الحيوان كالخيل والإبل على قولين: قول بالمنع وهو لأبي حنيفة، وقول بالصحة وهو قول الشافعي والجمهور، وهو أصح لهذه الآية،
وقوله عليه الصلاة والسّلام في حق خالد: «وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا، فإنه قد احتبس أدراعه وأعتاده «١» في سبيل الله»
ولأنه مال ينتفع به في وجه يعد قربة، فجاز أن يوقف كالديار والأراضي.
إيثار السّلام وتوحيد الأمة وتحريضها على القتال
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٦١ الى ٦٦]
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥)
الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦)
الإعراب:
حَسْبُكَ اللَّهُ مبتدأ وخبر، والمعنى: يكفيك الله، فكأنه قال: يكفيك الله وتابعك.
وَمَنِ اتَّبَعَكَ الواو بمعنى (مع) وما بعده منصوب، تقول: حسبك وزيدا درهم، ولا تجرّ لأن عطف الظاهر المجرور على المكني ممتنع، والمعنى: كفاك وكفى أتباعك من المؤمنين الله ناصرا.
ومَنِ: إما مرفوع عطفا على لفظ اللَّهُ أي حسبك الله وتابعوك، أو مبتدأ وخبره محذوف، تقديره: ومن اتبعك من المؤمنين كذلك. وإما منصوب بالحمل في العطف على المعنى.
وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ... فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ... من قرأ يكن بالياء على التذكير فللفصل بين الفعل والفاعل، ومن قرأ بالتاء فلتأنيث المائة.
البلاغة:
وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ... الآية فيها ما يسمى بالإطناب، للتذكير بنعمة الله العظمى على الرسول والمؤمنين، وهي نعمة التأليف ووحدة الأمة.
إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ فيه ما يسمى بالاحتباك وهو إثبات قيد الصبر في الشرط الأول، وحذف نظيره من الشرط الثاني، وإثبات صفة الكفر من الآية الثانية وحذفها من الأولى، ثم ختمت الآية بالصابرين للمبالغة في الطلب.
المفردات اللغوية:
وَإِنْ جَنَحُوا مالوا. لِلسَّلْمِ بكسر السين وفتحها: الصلح، والإسلام دين السّلام، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً [البقرة ٢/ ٢٠٨]. فَاجْنَحْ لَها مل إليها وعاهدهم. وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ثق به. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ للقول. الْعَلِيمُ بالفعل.
أَنْ يَخْدَعُوكَ بالصلح ليستعدوا للحرب. فَإِنَّ حَسْبَكَ كافيك وناصرك عليهم.
حَرِّضِ حث على القتال. بِأَنَّهُمْ أي بسبب أنهم. قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ أي لا يدركون حكمة الحرب وما تؤدي إليه من سعادة الدنيا والآخرة.
إِنْ يَكُنْ هذا خبر بمعنى الأمر، أي ليقاتل العشرون منكم المائتين، والمائة ألفا، ويثبتوا لهم، ثم نسخ ذلك لما كثروا، بالآية التالية.
أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً عن قتال الواحد عشرة أمثاله. بِإِذْنِ اللَّهِ بإرادته. وَإِنْ يَكُنْ خبر بمعنى الأمر أي لتقاتلوا مثليكم وتثبتوا لهم. مَعَ الصَّابِرِينَ أي يعينهم.
سبب النزول:
نزول الآية (٦٤) :
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ: قال الزمخشري في الكشاف نقلا عن الكلبي:
هذه الآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال. وهذا هو الراجح.
وقيل: نزلت في إسلام عمر، والآية مكية، كتبت بأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في سورة مدنية، كما ذكر القشيري. قال ابن عباس: نزلت في إسلام عمر فإن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم كان أسلم معه ثلاثة وثلاثون رجلا، وست نسوة فأسلم عمر، وصاروا أربعين.
وأخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عن سعيد بن جبير قال: لما أسلم مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ثلاثة وثلاثون رجلا، وست نسوة، ثم أسلم عمر، نزلت يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ
الآية.
وأخرج أبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن سعيد بن المسيب قال: لما أسلم عمر، أنزل الله في إسلامه: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ الآية.
لكن ورد في السيرة خلاف ما ذكر عن إسلام عمر، قال ابن مسعود: ما كنا نقدر على أن نصلّي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتل قريشا، حتى صلّى عند الكعبة، وصلينا معه. وكان إسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم إلى الحبشة. قال ابن إسحاق: وكان جميع من لحق بأرض الحبشة، وهاجر إليها من المسلمين، سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم صغارا، أو ولدوا بها، ثلاثة وثمانين رجلا.
نزول الآية (٦٥) :
إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ: أخرج إسحاق بن راهويه في مسنده
عن ابن عباس قال: لما افترض الله عليهم أن يقاتل الواحد عشرة، ثقل ذلك عليهم وشق، فوضع الله ذلك عنهم إلى أن يقاتل الواحد رجلين، فأنزل الله:
إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ... الآية وما بعدها.
المناسبة:
بعد أن أمر الله تعالى بإعداد العدة لإرهاب الأعداء، أمر هنا بالصلح القائم على العزة والكرامة، وأنه عند توافر الرهبة إذا مالوا إلى الصلح، فالحكم قبول الصلح لأن الحرب ضرورة لرد العدوان، وتحقيق حرية نشر الإسلام، ومنع الظلم والطغيان، والضرورة تقدر بقدرها، فلا يلجأ إليها إلا إذا استعصت الحلول السلمية.
التفسير والبيان:
بعد توافر الإعداد الحربي والاستعداد التام للجهاد إن مال العدو إلى طلب الصلح، وآثر السلم على الحرب والقتال، فالحكم قبول الصلح حسبما يرى الإمام من المصلحة، قال الزمخشري: والصحيح أن الأمر موقوف على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام وأهله، من حرب أو سلم، وليس بحتم أن يقاتلوا أبدا، أو يجابوا إلى الهدنة أبدا «١».
ومعنى الآية: وإن جنح، أي مال الأعداء إلى السلم أو الهدنة والصلح، فمل إليها لأنك أولى بالسلم منهم، وصالحهم وتوكل على الله أي ثق به، وفوّض الأمر إليه، ولا تخف من مكرهم وغدرهم في جنوحهم إلى السلم، فإن الله كافيك وعاصمك من مكرهم وخديعتهم، والله سميع لما يقولون، عليم بما يفعلون.
وإن يريدوا بالصلح خديعة ليتقووا ويستعدوا، فالله يكفيك أمرهم وينصرك عليهم، فهو كافيك وحده.
وهذا دليل واضح على إيثار السلم وتفضيله على الحرب لأن الإسلام دين السّلام والهداية والمحبة، ولا يلجأ في شرعه إلى القتال إلا عند وجود الظروف القاهرة، والضرورات الملجئة.
ولهذا لما طلب المشركون عام الحديبية الصلح، ووضع الحرب بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم تسع سنين، أجابهم إلى ذلك، مع ما اشترطوا من شروط مجحفة في حق المسلمين.
روى عبد الله ابن الإمام أحمد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «إنه سيكون اختلاف أو أمر، فإن استطعت أن يكون السلم فافعل».
وأما ما نقل عن ابن عباس وجماعة آخرين من التابعين: أن هذه الآية منسوخة بآية السيف في براءة قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ [٢٩] ففيه نظر، كما ذكر ابن كثير لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك، فأما إذا كان العدو كثيفا، فإنه يجوز مهادنتهم، كما دلت عليه هذه الآية الكريمة، وكما فعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يوم الحديبية، فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص «١».
