
والمصالح الكبرى التي لا مجال للاختلاف فيها في تقدير المخلصين، أما القياس في مجال الاجتهاد في الفروع الفقهية، وجزئيات الأحكام، فلا عيب فيه، وهو أمر محمود مطلوب شرعا، وإن أدى إلى الاختلاف لأن المجتهد يجب عليه شرعا العمل بما غلب على ظنه.
تبرؤ الشيطان من الكفار وقت أزمة بدر وحين تهكم المنافقين بالمؤمنين
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٤٨ الى ٤٩]
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩)
الإعراب:
لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ لا: نافية للجنس، وغالِبَ: اسمها المنصوب، ولَكُمُ: في موضع رفع خبر لا وتقديره: لا غالب كائن لكم. والْيَوْمَ: منصوب على الظرف، والعامل فيه لَكُمُ.
المفردات اللغوية:
وَإِذْ زَيَّنَ واذكر إذ زين لهم إبليس أعمالهم بأن وسوس لهم وشجعهم على لقاء المسلمين لما خافوا الخروج من أعدائهم بني بكر. وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ أي مجير لكم من كنانة، وكان أتاهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم سيد تلك الناحية. فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ التقت واقتربت الجماعة المسلمة والكافرة، كل منهما من الأخرى نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ رجع هاربا على عقبيه أي

رجع القهقرى وتولى إلى الوراء، والمراد: أحجم وَقالَ لما قالوا له: أتخذلنا على هذه الحال؟:
إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ من جواركم إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ من الملائكة إِنِّي أَخافُ اللَّهَ أن يهلكني.
إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ أي زين لهم الشيطان حين قال المنافقون بالمدينة، والمنافق: من يظهر الإسلام ويبطن الكفر وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ هم ضعاف الإيمان الذين تملأ قلوبهم الشبهات والشكوك غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ يعنون أن المسلمين اغتروا بدينهم وأنهم يتقوون به وينصرون من أجله، فخرجوا مع قلتهم وهم ثلاثمائة، وبضعة عشر، يقاتلون الجمع الكثير وهم زهاء ألف، توهما أنهم ينصرون بسبب دينهم، فأجابهم الله بقوله: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي من يثق به يغلب فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب على أمره، يسلط القليل الضعيف على الكثير القوي حَكِيمٌ في صنعه.
سبب النزول:
نزول الآية (٤٨) :
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ: روي أن الشيطان تمثّل لهم يومئذ في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، وهو من بني بكر بن كنانة، وكانت قريش تخاف من بني بكر أن يأتوهم من ورائهم لأنهم قتلوا رجلا منهم. وقد وصف الله تعالى ما قال الشيطان لهم. قال الضحاك: جاءهم إبليس يوم بدر برايته وجنوده، وألقى في قلوبهم أنهم لن يهزموا، وهم يقاتلون على دين آبائهم.
وذكر البيهقي وغيره عن ابن عباس قال: أمدّ الله نبيه محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة فكان جبريل عليه السّلام في خمسمائة من الملائكة مجنّبة «١»، وميكائيل في خمسمائة من الملائكة مجنّبة. وجاء إبليس في جند من الشياطين ومعه راية في صورة رجال من بني مدلج، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم. فقال الشيطان للمشركين: لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ، وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ. فلما اصطفّ القوم قال أبو جهل: اللهم أولانا بالحق فانصره،
ورفع

رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يده فقال: «يا ربّ إنك إن تهلك هذه العصابة، فلن تعبد في الأرض أبدا» فقال جبريل: «خذ قبضة من التراب» فأخذ قبضة من التراب، فرمى بها وجوههم فما من المشركين من أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه.
فولوا مدبرين، وأقبل جبريل عليه السّلام إلى إبليس، فلما رآه كانت يده في يد رجل من المشركين- قيل: كانت يده في يد الحارث بن هشام-، انتزع إبليس يده، ثم ولى مدبرا وشيعته فقال له الرجل: يا سراقة، ألم تزعم أنك لنا جار؟
قال: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ، إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ.
وفي موطأ مالك عن طلحة بن عبيد الله بن كريز أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «ما رأى الشيطان نفسه يوما هو فيه أصغر ولا أحقر ولا أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر. قيل: وما رأى يوم بدر يا رسول الله؟ قال: أما إنه رأى جبريل يزع «١» الملائكة».
نزول الآية (٤٩) :
إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ: روي عن مجاهد أنه قال: هم فئة من قريش:
قيس بن الوليد بن المغيرة، والحارث بن زمعة بن الأسود بن المطّلب، ويعلى بن أمية، والعاص بن منبّه، خرجوا مع قريش من مكة، وهم على الارتياب، فحبسهم ارتيابهم، فلما رأوا قلة أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قالوا: غرّ هؤلاء دينهم، حتى أقدموا على ما أقدموا عليه، مع قلة عددهم، وكثرة عدد قريش.
المناسبة:
ما تزال الآيات تعرض مواقف وعبرا من مشاهد يوم بدر، وهنا تذكر

موقفين: موقف الشيطان كيف تخلص من المشركين وقت اشتداد المحنة، وموقف المنافقين الذين سخروا من المؤمنين لتهورهم، قائلين: غرّ هؤلاء دينهم.
التفسير والبيان:
اذكر أيها الرسول حين زين الشيطان للمشركين أعمالهم بوسوسته، وأوهمهم أنهم لا يغلبون أبدا لكثرة عَددهم وعُددهم، وأن اتباع خطوات الشيطان وطاعته مما يجيرهم، وأزال مخاوفهم من إتيان عدوهم بني بكر في ديارهم، وقال: إِنِّي جارٌ لَكُمْ أي مجير لكم من بني كنانة، وذلك أنه تبدي لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم سيد بني مدلج كبير تلك الناحية. والجار: المدافع عن صاحبه، والذائد عنه أنواع الضرر، كما يدفع الجار عن جاره. وكل ذلك من الشيطان كما قال تعالى عنه: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً [النساء ٤/ ١٢٠].
فلما تلاقى الفريقان المتقاتلان نكص الشيطان على عقبيه، أي تراجع مدبرا، وولّى هاربا، وتبرأ منهم، أي بطل كيده حين نزلت جنود الله، وأيس من حالهم لما رأى إمداد الملائكة للمسلمين، وأظهر أنه يخاف الله، والله شديد العقاب في الدنيا والآخرة. وكان خوفه من الملائكة حتى لا تحرق جنوده.
وهكذا كان جند الشيطان في مبدأ الأمر مع المشركين يوسوسون لهم ويضللونهم، وكان الملائكة جند الرحمن مع المؤمنين يثبّتون قلوبهم ويؤيدونهم ويعدونهم بنصر الله تعالى. وقوله: وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ يجوز أن يكون من كلام إبليس ويجوز أن ينقطع كلامه عند قوله: أَخافُ اللَّهَ ثم قال تعالى ذاك.
أما السبب في تغيير صورة إبليس إلى صورة سراقة، فلإظهار المعجزة العظيمة للرسول عليه الصلاة والسّلام لأن كفار قريش، لما رجعوا إلى مكة، قالوا:
هزم الناس سراقة، فبلغ ذلك سراقة، فقال: والله ما شعرت بمسيركم، حتى بلغتني

هزيمتكم. فعندئذ تبين للقوم أن ذلك الشخص ما كان سراقة، بل كان شيطانا «١».
هذا موقف الشيطان، ثم ذكر الله تعالى موقف المنافقين، فقال: إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ... أي اذكر أيها النبي حين قال المنافقون ومرضى القلوب، أي ضعفاء الاعتقاد والإيمان، وقد رأوا قلة المسلمين وكثرة المشركين: غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ أي أن المسلمين اغتروا بدينهم، وتقووا به، وظنوا أنهم ينصرون من أجله، فخرجوا وهم ثلاثمائة وبضعة عشر إلى زهاء ألف. وهذا صحيح في موازين القوى العسكرية، وتقدير مدى تكافؤ الجيشين في أنظار الناس عادة، ولكنه في ميزان الله وتقديره غير يقيني: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة ٢/ ٢٤٩] لذا قال تعالى في ختام الآية: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ... أي ومن يفوض أمره إلى الله، ويثق به، ويلجأ إليه، فهو حسبه وناصره ومؤيده، والله عزيز غالب لا يدرك، حكيم في فعله وصنعه، عليم بخلقه، ينصر من يشاء، وبخاصة اقتضت سنته أن ينصر الحق على الباطل، ويسلط القليل الضعيف على الكثير القوى. وقوله: وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يجوز أن يكون من صفات المنافقين، وأن يراد بهم الذين ليسوا بثابتي الأقدام في الإسلام، كالمؤلفة قلوبهم، والأولى أنهما صنف واحد.
فقه الحياة أو الأحكام:
ما أشبه موقف المنافقين بموقف الشيطان، إنه موقف المتخاذل المتفرج، المحرّض على الشر، ثم المتخلي عن المؤازرة وقت الشدة والمحنة.
أما الشيطان: فيوسوس بالباطل لأعوانه، ثم يحجم عن الشيء الذي زين به، وحبّب فيه، وأغرى الناس عليه. فالواجب على العاقل الحذر منه،