
قوله تعالى: ﴿إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الذين كَفَرُواْ﴾ الآية.
لمَّا وصف كُلَّ الكفار بقوله: ﴿وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ﴾ [الأنفال: ٥٤] أفرد بعضهم بمزية في الشر والعناد فقال: ﴿إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله﴾ أي: في حكمه وعلمه من حصلت له صفتان:
الأولى: الكافر المستمر على كفره مصرّاً عليه.
الثانية: أن يكون ناقضاً للعهد، فقوله: ﴿الذين كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُون﴾ إشارة إلى

استمرارهم على الكفر، وصرارهم عليه، وقوله: ﴿الذين عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ﴾ إشارة إلى نقض العهد.
قال الكلبيُّ ومقاتلٌ: يعني يهود بني قريظة، منهم كعب بن الأشرف وأصحابه.
﴿الذين عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ﴾ أي: عاهدنهم.
قيل: عاهدت بعضهم، وقيل: أدخل «مِنْ» لأن معناه: أخذت منهم العهد. ﴿ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ﴾.
قال ابنُ عباسٍ «هم بنو قريظة، نقضوا العقد الذي كان بينهم وبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأعانوا المشركين على قتال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم بدر، ثم قالوا: نسينا وأخطأنا فعاهدهم ثانياً، فنقضوا العهد ومالوا مع الكفار على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم الخندق، وركب كعب بن الأشرف إلى مكة فوافقهم على مخالفة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ﴿وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ﴾ لا يخافون الله في نقض العهد.
قوله» الَّذينَ عاهدَتَّ «يجوزُ فيه وجهان:
أحدها: الرَّفْعُ على البدل من الموصول قبله، أو على النَّعت له، أو على عطف البيان، او النصبُ على الذَّمِّ، أو الرفع على الابتداء، والخبرُ قوله» فإمَّا تَثْقَفَنَّهُم «بمعنى: من تعاهد منهم، أي: من الكفار ثم ينقضون عهدهم، فإن ظفِرتَ بهم فاصنعْ كيت وكيت، فدخلت الفاءُ في الخبر لشبه المبتدأ بالشرط، وهذا ظاهر كلام ابن عطية رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى.
و» مِنْهُمْ «يجوز أن يكون حالاً من عائد الموصول المحذوف، إذ التقدير: الذين عادتهم، أي: كائنين منهم، ف» مِنْ «للتبعيض. وقيل: هي بمعنى:» مع «.
وقيل: الكلام محمول على معناه، أي: أخذت منهم العهد.
وقيل: زائدةٌ أي: عاهدتهم. والأقوالُ الثلاثةُ ضعيفةٌ، والأول أصحُّ.
﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ﴾.
قال ابن عباس ﴿فنكل بهم من خلفهم﴾.
وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ: ﴿أنذر بهم من خلفهم﴾.
العامَّةُ على الدال المهملة في» فَشرِّدْ. وأصل التَّشْرِيدِ، التَّطريدُ والتفريقُ والتبديدُ.
وقيل: التفريق مع الاضطراب، والمعنى: فرق بهم جمع كل ناقض، أي: افعل

بهؤلاء الذين نقضوا عهدك وجَاءُوا لحربك فعلاً من الحرب والتمكين، يفرقُ منك ويخافك من خلفهم من أهل مكة واليمن، «لَعَلَّهُم يذَّكرُون» يتذكرون ويعتبرون فيا ينقضون العهد.
وقرأ الأعمش بخلاف عنه: «فَشَرِّذْ» بالذال المعجمة.
وقال أبُو حيَّان رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: «وكذا هي في مصحف عبد الله».
قال شهاب الدين: «وقد تقدَّم أنَّ النَّقْطَ والشَّكْلَ أمرٌ حادثٌ، أحدثه يحيى بن يعمر، فكيف يُوجد ذلك في مصحف ابن مسعود؟».
قيل: وهذه المادة - أعني: الشين، والرَّاء، والذال المعجمة - مهملة في لغة العرب وفي هذه القراءةِ أوجه، أاحدها: أنَّ الذَّال بدلُ من مجاورتها، كقولهم: خراديل وخراذيل.
الثاني: أنه مقلوبٌ مِنْ «شذر»، من قولهم: تَفرَّقُوا شَذَرَ مَذَرَ، ومنه: الشَّذْر المُلتقط من المعدن؛ لتفرُّقِهِ؛ قال: [الطويل]
٢٧٢٣ - غَرَائِرُ فِي كِنٍّ وَصوْنٍ ونَعْمَةٍ | يُحَلَّيْنَ يَاقُوتاً وشَذْراً مُفَقَّرا |
وقال قطرب: «شرّذ» بالمعجمة، التنكيل، وبالمهملة: التَّفريق. وهذا يُقَوِّي قول من قالك إن هذا المادَّة ثابتةٌ في لغة العربِ.
قوله «مَنْ خَلْفَهُمْ» مفعول: «شرِّدط. وقرأ الأعمشُ بخلاف عنه وأبو حيوة» مِنْ خلفهم «جاراً ومجروراً، والمفعولُ على هذه القراءة محذوفٌ، أي: فشرِّدُ أمثالهم من الأعداء، وأناساً يعملون بعملهم، والضميران في» لَعَلَّهُم يذكَّرُون «الظَّاهِرُ عودهما على» مَنْ خَلْفَهُمْ «، أي: إذا راوا ما حلَّ بالمناقضين تذكَّرُوا. وقيل: يعودان على المثقفين، وليس له معنى طائل.
قوله: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ﴾.
مفعول انبذ محذوف، أي: انبذ إليهم عهودهم، أي: اطرحها، ولا تكترث بها صفحة رقم 547

و» عَلَى سواءٍ «حال إمَّا من الفاعل، أي انبذها، وأنت على طريقٍ قصدٍ، أي: كائناً على عدل، فلا تَبْغتهُمْ بالقتالِ بل أعلمهم به، وإمَّا من الفاعل والمفعول معاً، أي: كائنين على استواء في العلم، أو في العداوةِ.
وقرأ العامَّةُ بفتح السِّين، وزيد بن علي بكسرها، وهي لغة تقدم التنبيه عليها أول البقرة.
فصل
المعنى: وإمَّا تعلمنَّ يا محمد» من قومٍ «معادين:» خيانةً «نقض عهد بما يظهر لك منهم من آثار الغدر، كما يظهر من قريظة والنضير:» فانبِذْ إليْهِمْ «فاطرح» إليهمْ «عهدهم» على سواءٍ «.
يقول: أعلمهم قبل حربك إيَّاهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم حتَّى تكون أنت وهم في العلم بنقض العهد سواء، فلا يتوهموا أنك نقضت العهد بنصبِ الحرب معهم.
وقوله: ﴿إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين﴾ هذه الجملة يحتمل أن تكون تعليلاً معنوياً للأمر بنبذ العهد على عدل، وهو إعلامهم، وأن تكون مستأنفة، سيقت لذمِّ من خان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ونقض عهده.
قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ﴾ الآية.
قرأ ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم» يَحْسبنَّ «بياء الغيبة هنا، وفي النور في قوله:
﴿لاَ تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ﴾ [النور: ٥٧] كذلك، خلا حفصاً، والباقون بتاء الخطابِ، وفي قراءة الغيبة تخريجاتٌ كثيرة سبق نظائرها في أواخر آل عمران، ولا بدَّ من التنبيه هنا على ما تقدَّم، فمنها، أنَّ الفعل مسندٌ إلى ضميرٍ يُفسِّره السياق، تقديره: ولا يحسبنَّ هو أي: قبيل المؤمنين، أو الرسول، أو حاسب.
أو يكون الضمر عائداً على: «مَنْ خَلفهُمْ».
وعلى هذه الأقوالِ، فيجوزُ أن يكون «الذينَ كفرُوا» مفعولاً أول و «سَبَقُوا» جملة في محل نصب مفعولاً ثانياً.
وقيل: الفعلُ مسندٌ إلى «الذينَ كفرُوا» ثم اختلف هؤلاء في المفعولين، فقال قوم: الأول محذوفٌ تقديره: ولا يَحْسبنَّهم الذين كفروا سبقوا، ف «هَم» مفعول أول، و «سَبَقُوا» في محل الثاني: أو يكون التقدير: لا يحسبنَّ الذين كفروا أنفسهم سبقُوا. وهو في المعنى كالذي قبله.
وقال قومٌ: بل «أنْ» الموصولة محذوفة، وهي وما في حيَّزها سادةٌ مسدَّ المفعولين، والتقدير: ولا سحبن الذين كفروا أن سبقُوا، فحذفت «أنْ» الموصولة وبقيت صلتها،

كقوله: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ﴾ [الروم: ٢٤] وقوله: ﴿قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ﴾ [الزمر: ٦٤].
قاله الزجاج: والتقدير: ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقونا، وحذف «أن» الموصولة في القرآن، وفي كلام العرب كثير، فأمَّا القرآن فكالآيات، ومن كلام العربِ: تسمعُ بالمعيديِّ خيرٌ من أن تراه؛ وقوله: [الطويل]
٢٧٢٤ - ألاَ أيُّهذا الزَّاجِرِي أحضرُ الوغَى................................
ويؤيد هذا الوجه قراءة عبد الله «أنهم سبقوا».
وقال قومٌ: بل «سَبَقُوا» في محلِّ نصب على الحال، والسادُّ مسدَّ المفعولين: ﴿إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ﴾، وتكون «لا» مزيدةً ليصح المعنى.
قال الزمشخري - بعد ذكره هذه الأوجه - «وليست هذه القراءةُ التي تفرَّد بها حمزةُ بنيِّرة» وقد ردَّ عليه جماعةٌ هذا القول، وقالوا: لم ينفرد بها حمزةُ، بل وافقه عليها من قُرَّاء السبعة ابنُ عامر أسنُّ القراءة وأعلاهُم إسناداً، وعاصمُ في رواية حفص ثم هي قراءة أبي جعفر المدني شيخ نافع، وأبي عبد الرحمن السلمي، وابن محيصن وعيسى، والأعمش، والحسن البصرين، وأبي رجاء، وطلحة، وابن أبي ليلى. وقد ردَّ عليه أبو حيان أيضاً أنَّ «لا يحْسبَنَّ» واقع على «أنهم لا يُعْجِزون» وتكون «لا» صلة، بأنَّهُ لا يتأتَّى على قراءة حمزة، فإنَّهُ يقرأ بكسر الهمزة، يعني فكيف تلتئم قراءةُ حمزة على هذا التخريج.
قال شهابُ الدِّين: «هو لم يلتزم التخريج على قراءة حمزة في الموضعين، أعني:» لا يَحْسبنَّ «وقوله:» أنهم لا يعجزون «، حتى نلزمه ما ذكر» وأما قراءةُ الخطاب فواضحةٌ، أي: لا تحسبنَّ يا محمدُ، أو يا سامعُ، و «الذين كفرُوا» مفعول أول، والثاني: «سبقوا»، وقد تقدَّم في آل عمران وجهُ أنه يجوز أن يكون الفاعل الموصول، وإنَّما أتى بتاءِ التأنيث، لأنه بمعنى «القوم»، كقوله:
﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ﴾ [الشعراء: ١٠٥]. وقرأ الأعمش «ولا يَحْسبَ الذينَ كَفَرُوا» بفتح الباء.
وتخريجها على أن الفعل مؤكدٌ بنون التَّوكيد الخفيفة، فحذفها؛ لالتقاء الساكنين، كما يحذفُ له التنوين؛ فهو كقوله: [المنسرح]

٢٧٢٥ - لا تُهِينَ الفَقيرَ علَّكَ أنْ | تَرْكعَ يوماً والدَّهْرُ قد رفعهْ |
قوله: «سَبَقُوا» أي: فاتوا. نزلت في الذين انهزموا يوم بدرٍ من المشركين، فمن قرأ بالياء، يقول لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سابقين فائتين من عذابنا، ومن قرأ بالتَّاءِ فعلى الخطاب.
قوله ﴿إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ﴾ قرأ ابن عامر بالفتح، والباقون بالكسر. فالفتح إمَّا على حذفِ لام العلة، أي: لأنهم. واستبعد أبو عبيد وأبو حاتم قراءة ابن عامر، ووجهُ الاستبعادِ أنَّها تعليلٌ للنَّهْي، أي: لا تحسبنَّهم فائتينح لأنَّهم لا يعجزون، أي: لا يقع منك حُسبانٌ لفوتهم؛ لأنَّهم لا يعجزون، وإمَّا على أنَّها بدلٌ من مفعولي الحسبان.
وقال أبُو البقاء: «إنَّه متعلقٌ ب» حسب «، إمَّا مفعولٌ، أو بدلٌ من سَبَقُوا».
وعلى كلا الوجهين تكون «لا» زائدة «، وهو ضعيفٌ، لوجهين:
أحدهما: زيادة» لا «.
والثاني: أن مفعول» حسبن «إذا كان جملة، وكان مفعولاً ثانياً كانت» إنَّ «فيه مكسورة؛ لأنَّه موضع ابتداء وخبر.
وقرأ العامة:» لا يُعْجِزُونَ «بنون واحدة خفيفةٍ مفتوحةٍ، وهي نونُ الرفع. وقرأ ابن مُحَيْصِن» يُعْجِزُوني «بنون واحدة، بعدها ياء المتكلم، وهي نون الوقاية، أو نون الرفع، وقد تقدَّم الخلافُ في ذلك في سورة الأنعام في:» أتحاجُّوني «.
قال الزجاج: ألاختيارُ الفتحُ في النُّونِ، ويجوزُ كسرها، على أنَّ المعنى: لا يُعجزُونَنِي وتحذف النون الأولى، لاجتماع النونين» ؛ كما قال عمر بن أبي ربيعة: [الوافر]
٢٧٢٦ - تَراهُ كالثَّغَامِ يعلُّ مِسْكاً | يسُوءُ الفالياتِ إذا فَلَيْنِي |

٢٧٢٧ - ولقَدْ علمْتِ ولا مَحَالَة أنَّنِي | للحَادِثاتِ فَهَلْ تَرَيْنِي أجْزَعُ |
قال أبو جعفرٍ: «وهذا خطأ من وجهين:
أحدهما: أنَّ معنى» عَجّضزه «ضعَّفه وضعَّف أمره. والآخر: كان يجب أن يكون بنونين».
قال شهابُ الدِّين: «أمَّا تخطئة النَّحاس لهُ فخطأٌ؛ لأن الإتيان بالنُّونين ليس بواجب بل هو جائز، وقد قرىء به في مواضع في المتواتر، سيأتي بعضها، وأمَّا» عجَّز «بالتشديد فليس معناه مقتصراً على ما ذكر، بل نقل غيره من أهل اللغة أن معناه نسبني إلى العجز، أو معناه: بَطَّأ، وثبَّط، والقراءة معناها لائقٌ بأحد المعنيين». قرأ طلحة بكسر النون خفيفة. صفحة رقم 551