ثم ذكر الله تعالى نعمته عليه بما أيده من المؤمنين: المهاجرين والأنصار، فقال: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ أي لا تأبه بمكرهم وخديعتهم، فإن الله أيدك بنصره ومعونته، وأيدك بالمؤمنين، وجعلهم أمة متآلفة واحدة على الإيمان بك وعلى طاعتك، وعلى مناصرتك ومؤازرتك، فكان التأييد على
قسمين: تأييد مباشر من الله من غير توسط أسباب معلومة، وتأييد معتمد على أسباب معتادة معلومة.
ثم أبان الله تعالى كيفية تأييده بالمؤمنين وتوحيد صفوفهم، فقال:
وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ... أي إنه تعالى جعلهم أمة واحدة متآلفة، متعاونة في مناصرتك، بعد ما كان بينهم من العداوة والبغضاء إثر منازعات وحروب طويلة في الجاهلية، كما كان الحال بين الأوس والخزرج من الأنصار، ثم أزال الله كل تلك الخلافات بنور الإيمان، كما قال تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ، فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً، وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ، فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها...
[آل عمران ٣/ ١٠٣].
ولو أنفقت جميع ما في الأرض من أموال، ما استطعت تأليف قلوبهم، وجمع كلمتهم، ولكن الله بهدايتهم للإيمان، وتوحيدهم على صراط مستقيم سوي، أمكنه بقدرته وحكمته التأليف بينهم.
وهذا دليل واضح على أن من أهم أسباب النصر هو التآلف واتحاد الكلمة.
ولم يقتصر التأليف على تسوية المنازعات الجاهلية القديمة، وإنما شمل تسوية المنازعات الجديدة التي حدثت بعد الإسلام، كما وقع من خلاف بين المهاجرين والأنصار، حين قسمة الغنائم في حنين، جاء
في الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، لما خطب الأنصار في شأن غنائم حنين قال لهم: «يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلّالا، فهداكم الله بي، وعالة «١» فأغناكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي» كلما قال شيئا، قالوا: الله ورسوله أمنّ.
ولهذا قال تعالى: وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ، إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أي إنه تعالى
قوي غالب على أمره، لا يغلبه خداع الخادعين، ولا مكر الماكرين، ولا يخيب رجاء من توكل عليه، حكيم في أفعاله وأحكامه.
وذكر الحافظ أبو بكر البيهقي عن ابن عباس قال: «قرابة الرحم تقطع، ومنة النعمة تكفر، ولم ير مثل تقارب القلوب» يقول الله تعالى: لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ.
وبعد أن وعد تعالى رسوله بالنصر عند مخادعة الأعداء، وعده بالنصر والظفر في جميع الحالات في الدين والدنيا، فلا تكرار، فقال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ... أي إن الله كافيك ما يهمك من شؤونهم وناصرك ومؤيدك على عدوك، وإن كثرت أعداده، وتزايدت أمداده، ولو قلّ عدد المؤمنين، وحسبك وكافيك من تبعك وآمن بك من المؤمنين.
لكن وإن كان يكفيك الله بنصره وبنصر المؤمنين، فلا يعني ذلك تعطيل الأسباب والأخذ بالوسائل المطلوبة عادة للقتال، فلا تتكل على ذلك وحده، وإنما عليك أن تحرض المؤمنين على القتال، فإنه تعالى يكفيك بشرط أن يبذلوا النفس والمال في المجاهدة. والتحريض: الحث على الشيء.
ثم قال: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وليس المراد منه الإخبار، بل المراد الأمر، كأنه قال: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ فليصبروا وليجتهدوا في القتال حتى يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ أي إن يوجد منكم عشرون صابرون ثابتون في مواقعهم، يغلبوا بإيمانهم وصبرهم وفقههم مائتين من الكفار ليست عندهم هذه الخصال الثلاث، لذا قال تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ أي أن السبب في هزيمة الكفار أنهم قوم جهلة لا يدركون حكمة الحرب كما تدركونها، فهم إنما يقاتلون بقصد مجرد التفوق والاستعلاء، وأنتم تقاتلون لإعلاء كلمة الله، من إصلاح العقيدة، والتطهر من الوثنية، والتحلي بالأخلاق الفاضلة، وإظهار
العبودية لله عز وجل بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ [النساء ٤٤/ ٧٦] وقال: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ [الحج ٢٢/ ٤١].
ثم إنهم لا يؤمنون بالبعث والجزاء، وأما أنتم فتنتظرون إحدى الحسنيين من الغنيمة والنصر أو الشهادة في سبيل الله والظفر بالجنة.
وفي الآية عدة من الله وبشارة بأن جماعة المؤمنين إن صبروا غلبوا عشرة أمثالهم من الكفار بعون الله تعالى وتأييده. وفيها أيضا أن من شأن المؤمنين أن يكونوا واعين لأهداف القتال، يعملون لما يرضي الله عز وجل، وأن يكونوا أعلم من الكافرين بكل ما يصلح حياة البشر وارتقاء الأمم. أما الكفار والمشركون واليهود والنصارى فهم قوم ماديون يبغون من حروبهم مجرد التسلط والشهرة وإذلال الشعوب الأخرى.
ووقوف المسلم أمام عشرة من الكفار كان في مبدأ الأمر حيث كان المسلمون قلة، فطولبوا بالمرتبة العليا من الأفعال الكريمة وهي مرتبة العزيمة، وأما بعد أن كثر المسلمون، فلم يطالبوا إلا بما هو رخصة وتيسير وسهولة، لذا جاءت الآية التالية مخففة نوع التكليف، فقال تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ أي لما أوجب الله على المسلم الواحد مقاومة العشرة والثبات لهم، وثقل ذلك عليهم، خفف عنهم إلى مرتبة أقل منها، هي مقاومة الواحد الاثنين، فإن يكن منكم مائة صابرة، بعد أن علم فيكم ضعفا في البدن من كثرة الجهاد والعمل، يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم ألف صابرون يغلبوا ألفين بإذن الله وقوته ومشيئته، والله دائما مع الصابرين بالمعونة والتأييد والرعاية. روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لما نزلت: إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ شقّ ذلك على المسلمين حين فرض عليهم ألا يفرّ الواحد من عشرة،
فجاء التخفيف فقال: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ... الآية قال: فلما خفف الله عنهم من العدة، نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم.
وفي كلا الحالين يطالب المسلمون القلة بمقاومة الجماعة الأكثر منهم لأن العبرة بالانضباط والصبر، والحزم والعزم، وصدق الإيمان، واتباع أوامر الله تعالى. وقوله: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ
تحذير للمؤمنين من الاعتماد على الإيمان وحده لتحقيق النصر والغلبة، فإنه لا بد مع الإيمان من أوصاف أخرى، أهمها الصبر والثبات، والإعداد المادي والنفسي الدائم، والمعرفة بحقائق الأمور، ومقاصد الجهاد.
وقد تكرر الأمر بالثبات فردا وجماعة والصبر في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى في الثبات: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا [الأنفال ٨/ ٤٥] وقوله: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ [الصف ٦١/ ٤] وقوله تعالى في الصبر: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران ٣/ ٢٠٠] وقوله: وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ، وَاصْبِرُوا، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال ٨/ ٤٦].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت آية وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ على الأمر بقبول عقد الصلح والمهادنة أو المسالمة إن مال إليه العدو، وعلى الأمر بالتوكل على الله، أي تفويض الأمر فيما عقد من صلح إلى الله، ليكون عونا على السلامة، والنصر عليهم إذا نقضوا العهد وعدلوا عن الوفاء. ونبه تعالى في آخر الآية بقوله: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ على الزجر عن نقض الصلح لأنه تعالى عالم بما يضمره العباد، وسامع لما يقولون.
وفي هذا دلالة واضحة على أن الإسلام يؤثر السلم على الحرب، ويوجب
الوفاء بالمعاهدات والمصالحات، ويحرم المبادرة إلى الغدر والخيانة ونقض العهود.
وقد أثير خلاف حول هذه الآية، هل هي منسوخة أو لا؟ فقال قتادة وعكرمة: نسخها فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة ٩/ ٥] وقوله:
وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التوبة ٩/ ٣٦] وقالا: نسخت براءة كل موادعة، حتى يقولوا: لا إله إلا الله. وقال ابن عباس الناسخ لها: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ [محمد ٤٧/ ٣٥].
وقال جماعة: ليست بمنسوخة، لكنها تضمنت الأمر بالصلح إذا كان فيه المصلحة، فإذا رأى الإمام مصالحتهم، فلا يجوز أن يهادنهم سنة كاملة، وإن كانت القوة للمشركين، جاز مهادنتهم للمسلمين عشر سنين، ولا يجوز الزيادة عليها، اقتداء برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، فإنه هادن أهل مكة عشر سنين، ثم إنهم نقضوا العهد قبل كمال المدة.
وصالح أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن بعده من الأئمة كثيرا من بلاد العجم على ما أخذوه منهم، وتركوهم على ما هم فيه، وهم قادرون على استئصالهم.
وصالح رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم أهل خيبر على شروط نقضوها، فنقض صلحهم.
وقد صالح الضّمري (مخشي بن عمرو، من بني ضمرة بن بكر، في غزوة الأبواء) وأكيدر دومة (أكيدر بن عبد الملك، من كندة، ودومة: هي دومة الجندل، مدينة قريبة من دمشق) وأهل نجران. وقد هادن قريشا لعشرة أعوام حتى نقضوا عهده.
وما زالت الخلفاء والصحابة على هذه السبيل عاملة وسالكة.
والخلاصة كما ذكر ابن العربي: إذا كان للمسلمين قوة وعزة ومنعة فلا صلح،
وإن كان لهم مصلحة في الصلح، لنفع يجتلبونه، أو ضرر يدفعونه فلا بأس بالصلح. «١»
وقد نقلت سابقا عن ابن كثير ترجيحه أن الآية غير منسوخة وغير مخصصة، ولا منافاة بينها وبين أوامر القتال، فهذه الأوامر عند الاستطاعة، والصلح عند العجز وقوة العدو وعدم التكافؤ بين قوتنا وقوته. وكذلك قال الجصاص: قد كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم عاهد حين قدم المدينة أصنافا من المشركين منهم النضير وبنو قينقاع وقريظة، وعاهد قبائل من المشركين، ثم كانت بينه وبين قريش هدنة الحديبية إلى أن نقضت قريش ذلك العهد بقتالها خزاعة حلفاء النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، ولم يختلف نقلة السير والمغازي في ذلك، وذلك قبل أن يكثر المسلمون.
فلما كثر المسلمون لم يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف بقوله تعالى:
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ويقاتل أهل الكتاب حتى يسلموا أو يعطوا الجزية بقوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ. وما ذكر من الأمر بالمسالمة إذا مال المشركون إليها حكم ثابت أيضا.
وعقد الصلح جائز غير لازم للمسلمين باتفاق العلماء، فيجوز نبذه إذا ظهرت أمارات الخيانة والنقض والغدر.
ويجوز- كما
ذكر ابن العربي- عند الحاجة للمسلمين عقد الصلح بمال، يبذلونه للعدو، بدليل موادعة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم لعيينة بن حصن وغيره يوم الأحزاب، على أن يعطيه نصف تمر المدينة، فقال له السعدان: إن كان هذا الأمر من قبل الله فامض له، وإن كان أمرا لم تؤمر به، ولك فيه هوى، فسمع وطاعة، وإن كان الرأي والمكيدة، فأعلمنا به، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم: إنما هو الرأي والمكيدة لأني رأيت العرب قد رمتكم بقوس واحدة، فأردت أن أدفعها عنكم إلى يوم. فقال
السعدان: إنا كنا كفارا، وما طمعوا منها بتمرة إلا بشراء أو بقرى، فإذ أكرمنا الله بك، فلا نعطيهم إلا السيف، وشقّا الصحيفة التي كانت كتبت «١».
