آيات من القرآن الكريم

۞ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳ ﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙ ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰ ﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦ ﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ ﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ ﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙ ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭ ﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜ

كما كان للأنبياء قبله، وقد أخذ من هذه الآية الكريمة الحكم الشرعي بأن الكافر إذا أسلم لا يلزمه شيء من قضاء العبادات الدينية والمالية، ويكون كيوم ولدته أمه، لأن الإسلام يحبّ ما قبله، كما أن الكفر يحبط ثواب الأعمال الصالحة قبله.
قال تعالى «وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ» أي لا يبقى شرك يفتتن به قط «وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ» بأن يضمحل كل ما يتدين به ويمحى من وجه الأرض عدا دين الإسلام. راجع نظير هذه الآية الآية ١٤٩ من سورة البقرة المارة «فَإِنِ انْتَهَوْا» عن الشرك ودواعيه وأسلموا لله وحده «فإنّ الله بما تعملون» صرا أو جهرا خالصا أو مشوبا. وقرئ الفعل بالياء والتاء على الغيبة والخطاب «بَصِيرٌ» بدقائق الأمور لا يخفى عليه شيء من عمل خلقه «وَإِنْ تَوَلَّوْا» عنك يا سيد الرسل وأعرضوا عن الإيمان وعادوا لقتالكم مرة ثانية بعد هذه التي استؤصل فيها كبارهم وصناديدهم وبقوا مصرين على الكفر «فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ» حافظكم منهم وناصركم عليهم وكافيكم شرهم وهو «نِعْمَ الْمَوْلى» لمن يتولاه ويكل أمره إليه «وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠) » لمن ينصره، ألا فليأمن من كان الله مولاه وناصره.
مطلب كيفية تقسيم الغنائم وصلاحية الأمر فيها، ولزوم ذكر الله عند اللقاء، والتمسك بأصول الدين ليتحقق لهم النصر من الله:
قال تعالى «وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ» توصل ما مع أنّ إذا كانت كافة عن العمل، وتفصل كما هنا إذا كانت عاملة، وجملة غنمتم صلة، والعائد محذوف، والتقدير أن الذي غنمتموه «مِنْ شَيْءٍ» مطلق شيء بدليل التنوين «فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ» أي يصرف إلى هؤلاء على هذا الترتيب، ومعنى الغنم الفوز والظفر، والغنيمة ما أصابه المسلمون من أموال الكفار عنوة في القتال، ويكون فيها الخمس لمن ذكر الله في هذه الآية، والأربعة أخماس لمن شهد الواقعة، أما ما صولح عليه من غير قتال فيكون جميعه لمن سمى الله تعالى فيتسلمه أمير المؤمنين ويقسمه بين أربابه، أما ما يأخذه الإمام من الأعشار والخراج والجزية والمكس ومال من لا وارث له

صفحة رقم 292

مسلما كان أو كافرا وبدل المهادنة وتعويض الحرب فيحفظة لديه ليصرفه في مصالح المسلمين وتقويتهم معنى ومادة، من عدد الحرب وإصلاح الطرق وعمارة القناطر والجسور ودور العجزة واليتامى والمجانين ودور العلم والذّكر وجميع المنافع العامة، وكيفية القسمة هي أن يقسم الخمس الذي هو لله خمسة أقسام: خمس لإمام المسلمين وخمس لأقارب الإمام غنيهم وفقيرهم سواء للذكر مثل حظ الأثنين كما كان في زمن الرسول والخلفاء من بعده وهو حق باق ثابت إلى الأبد لثبوته في هذه الآية ولما روي عن جبير بن مطعم قال جئت أنا وعثمان بن عفان إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله أعطيت بني المطلب وتركتنا ونحن وهم بمنزلة واحدة، فقال صلّى الله عليه وسلم إنما بنو هاشم وبنو المطلب واحد. وفي رواية أعطيت بني المطلب من خمس الخمس وتركتنا، وفي رواية لم يقسم النبي صلّى الله عليه وسلم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل شيئا- أخرجه البخاري- والدليل على أن غنيهم وفقيرهم سواء، إعطاء النبي صلّى الله عليه وسلم العباس وهو غني. وخمس لليتامى والفقراء. وخمس للمساكين والفقراء من غيرهم. وخمس لأبناء السبيل بفريضة الله تعالى. والأربعة أخماس يقسمها الإمام بين المجاهدين ثلاثة للفارس، واحد له واثنان لفرسه، وواحد الراجل. والدليل على هذا ما رواه ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قسم النفل للفرس سهمين، وللرجل واحدا. وفي رواية بإسقاط لفظ النفل، - أخرجه البخاري ومسلم- ويعطى للعبيد والنساء الذين حضروا الحروب وأعانوا المسلمين بالأكل والماء وحمل السلاح متيسر كما يعطى من حضر القسمة المبينة في الآية ٨ من سورة النساء الآتية. أما الأرض والعقار فللامام أن يجعلها وقفا للمسلمين يتداولونها جيلا بعد جيل ينتفعون بربعها ويحتفظون برقبتها، وهو أولى من قسمتها بينهم لأنه إذا قسمها الإمام بينهم لم يبق الذين من بعدهم شيء يقيمون به معاشهم لا سيما وإن بيت المال يجب أن يكون دائما مترعا بالأموال لحفظ بيضة الإسلام، فاعملوا بهذا أيها المؤمنون «إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ» ورضيتم بحكمه «وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا» المنزل عليه هذه الآيات في هذه «يَوْمَ الْفُرْقانِ» يوم نزوله وهو المسمى بأنه الفارق بين الحق والباطل وقال بعض المفسرين إن الفرقان هو يوم بدر، لأن الله فرق فيه وفصل بين الحق

صفحة رقم 293

والباطل، وكان يوم إنزال القرآن في ١٧ رمضان يوم الجمعة سنة ٤١ من الولادة الشريفة، ويوم بدر يوم الجمعة أيضا في ١٧ رمضان السنة الثانية من الهجرة، كما أشرنا إليه في المقدمة، ولهذا فإن التفسير الأول أولى، لأن الله تعالى القائل (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) لا يهمل يوم إنزال القرآن وهو أعظم من غيره، لهذا فقد قصده في هذه الآية والله أعلم. وقرن مع يوم بدر لعظمته أيضا، لأنه أول ظهور عظيم لشأن الإسلام ولمسلمين، ولذلك قال «يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ» جمع المسلمين وجمع الكافرين، وعليه يكون المعنى أن اليوم الذي أنزل فيه القرآن مثل اليوم الذي التقى فيه الجمعان برئاسة محمد صلّى الله عليه وسلم ورئاسة عتبة بن ربيعة خذله الله، لأن كلا منهما يوم جمعة ويوم رمضان، ولم يقع اختلاف في هذين اليومين من كونهما يومي جمعة وكونهما في رمضان، وانما اختلفوا هل كان إنزال القرآن في ١٧ أو ٢٧ من رمضان فقط، ولولا تعيين اليوم لا حتمل أن يقال نزل
جملة واحدة إلى بيت العزة في ٢٧ رمضان ونجوما على المصطفى في ١٧ منه والله أعلم «وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ٤١» ومن قدرته نصر المؤمنين في ذلك اليوم مع قلة عددهم وعددهم على الكافرين مع كثرتهم عددا وعددا، وهذه الآية نزلت في الغنائم الحاصلة من غزوة بني قينقاع الواقعة بعد حادثة بدر بشهر وثلاثة أيام في النصف من شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة، وقال بعض المفسرين نزلت في حادثة بدر وليس بشيء، وهي مخصّصة للآية التي نزلت في غنائم بدر ومقيدة لها، لا ناسخة كما ألمعنا إليه أول هذه السورة. ثم شرع بعدد نعمه التي أنعمها على المؤمنين في هذه الحادثة بقوله واذكروا أيها المؤمنين «إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا» سفير الوادي الأدنى من المدينة «وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى» البعدى منها مما يلي مكة «وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ» من المحل الذي به أبو سفيان وجماعته من قريش الذي خرجتم لأجله بعيد عنكم مما يلي البحر بثلاثة أميال «وَلَوْ تَواعَدْتُمْ» أنتم وإيّاهم على هذا الاجتماع في هذا المحل «لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ» ولما أمكنكم أن تجتمعوا به فيه، ولكنه كان صدفة من الصدف الغريبة وأمرا من الأمور العجيبة «وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً

صفحة رقم 294

كانَ مَفْعُولًا»
في أزله ومقدرا في مقدرته بأن يكون هذا المكان وهذا الزمان وإنما كان كذلك أيها المؤمنون «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ» رآها وعبرة عاينها وعفة شاهدها وحجة قامت عليه «وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ» كذلك «وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ» لأقوالكم سرها وجهرها «عَلِيمٌ (٤٢) » بنيّاتكم وبما يقع لكم من النصر وعليهم من القهر. واذكر يا سيد الرسل لقومك «إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا» لتقوى قلوب أصحابك فيجرءوا عليهم «وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ» بسبب ضعف همة قومك، ولجبنوا عن عدوهم وحدثتهم أنفسهم بالتراجع وتشتتت آراؤهم «وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ» فيما بينكم فصار منكم من يحبذ الإقدام ويرغب فيه، ومنكم من يحبب الإحجام ويرغب عن اللقاء، فتتصادم الآراء ويحصل الشقاق وتفكك عرى التوثق بينكم «وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ» وعصم قلوبكم من ذلك بسبب ذلك التقليل وأنعم عليكم بعد وقوع الخلاف المؤدي للهزيمة «إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ٤٤» يعلم ما يحصل فيها من الجرأة والجبن والصبر وا لجزع، ومن يميل إلى الإقدام ومن يجنح إلى الإحجام «وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ» أيها المؤمنون «إِذِ الْتَقَيْتُمْ» معهم يقظة عند التحام وتراص الصفين «فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا» تأكيدا لرؤياك يا صفوة الخلق ليطمئنوا ويتحققوا أن ما تقوله لهم حق واقع لا محالة سواء عن رؤيا منامية أو مشاهدة عينية، وهذه من أكبر النعم المقوية للقلوب الموجبة للإقدام عن رغبة، إذ أراهم الجمع الكثير شرذمة قليلة. قال ابن مسعود قلت لرجل جني تراهم منه، فأسرنا منهم رجلا، وسألناه، فقال نحن ألف «وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ» قبل اللقاء ليجرأوا على مهاجمتكم، ولا يتقاعسوا عنها حتى إذا قدموا عليكم رأوكم كثيرا فيبهتوا ويرعبوا وتنكسر شوكتهم وتختل معنوياتهم، فيغلبوا، وإنما فعل الله تعالى هذا معكم ومعهم «لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا» مقضيا بهلاكهم.
ومن مغزى هذه الآية عدا ما ذكر تعليم العباد بابا من أبواب الحرب، وذلك بأن يجعل القائد غير المدافع قوته العظيمة من وراء، ثم يتقدم لعدوه بقوة يسيرة ليغريه على الإقدام والهجوم طمعا بالغلب، فيجابه هذه القوة اليسيرة بكل ما لديه

صفحة رقم 295

من قوة بقصد سرعة القضاء على خصمه، حتى إذا التحم الفريقان داهمهم بقوته الأخرى كلها فيستأصلهم عن آخرهم، لأنهم يرعبون من الكثرة التي طرأت عليهم غير حاسبين لها حسابها، وإنما قلنا غير المدافع لأن القائد المدافع يجب عليه أن يستعين بكل مالديه من قوة دفعة واحدة كي يستطيع صد المهاجم، وإلا إذا قدم ثلة ثلة فإن العدو يفنيهم أولا بأول، ويستهين بقوتهم القليلة ويطمع بالاستيلاء عليهم، فيكون الغلب له، والقتل والسبي والأسر بالمدافعين «وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ» (٤٥) فيحكم فيها بما يريد وفق ما هو في أزله. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً» كافرة لا عهد لها معكم ولا ذمة «فَاثْبُتُوا» لها ووطنوا أنفسكم على الصبر على الحرب والصدق عند اللقاء، ولا تتصوروا الفرار أو تتخيّلوه أبدا، لأنه متى وقع في قلوبكم جبنتم وكبر عدوكم في أعينكم وألقى الرعب في قلوبكم، فتهزمون، فيستضعفكم عدوكم ويعلو عليكم فتسلبون وتقتلون، فقووا قلوبكم واثبتوا على الصبر واستعينوا بالله ربكم، لا تتكلوا على كثرة أو قلة:

من استعان بغير الله في طلب فإن ناصره عجز وخذلان
«وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً» أثناء هجومكم عليهم بأن تقولوا الله أكبر الله أكبر منهم وأعظم من كل شيء وكل شيء دونه حقير ضعيف، فكبروه كثيرا «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (٤٦) فتفوزون بالنصر على عدوكم والظفر فيهم. واعلم أن هذه الآية ليست بناسخة للآية ١٦ المارة كما قاله بعض المفسرين، لأنها لا تقدح بالثبات بالحرب، لأن التحرف والتحيّز منه، وإنما كان المراد بالذكر هنا هو التكبير والله أعلم لما فيه من خذلان العدو، فينبغي الإكنار منه عند المهاجمة والدعاء بالنصر وتخطر وعد الله بالظفر في القلب لأنه أدعى للثبات، ولأن ذكر الله في أشد الأحوال موجب للإجابة إذ لا يكون فيها إلا عن نيّة صادقة واعتماد تام «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ» لأنها من واجبات النصر أيضا. وتباعدوا عن معصية الله ورسوله لأنكم في حالة أشد احتياجا إلى رحمته من غيرها، وهذان العنصران طاعة الله وذكره من أقوى الأسباب الداعية للنصر والثبات وخذلان العدو.
فليتكم أيها المسلمون ترجعون إلى ما يأمركم به ربكم فتعملون به وتنتهون عما

صفحة رقم 296

ينهاكم عنه فتتجنبونه وتعترفون بذنوبكم فتستغفرونه، فإنه تعالى يعينكم ويقويكم وينصركم. قال:

فإن اعتراف المرء يمحو اقترافه كما ان انكار الذنوب ذنوب
لأن المسلم المؤمن يلجأ إلى ربه فيأخذ بيده فلا يصر أحدكم على الذنب ولا يستصغره مهما كان، ويطلب النصرة من ربه عند الشدة، فالأحرى أن لا يرده الله ولهذا لما ترك المسلمون ما أمروا به وصاروا يستصحبون في الحروب الخمر والفتيات ويقولون عند الهجوم وطن وطن بدل أن يكبروا الله غلبوا وخسروا، لأن الوطن جزء من الإيمان وهم في حالة عارون فيها عنه، غافلون عن ربهم، فأنى يستجاب لهم؟ فالمسلمون لا ينصرهم الله إلا إذا تمسكوا بدينهم وعملوا ما أمروا به، وإذا خالفوا تركهم. قال صلّى الله عليه وسلم لا يزني الزاني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر وهو مؤمن فدعوى الإيمان وحب الوطن دعوى كاذبة، لذلك يكذبهم الله ولا يوفقهم ويسلط عليهم عدوهم، لأن الله تعالى قالَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)
الآية ٤٧ من سورة الروم في ج ٢ وقوله الحق ووعده الصدق، ولكن هات المؤمنين وانظر إلى نصر الله المبين، لأن المؤمنين لا يقيمون على المعاصي ولا يحاربون الله بما ينعم عليهم، فادعاؤهم الإيمان عبارة عن اسم، ولا يكون المؤمن مؤمنا إلا إذا قام بأركان الإسلام الخمسة عن يقين واعتقاد وعمل. فإذا فقد واحدا من هذه الثلاثة لا يكون مؤمنا، وكيف إذا تركوا الجميع؟ فالله سبحانه يتركهم، لأنهم هم محتاجون إليه وهو الغني عنهم. قال تعالى «وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا» وتخسروا لأن الفشل جبن مع ضعف «وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ» قوتكم وجرأتكم ودولتكم «وَاصْبِرُوا» على الشدائد في الحرب والمحنة فيه ولا تنهزموا «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» بعونه ونصره. روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقى فيها العدو انتظر حتى مالت الشمس قام فيهم فقال: أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا (راجع الآية ١٥٣ من سورة البقرة المارة) واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف ثم قال اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم.

صفحة رقم 297

قال تعالى «وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً» أشرا وطغيانا والبطر من تشغله نعمته عن الشكر «وَرِئاءَ النَّاسِ» ليقال أنهم غزوا وقاتلوا للشهرة والسمعة والصيت والحال أنهم يمنعون «وَيَصُدُّونَ» الناس «عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٨) » لا يعزب عن علمه شيء لإحاطته بجميع خلقه.
نزلت هذه الآية في كفار مكة الذين خرجوا لاستخلاص عير أبي سفيان، فلما رأوه قد نجا بها قال لهم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم وقد نجاها الله فارجعوا، فقال أبو جهل والله ما نرجع حتى نرد بدرا فنقيم فيها ثلاثة أيام ننحر الجزور ونشرب الخمور وتعزف علينا القينات، فتسمع بنا العرب فيهابوننا. فلما نزلوا سقاهم الله كأس الحمام بدل الخمور، وناحت عليهم النوائح بدل القينات، وسمعت بهم العرب فاستذلتهم. قال تعالى مخبرا عن حالهم عند خروجهم لما خافوا من بني بكر كما مر في الآية ٨ «وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ» أي اذكروا أيها المؤمنون هذه النعمة أيضا لأنها من جملة ما حدث بقريش أعدائكم الألداء عند إرادتهم الخروج إلى قتالكم لتظفروا بهم «وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ» فأمنوا على عيالهم وأموالهم وخرجوا. ثم تصور لهم إبليس مرة ثانية مع جند من جنوده وشجعهم على اللقاء في صورة سراقة المذكور في الآية الثانية المارة، وقال لهم ما قاله سابقا، فلما رأى جبريل والملائكة عليهم السلام وكانت يده بيد الحارث بن هشام فنفض يده وولى هو وجنده، فقال له الحارث أفرارا من قتال يا سراقة وتزعم أنك جار لنا؟ فأجابه بما قصه الله عز وجل بقوله «فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ» فئة جبريل وفئة إبليس «نَكَصَ» إبليس وجنده «عَلى عَقِبَيْهِ» ورجع القهقرى «وَقالَ» إلى الحارث وقومه حينما تركهم وولى «إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى» من الملائكة «ما لا تَرَوْنَ» أنتم ما لا طاقة لي الوقوف معها.
مطلب الأشياء الموجودة الغير مرئية وتصور الشيطان والمحبة الخالصة الصادقة:
واعلم أن رؤية الشياطين للملائكة والأنس ثابتة لا نزاع فيها، قال تعالى (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) الآية ٢٧ من سورة الأعراف في ج ١،

صفحة رقم 298

وتوجد أشياء كثيرة موجودة حسا غير مرئية كنسخ الظل الشمسي وأعمدة المهواية وشبهها عند سرعة دورانها، وكذلك الهواء موجود غير مرئي والقوى الكهربائية موجودة غير مرئية. ثم قال الخبيث «إِنِّي أَخافُ اللَّهَ» لأنه ظن عليه اللعنة أن القيامة قامت لعلمه أن جبريل ينزل فيها هو والملائكة، ولذلك أردف قوله بما ذكر الله «وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٩) » وقد كذب أول الآية وصدق آخرها، ولهذا لما رجعت قريش إلى مكة قالوا هزم الناس سرافة، فجاءهم وقال لهم والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغني هزيمتكم، فقالوا له أما أتيتنا وقلت لنا ونحن بمكة أنا جار لكم ثم هربت؟ فقال والله ما جئتكم بالأولى ولا في الثانية. ولما أسلم من بقي منهم عرفوا أنه إبليس. أخرج مالك في الموطأ عن طلحة بن عبد الله ابن كرزان أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال ما رئي الشيطان يوما هو أصغر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما يرى من نزول الرحمة وتجاوز الله تعالى عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر، فإنه قد رأى جبريل يزع الملائكة. أي يسوي صفوفهم ويصلحها فيأمر هذا أن يتقدم وهذا أن يتأخر. وسبق أن ذكرنا أنه كما تتصور الملائكة بصور البشر فكذلك الشياطين، وان النفس الباطنة لم تتغير ولا يلزم من تغيير الصورة تغيير الحقيقة. وليعلم أن ذكر الله تعالى في مواطن الشدة لا سيما في حالة الجهاد من أقوى الأدلة على محبته تعالى الصادقة التي لا يشوبها شيء، لأن فيه السكينة، قال تعالى (أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) الآية ٣١ من سورة الرعد الآتية، ومتى اطمأن القلب زال عنه دواعي الخوف فضلا عن أنه دليل المحبة لأن من أحب شيئا أكثر ذكره في كل حال ألا ترى قول عنترة:

ولقد ذكرنك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمى
فوددت تقبيل السيوف لأنها بوقت كبارق ثغرك المتبسم
وهو أبلغ ما قيل في هذا المعنى بالنسبة لمقام القول، وفي مقام المحبة تراكضت أرواح العاشقين وتفانت في ميدان أشباح السالكين، حتى قال قائلهم:

صفحة رقم 299

وقد عدوا الموت في الحب من الجهاد الأكبر، لأن الحياة الحقيقة التي فيها الوصال تعقبه، قال ابن الفارض أيضا:

ولو خطرت لي في سواك إرادة على خاطري سهوا حكمت بردتي
ومن لم يمت في حبه لم يعش به ودون اجتناء النحل ما جنت النحل
وقد حسنوا التذلل في هذا الباب وعدوّه من أسباب الوصال مع أنهم لم يعرفوا التذلل إلا لله فقالوا:
ويحسن إظهار التجلد للعدا ويقبح إلا العجز عند الحبائب
وقالوا إن من صفات المحبين الخضوع وإنكار النفس حتى بالغ بعضهم فقال:
مساكين أهل العشق حتى قبورهم عليها تراب الذل دون الخلائق
وفي رواية بين المقابر، واختلفوا في وصفه ومحله من الجسد، وقيل في ذلك:
يقولون إن الحب كالنار في الحشى ألا كذبوا فالنار تذكو وتخمد
وما هو إلا جذوة مس عودها ندى فهي لا تذكو ولا تتوقد
وقالوا في ذم من لم يحب:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا
وقدمنا في الآية ٦٧ من سورة الزخرف ج ٢ ما يتعلق بالمحبة فراجعها.
واذكر يا سيد الرسل لقومك «إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ» من أهل المدينة «وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» شك وريبة إذ لم يقو الإسلام في قلوبهم ولم تتشرب بشاشة الإيمان فيها لما رأوا قلتكم عند ذهابكم لقتال المشركين في بدر قال بعضهم لبعض «غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ» صدق إيمانهم بالله وحملهم على ما لا طاقة لهم به من لقاء عدوهم لأن عددهم وعددهم أكثر وأقوى، فقد هفوا ولم يعلموا أن توكلكم على ربكم لا على قوتكم وكثرتكم «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ» ويثق به «فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ» لا يغلب من يتوكل عليه «حَكِيمٌ (٤٩) » لا يسوّي بين أحبابه وأعدائه فإنه ينصر أولياءه على قلتهم، ويخذل أعداءه مع كثرتهم مهما كان عددهم وعددهم، لأنهم طلبوا النصر منه وحسنوا ظنهم فيه وأيقنوا بالإجابة منه والله عند حسن ظن عبده به. قال تعالى معجبا رسوله صلّى الله عليه وسلم مما يقع على الكافرين عند الموت من البلاء والشدة «وَلَوْ تَرى» يا أكمل الرسل «إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ

صفحة رقم 300
بيان المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني
الناشر
مطبعة الترقي - دمشق
الطبعة
الأولى، 1382 ه - 1965 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية