
مِنْهُمْ وَخَافَ عَلَيْهِمْ، وَأَيِسَ مِنْ حَالِهِمْ لَمَّا رَأَى إِمْدَادَ اللهِ الْمُسْلِمِينَ بِالْمَلَائِكَةِ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ كَلَامِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا.
تَفْسِيرُ الْآيَةِ بِوَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ وَإِغْوَائِهِ لِلْمُشْرِكِينَ، وَتَغْرِيرِهِ بِهِمْ قَبْلَ تَقَابُلِ الصُّفُوفِ، وَتَرَائِي الزُّحُوفِ وَبِتَخَلِّيهِ عَنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَخَرَّجَهُ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ كَالزَّمَخْشَرِيِّ وَالْبَيْضَاوِيِّ بِنَحْوٍ مِمَّا ذَكَرْنَا، وَهُوَ لَا يَخْلُو مِنْ تَكَلُّفٍ فِي الْجُمَلِ الْأَخِيرَةِ إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَمَّا نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ تَبَرَّأَ مِنْهُمْ، وَقَالَ مَا قَالَ فِي نَفْسِهِ لَا لَهُمْ، وَمِثْلُ هَذَا الْخِطَابِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى سَمَاعِ الْمُخَاطَبِينَ لَهُ حَتَّى فِي خِطَابِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ (٥٩: ١٦) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ سَارَ إِبْلِيسُ بِرَايَتِهِ وَجُنُودِهِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَلْقَى فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ أَحَدًا لَنْ يَغْلِبَكُمْ، وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ. فَلَمَّا الْتَقَوْا، وَنَظَرَ الشَّيْطَانُ إِلَى إِمْدَادِ الْمَلَائِكَةِ: نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ قَالَ: رَجَعَ مُدْبِرًا، وَقَالَ: إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ - الْآيَةَ. وَمِثْلَهُ قَالَ الْحَسَنُ.
أَقُولُ: مَعْنَى هَذَا أَنَّ جُنْدَ الشَّيْطَانِ الْخَبِيثِ كَانُوا مُنْبَثِّينَ فِي الْمُشْرِكِينَ يُوَسْوِسُونَ لَهُمْ بِمُلَابَسَتِهِمْ لِأَرْوَاحِهِمُ الْخَبِيثَةِ مَا يُغْرِيهِمْ وَيَغُرُّهُمْ، كَمَا كَانَ الْمَلَائِكَةُ مُنْبَثِّينِ فِي الْمُؤْمِنِينَ يُلْهِمُونَهُمْ بِمُلَابَسَتِهِمْ لِأَرْوَاحِهِمُ الطَّيِّبَةِ مَا يُثَبِّتُونَ بِهِ قُلُوبَهُمْ، وَيَزِيدُهُمْ ثِقَةً بِوَعْدِ اللهِ بِنَصْرِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ (٨: ١٢) إِلَخْ. فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ، وَأَوْشَكَ أَنْ يَتَلَاحَمَا فَرَّ الشَّيْطَانُ بِجُنُودِهِ مِنْ بَيْنِ الْمُشْرِكِينَ. لِئَلَّا تَصِلَ إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ الْمُلَابِسَةُ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَهُمَا ضِدَّانِ لَا يَجْتَمِعَانِ، وَلَوِ اجْتَمَعَا لَقَضَى أَقْوَاهُمْ وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى أَضْعَفِهِمَا، فَخَوْفُ الشَّيْطَانِ إِنَّمَا كَانَ مِنْ إِحْرَاقِ الْمَلَائِكَةِ لِجُنُودِهِ لَا عَلَى الْمُشْرِكِينَ، كَمَا يُقْذَفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْعَوَالِمَ الرُّوحِيَّةَ الْخَفِيَّةَ كَعَوَالِمِ الْعَنَاصِرِ الْمَادِّيَّةِ مِنْهَا الْمُؤْتَلِفُ وَالْمُخْتَلِفُ، وَمِنْهَا مَا يَتَّحِدُ بِغَيْرِهِ فَيَتَأَلَّفُ مِنْهُمَا حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ كَحَقِيقَةِ الْمَاءِ وَالْهَوَاءِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَتَّحِدُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، وَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي حَيِّزٍ وَاحِدٍ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ (٢٤: ٢٦) وَكَذَلِكَ جَعَلَنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا
(٦: ١١٢).
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلٌ آخَرُ: هُوَ أَنَّ الشَّيْطَانَ تَمَثَّلَ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ سَيِّدِ بَنِي مُدْلِجٍ، وَقَالَ لِلْمُشْرِكِينَ مَا قَصَّتْهُ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَوَّلًا وَآخِرًا. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ إِبْلِيسَ خَرَجَ مَعَ قُرَيْشٍ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، فَلَمَّا حَضَرَ الْقِتَالَ وَرَأَى الْمَلَائِكَةَ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ،

فَتَشَبَّثَ بِهِ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ فَنَخَرَ فِي وَجْهِهِ فَخَرَّ صَعِقًا فَقِيلَ لَهُ: وَيْلَكَ يَا سُرَاقَةُ، عَلَى هَذِهِ الْحَالِ تَخْذُلُنَا وَتَبْرَأُ مِنَّا؟ فَقَالَ: " إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ " إِلَخْ. وَرَوَى عَنْهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ مَا أَوَّلُهُ مِثْلَ رِوَايَةِ ابْنِ جَرِيرٍ إِلَّا أَنَّهُ زَادَ " فِي صُورَةِ رَجُلٍ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ " وَذَكَرَ فِيهَا أَنَّهُ رَأَى رَمْيَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الْمُشْرِكِينَ بِقَبْضَةِ التُّرَابِ فَهَزِيمَتُهُمْ مِنْهَا ثُمَّ قَالَ: فَأَقْبَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى إِبْلِيسَ فَلَمَّا رَآهُ، وَكَانَتْ يَدُهُ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ انْتَزَعَ يَدَهُ ثُمَّ وَلَّى مُدْبِرًا وَشِيعَتُهُ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا سُرَاقَةُ أَتَزْعُمُ أَنَّكَ جَارٌ لَنَا؟ فَقَالَ: " إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ " إِلَخْ.
(أَقُولُ) : أَمَّا الْكَلْبِيُّ فَرِوَايَتُهُ التَّفْسِيرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ هِيَ أَوْهَى الرِّوَايَاتِ وَأَضْعَفُهَا كَمَا قَالَ الْمُحَدِّثُونَ. قَالُوا: فَإِنِ انْضَمَّ إِلَيْهَا رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ السُّدِّيِّ الصَّغِيرِ فَهِيَ سِلْسِلَةُ الْكَذِبِ. وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ فَرِوَايَتُهُ عَنْهُ أَجْوَدُ الرِّوَايَاتِ إِلَّا أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَإِنَّمَا أَخَذَهُ عَنْ مُجَاهِدٍ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَلَا خِلَافَ فِي كَوْنِهِمَا مِنَ الثِّقَاتِ أَئِمَّةِ هَذَا الشَّأْنِ، وَلَكِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ ابْنَ خَمْسِ سِنِينَ فَرِوَايَتُهُ لِأَخْبَارِهَا مُنْقَطِعَةٌ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ. وَرَوَى ذَلِكَ الْوَاقِدِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ شُعْبَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْوَاقِدِيُّ غَيْرُ ثِقَةٍ فِي الرِّوَايَةِ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ غَيْرِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي الرِّوَايَاتِ شَيْءٌ مِنَ الِاخْتِلَافِ، وَأَصِلُهَا أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَبَيْنَ بَنِي بَكْرٍ عَدَاوَةٌ وَحَرْبٌ سَابِقَةً فَخَافُوا أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ فِي أَثْنَاءِ قِتَالِهِمْ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَالْمُؤْمِنِينَ فَرُئِيَ سُرَاقَةُ أَكْبَرُ زُعَمَائِهِمْ مَعَ الْمُشْرِكِينَ يَضْمَنُ لَهُمْ مَا كَادَ يَثْنِيهِمْ عَنِ الْخُرُوجِ. وَخَرَجَ مَعَهُمْ يُثَبِّتُهُمْ وَيَقُولُ: لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ، وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ، ثُمَّ رُئِيَ عِنْدَ تَرَائِي
الْفِئَتَيْنِ هَارِبًا مُتَبَرِّئًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا رَجَعَ فَلُّهُمْ إِلَى مَكَّةَ كَانُوا يَقُولُونَ: هَزَمَ النَّاسَ سُرَاقَةُ. فَقَالَ: بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: إِنِّي هَزَمْتُ النَّاسَ، فَوَاللهِ مَا شَعَرْتُ بِمَسِيرِكُمْ حَتَّى بَلَغَتْنِي هَزِيمَتُكُمْ، فَقَالُوا: مَا أَتَيْتَنَا فِي يَوْمِ كَذَا؟ " فَحَلَفَ لَهُمْ. فَلَمَّا أَسْلَمُوا عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ الشَّيْطَانُ، فَهَذَا وَاللهُ أَعْلَمُ سَبَبُ تَخْرِيجِ هَؤُلَاءِ الْمُفَسِّرِينَ رِوَايَاتِهِمْ عَلَى أَنَّ الَّذِي رُئِيَ إِنَّمَا كَانَ الشَّيْطَانُ مُتَمَثِّلًا، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ هُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَهُوَ مَا عَلِمْتَ آنِفًا، وَمَا رَوَاهُ عَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا وَقَدَّمَهُ أَهْلُ التَّفَاسِيرِ الْمَشْهُورَةِ، وَهُوَ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَلْقَى فِي قُلُوبِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ أَحَدًا لَنْ يَغْلِبَهُمْ إِلَخْ. وَتَقَدَّمَ.
قَدْ كَانَ وَقْتُ تَغْرِيرِ الشَّيْطَانِ بِالْمُشْرِكِينَ وَإِيهَامِهِمْ أَنَّهُ لَا غَالِبَ لَهُمْ مِنَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، هُوَ بِعَيْنِهِ وَقْتُ تَعَجُّبِ الْمُنَافِقِينَ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ فِي الدِّينِ مِنْ إِقْدَامِ هَذَا الْعَدَدِ الْقَلِيلِ الْفَاقِدِ لِكُلِّ اسْتِعْدَادٍ حِسِّيٍّ مِنْ أَسْبَابِ الْحَرْبِ، عَلَى قِتَالِ ذَلِكَ الْعَدَدِ الْكَبِيرِ الَّذِي يَفُوقُهُ ثَلَاثَةَ أَضْعَافٍ فِي الْعَدَدِ مَعَ كَوْنِهِ لَا يَنْقُصُهُ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِلْحَرْبِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ وَاحِدَةٌ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ فَالظَّرْفُ هُنَا مُتَعَلِّقٌ بِـ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَ " الْمُنَافِقُونَ " هُمُ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَيُسِرُّونَ