقُ مَانِعٌ مِنْ ذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ الَّذِي اعْتَبَرَهُ اللَّه فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي غَايَةِ الحسن لأنه ذكر هاهنا أَقْسَامًا ثَلَاثَةً: فَالْأَوَّلُ: الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَهُمْ أَفْضَلُ النَّاسِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يُوَالِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ لَمْ يُهَاجِرُوا فَهَؤُلَاءِ بِسَبَبِ إِيمَانِهِمْ لَهُمْ فَضْلٌ وَكَرَامَةٌ وَبِسَبَبِ تَرْكِ الْهِجْرَةِ لَهُمْ حَالَةٌ نَازِلَةٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُمْ حُكْمًا مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْإِجْلَالِ وَالْإِذْلَالِ وَذَلِكَ هُوَ أَنَّ الْوَلَايَةَ الْمُثْبَتَةَ لِلْقِسْمِ الْأَوَّلِ، تَكُونُ مَنْفِيَّةً عَنْ هَذَا الْقِسْمِ، إِلَّا أَنَّهُمْ يَكُونُونَ بِحَيْثُ لَوِ اسْتَنْصَرُوا الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتَعَانُوا بِهِمْ نَصَرُوهُمْ وَأَعَانُوهُمْ. فَهَذَا الْحُكْمُ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الْإِجْلَالِ وَالْإِذْلَالِ. وَأَمَّا الْكُفَّارُ فَلَيْسَ لَهُمُ الْبَتَّةَ مَا يُوجِبُ شَيْئًا مِنْ أَسْبَابِ الْفَضِيلَةِ. فَوَجَبَ كَوْنُ الْمُسْلِمِينَ مُنْقَطِعِينَ عَنْهُمْ مِنْ كُلِّ الوجوه فلا يكون بينهم ولاية ولا مناصلة بوجه من الوجوه، فظهر أن هذا التريب فِي غَايَةِ الْحُسْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ فِي الْمُوَارَثَةِ مَعَ اخْتِلَافِ مِلَلِهِمْ كَأَهْلِ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَالْمَجُوسِيُّ يَرِثُ الْوَثَنِيَّ، وَالنَّصْرَانِيُّ يَرِثُ الْمَجُوسِيَّ، لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ إِذَا حَمَلْنَا الْوَلَايَةَ عَلَى الْإِرْثِ وَقَدْ سَبَقَ الْقَوْلُ فِيهِ، بَلِ الْحَقُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ كَانُوا فِي غَايَةِ الْعَدَاوَةِ لِلْيَهُودِ فَلَمَّا ظَهَرَتْ دَعْوَةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنَاصَرُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى إِيذَائِهِ وَمُحَارَبَتِهِ، فَكَانَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ ذَلِكَ. وَتَمَامُ التَّحْقِيقِ فِيهِ أَنَّ الْجِنْسِيَّةَ عِلَّةُ الضَّمِّ وَشَبِيهُ الشَّيْءِ مُنْجَذِبٌ إِلَيْهِ، وَالْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لَمَّا اشْتَرَكُوا فِي عَدَاوَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَارَتْ هَذِهِ الْجِهَةُ مُوجِبَةً لِانْضِمَامِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ وَقُرْبِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ مَا أَقْدَمُوا عَلَى تِلْكَ الْعَدَاوَةِ لِأَجْلِ الدِّينِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَانَ فِي نِهَايَةِ الْإِنْكَارِ لِدِينِ صَاحِبِهِ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْعَدَاوَةَ لِمَحْضِ الْحَسَدِ وَالْبَغْيِ وَالْعِنَادِ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ هَذِهِ الْأَحْكَامَ قَالَ: إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ وَالْمَعْنَى: إِنْ لَمْ تَفْعَلُوا مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فِي هَذِهِ التَّفَاصِيلِ الْمَذْكُورَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ تَحْصُلُ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ/ وَمَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْفِتْنَةِ وَالْفَسَادِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَوِ اخْتَلَطُوا بِالْكُفَّارِ فِي زَمَانِ ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ وَقِلَّةِ عَدَدِهِمْ، وَزَمَانِ قُوَّةِ الْكُفَّارِ وَكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ، فَرُبَّمَا صَارَتْ تِلْكَ الْمُخَالَطَةُ سَبَبًا لِالْتِحَاقِ الْمُسْلِمِ بِالْكُفَّارِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَوْ كَانُوا مُتَفَرِّقِينَ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ جَمْعٌ عَظِيمٌ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا لِجَرَاءَةِ الْكُفَّارِ عَلَيْهِمْ. الثَّالِثُ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ جَمْعُ الْمُسْلِمِينَ كُلَّ يوم في الزيادة في العدة وَالْعُدَّةِ، صَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِمَزِيدِ رَغْبَتِهِمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ وَرَغْبَةِ الْمُخَالِفِ فِي الِالْتِحَاقِ بِهِمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْقِسْمَ الثَّالِثَ، عَادَ إِلَى ذِكْرِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي مَرَّةً أُخْرَى فَقَالَ: وَالَّذِينَ
آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِتَكْرَارٍ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَهُمْ أَوَّلًا لِيُبَيِّنَ حُكْمَهُمْ وَهُوَ وَلَايَةُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، ثُمَّ إِنَّهُ تعالى ذكرهم هاهنا لِبَيَانِ تَعْظِيمِ شَأْنِهِمْ وَعُلُوِّ دَرَجَتِهِمْ، وَبَيَانُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِعَادَةَ تَدُلُّ عَلَى مَزِيدِ الاهتمام بحالهم وذلك يدل على الشرف التعظيم. والثاني: وهو أنه تعالى أثنى عليهم هاهنا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا فَقَوْلُهُ: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ يُفِيدُ الْحَصْرَ وَقَوْلُهُ: حَقًّا يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ فِي وَصْفِهِمْ بِكَوْنِهِمْ مُحِقِّينَ مُحَقِّقِينَ فِي طَرِيقِ الدِّينِ، وَالْأَمْرُ فِي الْحَقِيقَةِ كَذَلِكَ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُحِقًّا فِي دِينِهِ لَمْ يَتَحَمَّلْ تَرْكَ الْأَدْيَانِ السَّالِفَةِ، وَلَمْ يُفَارِقِ الْأَهْلَ وَالْوَطَنَ وَلَمْ يَبْذُلِ النَّفْسَ وَالْمَالَ وَلَمْ يَكُنْ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ مِنَ الْمُتَسَارِعِينَ الْمُتَسَابِقِينَ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَتَنْكِيرُ لَفْظِ الْمَغْفِرَةِ يَدُلُّ عَلَى الْكَمَالِ كَمَا أَنَّ التَّنْكِيرَ فِي قَوْلِهِ: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ [الْبَقَرَةِ: ٩٦] يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ تِلْكَ الْحَيَاةِ، وَالْمَعْنَى: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ تَامَّةٌ كَامِلَةٌ عَنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ وَالتَّبِعَاتِ. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الثَّوَابُ الرَّفِيعُ الشَّرِيفُ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ تَعَالَى شَرَحَ حَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَقَدْ وَصَفَهُمْ بِقَوْلِهِ:
أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَالْمَقْصُودُ إِمَّا دَفْعُ الْعِقَابِ، وَإِمَّا جَلْبُ الثَّوَابِ، أَمَّا دَفْعُ الْعِقَابِ فَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَمَّا جَلْبُ الثَّوَابِ فَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَهَذِهِ السَّعَادَاتُ الْعَالِيَةُ إِنَّمَا حَصَلَتْ لِأَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنِ اللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، فَتَرَكُوا الْأَهْلَ وَالْوَطَنَ وَبَذَلُوا النَّفْسَ وَالْمَالَ، وَذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى تَحْصِيلِ السَّعَادَاتِ إِلَّا بِالْإِعْرَاضِ عَنْ هَذِهِ الْجُسْمَانِيَّاتِ.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: مِنْ مُؤْمِنِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُمُ الَّذِينَ لَمْ يُوَافِقُوا الرَّسُولَ فِي الْهِجْرَةِ إِلَّا أَنَّهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ هَاجَرُوا إِلَيْهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ بَعْدُ نَقَلَ الْوَاحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ وَهِيَ الْهِجْرَةُ الثَّانِيَةُ، وَقِيلَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقِيلَ: بَعْدَ يَوْمِ بَدْرٍ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمُرَادَ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا بَعْدَ الْهِجْرَةِ الْأُولَى، وَهَؤُلَاءِ هُمُ التَّابِعُونَ بِإِحْسَانٍ كَمَا قَالَ: وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التَّوْبَةِ: ١٠٠].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَصَحُّ أَنَّ الْهِجْرَةَ انْقَطَعَتْ بِفَتْحِ مَكَّةَ لِأَنَّ عِنْدَهُ صَارَتْ مَكَّةُ بَلَدَ الْإِسْلَامِ وَقَالَ الْحَسَنُ:
الْهِجْرَةُ غَيْرُ مُنْقَطِعَةٍ أَبَدًا، وَأَمَّا
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ»
فَالْمُرَادُ الْهِجْرَةُ الْمَخْصُوصَةُ، فَإِنَّهَا انْقَطَعَتْ بِالْفَتْحِ وَبِقُوَّةِ الْإِسْلَامِ. أَمَّا لَوِ اتَّفَقَ فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ كَوْنُ الْمُؤْمِنِينَ فِي بَلَدٍ وَفِي عَدَدِهِمْ قِلَّةٌ، وَيَحْصُلُ لِلْكُفَّارِ بِسَبَبِ كَوْنِهِمْ مَعَهُمْ شَوْكَةٌ وَإِنْ هَاجَرَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ تِلْكَ الْبَلْدَةِ وَانْتَقَلُوا إِلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى ضَعُفَتْ شَوْكَةُ الْكُفَّارِ، فَهَهُنَا تَلْزَمُهُمُ الْهِجْرَةُ عَلَى مَا قَالَهُ الْحَسَنُ، لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ فِيهِمْ مِثْلُ الْعِلَّةِ فِي الْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: فَأُولئِكَ مِنْكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَرْتَبَةَ هَؤُلَاءِ دُونَ مَرْتَبَةِ الْمُهَاجِرِينَ السَّابِقِينَ لِأَنَّهُ أَلْحَقَ هَؤُلَاءِ بِهِمْ وَجَعَلَهُمْ مِنْهُمْ فِي مَعْرِضِ التَّشْرِيفِ، وَلَوْلَا كَوْنُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَشْرَفَ وَإِلَّا لَمَا صَحَّ هَذَا الْمَعْنَى.
فَهَذَا شَرْحُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
ثم قال تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الَّذِينَ قَالُوا الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وِلَايَةُ الْمِيرَاثِ قَالُوا هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لَهُ، فَإِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْإِرْثَ كَانَ بِسَبَبِ النُّصْرَةِ وَالْهِجْرَةِ، وَالْآنَ قَدْ صَارَ ذَلِكَ مَنْسُوخًا فَلَا يَحْصُلُ الْإِرْثُ إِلَّا بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ وَقَوْلُهُ: فِي كِتابِ اللَّهِ الْمُرَادُ مِنْهُ السِّهَامُ الْمَذْكُورَةُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَّرُوا تِلْكَ الْآيَةَ بِالنُّصْرَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ قَالُوا: إِنَّ تِلْكَ الْوِلَايَةَ لَمَّا كَانَتْ مُحْتَمِلَةً لِلْوِلَايَةِ بِسَبَبِ الْمِيرَاثِ بَيَّنَ اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ وِلَايَةَ الْإِرْثِ إِنَّمَا تَحْصُلُ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ، إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ، فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ إِزَالَةَ هَذَا الْوَهْمِ، وَهَذَا أَوْلَى، لِأَنَّ تَكْثِيرَ النَّسْخِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَا حَاجَةٍ لَا يَجُوزُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَمَسَّكَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّه بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ فِي كِتَابِهِ إِلَى أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي أَنَّ الْإِمَامَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ عَلِيُّ بْنُ أبي طالب فقال: قوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ شَيْءٌ مُعَيَّنٌ فِي ثُبُوتِ هَذِهِ الْأَوْلَوِيَّةِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْكُلِّ إِلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ، وَحِينَئِذٍ يَنْدَرِجُ فِيهِ الْإِمَامَةُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ مِنْ أُولِي الْأَرْحَامِ لِمَا نُقِلَ أَنَّهُ عَلَيْهِ/ السَّلَامُ أَعْطَاهُ سُورَةَ بَرَاءَةَ لِيُبَلِّغَهَا إِلَى الْقَوْمِ، ثُمَّ بَعَثَ عَلِيًّا خَلْفَهُ وَأَمَرَ بِأَنْ يَكُونَ الْمُبَلِّغَ هُوَ عَلِيٌّ، وَقَالَ: «لَا يُؤَدِّيهَا إِلَّا رَجُلٌ مِنِّي» وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ مَا كَانَ مِنْهُ، فَهَذَا هُوَ وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ.
وَالْجَوَابُ: إِنْ صَحَّتْ هَذِهِ الدَّلَالَةُ كَانَ الْعَبَّاسُ أَوْلَى بِالْإِمَامَةِ، لِأَنَّهُ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى رَسُولِ اللَّه مِنْ عَلِيٍّ.
وَبِهَذَا الْوَجْهِ أَجَابَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ عَنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَمَسَّكَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه بِهَذِهِ الْآيَةِ، فِي تَوْرِيثِ ذَوِي الأرحام، وأجاب أصحابنا عنه بأن قوله: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ مُجْمَلٌ فِي الشَّيْءِ الَّذِي حَصَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْأَوْلَوِيَّةُ، فَلَمَّا قَالَ: فِي كِتابِ اللَّهِ كَانَ مَعْنَاهُ فِي الْحُكْمِ الَّذِي بَيَّنَهُ اللَّه فِي كِتَابِهِ، فَصَارَتْ هَذِهِ الْأَوْلَوِيَّةُ مُقَيَّدَةً بِالْأَحْكَامِ الَّتِي بَيَّنَهَا اللَّه فِي كِتَابِهِ، وَتِلْكَ الْأَحْكَامُ لَيْسَتْ إِلَّا مِيرَاثَ الْعَصَبَاتِ. فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْمُجْمَلِ هُوَ ذَلِكَ فَقَطْ فَلَا يَتَعَدَّى إِلَى تَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ.
ثُمَّ قَالَ فِي خَتْمِ السُّورَةِ: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَالْمُرَادُ أَنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ الَّتِي ذَكَرْتُهَا وَفَصَّلْتُهَا كُلُّهَا حِكْمَةٌ وَصَوَابٌ وَصَلَاحٌ، وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْعَبَثِ وَالْبَاطِلِ، لِأَنَّ الْعَالِمَ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِالصَّوَابِ. وَنَظِيرُهُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَمَّا قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ قَالَ مُجِيبًا لَهُمْ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَةِ: ٣٠] يَعْنِي لَمَّا عَلِمْتُمْ كَوْنِي عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، فَاعْلَمُوا أَنَّ حُكْمِي يَكُونُ مُنَزَّهًا عن الغلط كذا هاهنا. واللَّه أَعْلَمُ.
تَمَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ السُّورَةِ وللَّه الْحَمْدُ وَالشُّكْرُ، كَمَا هُوَ أَهْلُهُ وَمُسْتَحِقُّهُ. يَوْمَ الْأَحَدِ فِي رَمَضَانَ سَنَةَ إِحْدَى وَسِتِّمِائَةٍ فِي قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا بَغْدَانُ. وَنَسْأَلُ اللَّه الْخَلَاصَ مِنَ الْأَهْوَالِ وَشِدَّةِ الزَّمَانِ، وَكَيْدِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَالْخِذْلَانِ، إِنَّهُ الْمَلِكُ الدَّيَّانُ. وَصَلَاتُهُ وَسَلَامُهُ عَلَى حَبِيبِ الرَّحْمَنِ، مُحَمَّدٍ الْمُصْطَفَى صَاحِبِ الْمُعْجِزَاتِ وَالْبُرْهَانِ.
سُورَةُ التَّوْبَةِ
مَدَنِيَّةٌ إِلَّا الْآيَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ فَمَكِّيَّتَانِ وآياتها ١٢٩ نزلت بعد المائدة سورة التوبة مائة وثلاثة وثلاثون قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : لَهَا عِدَّةُ أَسْمَاءٍ: بَرَاءَةُ، وَالتَّوْبَةُ وَالْمُقَشْقِشَةُ، وَالْمُبَعْثِرَةُ، وَالْمُشَرِّدَةُ، وَالْمُخْزِيَةُ، وَالْفَاضِحَةُ، وَالْمُثِيرَةُ، وَالْحَافِرَةُ، وَالْمُنَكِّلَةُ، وَالْمُدَمْدِمَةُ، وَسُورَةُ الْعَذَابِ. قَالَ لِأَنَّ فِيهَا التَّوْبَةَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَهِيَ تُقَشْقِشُ مِنَ النِّفَاقِ أَيْ تُبَرِّئُ مِنْهُ، وَتُبَعْثِرُ عَنْ أَسْرَارِ الْمُنَافِقِينَ، وَتَبْحَثُ عَنْهَا، وَتُثِيرُهَا. وَتَحْفِرُ عَنْهَا، وَتَفْضَحُهُمْ، وَتُنَكِّلُ بِهِمْ، وَتُشَرِّدُهُمْ وَتُخْزِيهِمْ، وَتُدَمْدِمُ عَلَيْهِمْ. وَعَنْ حُذَيْفَةَ: إِنَّكُمْ تُسَمُّونَهَا سُورَةَ التَّوْبَةِ، واللَّه مَا تَرَكَتْ أَحَدًا إِلَّا نَالَتْ مِنْهُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قَالَ: إِنَّهَا الْفَاضِحَةُ مَا زَالَتْ تَنْزِلُ فِيهِمْ وَتَنَالُ مِنْهُمْ حَتَّى خَشِينَا أَنْ لَا تَدَعَ أَحَدًا، وَسُورَةُ الْأَنْفَالِ نَزَلَتْ فِي بَدْرٍ، وَسُورَةُ الْحَشْرِ نَزَلَتْ فِي بَنِي النَّضِيرِ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا السَّبَبُ فِي إِسْقَاطِ التَّسْمِيَةِ مِنْ أَوَّلِهَا؟
قُلْنَا: ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا:
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ:
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، مَا حَمَلَكُمْ عَلَى أَنْ عَمَدْتُمْ إِلَى سُورَةِ بَرَاءَةَ وَهِيَ مِنَ الْمِئِينَ، وَإِلَى سُورَةِ الْأَنْفَالِ وَهِيَ مِنَ الْمَثَانِي، فَقَرَنْتُمْ بَيْنَهُمَا وَمَا فَصَلْتُمْ بِبِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؟
فَقَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّمَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ سُورَةٌ يَقُولُ: «ضَعُوهَا فِي مَوْضِعِ/ كَذَا» وَكَانَتْ بَرَاءَةُ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا. فَتُوُفِّيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبَيِّنْ مَوْضِعَهَا، وَكَانَتْ قِصَّتُهَا شَبِيهَةً بِقِصَّتِهَا فَقُرِنَ بَيْنَهُمَا.
قَالَ الْقَاضِي يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يُبَيِّنْ كَوْنَ هَذِهِ السُّورَةِ تَالِيَةً لِسُورَةِ الْأَنْفَالِ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ مُرَتَّبٌ مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى وَمِنْ قِبَلِ رَسُولِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي نُقِلَ، وَلَوْ جَوَّزْنَا فِي بَعْضِ السُّوَرِ أَنْ لَا يَكُونَ تَرْتِيبُهَا مِنَ اللَّه عَلَى سَبِيلِ الْوَحْيِ، لَجَوَّزْنَا مِثْلَهُ في سائر السور وفي آيات السور الْوَاحِدَةِ، وَتَجْوِيزُهُ يُطَرِّفُ مَا يَقُولُهُ الْإِمَامِيَّةُ مِنْ تَجْوِيزِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِي الْقُرْآنِ. وَذَلِكَ يُخْرِجُهُ مِنْ كَوْنِهِ حُجَّةً، بَلِ الصَّحِيحُ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَ بِوَضْعِ هَذِهِ السُّورَةِ، بَعْدَ سُورَةِ الْأَنْفَالِ وَحْيًا، وَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَذَفَ بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَحْيًا.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي هَذَا الْبَابِ مَا يُرْوَى عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا تَوَهَّمُوا ذَلِكَ، لِأَنَّ فِي الْأَنْفَالِ ذِكْرَ الْعُهُودِ، وَفِي بَرَاءَةَ نَبْذَ الْعُهُودِ. فَوُضِعَتْ إِحْدَاهُمَا بجنب الأخرى والسؤال المذكور عائد هاهنا، لِأَنَّ هَذَا الْوَجْهَ إِنَّمَا يَتِمُّ إِذَا قُلْنَا إِنَّهُمْ إِنَّمَا وَضَعُوا هَذِهِ السُّورَةَ بَعْدَ الْأَنْفَالِ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ سُورَةَ الْأَنْفَالِ وَسُورَةَ التَّوْبَةِ سُورَةٌ وَاحِدَةٌ أَمْ سُورَتَانِ؟ فَقَالَ