ودلت آية: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ على حكم من أحكام الصلح، وهو أنهم إن صالحوا على سبيل المخادعة، وجب قبول ذلك الصلح لأن الحكم يبنى على الظاهر، كما يبنى الإيمان على الظاهر.
وأرشدت آية وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ إلى أن تألف القلوب الشديدة في العرب من آيات النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ومعجزاته لأن أحدهم كان يلطم اللطمة، فيقاتل عنها حتى يستقيدها، وكانوا أشد خلق الله حميّة، فألف الله بالإيمان بينهم، حتى قاتل الرجل أباه وأخاه بسبب الدّين.
والله تعالى أيّد نبيه بمناسبة الصلح مع المشركين في حالين: خاصة وعامة، وليس ذلك من قبيل التكرار، ففي الآية الأولى: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ كفاية خاصة، وهي حال الخديعة، أي وعده بالنصر عند مخادعة الأعداء. وفي الآية الثانية: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ كفاية عامة أي حسبك الله وكافيك وناصرك في كل حال.
واستدل أهل السنة بقوله تعالى: وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ على أن أحوال القلوب والعقائد والإرادات والكرامات، كلها من خلق الله تعالى، بسبب الإيمان ومتابعة الرسول عليه الصلاة والسّلام «٢».
ودلت هذه الآية أيضا على أن العرب كانوا قبل الإسلام في خصومة دائمة ومحاربة شديدة، يقتل بعضهم بعضا، ويغير بعضهم على بعض، فلما آمنوا بالله
(٢) تفسير الرازي: ١٥/ ١٨٩
ورسوله واليوم الآخر، زالت الخصومات، وحصلت المودة التامة والمحبة الشديدة.
وقد أيد الله رسوله بمعونته ونصرته وبالمؤمنين من المهاجرين، وهذه آية ربانية ومعجزة أخرى للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم الذي كان فردا وحده يدعو إلى الإسلام، فأيده الله بتوفيقه، وحماه بالمؤمنين التابعين من حوله، في مكة والمدينة.
وأرشدت آية: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إلى أن الواجب على المسلمين الإقدام على الجهاد بروح وثابة عالية، وشجاعة فائقة، وصبر شديد، وعزيمة لا تلين، حتى إنه كان المسلم مطالبا في مبدأ الأمر بالصمود أمام العشرة من الأعداء، ثم خفف الله عنه، فاكتفي بمطالبته بالثبات أمام اثنين فقط.
وهذا بدليل قول ابن عباس المتقدم، فإن الثبات أمام العدو فرض على المسلمين، لا اختيار لهم فيه، ويحرم عليهم الانهزام أمام ضعفي العدد لأن قوله تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ... وإن ورد بصيغة الخبر، فالمراد به الأمر، والأمر يقتضي الوجوب لأن التخفيف إنما يكون في المأمور به، لا في المخبر عنه. ونظرا لوجود التخفيف، فلا محالة- كما قال الجصاص- قد وقع النسخ عن المسلمين فيما كلفوا به أولا، ولم يكن أولئك القوم قد نقصت بصائرهم، ولا قلّ صبرهم، وإنما خالطهم قوم لم يكن لهم مثل بصائرهم ونياتهم، وهم المعنيون بقوله تعالى: وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً «١».
ودل قوله: بِإِذْنِ اللَّهِ على أنه لا تقع الغلبة إلا بإذن الله، أي إرادته.
ودل قوله: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ على تأييد الله الصابرين وإعانتهم.